وعدّوا عليّاً ذا المناقبِ والعُلاَ | وفاطمةَ الزهراءَ خيرَ بناتِ |
وحمزةَ والعباسَ ذاالدينِ والتقى | وجعفَرها الطيَّارَ في الحجباتِ |
أولئك مشؤمون هنداً وحزبَها | سميَّةَ من نَوكَى ومن قَذِرَاتِ |
هُمُ منعوا الآباءَ من أَخْذِ حقِّهم | وهم تركوا الأبناءَ رَهْنَ شَتَاتِ |
سأبكيهم ما حجَّ للهِ راكبٌ | وما ناح قَمْريٌّ على الشجراتِ |
فيا عينُ بكِّيهم وجودي بعبرة | فقد آنَ للتَّسْكَابِ والهَمَلاتِ |
وآلُ زياد في الحُصُونِ منيعةٌ | وآلُ رسولِ اللهِ في الفَلَواتِ |
ديارُ رسولِ اللهِ أصبحنَ بلقعاً | وآلُ زياد تسكُنُ الحُجُراتِ |
وآلُ رسولِ اللهِ نُحْفٌ جسومُهُمْ | وآلُ زياد غُلَّظُ القصراتِ |
وآلُ رسولِ اللهِ تُدمى نحورُهُمْ | وآلُ زياد ربَّهُ الحجلاتِ |
وآلُ رسولِ اللهِ تُسبى حريمُهُمْ | وآلُ زياد آمِنُوا السَّرَبَاتِ |
إذا وُتِروا مدّوا إلى واتريهِمُ | أكفّاً عن الأوتارِ منقبضاتِ |
سأبكيهم ما ذَرَّ في الأرضِ شارقٌ | ونادى منادي الخيرِ للصلواتِ |
وما طلعت شمسٌ وَحَانَ غُرُوبُها | وبالليلِ أبكيهم وبالغَدَواتِ(1) |
المجلس الأول ، من اليوم الثاني
الإمام الحسين(عليه السلام) في مجلس الوليد
جاء في الزيارة الناحية الشريفة مخاطبا لسيد الشهداء (عليه السلام) : كُنتَ للرسولِ (صلى الله عليه وآله) ولداً ، وللقرآن مُنقِذاً ، وللأُمّةِ عَضُداً ، وفي الطاعةِ مجتهداً ، حافظاً للعهدِ والميثاقِ ، ناكباً عن سُبُل الفُسَّاقِ ، باذلاً للمجهودِ ، طويلَ الركوعِ والسجودِ ،
____________
1- بحار الأنوار ، المجلسي : 45/257 .
زاهداً في الدنيا زُهدَ الراحِلِ عنها ، ناظراً إليها بعينِ المستوحشين منها ، آمالُك عنها مكفوفةٌ ، وهِمَّتُك عن زينتِها مصروفةٌ ، وألحاظُكَ عن بَهجَتِها مطروفةٌ ، ورغبتُكَ في الآخرةِ معروفةٌ ، حتى إذا الجور مَدَّ بَاعَهُ ، وأسفر الظُّلْمُ قِنَاعَهُ ، وَدَعا الغيُّ أَتباعَهُ ، وأنت في حَرَم جَدِّك قاطنٌ ، وللظالمين مُبَاينٌ ، جليسُ البيتِ والمحرابِ ، معتزلٌ عن اللذاتِ والشهواتِ ، تُنكِرُ المنكرَ بِقَلْبِك ولِسَانِك ، على قَدْرِ طَاقَتِكَ وإمكانِك .
ثم اقتضاك العلمُ للإنكارِ ، ولَزِمَك أن تُجاهدَ الفجَّارَ ، فَسِرْتَ في أولادِك وأهاليك ، وشيعتِك ومَوَاليك ، وصَدَعْتَ بالحقِّ والبيَّنةِ ، ودعوتَ إلى اللهِ بالحكمةِ والموعظةِ الحسنةِ ، وأمرتَ بإقامةِ الحدودِ ، والطاعةِ للمعبودِ ، ونهيتَ عن الخبائثِ والطُّغْيَانِ ، وواجهوك بالظُّلم والعُدوان .(1)
روي عن الإمام الرضا(عليه السلام) قال : إن المحرم شهر كان أهلُ الجاهلية يُحرِّمون فيه القتال ، فاستحلّت فيه دماؤنا ، وهُتكت فيه حُرمتنا ، وسُبي فيه ذرارينا ونساؤنا ، وأُضرمت النيران في مضاربنا ، وانتُهب ما فيها من ثقلنا ، ولم ترع لرسول الله (صلى الله عليه وآله) حرمة في أمرنا ، إن يوم الحسين أقرح جفوننا ، وأسبل دموعنا ، وأذلّ عزيزنا بأرض كرب وبلاء ، أورثتنا الكرب والبلاء إلى يوم الانقضاء ، فعلى مثل الحسين فليبك الباكون ، فإن البكاء عليه يحطّ الذنوب العظام(2) .
قال الشيخ المفيد عليه الرحمة في الإرشاد : روى الكلبي والمدائني وغيرهما من أصحاب السيرة ، قالوا : لما مات الحسن(عليه السلام) تحرَّكت الشيعة بالعراق ، وكتبوا إلى الحسين(عليه السلام) في خلع معاوية والبيعة له ، فامتنع عليهم ، وذكر أن بينه وبين معاوية عهداً وعقداً لا يجوز له نقضه ، حتى تمضي المدة ، فإذا مات معاوية نظر في
____________
1- المزار ، المشهدي : 502 ـ 503 . 2- الأمالي ، الصدوق : 190 ـ 191 ح 2 .
ذلك .
فلما مات معاوية ـ وذلك للنصف من شهر رجب سنة ستين من الهجرة ـ كتب يزيد إلى الوليد بن عتبة بن أبي سفيان ـ وكان على المدينة من قبل معاوية ـ أن يأخذ الحسين(عليه السلام) بالبيعة له ، ولا يرخِّص له في التأخير عن ذلك ، فأنفذ الوليد إلى الحسين في الليل فاستدعاه ، فعرف الحسين(عليه السلام) الذي أراد ، فدعا جماعة من مواليه وأمرهم بحمل السلاح ، وقال لهم : إن الوليد قد استدعاني في هذا الوقت ، ولست آمن أن يكلِّفني فيه أمراً لا أجيبه إليه ، وهو غير مأمون ، فكونوا معي ، فإذا دخلت إليه فاجلسوا على الباب ، فإن سمعتم صوتي قد علا فادخلوا عليه لتمنعوه عني .
فصار الحسين(عليه السلام) إلى الوليد بن عتبة فوجد عنده مروان بن الحكم ، فنعى إليه الوليد معاوية ، فاسترجع الحسين ، ثمَّ قرأ عليه كتاب يزيد وما أمره فيه من أخذ البيعة منه له ، فقال الحسين(عليه السلام) : إني لا أراك تقنع ببيعتي ليزيد سرّاً حتى أبايعه جهراً فيعرف ذلك الناس ، فقال له الوليد : أجل ، فقال الحسين : فتصبح وترى رأيك في ذلك ، فقال له الوليد : انصرف على اسم الله تعالى حتى تأتينا مع جماعة الناس .
فقال له مروان : والله لئن فارقك الحسين الساعة ولم يبايع لا قدرت منه على مثلها أبداً حتى تكثر القتلى بينكم وبينه ، احبس الرجل ولا يخرج من عندك حتى يبايع أو تضرب عنقه ، فوثب الحسين(عليه السلام) عند ذلك وقال : أنت يا ابن الزرقاء تقتلني أم هو؟ كذبت والله وأثمت ، وخرج يمشي ومعه مواليه حتى أتى منزله(1) .
وفي رواية السيد ابن طاووس عليه الرحمة قال : كتب يزيد إلى الوليد يأمره بأخذ البيعة على أهلها وخاصة على الحسين(عليه السلام) ويقول : إن أبى عليك فاضرب عنقه ، وابعث إليَّ برأسه ، فأحضر الوليد مروان واستشاره في أمر الحسين (عليه السلام) ،
____________
1- الإرشاد ، المفيد : 2/32 ـ 33 ، بحار الأنوار ، المجلسي : 44/324 ح 2 .
فقال : إنه لا يقبل ، ولو كنت مكانك ضربت عنقه ، فقال الوليد : ليتني لم أك شيئاً مذكوراً .
ثم بعث إلى الحسين(عليه السلام) فجاءه في ثلاثين من أهل بيته ومواليه ـ وساق الكلام إلى أن قال ـ : فغضب الحسين(عليه السلام) ثم قال : ويلي عليك يا ابن الزرقاء ، أنت تأمر بضرب عنقي؟ كذبت والله وأثمت .
ثم أقبل على الوليد فقال : أيها الأمير! إنّا أهل بيت النبوة ، ومعدن الرسالة ، ومختلف الملائكة ، وبنا فتح الله ، وبنا ختم الله ، ويزيد رجل فاسق شارب الخمر ، قاتل النفس المحرَّمة ، معلن بالفسق ، ومثلي لا يبايع مثله ، ولكن نصبح وتصبحون ، وننظر وتنظرون ، أيّنا أحق بالبيعة والخلافة ، ثم خرج(عليه السلام) فقال مروان للوليد : عصيّتني ! فقال : ويحك إنك أشرت إليَّ بذهاب ديني ودنياي والله ما أظن أحداً يلقى الله بدم الحسين (عليه السلام) إلا وهو خفيف الميزان لا ينظر الله إليه ولا يزكيه وله عذابٌ أليم(1) .
وفي رواية ابن شهر آشوب عليه الرحمة لما امتنع الإمام الحسين (عليه السلام) من البيعة ، قال : فأغلظ الوليد في كلامه وارتفعت الأصوات فهجم تسعة عشر رجلاً قد انتضوا خناجرهم وأخرجو الحسين (عليه السلام) إلى منزله قهراً(2) .
ولله درّ الحجة الشيخ علي الجشي عليه الرحمة إذ يقول :
وافى الوليدَ بفتية كلٌّ حَلاَ | مُرُّ المنونِ لديه دون هَوَانِهِ |
فأقامهم بالبابِ لكنْ مُذْ عَلاَ | صوتُ العميدِ عَدَتْ على عُدْوَانِهِ |
وبه أحاطت كالأسودِ وأرغمت | أَنْفَ العدوِّ وعاد في سلطانِهِ |
يا ليتها في الطفِّ لمَّا صُرِّعت | من دونِهِ وثوت على كُثْبَانِهِ |
وغدا وحيداً والعدى أَمُّوه مِنْ | رام إليه وطاعن بسنانِهِ |
وقد استغاث ولا مجيبَ له سوى | صوت شَجَاه من بُكَا نِسْوَانِهِ |
قاموا لنصرتِهِ وكلٌّ قائلٌ | لبَّيك داعي ربِّنا بلسانِهِ |
____________
1- اللهوف ، ابن طاووس : 16 ـ 17 . 2- مناقب آل أبي طالب ، ابن شهر آشوب : 3/240 .
يتسابقون إلى الكفاحِ ودونه | وقفت تلقَّى النبلَ عن جُثْمانِهِ(1) |
وقال ابن شهر آشوب عليه الرحمة : كتب ـ يزيد ـ إلى الوليد بأخذ البيعة من الحسين(عليه السلام)وعبدالله بن عمر ، وعبدالله بن الزبير ، وعبدالرحمان بن أبي بكر أخذاً عنيفاً ليست فيه رخصة ، فمن يأبَ عليك منهم فاضرب عنقه ، وابعث إليَّ برأسه ، فشاور في ذلك مروان فقال : الرأي أن تحضرهم وتأخذ منهم البيعة قبل أن يعلموا .
فوجَّه في طلبهم وكانوا عند التربة ، فقال عبدالرحمن وعبدالله : ندخل دورنا ونغلق أبوابنا ، وقال ابن الزبير : والله ما أبايع يزيد أبداً ، وقال الحسين (عليه السلام) : أنا لابد لي من الدخول على الوليد ، وذكر قريباً مما مرَّ(2) .
قال الشيخ المفيد عليه الرحمة : فقال مروان للوليد : عصيتني ، لا والله لا يمكنك مثلها من نفسه أبداً ، فقال الوليد : ويح غيرك يا مروان ، إنك اخترت لي التي فيها هلاك ديني ودنياي ، والله ما أحبُّ أن لي ما طلعت عليه الشمس وغربت عنه من مال الدنيا وملكها وأني قتلت حسيناً ، سبحان الله! أقتل حسيناً أن قال لا أبايع ، والله إني لأظنّ أن امرءاً يحاسب بدم الحسين خفيف الميزان عند الله يوم القيامة .
فقال له مروان : فإذا كان هذا رأيك فقد أصبت فيما صنعت ، يقول هذا وهو غير الحامد له على رأيه(3) .
وقال محمد بن أبي طالب الموسوي رحمه الله تعالى : لما ورد الكتاب على الوليد بقتل الحسين(عليه السلام) عظم ذلك عليه ، ثمَّ قال : والله لا يراني الله أقتل ابن نبيه ولو جعل يزيد لي الدنيا بما فيها(4) .
____________
1- الشواهد المنبرية ، الشيخ علي الجشي : 41 ـ 42 . 2- مناقب آل أبي طالب ، ابن شهر آشوب : 4/88 . 3- الإرشاد ، المفيد : 2/33 ، بحار الأنوار ، المجلسي : 44/324 ح 2 . 4- بحار الأنوار ، المجلسي : 44/327 .
قال السيد عليه الرحمة : فلمَّا أصبح الحسين(عليه السلام) خرج من منزله يستمع الأخبار فلقيه مروان بن الحكم فقال له : يا أبا عبدالله ، إني لك ناصح ، فأطعني ترشد ، فقال الحسين(عليه السلام) : وما ذاك؟ قل حتى أسمع ، فقال مروان : إني آمرك ببيعة يزيد أمير المؤمنين ، فإنه خير لك في دينك ودنياك ، فقال الحسين(عليه السلام) : إنا لله وإنا إليه راجعون ، وعلى الإسلام السلام ، إذ قد بليت الأمة براع مثل يزيد ، ولقد سمعت جدّي رسول الله(صلى الله عليه وآله) يقول : الخلافة محرَّمة على آل أبي سفيان ، وطال الحديث بينه وبين مروان حتى انصرف مروان وهو غضبان .
فلما كان الغداة توجَّه الحسين(عليه السلام) إلى مكة لثلاث مضين من شعبان سنة ستين ، فأقام بها باقي شعبان وشهر رمضان وشوالا وذا القعدة(1) .
قال الشيخ المفيد عليه الرحمة : فأقام الحسين (عليه السلام) في منزله تلك الليلة ، وهي ليلة السبت لثلاث بقين من رجب سنة ستين من الهجرة ، واشتغل الوليد بن عتبة بمراسلة ابن الزبير في البيعة ليزيد ، وامتناعه عليهم ، وخرج ابن الزبير من ليلته عن المدينة متوجِّهاً إلى مكة ، فلمَّا أصبح الوليد سرَّح في أثره الرجال فبعث راكباً من موالي بني أمية في ثمانين راكباً فطلبوه فلم يدركوه ، فرجعوا .
فلما كان آخر نهار السبت بعث الرجال إلى الحسين(عليه السلام) ليحضر فيبايع الوليد ليزيد بن معاوية ، فقال لهم الحسين (عليه السلام) : أصبحوا ثم ترون ونرى ، فكفوا تلك الليلة عنه ، ولم يلحّوا عليه ، فخرج(عليه السلام) من تحت ليلته ـ وهي ليلة الأحد ليومين بقيا من رجب ـ متوجّهاً نحو مكه ، ومعه بنوه وإخوته وبنو أخيه ، وجلُّ أهل بيته إلاّ محمد بن الحنفيّة رحمه الله ، فإنه لما علم عزمه على الخروج عن المدينة لم يدر أين يتوجَّه ، فقال له : يا أخي ، أنت أحبُّ الناس إليَّ وأعزُّهم عليَّ ، ولست أدّخر النصيحة لأحد من الخلق إلاّ لك ، وأنت أحقُّ بها ، تنحَّ ببيعتك عن يزيد بن
____________
1- اللهوف ، ابن طاووس : 18 و 21 ، بحار الأنوار ، المجلسي : 44/326 .
معاوية ، وعن الأمصار ما استطعت ، ثم ابعث رسلك إلى الناس ، ثم ادعهم إلى نفسك ، فإن تابعك الناس وبايعوا لك حمدت الله على ذلك ، وإن اجتمع الناس على غيرك لم ينقص الله بذلك دينك ولا عقلك ، ولا تذهب به مروءتك ولا فضلك ، إني أخاف عليك أن تدخل مصراً من هذه الأمصار فيختلف الناس بينهم ، فمنهم طائفة معك وأخرى عليك ، فيقتتلون فتكون أنت لأوَّل الأسنَّة غرضاً ، فإذا خيرُ هذه الأمة كلها نفساً وأباً وأماً أضيعها دماً وأذلّها أهلا .
فقال له الحسين(عليه السلام) : فأين أنزل يا أخي؟ قال : انزل مكة ، فإن اطمأنَّت بك الدار بها فسبيل ذلك ، وإن نبتْ بك لحقت بالرمال وشعف الجبال ، وخرجت من بلد إلى بلد حتى تنظر إلى ما يصير أمر الناس ، فإنك أصوب ما تكون رأياً حين تستقبل الأمر استقبالا ، فقال(عليه السلام) : يا أخي ، قد نصحت وأشفقت ، وأرجو أن يكون رأيك سديداً موفَّقاً(1) .
وعن حمزة بن حمران ، عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال : ذكرنا خروج الحسين(عليه السلام)وتخلّف ابن الحنفية ، فقال أبو عبدالله(عليه السلام) : يا حمزة ، إني سأخبرك بحديث لا تسأل عنه بعد مجلسك هذا ، إن الحسين(عليه السلام) لما فصل متوجّهاً ، دعا بقرطاس وكتب فيه : بسم الله الرحمن الرحيم ، من الحسين بن علي بن أبي طالب إلى بني هاشم ، أما بعد ، فإن من لحق بي منكم استشهد ، ومن تخلّف لم يبلغ مبلغ الفتح والسلام(2) .
وروى السيد ابن طاووس عليه الرحمة من كتاب الشافي في النسب بإسناده إلى جده محمد بن عمر قال : سمعت أبي عمر بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) يحدث أخوالي آل عقيل قال : لما امتنع أخي الحسين (عليه السلام) عن البيعة ليزيد بالمدينة ، دخلت عليه فوجدته خاليا فقلت له : جُعلت فداك يا أبا عبدالله ، حدثني أخوك
____________
1- الإرشاد ، المفيد : 2/34 ـ 35 . 2- بحار الأنوار ، المجلسي : 44/330 .
أبو محمد الحسن عن أبيه (عليهما السلام) ثم سبقتني الدمعة وعلا شهيقي فضمني إليه وقال : حدثك أني مقتول ؟ فقلت : حوشيت يابن رسول الله ، فقال : سألتك بحق أبيك ، بقتلي خبرك ؟ فقلت : نعم ، فلو لا تأولت وبايعت ؟ فقال : حدثني أبي أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أخبره بقتله وقتلي ، وأن تربتي تكون بقرب تربته ، فتظن إنك علمت ما لم أعلمه ، وإنه لا أعطي الدنية عن نفسي أبدا ، ولتلقين فاطمة أباها شاكية ما لقيت ذريتها من أمته ، ولا يدخل الجنة أحدٌ آذاها في ذريتها(1) .
وروى ابن قولويه عليه الرحمة ، عن جابر ، عن محمد بن علي(عليهما السلام) ، قال : لما همَّ الحسين(عليه السلام) بالشخوص عن المدينة أقبلت نساء بني عبدالمطلب فاجتمعن للنياحة حتى مشى فيهنَّ الحسين(عليه السلام) ، فقال : أنشدكنَّ الله أن تبدين هذا الأمر معصية لله ولرسوله (صلى الله عليه وآله) ، فقالت له نساء بني عبد المطلب : فلمن نستبقي النياحة والبكاء ، فهو عندنا كيوم مات فيه رسول الله(صلى الله عليه وآله) وعلي وفاطمة ورقية وزينب وأم كلثوم ، فننشدك الله ، جعلنا الله فداك من الموت يا حبيب الأبرار من أهل القبور ، وأقلبت بعض عمَّاته تبكي وتقول : أشهد يا حسين لقد سمعت الجن ناحت بنوحك ، وهم يقولون :
فإن قتيلَ الطفِّ من آلِ هاشم | أذلَّ رقاباً من قريش فذلَّتِ |
حبيبُ رسولِ اللهِ لم يكُ فاحشاً | أبانت مصيبتُك الأنوفَ وجلَّتِ |
وقلن أيضاً :
أبكي حُسيناً سيداً | ولقتلِهِ شاب الشَّعَرْ |
ولقتلِهِ زُلزلتمُ | ولقتلِهِ انكسف القَمَرْ |
واحمَّرت آفاقُ السما | ءِ من العشيَّةِ والسَّحَرْ |
وتغيَّرت شَمْسُ البلا | د بهم وأظلمت الكورْ |
____________
1- اللهوف في قتلى الطفوف ، السيد ابن طاووس : 19 ـ 20 .
ذاك ابن فاطمة المصـ | ـاب به الخلائقُ والبَشَرْ |
أورثتنا ذلا به | جدع الأنوف مَعَ الغرر(1) |
وجاء في معالي السبطين للحائري عليه الرحمة قال : ثم إن نساء بني هاشم أقبلن إلى أم هاني عمَّة الحسين(عليه السلام) وقلن لها : يا أمَّ هاني ، أنت جالسة والحسين(عليه السلام)مع عياله عازم على الخروج؟ فأقبلت أم هاني ، فلمَّا رآها الحسين(عليه السلام) قال : أما هذه عمتي أم هاني؟ قيل : نعم ، فقال : يا عمّة ، ما الذي جاء بك وأنت على هذه الحالة؟ فقالت : وكيف لا آتي وقد بلغني أن كفيل الأرامل ذاهب عني؟ ثم إنها انتحبت باكيةً ، وتمثَّلت بأبيات أبيها أبي طالب(عليه السلام) :
وأبيضَ يستسقى الغمامُ بوجهِهِ | ثِمالُ اليتامى عصمةٌ للأراملِ |
تطوفُ به الهلاَّكُ من آلِ هاشم | فهم عنده في نعمة وفَوَاضِلِ |
ثم قالت : سيدي ، وأنا متطيِّرة عليك من هذا المسير لهاتف سمعت البارحة يقول :
وإنَّ قتيلَ الطفِّ من آلِ هاشم | أذلَّ رقاباً من قريش فذلَّتِ |
حبيبُ رسولِ اللهِ لم يك فاحشاً | أبانت مصيبتُهُ الأنوفَ وجلَّتِ |
فقال لها الحسين(عليه السلام) : يا عمَّة ، لا تقولي : من قريش ، ولكن قولي : (أذلَّ رقاب المسلمين فذلَّت) ، ثم قال : يا عمَّة ، كل الذي مقدَّر فهو كائن لا محالة ، وقال(عليه السلام) :
وما هم بقوم يغلبون ابنَ غالب | ولكن بعلمِ الغيبِ قد قُدِّرَ الأمرُ |
فخرجت أم هاني من عنده باكية وهي تقول :
وما أمُّ هاني وحدَها سَاءَ حالَها | خروجُ حسين عن مدينةِ جدِّهِ |
ولكنَّما القبرُ الشريفُ وَمَنْ به | ومنبرُهُ يبكون من أجلِ فَقْدِهِ |
____________
1- كامل الزيارات ، ابن قولويه : 195 ـ 196 ح 8 .
أقول : ليت شعري ما حال أم هاني وبنات عبدالمطلب يوم ورد الناعي بقتل الحسين(عليه السلام) ، قال الرواي : ولما ورد نعي الحسين(عليه السلام) المدينة فلم أسمع والله واعية مثل واعية نساء بني هاشم في دورهن على الحسين(عليه السلام)(1) .
وخرجت أسماء ـ وفي رواية أم لقمان بنت عقيل بن أبي طالب ـ في جماعة من نساء بني هاشم وهي حاسرة تلوي بثوبها حتى انتهت إلى قبر رسول الله(صلى الله عليه وآله) ، فلاذت به وشهقت عنده ، ثم التفتت إلى المهاجرين والأنصار وهي تقول :
ماذا تقولون إن قال النبيُّ لكم | ماذا فعلتم وأنتم آخرُ الأُمَمِ |
بعترتي وبأهلي بعد مفتقدي | منهم أسارى ومنهم ضرِّجوا بدمِ(2) |
قال بعض الرواة : وتهيَّأ الحسين بن علي(عليهما السلام) وعزم على الخروج من المدينة ، ومضى في جوف الليل إلى قبر أمه فصلَّى عند قبرها وودَّعها ، ثم قام عن قبرها وصار إلى قبر أخيه الحسن ففعل مثل ذلك ، ثم رجع إلى منزله(3) .
ولله درّ الحجة الشيخ علي الجشي عليه الرحمة إذ يقول :
بأبي حُسيناً حين أزعجه العدى | من أرضِ طيبةَ للأحبَّةِ ودَّعا |
قد ودَّعَ الأطهارَ من أهلِ العَبَا | بقبورِهم إذ بالترحُّلِ أزمعا |
ولدى الترحُّلِ ودَّعته وابتغت | بَدَلَ الزيارةِ للزيارةِ موضعا |
حتى إذا أمسى لقىً في كربلا | زارته في حال إليها أفجعا |
وَجَدَتْهُ مقطوعَ الكريمِ موزَّعَ الـ | أشلا وبجدلُ منه حزَّ الإصبعا(4) |
روى الشيخ المفيد عليه الرحمة بإسناده عن إبراهيم بن داحة قال : أول شعر
____________
1- معالي السبطين ، الحائري : 1/214 ـ 215 . 2- روضة الواعظين ، الفتال النيسابوري : 192 ـ 193 ، تاريخ الطبري : 4/357 ، معالي السبطين ، الحائري : 1/215 . 3- كتاب الفتوح ، ابن أعثم الكوفي : 5/21 ، مقتل الحسين(عليه السلام) ، الخوارزمي : 1/187 . 4- الشواهد المنبرية ، الشيخ علي الجشي : 43 .
رثي به الحسين بن علي(عليهما السلام) قول عقبة بن عمرو السهمي من بني سهم بن عوف بن غالب :
إذا العينُ قرَّتْ في الحياةِ وأنتُمُ | تخافون في الدنيا فأظلمَ نورُها |
مررتُ على قبرِ الحسينِ بكربلا | ففاض عليه من دموعي غزيرُها |
فما زلتُ أرثيه وأبكي لشجوِهِ | ويُسْعِدُ عيني دمعُها وزفيرُها |
وبكَّيتُ من بعد الحسين عصائباً | أطافت به من جانبيها قبورُها |
سلامٌ على أهلِ القبورِ بكربلا | وقلَّ لها مني سلامٌ يزورُها |
سلامٌ بآصالِ العشيِّ وبالضحى | تؤدِّيه نكباءُ الرياحِ ومُورُها |
ولا بَرِحَ الوفَّادُ زوَّارُ قبرِهِ | يفوحُ عليهم مِسْكُها وعبيرُها(1) |
وقال شاعر آخر :
تبيتُ النشاوى من أميَّةَ نُوَّماً | وبالطفِّ قتلى ما ينامُ حميمُها |
وما قتلَ الإسلامَ إلاَّ عصابةٌ | تأمَّرَ نَوْكَاها ونام زعيمُها |
فأضحت قناةُ الدينِ في كفِّ ظالم | إذا اعوجَّ منها جانبٌ لا يقيمُها(2) |
المجلس الثاني ، من اليوم الثاني
خروج الإمام الحسين(عليه السلام) من المدينة
جاء في زيارات أئمة أهل البيت(عليهم السلام) : يا مواليَّ ، فلو عاينكم المصطفى ، وسهام الأئمة معرقة في أكبادكم ، ورماحهم مشرعة في نحوركم ، وسيوفها مولغة في دمائكم ، يشفي أبناء العواهر غليل الفسق من ورعكم ، وغيظ الكفر من إيمانكم ،
____________
1- الأمالى ، الشيخ المفيد : 324 . 2- مناقب آل أبي طالب ، ابن شهر آشوب : 3/268 .
وأنتم بين صريع في المحراب قد فَلق السيفُ هامتَه ، وشهيد فوق الجنازة قد شُكَّت بالسهام أكفانُه ، وقتيل بالعراء قد رُفع فوق القناة رأسُه ، ومكبَّل في السجن رُضَّت بالحديد أعضاؤه ، ومسموم قد قُطِّعت بجُرع السمِّ أمعاؤه(1) ، فإنّا لله إنّا إليه راجعون ، ولا حول ولا قوَّة إلاَّ بالله العلي العظيم ، ولله درّ السيد صالح القزويني عليه الرحمة إذ يقول :
فلهفي عليهم ما قضى حَتْفَ أنفِهِ | كريمٌ لهم إلاَّ بسمٍّ وَصَارِمِ |
تجنَّت عليهم آلُ حرب تجرُّماً | وجالت عليهم باحتباءِ الجرائمِ |
فكم جَزَروا بالطفِّ منهم أماجداً | على ظمأ بالبيضِ جَزْرَ السوائمِ |
فَيَالِرؤس في الرماحِ وأضلع | تحطِّمُها خيلُ العدى بالمناسمِ |
ويالِلُحُوم غسَّلتها دماؤُها | وكفَّنها نَسْجُ الرياحِ النواسمِ |
ولهفي على سبطِ النبيِّ تذودُهُ | عن الماءِ أرجاسُ الأعادي الغواشمِ(2) |
روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) في حديث له عما يجري على أهل بيته (عليهم السلام) من المحن والمصائب ، وقد سُئل عن سبب بكائه لما رأى الحسين (عليه السلام) قال : وإني لما رأيته تذكرت ما يُصنع به بعدي ، كأني به وقد استجار بحرمي وقبري فلا يُجار ، فأضمه في منامه إلى صدري ، وآمره بالرحلة عن دار هجرتي ، وأُبشره بالشهادة ، فيرتحل عنها إلى أرض مقتله ، وموضع مصرعه ، أرض كرب وبلا ، وقتل وفناء ، تنصره عصابة من المسلمين ، أولئك من سادة شهداء أمتي يوم القيامة ..(3)
وقال ابن عباس في كتابه إلى يزيد بن معاوية لعنه الله تعالى : وما أنسى من الأشياء ، فلستُ بناس إطرادك الحسين بن علي (عليه السلام) من حَرم رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى
____________
1- المزار ، محمد بن المشهدي : 298 . 2- مثير الأحزان ، الجواهري : 155 . 3- الأمالي ، الصدوق : 177 ح2 .
حَرم الله ، ودسك إليه الرجال تغتاله ، فأشخصته من حرم الله إلى الكوفة ، فخرج منها خائفاً يترقب ، وقد كان أعزَّ أهلِ البطحاء بالبطحاء قديماً ، وأعزَّ أهلها بها حديثاً ، وأطوعَ أهل الحرمين بالحرمين لو تبوأ بها مقاماً ، واستحل بها قتالاً ، ولكن كَره أن يكون هو الذي يستحل حرمة البيت ، وحرمة رسول الله (صلى الله عليه وآله) فأكبر من ذلك ما لم تكبر حيث دسست إليه الرجال فيها ليقاتل في الحرم ، وما لم يكبر ابن الزبير حيث ألحد بالبيت الحرام وعرضه للعائر وأراقل العالم ، وأنت ؟ لأنت المستحل فيما أُظن بل لا شك فيه أنك للمحرف العريف ، فإنك حلف نسوة ، صاحب ملاه ، فلما رأى سوء رأيك شخص إلى العراق ، ولم يبتغك ضراباً ، وكان أمر الله قدرا مقدورا(1) .
قال الراوي : وخرج الحسين(عليه السلام) من منزله ذات ليلة ، وأقبل إلى قبر جدّه(صلى الله عليه وآله) فقال : السلام عليك يا رسول الله ، أنا الحسين بن فاطمة ، فرخك وابن فرختك ، وسبطك الذي خلَّفتني في أمتك ، فاشهد عليهم يا نبي الله أنهم قد خذلوني ، وضيَّعوني ، ولم يحفظوني ، وهذه شكواي إليك حتى ألقاك ، قال : ثم قام فصفَّ قدميه فلم يزل راكعاً ساجداً .
قال : وأرسل الوليد إلى منزل الحسين(عليه السلام) لينظر أخرج من المدينة أم لا؟ فلم يصبه في منزله ، فقال : الحمد لله الذي خرج ولم يبتلني بدمه ، قال : ورجع الحسين (عليه السلام) إلى منزله عند الصبح فلمَّا كانت الليلة الثانية خرج إلى القبر أيضاً وصلَّى ركعات ، فلمَّا فرغ من صلاته جعل يقول : اللهم هذا قبر نبيك محمد ، وأنا ابن بنت نبيك ، وقد حضرني من الأمر ما قد علمت ، اللهم إني أحبُّ المعروف ، وأنكر المنكر ، وأنا أسألك يا ذا الجلال والإكرام بحق القبر ومن فيه إلاَّ اخترت لي ما هو لك رضى ، ولرسولك رضى .
____________
1- تأريخ اليعقوبي : 2/249 .
قال : ثم جعل يبكي عند القبر حتى إذا كان قريباً من الصبح وضع رأسه على القبر فأغفى ، فإذا هو برسول الله (صلى الله عليه وآله) قد أقبل في كتيبة من الملائكة عن يمينه وعن شماله وبين يديه حتى ضمَّ الحسين إلى صدره ، وقبَّل بين عينيه وقال : حبيبي يا حسين ، كأني أراك عن قريب مرمَّلا بدمائك ، مذبوحاً بأرض كرب وبلاء ، بين عصابة من أمتي ، وأنت مع ذلك عطشان لا تسقى ، وظمآن لا تروى ، وهم مع ذلك يرجون شفاعتي ، لا أنالهم الله شفاعتي يوم القيامة ، حبيبي يا حسين ، إن أباك وأمَّك وأخاك قدموا عليَّ وهم مشتاقون إليك ، وإن لك في الجنان لدرجات لن تنالها إلاَّ بالشهادة .
قال : فجعل الحسين(عليه السلام) في منامه ينظر إلى جدِّه ويقول : يا جدَّاه ، لا حاجة لي في الرجوع إلى الدنيا ، فخذني إليك وأدخلني معك في قبرك ، فقال له رسول الله(صلى الله عليه وآله) : لابدَّ لك من الرجوع إلى الدنيا حتى ترزق الشهادة ، وما قد كتب الله لك فيها من الثواب العظيم ، فإنك وأباك وأخاك وعمَّك وعمَّ أبيك تحشرون يوم القيامة في زمرة واحدة ، حتى تدخلوا الجنة .
ولله درّ المرحوم الشيخ عبدالمنعم الفرطوسي عليه الرحمة إذ يقول :
أفدي حسيناً حين خفَّ مودِّعاً | قبراً به ثقلُ النبوةِ أودعا |
وافى إلى توديعِهِ وفؤادُهُ | بمُدَى الفراقِ يكادُ أن يتقطَّعا |
وغدا يبثُّ له زفيرَ شجونِهِ | بشكاتِهِ والطرفُ يذري الأدمعا |
يا جدُّ حسبي ما أُكابدُ من عناً | في هذه الدنيا يقضُّ المضجعا |
فأجابه صبراً بُنيَّ على الأذى | حتى تنالَ بذا المقامَ الأرفعا |
ولقد حباك اللهُ أمراً لم يكن | بسوى الشهادةِ ظهرُهُ لك طيِّعا |
وكأنني بك يا بنيُّ بكربلا | تمسي ذبيحاً بالسيوف مبضَّعا |
ولقد رآه بمشهد من زينب | هو والوصيُّ وأمُّه الزهرا معا |
ملقىً برمضاءِ الهجيرِ على الثرى | تطأُ السنابكُ صدرَه والأضلعا |
في مصرع سُفِكَتْ عليه دِمَاؤُهُ | أفدي بنفسي منه ذاك المصرعا(1) |
قال الراوي : فانتبه الحسين(عليه السلام) من نومه فزعاً مرعوباً ، فقصَّ رؤياه على أهل بيته وبني عبدالمطلب ، فلم يكن في ذلك اليوم في مشرق ولا مغرب قومٌ أشدّ غماً من أهل بيت رسول الله(صلى الله عليه وآله) ولا أكثر باك ولا باكية منهم .
قال : وتهيَّأ الحسين(عليه السلام) للخروج عن المدينة ، ومضى في جوف الليل إلى قبر أمِّه فودَّعها ، ثم مضى إلى قبر أخيه الحسن ففعل كذلك ، ثم رجع إلى منزله وقت الصبح ، فأقبل إليه أخوه محمد بن الحنفيَّة وقال : يا أخي ، أنت أحبُّ الخلق إليَّ ، وأعزُّهم عليَّ ، ولست والله أدّخر النصيحة لأحد من الخلق ، وليس أحد أحقُّ بها منك; لأنك مزاج مائي ونفسي وروحي وبصري وكبير أهل بيتي ، ومن وجبت طاعته في عنقي ، لأن الله قد شرَّفك عليَّ ، وجعلك من سادات أهل الجنة . وساق الحديث إلى أن قال : تخرج إلى مكة فإن اطمأنّت بك الدار بها فذاك ، وإن تكن الأخرى خرجت إلى بلاد اليمن ، فإنهم أنصار جدِّك وأبيك ، وهم أرأف الناس وأرقّهم قلوباً ، وأوسع الناس بلاداً ، فإن اطمأنّت بك الدار ، وإلاَّ لحقت بالرمال وشعوب الجبال ، وجزت من بلد إلى بلد ، حتى تنظر ما يؤول إليه أمر الناس ، ويحكم الله بيننا وبين القوم الفاسقين .
قال : فقال الحسين(عليه السلام) : يا أخي ، والله لو لم يكن ملجأ ولا مأوى لما بايعت يزيد بن معاوية ، فقطع محمد بن الحنفية الكلام وبكى ، فبكى الحسين(عليه السلام) معه ساعة ثم قال : يا أخي ، جزاك الله خيراً ، فقد نصحت وأشرت بالصواب ، وأنا عازم على الخروج إلى مكة ، وقد تهيَّأت لذلك أنا وإخوتي وبنو أخي وشيعتي ، وأمرهم أمري ورأيهم رأيي ، وأما أنت يا أخي فلا عليك أن تقيم بالمدينة ، فتكون
____________
1- ديوان الفرطوسي : 1/93 .
لي عيناً لا تخفي عني شيئاً من أمورهم .
ثم دعا الحسين(عليه السلام) بدواة وبياض وكتب هذه الوصية لأخيه محمد :
بسم الله الرّحمن الرّحيم ، هذا ما أوصى به الحسين بن علي بن أبي طالب إلى أخيه محمد المعروف بابن الحنفية ، أن الحسين يشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله ، جاء بالحق من عند الحق ، وأن الجنة والنار حق ، وأن الساعة آتية لا ريب فيها ، وأن الله يبعث من في القبور ، وأني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً ، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي(صلى الله عليه وآله) ، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر ، وأسير بسيرة جدّي وأبي علي بن أبي طالب(عليه السلام) ، فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق ، ومن ردَّ عليَّ هذا أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق وهو خير الحاكمين ، وهذه وصيتي يا أخي إليك ، وما توفيقي إلاَّ بالله عليه توكَّلت وإليه أنيب .
قال : ثمَّ طوى الحسين (عليه السلام) الكتاب وختمه بخاتمه ، ودفعه إلى أخيه محمد ، ثم ودَّعه وخرج في جوف الليل(1) .
وقال محمد بن أبي طالب : روى محمد بن يعقوب الكليني في كتاب الرسائل بسنده عن حمزة بن حمران ، عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال : ذكرنا خروج الحسين(عليه السلام)وتخلُّف ابن الحنفية فقال أبو عبدالله(عليه السلام) : يا حمزة ، إني سأخبرك بحديث لا تسأل عنه بعد مجلسك هذا ، إن الحسين لما فصل متوجِّهاً ، دعا بقرطاس وكتب فيه :
بسم الله الرّحمن الرّحيم ، من الحسين بن علي بن أبي طالب إلى بني هاشم ، أمَّا بعد فإنه من لحق بي منكم استشهد ، ومن تخلَّف لم يبلغ مبلغ الفتح ، والسلام .
قال : وقال شيخنا المفيد بإسناده إلى أبي عبدالله(عليه السلام) قال : لما سار أبو عبدالله (عليه السلام) من المدينة لقيه أفواج من الملائكة المسوّمة ، في أيديهم الحراب ، على
____________
1- بحار الأنوار ، المجلسي : 44/327 ـ 331 .
نجب من نجب الجنة ، فسلَّموا عليه ، وقالوا : يا حجة الله على خلقه بعد جدّه وأبيه وأخيه ، إن الله سبحانه أمدَّ جدَّك بنا في مواطن كثيرة ، وإن الله أمدَّك بنا ، فقال لهم : الموعد حفرتي وبقعتي التي أستشهد فيها وهي كربلا ، فإذا وردتها فأتوني ، فقالوا : يا حجَّة الله! مرنا نسمع ونطع ، فهل تخشى من عدوّ يلقاك فنكون معك؟ فقال : لا سبيل لهم عليَّ ، ولا يلقوني بكريهة أو أصل إلى بقعتي .
وأتته أفواج مسلمي الجن فقالوا : يا سيِّدنا ، نحن شيعتك وأنصارك ، فمرنا بأمرك وما تشاء ، فلو أمرتنا بقتل كل عدوّ لك وأنت بمكانك لكفيناك ذلك ، فجزاهم الحسين خيراً وقال لهم : أو ما قرأتم كتاب الله المنزل على جدي رسول الله (صلى الله عليه وآله) {أَيْنََما تَكُونُوا يُدْرِكُّمْ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوج مُشَيَّدَة} وقال سبحانه : {لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} وإذا أقمت بمكاني فبماذا يبتلى هذا الخلق المتعوس؟ وبماذا يختبرون؟ ومن ذا يكون ساكن حفرتي بكربلاء؟ وقد اختارها الله يوم دحا الأرض ، وجعلها معقلا لشيعتنا ، ويكون لهم أماناً في الدنيا والآخرة ، ولكن تحضرون يوم السبت ، وهو يوم عاشوراء الذي في آخره أقتل ، ولا يبقى بعدي مطلوب من أهلي ونسبي وإخوتي وأهل بيتي ، ويسار برأسي إلى يزيد لعنه الله .
فقالت الجن : نحن والله يا حبيب الله وابن حبيبه ، لولا أن أمرك طاعة وأنه لا يجوز لنا مخالفتك قتلنا جميع أعدائك قبل أن يصلوا إليك ، فقال صلوات الله عليه لهم : نحن والله أقدر عليهم منكم ، ولكن ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيَّ عن بينة(1) .
قال العلامة المجلسي عليه الرحمة : ووجدت في بعض الكتب أنه(عليه السلام) لما عزم على الخروج من المدينة أتته أم سلمة رضي الله عنها فقالت : يا بنيَّ ، لا تحزنّي
____________
1- بحار الأنوار ، المجلسي : 44/330 ـ 331 .
بخروجك إلى العراق ، فإني سمعت جدَّك (صلى الله عليه وآله) يقول : يقتل ولدي الحسين بأرض العراق في أرض يقال لها كربلاء ، فقال لها : يا أُمَّاه ، وأنا والله أعلم ذلك ، وإني مقتول لا محالة ، وليس لي من هذا بدّ ، وإني والله لأعرف اليوم الذي أقتل فيه ، وأعرف من يقتلني ، وأعرف البقعة التي أدفن فيها ، وإني أعرف من يقتل من أهل بيتي وقرابتي وشيعتي ، وإن أردت يا أمَّاه أريك حفرتي ومضجعي .
ثم أشار(عليه السلام) إلى جهة كربلاء فانخفضت الأرض حتى أراها مضجعه ومدفنه وموضع عسكره ، وموقفه ومشهده ، فعند ذلك بكت أم سلمة بكاء شديداً ، وسلَّمت أمره إلى الله ، فقال لها : يا أمّاه ، قد شاء الله عزَّ وجلَّ أن يراني مقتولا مذبوحاً ظلماً وعدواناً ، وقد شاء أن يرى حرمي ورهطي ونسائي مشرَّدين ، وأطفالي مذبوحين مظلومين ، مأسورين مقيَّدين ، وهم يستغيثون فلا يجدون ناصراً ولا معيناً . ولله درّ الحجة الشيخ علي الجشي عليه الرحمة إذ يقول :
وأقبلت زوجةُ الهادي التي حفظت | فيه الوصايا وأدَّت حقَّ هاديها |
بُنيَّ يُحزنُني منك الخروجُ إلى | أرض العراقِ فلا تأمَنْ أهاليها |
بنيَّ تُقْتَلُ إِمَّا جئتَها فأَقِمْ | عسى أُقضِّي لبانات أُرجِّيها |
هو العليمُ بما يجري عليه وهل | يخفى عليه من الأقدارِ جاريها |
لكنْ شريعةُ طه إذ به التجأت | أجاب منتصراً للحقِّ داعيها |
أَلاَ ترى حين جاء النصر منتصراً | في كربلا والعدى سدَّت نواحيها |
قد أصدر النصرَ والبتَّارَ أغمده | وباع في الحقِّ نفساً جلَّ شاريها |
فعاد نَهْبَ الظبا للسُّمْرِ مُشْتَجَراً | والنبلُ كالقطرِ يهمي من أعاديها(1) |
وفي رواية أخرى : قالت أم سلمة : وعندي تربة دفعها إليَّ جدّك في قارورة ، فقال : والله إني مقتول كذلك ، وإن لم أخرج إلى العراق يقتلوني أيضاً ، ثم أخذ تربة
____________
1- الشواهد المنبرية ، الشيخ علي الجشي : 42 .
فجعلها في قارورة وأعطاها إياها وقال : اجعليها مع قارورة جدّي ، فإذا فاضتا دماً فاعلمي أني قد قتلت .
ثم قال الشيخ المفيد عليه الرحمة : فسار الحسين(عليه السلام) إلى مكة وهو يقرأ : {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}(1) ولزم الطريق الأعظم ، فقال له أهل بيته : لو تنكَّبت عن الطريق كما فعل ابن الزبير كيلا يلحقك الطلب ، فقال : لا والله لا أفارقه حتى يقضي الله ما هو قاض(2) .
وروي عن سكينة بنت الحسين(عليه السلام) قالت : خرجنا من المدينة في ليلة مظلمة ، ذات رعد وبرق ، حتى خلنا أنَّ السماء أُطبقت على الأرض(3) .
وفي رواية عن المنتخب قالت (عليها السلام) لما خرجنا من المدينة ما كان أحد أشدّ خوفاً منا أهل البيت(4) .
وفي رواية أخرى قالت سكينة (عليها السلام) : حين خرجنا من المدينة وما أهل بيت أشد غماً ولا خوفاً من أهل بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) .
سبحان الله خرجن بنات رسول الله (صلى الله عليه وآله) من المدينة خائفات ومعهن حماتهن ورجالهن ، ليت شعري فما حالهن يوم سيروهن من كربلاء إلى الكوفة ، ومن الكوفة إلى الشام ، وليس معهن من رجالهن ولي ، ولا من حُماتهن حمي ، وكأني بزينب الكبرى (عليها السلام) تنادي بلسان الحال :
لا والدٌ لي ولا عمٌ ألوذ به | ولا أخٌ لي بقي أرجوه ذو رحمِ |
أخي ذبيح ورحلي قد اُبيح وبي | ضاق الفسيح وأطفالي بغير حمي(5) |
وروى عبدالله بن سنان الكوفي ، عن أبيه ، عن جده أنه قال في كيفية خروج الإمام الحسين(عليه السلام) من المدينة قال : خرجت بكتاب من أهل الكوفة إلى الحسين(عليه السلام) وهو يومئذ بالمدينة ، فأتيته فقرأه فعرف معناه فقال : أنظرني إلى ثلاثة
____________
1- سورة القصص ، الآية : 21 . 2- بحار الأنوار ، المجلسي : 44/331 ـ 332 . 3- سعادة الدارين فيما يتعلق بالإمام الحسين (عليه السلام) ، الشيخ حسين القديحي : 93 . 4- المنتخب ، الطريحي : 411 . 5- معالي السبطين ، الحائري : 1/227 ـ 228 .
أيام ، فبقيت في المدينة ثم تبعته إلى أن صار عزمه بالتوجّه إلى العراق ، فقلت في نفسي : أمضي وأنظر إلى ملك الحجاز كيف يركب ، وكيف جلالته وشأنه ، فأتيت إلى باب داره فرأيت الخيل مسرجة ، والرجال واقفين ، والحسين(عليه السلام) جالس على كرسي ، وبنو هاشم حافّون به ، وهو بينهم كأنه البدر ليلة تمامه وكماله .
ورأيت نحواً من أربعين محملا وقد زيِّنت المحامل بملابس الحرير والديباج ، قال : فعند ذلك أمر الحسين(عليه السلام) بني هاشم بأن يُركِّبوا محارمهن على المحامل ، فبينما أنا أنظر وإذا بشاب قد خرج من دار الحسين(عليه السلام) وهو طويل القامة ، وعلى خدّه علامة ، ووجهه كالقمر الطالع وهو يقول : تنحّوا يا بني هاشم ، وإذا بامرأتين قد خرجتا من الدار وهما تجران أذيالهما على الأرض حياء من الناس ، وقد حفَّت بهما إماؤهما ، فتقدَّم ذلك الشاب إلى محمل من المحامل وجثا على ركبتيه ، وأخذ بعضديهما وأركبهما المحمل ، فسألت بعض الناس عنهما فقيل : أما إحداهما فزينب ، والأخرى أم كلثوم بنتا أمير المؤمنين (عليه السلام) ، فقلت : ومن هذا الشاب؟ فقيل لي : هو قمر بني هاشم العباس ابن أمير المؤمنين ، ثم رأيت بنتين صغيرتين كأن الله تعالى لم يخلق مثلهما ، فجعل واحدة مع زينب والأخرى مع أم كلثوم ، فسألت عنهما فقيل لي : هما سكينة وفاطمة بنتا الحسين(عليه السلام) ، ثم خرج غلام آخر كأنه البدر الطالع ومعه امرأة ، وقد حفَّت بها إماؤها ، فأركبها ذلك الغلام المحمل ، فسألت عنها وعن الغلام فقيل لي : أمَّا الغلام فهو علي الأكبر بن الحسين(عليه السلام) ، والإمرأة أمه ليلى زوجة الحسين(عليه السلام) ، ثم خرج غلام ووجهه كفلقة القمر ، ومعه امرأة ، فسألت عنها فقيل لي : أمَّا الغلام فهو القاسم بن الحسن المجتبى(عليه السلام) والإمرأة أمه .
ثم خرج شاب آخر وهو يقول : تنحّوا عني يا بني هاشم ، تنحّوا عن حرم أبي عبدالله ، فتنحَّى عنه بنو هاشم ، وإذا قد خرجت امرأة من الدار وعليها آثار الملوك ، وهي تمشي على سكينة ووقار ، وقد حفَّت بها إماؤها ، فسألت عنها فقيل