الباب العاشر
الخطابات المأثورة المختصة بزيارة الامام الحسيـن عليه السلام


وهي خطابات مأثورة مختصة بزياراته، ليست بمأثورة في زيارة غيره من الانبياء والائمة صلوات الله تعالى عليهم اجمعين.

وهي اصنـاف:

الصنف الاول: تخصيصه في وصفه غالبا بصفات مصيبته عند قتله، فإن ذلك دليل على ان الفضيلة الخاصة به لأجل مصيبته.

الصنف الثاني: تخصيصه باصناف خاصة الى الله تعالى مثل: ثار الله، وقتيل الله، وذبيح الله، ووتر الله عز وجل.

الصنف الثالث: تخصيصه بالسلام على الانبياء عند السلام عليه (ع) بخصوصية اسمائهم وصفاتهم، لكونه مظهرا لهم، كما ذكرناه في عنوان ما يتعلق منه بالانبياء عليهم الصلاة والسلام.

الصنف الرابع: تخصيصه في زيارته بالتلبية له (ع)، ففي بعض زياراته بعد السلام عليه " لبيك داعي الله " وتكرير ذلك سبعا، والوجه في التلبية له انه الداعي الثاني الى الله تعالى بعد جدّه المصطفى (ص) دعى الى الاسلام والشهادتين.

فأظهرهما الله بنصره برعب القلوب وذلك بإمداد الملائكة، وبحسام أسد الله الغالب (ع)، وبإعانة بعض أصحابه المجاهديـن بين يديه.

والحسين (ع) داعي الله الثاني، دعى الى الايمان والاعتقاد بالامام الحق، والائمة الراشدين عليهم السلام، ودعاؤه الى ذلك بشهادته ومظلوميته، وبكيفية خاصة جرت عليه، كما اوضحناه في باب دعوته الى الدين.

فهذا الداعي ايضا لابد من اجابته بالتلبية له، ولما دعى اليه قولا وفعلا، فلهذا استحبت التلبية له عليه السلام.

ويحسن هنا ذكرالحديث المبارك: " الاسلام محمدي الوجود حسيني البقاء " فلولا تلك النهضة المباركة لما بقي مسلم على وجه الارض، هكذا شاءت الحكمة الالهية، والارادة الربانية، وكي ننهل اكثر من رحمة الله الواسعة والتي يودعها في اوليائه من الاولين والاخرين، وكما هو بين ايدينا بركات نور واحد من بين انوار اربعة عشر زاهرة وهو النور الحسيني العظيم.

واما تكرار التلبية سبعا ففيه وجوه:

الوجه الاول: ملاحظة حالات المجيب، فإن الاجابة: بالبدن واليد واللسان والسمع والبصر والقلب وبالرأي والهوى والحب، فتكون كل تلبية لإجابة.

كما يظهر من عبارة الزيارة، بعد قوله " لبيك داعي الله " سبعا: " إن كان لم يجبك بدني عند استغاثتك، ولساني عند استنصارك، فقد اجابك قلبي وسمعي وبصري ورأيي وهواي ".

يعني اجابك قلبي بحبك، وسمعي بسماع مصيبتك، وبصري بالبكاء عليك، ورأيي بأن احببت عمل من اجابك، وبدني الان بالمجيء اليك راغبا بكم، ولساني الان بالسلام عليكم سلام مشتاق لهفان حزين لاجلكم.

الوجه الثاني: ان التلبيات السبع، اجابات سبع، لاستنصارات سبعة وقعت منه عليه السلام:

الاستنصار الاول: خاج مكة لما رحل (ع) منها مصبحا، جاءه العبادلة الاربعة: عبدالله بن عباس، وعبدالله بن جعفر، وعبدالله بن الزبير، وعبدالله بن عمر، ليمنعوه من التوجه الى العراق، فكلم (ع) كل واحد بطريق، واجابهم عليه السلام: بأني مأمور بأمر أنا ماض فيه.

ثم استنصر ودعاهم الى نصرته، فبعث عبدالله بن جعفر معه ابنيه عونا ومحمداً، وقال: اني ألحق بكم بعدكم، وقال عليه السلام: لابن عمر: يا أبا عبدالرحمن اتق الله تعالى، ولا تدع نصرتي، فاعتذر بعذر، وودعه، فقال: يا ابا عبدالله اكشف لي عن الموضع الذي كان يقبله رسول الله (ص)، فكشف عن بطنه، فقبّل فوق قلبه، وبكى وودعه ومضى.

الاستنصار الثالث: في الطريق من مكة الى كربلاء، اذ كان يستنصر من يلقاه، لاتمام الحجة على الناس، وكان استنصاره تارة بلسانه، وتارة بإرسال رسول.

ولما علم الناس قلة متابعيه، وانه يستنصرهم، أخذ بعض منهم بالاعتذار بتجارته وشؤونه وبضائعه. كما اتفق لبعض من رآه في الطريق وطلب منه النصرة.

وبعض بالاعتذار بضيعته وعياله، كما اتفق لبعض اخر، والبعض الاخر وعده بالمجيء بعد ذلك، وكان بعض الناس اذا علموا انه (ع) نزل منزلا اجتنبوا ذلك المنزل لئلا يطلب منهم النصرة. كما عن جماعة من فزارة وبجيلة

قالوا:

التحقنا بالحسين (ع) بعد الحج، وكنا نسايره، فما كان شيء ابغض الينا من ان ننازله في منزل، وكان اذا نزل على ماء نزلنا على غيره، وكنا اذا لم نجد بداً من ان ننازله في منزل نزلنا في جانب اخر من ذلك المنزل، لئلا يدعونا الى نصرته.

اقول: واذا تأملت هذه الحالة رأيتها أعظم مصائبه، واعظم من ذلك انه كان في بعض الاوقات يراه المترددون في الطريق مستقبلا لهم، فيتنكبون الطريق، ويعدلون عنه جانبا، لئلا يراهم ويكلفهم بنصرته، كما اتفق لبعض اهل الكوفة.

آه وانما هي من المصائب العظام، لانه عليه السلام خرج لاجل بقاء الاسلام بل لاظهار الدين الاسلامي بعد ان انمحى او كاد ان يُمحى اثره بالكليه بفعل ائمة الجور والطغيان، وان جهل الناس بموقفهم هذا من الامام كان مصيبة كبيرة على قلبه الطاهر سلام الله عليه، ذلك القلب المفطور من تمزق الامة وجهلها وتضييع اتعاب رسول الله جده المصطفى صلوات الله تعالى وسلامه عليه وعلى آله الاطهار.

واعظم من هذا كلام قاله عبيدالله بن الحر الجعفي حين استنصره عند وصوله الى قصر بني مقاتل فنزل هو بفسطاط مضروب.

فقال عليه السلام: لمن هذا الفسطاط؟ فقيل: لعبيد الله بن الحر الجعفي، قال عليه السلام: ادعوه إليّ، فلما أتاه الرسول قال له: هذا الحسين بن علي (ع) يدعوك، فقال عبيد الله: إنا لله وإنا إليه راجعون، والله ما خرجت من الكوفة إلا كراهة ان يدخلها الحسين وانا فيها، والله ما اُريد ان اراه ولا اُريد ان يراني، فأتاه الرسول فأخبره، فقام الحسين عليه السلام حتى دخل عليه وسلّم وجلس، ثم دعاه الى الخروج معه، فأعاد اليه عبيدالله بن الحر تلك المقالة واستقاله مما دعاه اليه.

ثم قال له الحسين (ع) " ايها الرجل انك مذنب خاطيء، وان الله عزوجل آخذك بما انت صانع ان لم تتب الى الله تبارك وتعالى في ساعتك هذه فتنصرني ويكون جدي شفيعك بين يدي الله تبارك وتعالى.

فقال: يا بن رسول الله لو نصرتك لكنت اول مقتول بين يديك ولكن هذه فرسي خذها اليك فوالله ما ركبتها قط وانا اروم شيئا إلا بلغته ولا ارادني احد الا نجوت عليها، فدونك فخذها.

فأعرض عنه الامام الحسيـن عليه السلام بوجهه ثم قال (ع) " لا حاجة لنا فيك ولا في فرسك وما كنت متخذ المضلين عضدا، ولكن فرّ، فلا لنا ولا علينا، فإنه من سمع واعيتنا أهل البيت ثم لم يجبنا كبّه الله على وجهه في نار جهنم، وفي بعض الاخبار انه قال: لاحاجة لي بفرسك فإني لا افر من احد ولا الحق مدبرا.

ثم قام الحسين (ع) من عنده حتى دخل رحله، ثم تداخله الندم بعد ذلك حتى كادت نفسه ان تفيض

فقال:


فيا لك حسرة مادمت حياتردد بين حلقي والتراقي
حسين حين يطلب بذل نصريعلى اهل الضلالة والنفاق
غذاة يقول لي بالقصر قولااتتركنا وتزمع (تعزم) بالفراق
ولو اني اواسيه بنفسيلنلت كرامة يوم التلاقي
مع ابن المصطفى نفسي فداهتولّى ثم ودّع بانطلاق
فلو فلق التلهف قلب حيلهمّ اليوم قلبي بانفلاق
فقد فاز الالى نصروا حسيناًوخاب الاخرون ذوو النفاق

ولم تؤثر استنصاراته عليه السلام في الطريق إلا في زهير بن القين فإنه كان من فزارة وبجيلة يجانبون الامام الحسين (ع) حتى نازلوه في منزل ونزلوا عنه جانبا.

قال اصحابه: فبينا نحن نتغدى من طعام لنا اذ أقبل رسول الحسين (ع) وسلّم، ثم دخل، والتفت الى زهير فقال: يا زهير بن القين ان ابا عبدالله الحسين (ع) بعثني اليك لتأتيه، فطرح كل انسان منـّا ما في يده، حتى كأنما على رؤوسنا الطير، كراهية ان يذهب زهير الى الحسين (ع)، فقالت له امرأته: قال السيد وهي ديلم او دلهم بنت عمرو: سبحان الله، ايبعث اليك ابن رسول الله (ص) ثم لا تأتيه؟!، لو أتيته فسمعت كلامه ثم انصرفت.

فأتاه زهير بن القين، فما لبث ان جاء مستبشرا قد اشرق وجهه، فأمر بفسطاطه وثقله ومتاعه فقوض (اي نزع اعواده واطنابه) وحمل الى جهة الحسين عليه السلام.

ثم قال لامرأته: انت طالق إلحقي بأهلك، فإني لا احب ان يصيبك بسببي إلا خيراً، وقد عزمت على صحبة الحسين عليه السلام لأفديه بروحي وأقيه بنفسي، ثم اعطاها مالها وسلّمها الى بعض بني عمومتها لوصلها الى اهلها. فقامت اليه، وبكت وودعته، وقالت: خار الله لك، أسألك ان تذكرني يوم القيامة عند جد الحسين عليه السلام.

ثم قال لاصحابه: من احبّ منكم ان يتبعني، والا فهو اخر العهد مني سأحدثكم حديثا: إنا غزونا البحر ففتح الله علينا، واصبنا غنائم، فقال لنا سلمان الفارسي رضوان الله تعالى عليه وصلواته: افرحتم بما فتح الله عليكم، واصبتم من الغنائم؟ فقلنا: نعم، فقال لنا: اذا ادركتم سيد شباب آل محمد)ص) فكونوا اشدّ فرحا بقتالكم معه مما اصبتم اليوم من الغنائم، فأما أنا فأستودعكم الله تعالى".

قالوا: ثم والله مازال في القوم حتى قـُتل رضوان الله عليه.

الاستنصار الرابع: استنصاره بإرسال الكتاب الى اعيان اهل البصرة وكان اسم الرسول سليمان، وكنيته ابو رزين والكتاب هذا:

بسم الله الرحمن الرحيـم، من الحسين بن علي الى أشراف البصرة ووجوهها، إني ادعوكم الى كتاب الله عزوجل والى سنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، وان السنّة قد اُميتت وان البدعة قد اُحييت، فإن تجيبوا دعوتي وتطيعوا امري اهدكم الى سبيل الرشاد والسلام.

فلما بلغ الكتاب اليهم، جمع يزيد بن مسعود النهشلي من تميم وبني قحطبة وبني سعد، وخطب فيهم ووعظهم، وكان من خطبته لهم:

هذا الحسين بن علي (ع) ابن رسول الله (ص) ذو الشرف الاصيل، والرأي الأثيل (الاصيل) له فضل لا يوصف، وعلمٌ لا ينزف (لا يفنى) وهو أولى بهذا الامر، لسابقته وقدمه وقرابته، يعطف على الصغير، ويحسن الى الكبير، فأكرم به راعي رعية، وإمام قومٍ وجبت لله به الحجة، وبلّغت به الموعظة، فقد تحملتم ذنوبا يوم الجمل فاغسلوها بنصرة ابن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

فأجابوه وعزموا على الخروج اليه، فلما تجهز للمصير بلغه قتله عليه السلام قبل ان يسير.

الاستنصار الخامس: استنصاره من اشراف الكوفة ممن كان يظن انه على رأيه وهو:


بسم الله الرحمن الرحيم

من الحسين بن علي (ع) الى: سليمان بن صرد الخزاعي، والمسيب بن نجية، ورفاعة بن شداد، وعبدالله بن وال، وجماعة المؤمنين.

اما بعد فقد علمتم ان رسول الله (ص) قال في حياته: " من رأى سلطانا جائرا، مستحلا لحرام الله، ناكثا لعهد الله، مخالفا لسنّة رسول الله (ص)، يعمل في عباد الله تعالى بالاثم والعدوان، ثم لم يغيّر بقول ولا فعل، كان حقيقاً على الله تعالى ان يُدخله مدخله.

وقد علمتم ان هؤلاء القوم قد لزموا طاعة الشيطان، وتولّوا عن طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد، وعطّلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، وأحلّوا حرام الله، وحرّموا حلال الله، واني احقُ بهذا الامر لقرابتي من رسول الله (ص) وقد اتتني كتبكم، وقدمت عليّ رسلكم ببيعتكم، انكم لا تسلموني ولا تخذلوني، فإن وفيتم ببيعتكم، فقد اصبتم حظكم ورشدكم، ونفسي مع انفسكم، واهلي وولدي مع اهاليكم واولادكم، فلكم بي اسوة، وان لم تفعلوا ونقضتم عهودكم وخلعتم بيعتكم، فلعمري ما هي منكم بنكر، لقد فعلتموها بأبي وأخي وابن عمي، والمغرور من اغتر بكم، فحظكم اخطأتم ونصيبكم ضيّعتم، ومن نكث فإنما ينكث على نفسه، وسيغني الله عنكم والسلام.

ثم طوى الكتاب وختمه ودفعه الى قيس بن مُسهِر الصيداوي فلما قارب دخول الكوفة اعترضه الحصين بن نمير التميمي، فقبض عليه ليفتشه، فأرخرج قيس الكتاي فخرّقه اي مزّقه، فحمله الحصين الى ابن زياد لعنه الله، فلما مثل قيس بين يديه قال له: من انت؟ قال: انا رجل من شيعة امير المؤمنين بن ابي طال عليهما السلام وابنه الامام الحسين علسه السلام، قا ابن زياد: لماذا خرّقت الكتاب؟ قال قيس " لئلا تعلم ما فيه، قال ابن زياد: وممن الكتاب؟ والى من؟ قال قيس: من الحسين بن علي (ع) الى جماعة من اهل الكوفة لا اعرف اسماءهم.

فغضب ابن زياد، وقال له: والله لا تفارقني حتى تخبرني بأسماء هؤلاء القوم او تصعد المنبر وتلعن الحسين بن علي واباه واخاه، والا قطّعتك اربا اربا، فقال قيس: اما القوم، فلا اُخبرك بأسمائهم.

واما لعنة الحسين وابيه واخيه فأفعل، فصعد المنبر وحمد الله تعالى واثنى عليه، وصلى على النبي صلى الله عليه واله وسلم، واكثر من الترحم على علي ووُلده صلوات الله تعالى علهم اجمعين، ثم لعن عبيد الله بن زياد لعنه الله، ولعن اباه لعنه الله، ولعن عتاة بني امية عن اخرهم.

ثم قال:

انا رسول الحسيـن عليه السلام اليكم ايها الناس، ان الحسين بن علي خير خلق الله، وابن فاطمة الزهراء بنت رسول الله عليها السلام، وانا رسوله اليكم، وقد خلّفته بالحجاز فأجيبوه وقد خلفته بموضع كذا فأجيبوه.

فأمر به عبيد الله بن زياد ان يُرمى من فوق القصر، فرُمي به صلوات الله عليه فتقطع.

وروي: انه وقع على الارض مكتوفا فتكسرت عظامه وبقي به رمق، فأتاه رجل يقال له عبدالملك بن عمير اللخمي فذبحه، فقيل له في ذلك وعِيب عليه، فقال: اردت أن اُريحه.

الاستنصار السادس: استنصاره عليه السلام من الذين جاؤوا لقتاله، لاتمام الحجة عليهم، فاستنصر الحر وعسكره حين تلقوه وحبسوه عن الرجوع تارة، واستنصر عمر بن سعد لعنه الله في الليلة السادسة.

اما الاول فانه (ع) لما استقبلوه سقاهم، ثم سايروه، ولم يزل الحر موافقا للحسين (ع) حتى حضرت صلاة الظهر.

فأمر الحسين (ع) الحجاج بن مسروق الجعفي ان يؤذن بالناس، فأذّن الحجاج، فلما حضرت الاقامة خرج الحسين عليه السلام في ازار ورداء ونعلين متكئا على قائم سيفه.

فاستقبل القوم وحمد الله واثنى عليه

ثم قال: ايها الناس، اني لم آتكم حتى أتتني كتبكم، وقدمت عليّ رسلكم ان اقدم علينا فإنه ليس لنا امام، ولعل الله أن يجمعنا واياكم على الهدى والحق.

فإن كنتم على ذلك، فقد جئتكم، فاعطوني ما أطمئن به من عهودكم ومواثيقكم، وان لم تفعلوا وكنتم لقدومي كارهين انصرفت عنكم الى المكان الذي جئت منه اليكم.

فسكتوا عنه، ولم يتكلموا كلمة، فقال (ع) للمؤذن: أقم، فأقام الصلاة، فقال الحسين (ع) للحر: أتريد ان تصلي بأصحابك؟ قال الحر: لا، بل تصلي انت ونصلي بصلاتك.

فصلى بهم الامام الحسين عليه السلام وبعد فراغه دخل الخيمة، فاجتمع اليه اصحابه، وانصرف الحر الى مكانه الذي كان فيه، ودخل خيمة قد ضُربت له، واجتمع اليه خمسمائة من اصحابه.

وعاد الباقون الى صفهم الذي كانوا فيه فأعادوه، ثم أخذ كل منهم بعنان فرسه وجلس في ظلها من شدة الحر.

ولما كان وقت العصر، أمر الحسين (ع) ان يتهيئوا للرحيل، ففعلوا ثم أمر مناديه فنادى بالعصر، واذنّ واقام.

فاستقدم الحسين (ع)، فقام وصلى بالقوم صلاة العصر، ثم سلّم وانصرف بوجهه اليهم، فحمد الله واثنى عليه، فقال:

" أما بعد، ايها الناس انكم ان تتقوا الله، وتعرفوا الحق لاهله، يكن ارضى لله عنكم، ونحن اهل بيت محمد صلى الله عليه واله وسلم، وأولى بولاية هذا الامرعليكم من هؤلاء المدّعين ما ليس لهم، والسائرين فيكم بالجور والعدوان، وان أبيتم إلا الكراهية لنا والجهل بحقنـا، وكان رأيكم الآن غير ما أتتني به كتبكم وقدِمت به عليّ رسلكم، انصرفت عنكم"

فقال الحر: انا والله ما ادري ما هذه الكتب والرسل التي تذكرونها؟

فقال الحسين عليه السلام لبعض اصحابه: اخرج الخُرجين اللذين فيهما كتبهم إليّ، فأخرج خرجين مملوئين فنثرت بين يديه.

فقال له الحر: لسنا من هؤلاء الذين كتبوا اليك، وقد اُمرنا أنّا إذا لقيناك لا نفارقك حتى نُقدمك الكوفة على عبيد الله بن زياد.

فقال الحسين عليه السلام: الموت ادنى اليك من ذلك.

واما استنصاره ابن سعد - لعنه الله -، فان الامام الحسين صلوات الله تعالى عليه ارسل اليه اني اُريد ان اكلمك فالقني الليلة بين عسكري وعسكرك.

فخرج اليه ابن سعد - لعنه الله - في عشرين، وخرج اليه الامام الحسين عليه السلام في مثل ذلك، فلما التقيا امر الحسين (ع) اصحابه، فتنحوا وبقي أخوه العبـاس وابنه علياً الاكبر عليهما السلام، وامر عمر بن سعد لعنه الله اصحابه فتنحوا عنه، وبقي معه ابنه حفص وغلام له.

فقال له الحسين (ع) " ويلك يا بن سعد، اما تتقي الله الذي اليه معادك؟

اتقاتلني وانا ابن من علمت؟! ذر هؤلاء القوم وكن معي، فإنه اقرب لك الى الله تعالى.

فقال عمر بن سعد لعنه الله: اخاف ان تهدم داري.

فقال الحسين عليه السلام: انا اخلفك عليك خيرا منها، من مالي بالحجاز.

فقال عمر: لي عيال بالكوفة، واخاف عليهم.

فقال الحسين عليه السلام: انا اضمن سلامتهم، ثم سكت عمر ولم يجبه بشيء.

فانصرف الحسين صلوات الله عليه عنه، وهو يقول: مالك؟ ذبحك الله على فراشك سريعا، عاجلا ولا غفر لك يوم حشرك ونشرك، فوالله اني لأجو ان لا تأكل من بر العراق الا يسيرا.

فقال ابن سعد - لعنه الله - في الشعير كفاية عن البر، مستهزءاً بذلك القول.

اقول: ان الامام الحسين لا حاجة له لأحد، فكيف باعدائه، ولكن ذلك الموقف وغيره لإلقاء الحجة عليهم في الدنيا.

الاستنصار السابع: استنصار له (ع) بعد ما حوصر في كربلاء، وبلغ عدد الخيل والرجال ثلاثين الفا، وحالوا بينه وبين الماء.

فجاء حبيب بن مظاهر صلوات الله عليه الى امامه الحسين صلوات الله عليه، وقال له: " يا بن رسول الله، ان هنا حياً من بني اسد بالرب منا، أتأذن لي بالمصير اليهم فأدعوهم الى نصرتك؟ فعسى الله ان يدفع بهم عنك بعض ما تكره "؟ قال الحسين عليه السلام: قد اذنت لك.

فخرج اليهم في جوف الليل سراً، حتى صار اليهم، فعرفوا انه من بني اسد.

فقالوا له: ما حاجتك؟ قال اني قد اتيتكم بخير ما اتى به وافد الى قوم، اتيتكم ادعوكم الى نصرة ابن بنت نبيكم، فانه في عصابة من المؤمنين، الرجل منهم خير من ألف رجل، لن يخذلوه ولن يسلّموه ابداً، وهذا عمر بن سعد - لعنه الله - قد احاط به، وانتم قومي وعشيرتي، وقد اتيتكم بهذه النصيحة، فأطيعوني اليوم في نصرته تنالوا به شرف الدنيا وحسن ثواب الآخرة.

فإني اُقسم بالله تعالى لا يُقال منكم في سبيل الله مع ابن بنت رسول الله (ص) صابرا محتسبا إلا كان رفيق محمد المصطفى صلى اله عليه وآله وسلم في أعلى عليين.

فوثب اليه رجل من بني اسد يقال له عبدالله بن بشير فقال له: أنا اول من يجيب الى هذه الدعوة، فعجّل يرتجز و هو يقول:


قد علم القوم اذا تواكلواواحجم الفرسان اذ تثاقلوا
أني الشجاع البطل المقاتلكأنني ليث عرين باسل

ثم تبادر رجال اخرون، حتى التأم منهم تسعون رجلا فأقبلوا يريدون الحسين إمامهم عليه السلام.

وخرج رجل في ذلك الوقت من الحي وصار الى عمربن سعد - لعنه الله - فأخبره بالحال، فدعى ابن سعد رجل من اصحابه يقال له الازرق بن الحرث الصداوي، فضم اليه اربعمائة فارس ووجّه به الى حي بني اسد.

فبينما اولئك القوم قد اقبلوا في جوف الليل مع حبيب يريدون عسكر الحسين عليه السلام، اذ استقبلتهم خيل ابن سعد لعنه الله، على شاطيء الفرات.

وكان بينهم وبين عسكرالحسين (ع) اليسير، فتناوش الفريقان (اي اخذ بعضهم بعضا) واقتتلوا قتالا شديدا، فصاح حبيب بن مظاهر بالازرق: ويلك مالك وما لنا انصرف عنا ودعنا يشقى بنا غيرك.

فأبى الازرق ان يرجع، وعلمت بنو اسد انه لا طاقة لهم بالقوم، فانهزموا راجعين الى حيّهم، ثم انهم ارتحلوا في جوف الليل خوفا من ابن سعد - لعنه الله - ان يبيتهم، (اي: يصيبهم ويأخذهم بغتة في الليل).

ورجع حبيب بن مظاهر صلوات الله تعالى عليه، الى الحسين صلوات الله عليه، فأخبره بذلك، فقال الامام الحسين عليه السلام: لا حول ولا قوة الا بالله.

وهذا اخر استنصاراته، وقد يئس بعد ذلك من الناصر، وعلم انه لا ينصره احد، وان الجهاد الذي هو للانتصار والظهور على الاعداء قد سقط عنه، وانه قد تمحض تكليفه بجهاد خاص، وهو الجهاد والقتال ليقتل، فجمع اصحابه يخبرهم بأنه لا ناصر له، وان التكليف بالجهاد للنصر واحتمال الغلبة قد ارتفع، وانه لا تكليف عليهم بذلك.

فقام خطيبا فيهم عليه السلام، وهو مكسور القلب، منقطع الرجاء

فقال لهم:

انه قد نزل من الامر ما ترون، وان الدنيا قد تغيّرت، وأدبر معروفها........ الى اخر ما قال سلام الله عليه.

ومضمونه انه لا رجاء لي بعد في الاستنصار من اي احد، بل قد يئست من نصرة الناس، وقد خذلني جميع الناس، ولا ذمام عليكم مني في التكليف بالجهاد معي للانتصار، ولا الظهور على الاعداء، واحتمال الغلبة، بل قد قدّر الله تعالى القتل لي، ولمن معي.

فمن وطّن نفسه على ذلك فليبايع للقتل معي، ومن لا يرغب في ذلك فلينصرف في هذا الليل البهيم، فلا مقصود للقوم غيري.

فتكلم اصحابه بكلمات عجيبة، نذكر تفصيلها في عنوان الشهداء، وبايعوه البيعة الثانية على ذلك.

الوجه الثالث: ان التلبيات السبع، اجابات سبع، لاستغاثات سبع، كانت لامور خاصة، لم يغثه احد فيها.

فأولا: استغاث لسقي جميع اهله واصحابه.

وثانيا: استغاث لسقي انساء والاطفال، وقال عليه السلام: انهن ليس عليهن جناح، او انهن لن يقاتلنكم.

وثالثا: استغاث لسقي الطفل الرضيع (ع) فقط، فقال عليه السلام: اما من احد يأتينا بشربة من الماء لهذا الطفل؟ ثم قنع بأن يسقوه، فقال: اسقوا هذا الرضيع.

ورابعا: استغاث لئلا ينهبوا حرمه، مناديا " يا شيعة آل أبي سفيان.......... " مقولته المشهورة.

وقال عليه السلام: " اقصدوني بنفسـي واتركوا حرمي ".

وخامسا: استغاث لا لئلا ينهبوا الخيام بل لان يمهلوهم ساعة فقال: رحلي لكم عن ساعة مباح.

وسادسا: استغاث وهو مطروح لئلا يحرقوا اهله وحرمه، فانه سمع شمرا لعنه الله يقول: عليّ بالنار اُحرقه على من فيه، فاستغاث عليه السلام ونادى: يا بن ذي الجوشن انت الداعي بالنار لتحرق الخباء على اهلي.

وسابعا: استغاث صلوات الله تعالى عليه وهو في اخر رمق لقطرة من الماء، فحزوا رأسه وهو في هذه الاستغاثة.

فإذا لم يجبه احد لهذه الاستغاثات السبع، ناسب ان يلّبوا له (ع) اولياؤه بعددها، فيفوزوا بثواب اغاثته عليه السلام في تلك الحالات اذا لاحظوها في تلبيتهم.

الوجه الرابع: وما أدراك ما الوجه الرابع، ان التلبيات السبع، اجابات سبع، لاستغاثات سبع، وقعت منه، لاصل حالته، وخذلان الناس عنه، وعدم الاعتناء به، وكربته، وغربته، ووحدته، بلا طلب شيء خاص من احد.

وهذه هي التي سماها بالواعية (الواعية اي: الصارخة) وقد حصل لها تأثيرات خاصة.

فكل واحدة من هذه الاستغاثات، لها تحريك خاص، وتأثير خاص، وحصل بها انقلابات، وتغير اوضاع مخصوصة، فاستمع لها فانها الى الان تدور على اسماع محبيه، والموالين له.

فاذا علت اصوات الاستغاثة فاستمعوا لها، وانصتوا، واجيبوا داعي الله بالتلبية رحمة له عليه السلام لعلكم ترحمون.

الاستغاثة الاولى: حين التقى العسكران، انزل الله تعالى النصر على الحسين عليه السلام، وكانت رايات النصر ترفرف على رأسه، فاختار لقـاء الله تبارك وتعالى.

ثم استغاث لاتمام الحجة، فأحدثت هذه الحالة همّة خاصة، وحركت عزما خاصا لاصحابه، علاوة على بنائهم وعزمهم على المقاتلة.

فصاروا يتهافتون على ذهاب الانفس، وحصل لهم كيفية استعجـال وتلهب، وتأسف وبكاء، وانقلاب حال سنذكره في عنوان الشهداء.

فلبوا تأسيا بهم وقولوا: إن كان لم يجبك بدني مثل الشهداء حين استغاثتك، ولساني عند استنصارك، فقد أجابك قلبي بحب عملهم، وبصري بالبكاء، الى آخر ما في الزيارة، فإذا لبيت لذلك فتهيأ لاستماع:

الاستغاثة الثانية: فقد علا صوته المبارك عليه السلام لما اشتد الامر عليه، واستحر القتل في الاصحاب، والاضطراب في النساء، وصعب الامر عليه

فصاح مستغيثا: " هل من ذاب يذب عنا "، فأثر ذلك في النساء اللاتي كن معهم، فحركت هذه الاستغاثة همة النساء، فبذلن اولادهن ورجالهن وانفسهن حتى قتل بعضهن، كما سيجيء ذلك في عنوان الشهداء إن شاء الله.

ثم هذه الاستغاثة الاولى حركت همة العجائز، فأجبنه بالتلبية، ببذل الأعز من أنفسهن، أعني شبابهن وأفلاذ أكبادهن.

أفلا تتحرك همتك اذا زرته!!، وتصورت ذلك؟ فتجيب الاستغاثة الاولى بالتلبية الاولى

وتقول: لبيـك يا داعي الله تعالى، إن لم يجبك بدني عند استغاثتك ولساني عند استنصارك، فقد اجابك قلبي، فإذا لبيت الثانية فاستمع

فقد علت:

الاستغاثة الثالثة: لما قتلوا جميعا، وبقي صلوات الله عليه وحده، وخرج عازما على لقاء الله تعالى، جاء قبال القوم، وهو راكب فرسه، فنظر عن يمينه فلم ير أحدا، وعن شماله فلم ير أحدا.

ورأى قدّامه أصحابه وأهل بيته صلوات الله عليهم اجمعين مطروحين، ووراءه عياله واطفاله ومن معه من النسوة بتلك الحالة.

فصاح سلام الله عليه: اما من مغيث يغيثنا لوجـه الله عزوجل؟ هل من معين يرجو ما عند الله في إعانتنا؟

فأثرت هذه الاستغاثة في نفاذ صبر النساء لما سمعن ذلك، فأخذن بالعويل والصراخ كلهن دفعة واحدة، الى ان بلغ صوتهن موقفه، فرجع عليه السلام وقال: مهلاً لا يشمت القوم بنا، فإن البكاء امامكن.

فهذه الاستغاثة قد اخرجت اصوات نسائه، فصعب عليه ذلك، حتى رجع اليهن لاسكاتهن، فهل تلبّون له صارخين بالعويل؟ فانه عليه السلام يفرح بذلك، ويجبر قلبه ذلك، فلبّ له قائلا بقلبك ولسانك: لبيك داعي الله، ملاحظاً هذه الاستغاثة.

وبعد ذلك لما اشتدت الحالات منه (ع)، وتواردت المصائب متتابعة الى ان وقع طريحا جريحا مصاباً، علت:

الاستغاثة الرابعة: منه، فأثرت في حالة الامام سيد الساجدين علياً عليه السلام تأثرا أقامه من فراشه، مع انه مريض ولا يقدر على ان يقبل بنفسه، وليس عليه جهاد.

لكن حرّكته خصوصية تأثير هذه الاستغاثة، فأخ بيده عصا يتوكأ عليها، وسيفاً يجره في الارض، فخرج من الخيام.

وخرجت ام كلثوم خلفه تنادي: يا بني ارجع، وهو يقول: يا عمتاه ذريني أقاتل بين يدي ابن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم، فقال الحسين عليه السلام: خذيه لئلا تبقى الارض خالية من نسل آل محمـد صلوات الله عليه وآله، فأرجعته أم كلثوم عليها السلام.

فلبّ انت لأجل المصيبة الرابعة، وعجّل فقد تتابعت المصائب عليه (ع)، وعلا منه صوت:

الاستغاثة الخامسة: وهو (ع) طريح جريح مرمل مدمى عطشان قد اعياه حر الجراح والشمس والبلايا، فأثرت في الاطفال فخرج طفـلان من الخيام لاغاثته سلام الله عليه.

احدهما طفل: خرج وفي اُذنيه درّتان، وهو مذعور، يلتفت يمينا وشمالا فلما بعُد قليلا من الخيام، ضربه هانيء بن ثبيت لعنه الله، علي رأس ذلك الطفل المحمدي فقتله هناك، وامه تنظر اليه ولا تتكلم كالمدهوشة.

وثانيهما: عبدالله بن الحسن عليهما السلام، وهو ابن احدى عشرة سنة، لما رأى عمّه طريحا مستغيثا لبّى له وخرج اليه.

فنادى الحسين عليه السلام: يا أختاه احبسيه، فأرادت حبسه، فقال: والله لا اُفارق عمّي، فذهب اليه، وجاهد عنه، حتى قطعت يده المباركة، ثم قـُتل على ما سيجيء تفصيله في عنوان اهل البيت صلوات الله عليهم.

فإذا لبيت له التلبية الخامسة، فعجّل

فإنه قد علت منه: