بأبي المقتولَ غمّاً بالظما | ماله ريٌّ سوى فيض الدِّما |
منعوا قُرَّةَ عيني وِرْدَه | عجباً مَهْرِي عليه حُرِّما |
قال : فانتبهت وفي حفظي البيتان ، فإذا هما يليقان بوزن الموشّحة التي نظمت بعضاً منها ، فرثيت بأمرها(عليها السلام) الحسين(عليه السلام) ، وضمَّنت البيتين المذكورين ، فكانت موشحة أولها يعد النسيب تهنئة وآخرها رثاء وندبة ، وهي :
بَدْرُ سَعْد أشرق الكونُ له | إذ له بُرْجاً غدا سَعْدُ السُّعُودْ(1) |
المجلس الخامس ، من اليوم الثالث
عبادة الحسين(عليه السلام) وحجه
وبعض كراماته الشريفة
جاء في كتاب المزار للمشهدي عليه الرحمة في بعض الزيارات الشريفة : وأشهد أنكم قد وفيتم بعهد الله وذمته ، وبكل ما اشترطه عليكم في كتابه ، ودعوتم إلى سبيله ، وأنفدتم طاقتكم في مرضاته ، وحملتم الخلائق على منهاج النبوة ومسالك الرسالة ، وسرتم فيه بسيرة الأنبياء ، ومذاهب الأوصياء ، فلم يطع لكم أمر ، ولم تصغ إليكم أذن ، فصلوات الله على أرواحكم وأجسادكم(2) .
ليس هذا لرسولِ اللهِ يا | أمَّةَ الطغيانِ والبغيِ جَزَا |
وقال أبو تمام الطائي :
فعلتم بأبناءِ النبيِّ ورهطِهِ | أفاعيلَ أدناها الخيانةُ والغدرُ |
ومِنْ قَبلهِ أخلفْتُم لوصيه | بداهية دهياء ليس لها قَدرُ |
____________
1- ظرافة الأحلام ، السماوي : 60 ـ 61 . 2- المزار ، محمد بن المشهدي : 294 .
روى الحميري عليه الرحمة بإسناده إلى أبي عبدالله(عليه السلام) قال : خرج الحسين ابن علي(عليه السلام)(1) إلى مكة سنة ماشياً ، فورمت قدماه ، فقال له بعض مواليه : لو ركبت ليسكن عنك هذا الورم ، فقال : كلا ، إذا أتينا هذا المنزل فإنه يستقبلك أسود ومعه دهن فاشتره منه ولا تماكسه ، فقال له مولاه : بأبي أنت وأمي ، ما قدّامنا منزل فيه أحد يبيع هذا الدواء ، فقال : بلى ، أمامك دون المنزل .
فسار ميلا فإذا هو بالأسود ، فقال الحسين لمولاه : دونك الرجل فخذ منه الدهن ، فأخذ منه الدهن وأعطاه الثمن ، فقال له الغلام : لمن أردت هذا الدهن؟
فقال : للحسين بن علي(عليهما السلام) ، فقال : انطلق بنا إليه ، فصار الأسود نحوه فقال : يا ابن رسول الله ، إني مولاك ، لا آخذ له ثمناً ، ولكن ادع الله أن يرزقني ولداً ذكراً سوياً يحبكم أهل البيت ، فإني خلَّفت امرأتي تمخض ، فقال : انطلق إلى منزلك فإن الله قد وهب لك ولداً ذكراً سويّاً . فولدت غلاماً سوياً ، ثم رجع الأسود إلى الحسين ودعا له بالخير لولادة الغلام له ، ثم إن الحسين(عليه السلام) قد مسح رجليه فما قام من موضعه حتى زال ذلك الورم(2) .
وروى إبراهيم الرافعي ، عن أبيه ، عن جدّه ، قال : رأيت الحسن والحسين(عليهما السلام)يمشيان إلى الحج ، فلم يمرّا برجل راكب إلاّ نزل يمشي ، فثقل ذلك على بعضهم ، فقالوا لسعد بن أبي وقاص : قد ثقل علينا المشي ، ولا نستحسن أن نركب وهذان السيدان يمشيان ، فقال سعد للحسن : يا أبا محمد ، إن المشي قد ثقل على جماعة ممن معك ، والناس إذا رأوكما تمشيان لم تطب أنفسهم أن يركبوا فلو
____________
1- هذا في رواية البحار ، والسيد ابن طاووس في كتاب فرج المهموم : 226 ، والبحراني عنه في كتاب العوالم : 56 ح 1 ، وفي سائر المصادر بدل الحسين (عليه السلام) (الحسن (عليه السلام)) وكلاهما نور واحد (صلوات الله وسلامه عليهما) . 2- دلائل الإمامة ، الحميري : 172 ح 24 ، الكافي ، الكليني : 1/463 ح 2 ، بحار الأنوار ، المجلسي : 44/185 ح 13 .
ركبتما ، فقال الحسن(عليه السلام) : لا نركب ، قد جعلنا على أنفسنا المشي إلى بيت الله الحرام على أقدامنا ، ولكنّا نتنكّب عن الطريق ، فأخذا جانباً من الناس(1) .
وقال عبدالله بن عبيد أبو عمير : لقد حجَّ الحسين بن علي(عليهما السلام) خمساً وعشرين حجّة ماشياً وإن النجائب لتقاد معه(2) .
وذكر ابن عبد ربه في كتاب العقد الفريد أنه قيل لعلي بن الحسين(عليهما السلام) : ما أقلَّ ولد أبيك! فقال : العجب كيف ولدت له كان يصلّي في اليوم والليلة ألف ركعة(3) . وقيل للحسين(عليه السلام) : ما أعظم خوفك من ربك! قال : لا يأمن يوم القيامة إلاَّ من خاف الله في الدنيا(4) .
ومما روي في كرامات سيد الشهداء(عليه السلام) ما رواه ابن شهر آشوب عن زرارة بن أعين ، قال : سمعت أبا عبدالله(عليه السلام) يحدّث عن آبائه(عليهم السلام) أن مريضاً شديد الحمَّى عاده الحسين(عليه السلام) ، فلمَّا دخل من باب الدار طارت الحمَّى عن الرجل ، فقال له : رضيت بما أوتيتم به حقاً حقاً والحمَّى تهرب عنكم ، فقال له الحسين(عليه السلام) : والله ما خلق الله شيئاً إلاَّ وقد أمره بالطاعة لنا ، قال : فإذا نحن نسمع الصوت ولا نرى الشخص يقول : لبّيك ، قال : أليس أمير المؤمنين أمرك أن لا تقربي إلاّ عدوّاً أو مذنباً لكي تكوني كفارة لذنوبه؟ فما بال هذا؟ فكان المريض عبدالله بن شداد بن الهاد الليثي(5) .
وعن صالح بن ميثم قال : دخلت أنا وعباية الأسدي على حبابة الوالبية فقال لها : هذا ابن أخيك ميثم ، قالت : ابن أخي والله حقاً ، ألا أحدِّثكم بحديث عن
____________
1- الإرشاد ، المفيد : 2/128 ، بحار الأنوار ، المجلسي : 43/276 ح 46 . 2- مناقب آل أبي طالب : 4/69 ، عنه بحار الأنوار : 44/192 ح 5 . 3- العقد الفريد : 3/126 ، تأريخ اليعقوبي : 2/247 ، بحار الأنوار : 44/196 ح 10 . 4- مناقب آل أبي طالب ، ابن شهر آشوب : 3/224 . 5- بحار الأنوار : 44/183 ح 8 ، عن مناقب آل أبي طالب : 3/210 ، ورواه الكشي في رجاله : 1/299 .
الحسين بن علي(عليهما السلام)؟ فقلت : بلى ، قالت : دخلت عليه وسلَّمت فردَّ السلام ورحبَّ ، ثم قال : ما بطَّأ بك عن زيارتنا والتسليم علينا يا حبابة؟ قلت : ما بطَّأني عنك إلاَّ علة عرضت ، قال : وما هي؟ قالت : فكشفت خماري عن برص ، قالت : فلم يزل يدعو حتى رفع يده وقد كشف الله ذلك البرص ، ثم قال : يا حبابة ، إنه ليس أحد على ملة إبراهيم في هذه الأمة غيرنا وغير شيعتنا ، ومن سواهم منها براء(1) .
وفي عيون المعجزات للمرتضى رحمه الله : عن الصادق(عليه السلام) ، عن أبيه ، عن جدّه(عليهما السلام) قال : جاء أهل الكوفة إلى علي(عليه السلام) فشكوا إليه إمساك المطر ، وقالوا له : استسق لنا ، فقال للحسين(عليه السلام) : قم واستسق ، فقام وحمد الله وأثنى عليه ، وصلَّى على النبي(صلى الله عليه وآله) وقال : اللهم معطي الخيرات ، ومنزل البركات ، أرسل السماء علينا مدراراً ، واسقنا غيثاً مغزاراً ، واسعاً ، غدقاً ، مجللا سحّاً ، سفوحاً ، فجاجاً ، تنفّس به الضعف من عبادك ، وتحيي به الميت من بلادك ، آمين رب العالمين .
فما فرغ(عليه السلام) من دعائه حتى غاث الله تعالى غيثاً بغتة ، وأقبل أعرابي من بعض نواحي الكوفة فقال : تركت الأودية والآكام يموج بعضها في بعض(2) .
وروي في بعض الكتب المعتبرة عن الطبري ، عن طاووس اليماني أن الحسين ابن علي(عليهما السلام) كان إذا جلس في المكان المظلم يهتدي إليه الناس ببياض جبينه ونحره ، فإن رسول الله(صلى الله عليه وآله) كان كثيراً ما يقبِّل جبينه ونحره ، وإن جبرئيل(عليه السلام) نزل يوماً فوجد الزهراء(عليها السلام) نائمة ، والحسين في مهده يبكي ، فجعل يناغيه ويسلّيه حتى استيقظت ، فسمعت صوت من يناغيه ، فالتفتت فلم تر أحداً ، فأخبرها النبي(صلى الله عليه وآله)أنه كان جبرئيل(عليه السلام)(3) .
____________
1- بحار الأنوار : 44/186 ح 15 . 2- بحار الأنوار : 44/187 ح 16 ، عيون المعجزات ، حسين بن عبد الوهاب : 56 . 3- بحار الأنوار ، المجلسي : 44/187 ـ 188 .
قال ابن الجوزي في كتاب المنتظم : وورد في هذه السنة من واسط خبر عجيب ، جاء به كتاب ابن وهبان الواسطي ، يذكر قصة عجيبة وهي : أن امرأة عندهم في نهر الفصيلي أصابها الجذام حتى أسقط أنفها وشفتيها وأصابع يديها ورجليها ، وجافت ريحها ، وتأذَّى أهلها بها ، فأخرجها زوجها وولدها إلى ظاهر المحلة على شوط منها ، وعملوا لها كوخا ، فكانت فيه ، ولا يمكن الاجتياز بها من نتن ريحها ، وإنما كان ولدها يأتيها برغيفين يرميهما إليها ، فجاء يوماً فقالت له : يا بنيَّ ، بالله قف حتى أبصرك ، وجئني بجرعة ماء أشربها ، فلم يفعل وهرب .
وكان قريباً من الموضع جوية ماء الكتان فحملها العطش على قصدها ، فتحاملت فوقعت عندها فأغمي عليها ، فذكرت بعد إفاقتها أنها رأت رجلين وامرأتين جلوساً عندها ، فأخرجوا لها قرصين عليهما ورقة خضراء ، وجاءوها بكراز فيه ماء ، وقالوا لها : كلي من هذا الخبز واشربي من هذا الماء ، قال : فكلَّما أكلت عاد القرص كما كان إلى أن شبعت ، وشربت من الكراز ماء لم أشرب قط ألذ منه ، فقلت : يا سادتي ، من أنتم؟ فقال أحدهم : أنا الحسن وهذا الحسين وهذه خديجة الكبرى وهذه فاطمة الزهراء ، ثم أمرّ الحسن يده على صدري ووجهي والحسين يده على ظهري ، فعادت شفتاي وأنفي ونبتت أصابعي ، وأقاموني فسقط مني نحو ثلثين كهيئة صدف السمك ، فأقبل الناس من البلاد لمشاهدتها والتبرك بها(1) .
ومن كرامات الحسين(عليه السلام) ما رواه ابن عساكر بإسناده عن عبدالله بن جعفر ، عن أبي عون ، قال : لما خرج الحسين بن علي(عليهما السلام) من المدينة يريد مكة مرَّ بابن مطيع وهو يحفر بئره ، فقال له : أين فداك أبي وأمي؟ قال : أردت مكة ، قال :
____________
1- المنتظم في تاريخ الملوك والأمم ، ابن الجوزي : 9/568 ـ 569 .
وذكر له أنه كتب إليه شيعته بها ، فقال له ابن مطيع : أين فداك أبي وأمي؟ متّعنا بنفسك ولا تسر إليهم ، فأبى حسين(عليه السلام) ، فقال له ابن مطيع : إن بئري هذه قد رشحتها ، وهذا اليوم أو ان ما خرج إلينا في الدلو شيء من ماء ، فلو دعوت الله لنا فيها بالبركة ، قال : هات من مائها ، فأتى من مائها في الدلو ، فشرب منه ثم تمضمض ثم ردَّه في البئر ، فأعذب وأمهى ، ثم ودّعه وسار إلى مكة(1) .
نعم سار إلى مكّة ولكن بأية حال سار(عليه السلام) ، يُروى عن سكينة أنها قالت ـ كما روي عنها ـ : خرجنا من المدينة في ليلة مظلمة ، ذات رعد وبرق ، حتى خلنا أنَّ السماء اُطبقت على الأرض(2) .
نعم خرج الحسين(عليه السلام) من المدينة إلى مكة ، ولكن ترك ا لدار موحشة بعدما كانت مزهرة بنور وجهه المضي ، ولله درّ الحجة الشيخ علي الجشي عليه الرحمة إذ يقول :
هذي ربوعُ محمَّد عَرَصَاتُها | قد أقفرت واستوحشت أعلامُها |
خرج الحسينُ خروجَ موسى خائفاً | مترقِّباً ما أضمرته لِئَامُها |
فتعاهدت في حِفْظِ ذِمَّةِ أحمد | ساداتُ أنصارِ الإلهِ كرامُها |
حتى إذا ضربوا القبابَ وطُرِّزت | بالسُّمْرِ والبيضِ الرِّقَاقِ خيامُها |
قامت تحوطُ المحصناتِ كأنَّها | أُسْدٌ وهاتيك القبابُ أُجَامُها |
فأتت جُيُوشُ أميَّةِ ترجو بأَنْ | يُعْطِي المذلَّةَ والقِيَادَ همامُها |
فأبى أبيُّ الضيمِ إِلاَّ أَنْ تُرَى | شَعْوَاءُ يَلْحَقُ بالنجومِ قَتَامُها |
فهناك بان من الكِرَامِ حِفَاظُها | وَلَظَى الحروبِ قد استطار ضَرَامُها |
قومٌ إذا عَبَسَ المنونُ تهلَّلَتْ | تلك الْوُجُوهُ ولم تَطِشْ أحلامُها |
____________
1- تاريخ دمشق ، ابن عساكر : 14/182 ، الطبقات الكبرى ، ابن سعد : 5/144 ـ 145 . 2- سعادة الدارين فيما يتعلَّق بالإمام الحسين (عليه السلام) ، الشيخ حسين البلادي القديحي : 93 .
يتسابقون لِوِردِ مَشْرَعَةِ الرَّدَى | فكأنَّما قَطَعَ الحياةَ مَرَامُها(1) |
المجلس الأول ، من اليوم الرابع
كتب أهل الكوفة إلى الإمام الحسين(عليه السلام)
وندبه مسلم بن عقيل (عليه السلام) إليهم
جاء في الزيارة الناحية الشريفة : السلامُ عليكَ ، سلامَ العارفِ بُحرْمَتِك ، الُمخلِصِ في ولايتِكَ ، المتقرِّبِ إلى الله بمحبَّتِكَ ، البري من أعدائِكَ ، سَلاَمَ مَنْ قَلبُه بمُصابِك مقروحٌ ، ودمعُه عند ذِكرك مسفوحٌ ، سلامَ المفجوعِ المحزونِ ، الوالَهِ المستكينِ ، سلامَ مَنْ لو كان معك بالطفوفِ لو قاك بنفسهِ حَدَّ السيوفِ ، وَبذلَ حُشَاشَته دونَكَ للحُتوف ، وجاهدَ بينَ يديك ، ونَصرك على من بغى عليك ، وفداك بروحهِ وجسدهِ ، وماله وولدهِ ، وروحُهُ لروحِك فداءٌ ، وأهلُه لأهلكِ وقاء ، فلئن أخَّرتني الدهورُ ، وعاقني عن نَصرك المقدورُ ، ولم أكن لمن حاربك محارباً ، ولمن نَصب لك العداوةَ مُناصباً ، فلأند بنَّكَ صباحاً ومساءً ، ولأبكينَّ عليك بَدلَ الدموع دَماً ، حسرةً عليك ، وتأسُّفاً على مَا دَهاك وتلهُّفاً ، حتى أموت بلوعةِ المُصابِ ، وغُصَّةِ الاكتئاب(2) .
قال الراوي : وبلغ أهل الكوفة هلاك معاوية ، فأرجفوا بيزيد ، وعرفوا خبر الحسين(عليه السلام) وامتناعه من بيعته ، وما كان من أمر ابن الزبير في ذلك ، وخروجهما إلى مكة ، فاجتمعت الشيعة بالكوفة في منزل سليمان بن صرد الخزاعي ، فذكروا هلاك معاوية فحمدوا الله وأثنوا عليه ، فقال سليمان : إن معاوية قد هلك ، وإن
____________
1- ديوان العلامة الجشي : 132 . 2- المزار ، المشهدي : 500 ـ 501 .
حسيناً قد نقض على القوم بيعته ، وقد خرج إلى مكة ، وأنتم شيعته وشيعة أبيه ، فإن كنتم تعلمون أنكم ناصروه ومجاهدو عدوِّه فاكتبوا إليه ، وإن خفتم الفشل والوهن فلا تغرّوا الرجل في نفسه ، قالوا : لا ، بل نقاتل عدوَّه ، ونقتل أنفسنا دونه ، فاكتبوا إليه .
فكتبوا إليه : بسم الله الرّحمن الرّحيم ، للحسين بن علي(عليه السلام) من سليمان بن صرد والمسيَّب بن نجبة ورفاعة بن شدّاد البجلي وحبيب بن مظاهر وشيعته المؤمنين والمسلمين من أهل الكوفة ، سلام عليك ، فإنّا نحمد إليك الله الذي لا إله إلاّ هو ، أمَّا بعد فالحمد لله الذي قصم عدوَّك الجبار العنيد ، الذي انتزى على هذه الأمة فابتزَّها أمرها ، وغصبها فيئها ، وتأمَّر عليها بغير رضى منها ، ثم قتل خيارها واستبقى شرارها ، وجعل مال الله دولة بين جبابرتها وأغنيائها ، فبعداً له كما بعدت ثمود ، إنّه ليس علينا إمام فأقبل لعلَّ الله أن يجمعنا بك على الحق ، والنعمان بن بشير في قصر الإمارة ، لسنا نجتمع معه في جمعة ، ولا نخرج معه إلى عيد ، ولو قد بلغنا أنك قد أقبلت إلينا أخرجناه حتى نلحقه بالشام إن شاء الله .
ثم سرَّحوا بالكتاب مع عبدالله بن مسمع الهمداني وعبدالله بن وال وأمروهما بالنَّجَا ، فخرجا مسرعين حتى قدما على الحسين بمكة لعشر مضين من شهر رمضان .
ثم لبث أهل الكوفة يومين بعد تسريحهم بالكتاب ، وأنفذوا قيس بن مسهر الصيداوي وعبد الرحمان بن عبدالله بن شداد الأرحبي وعمارة بن عبدالله السلولي إلى الحسين(عليه السلام) ، ومعهم نحو مائة وخمسين صحيفة من الرجل والاثنين والأربعة .
وقال السيّد عليه الرحمة : وهو مع ذلك يتأبَّى ولا يجيبهم ، فورد عليه في يوم واحد ستمائة كتاب ، وتواترت الكتب حتى اجتمع عنده في نُوَب متفرقة اثنا عشر ألف كتاب .
وقال الشيخ المفيد عليه الرحمة : ثم لبثوا يومين آخرين وسرَّحوا إليه هانىء بن هانىء السبيعي وسعيد بن عبدالله الحنفي ، وكتبوا إليه : بسم الله الرّحمن الرّحيم ، إلى الحسين بن علي من شيعته من المؤمنين والمسلمين ، أمّا بعد فحيَّ هلا ، فإن الناس ينتظرونك ، لا رأي لهم غيرك ، فالعجل العجل ، ثم العجل العجل ، والسلام .
ثم كتب شبث بن ربعي ، وحجّار بن أبجر ، ويزيد بن الحارث بن رويم ، وعروة بن قيس ، وعمرو بن حجاج الزبيدي ، ومحمد بن عمرو التيمي : أما بعد فقد أخضرَّ الجناب ، وأينعت الثمار ، وأعشبت الأرض ، وأورقت الأشجار ، فإذا شئت فأقبل على جند لك مجندة ، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته وعلى أبيك من قبلك .
وتلاقت الرسل كلها عنده(عليه السلام) ، فقرأ الكتب وسأل الرسل عن الناس ، ثم كتب مع هانىء بن هانىء ، وسعيد بن عبدالله ، وكانا آخر الرسل :
بسم الله الرّحمن الرّحيم ، من الحسين بن علي إلى الملأ من المؤمنين والمسلمين ، أما بعد فإن هانئاً وسعيداً قدما عليَّ بكتبكم ، وكانا آخر من قدم عليَّ من رسلكم ، وقد فهمت كل الذي أقصصتم وذكرتم ، ومقالة جلِّكم أنه ليس علينا إمام ، فأقبل لعلّ الله أن يجمعنا بك على الحق والهدى ، وأنا باعث إليكم أخي وابن عمي وثقتي من أهل بيتي مسلم بن عقيل ، فإن كتب إليَّ بأنه قد اجتمع رأي ملأكم ، وذوي الحجى والفضل منكم ، على مثل ما قدمت به رسلكم وقرأت في كتبكم ، فإني أقدم إليكم وشيكاً إن شاء الله ، فلعمري ما الإمام إلاّ الحاكم بالكتاب ، القائم بالقسط ، الدائن بدين الحق ، الحابس نفسه على ذلك لله ، والسلام .
ودعا الحسين(عليه السلام) مسلم بن عقيل فسرَّحه مع قيس بن مسهر الصيداوي وعمارة بن عبدالله السلولي وعبدالرحمن بن عبدالله الأزدي ، وأمره بالتقوى وكتمان أمره واللطف ، فإن رأى الناس مجتمعين مستوثقين عجَّل إليه بذلك .
فأقبل مسلم (عليه السلام) حتى أتى المدينة ، فصلَّى في مسجد رسول الله(صلى الله عليه وآله)وودَّع من أحبَّ من أهله ، واستأجر دليلين من قيس ، فأقبلا به يتنكّبان الطريق ، فضلاّ عن الطريق ، وأصابهما عطش شديد فعجزا عن السير ، فأوماءا له إلى سنن الطريق بعد أن لاح لهم ذلك ، فسلك مسلم ذلك السنن ، ومات الدليلان عطشاً . وساق الحديث إلى أن قال الراوي :
فأقبل (عليه السلام) حتى مرَّ بماء لطيء فنزل به ثم ارتحل عنه ، فإذا رجل يرمي الصيد ، فنظر إليه قد رمى ظبياً حين أشرف له فصرعه ، فقال مسلم بن عقيل : نقتل عدوَّنا إن شاء الله .
ثم أقبل(عليه السلام) حتى دخل الكوفة ، فنزل في دار المختار بن أبي عبيدة وهي التي تُدعى اليوم دار مسلم بن المسيب ، وأقبلت الشيعة تختلف إليه ، فكلما اجتمع إليه منهم جماعة قرأ عليهم كتاب الحسين(عليه السلام) وهم يبكون ، وبايعه الناس حتى بايعه منهم ثمانية عشر ألفاً ويأمره بالقدوم ، وجعلت الشيعة تختلف إلى مسلم بن عقيل (عليه السلام) حتى علم بمكانه .
فبلغ النعمان بن بشير ذلك ـ وكان والياً على الكوفة من قبل معاوية فأقرَّه يزيد عليها ـ فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أمّا بعد ، فاتقوا الله عباد الله ، ولا تُسارعوا إلى الفتنة والفرقة ، فإن فيها تهلك الرجال ، وتسفك الدماء ، وتغصب الأموال ، إني لا أُقاتل من لا يقاتلني ، ولا آتي على من لم يأت عليَّ ، ولا أنبِّه نائمكم ولا أتحرَّش بكم ، ولا آخذ بالقرف ، ولا الظنّة ، ولا التهمة ، ولكنكم إن أبديتم صفحتكم لي ، ونكثتم بيعتكم ، وخالفتم إمامكم ، فوالله الذي لا إله غيره ، لأضربنكم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي ، ولو لم يكن لي منكم ناصر ، أما إني أرجو أن يكون من يعرف الحق منكم أكثر ممن يرديه الباطل .
فقام إليه عبدالله بن مسلم بن ربيعة الحضرمي حليف بني أمية فقال له : إنه
لا يصلح ما ترى إلاَّ الغشم ، وهذا الذي أنت عليه فيما بينك وبين عدوِّك رأي المستضعفين ، فقال له النعمان : أن أكون من المستضعفين في طاعة الله أحبُّ إليَّ من أن أكون من الأعزّين في معصية الله ، ثم نزل .
وخرج عبدالله بن مسلم وكتب إلى يزيد بن معاوية كتاباً : أمَّا بعد فإن مسلم ابن عقيل قد قدم الكوفة وبايعه الشيعة للحسين بن علي بن أبي طالب ، فإن يكن لك في الكوفة حاجة فابعث إليها رجلا قوياً ينفّذ أمرك ، ويعمل مثل عملك في عدوّك ، فإن النعمان بن بشير رجل ضعيف أو هو يتضعَّف ، ثم كتب إليه عمارة بن عقبة بنحو من كتابه ، ثم كتب إليه عمر بن سعد بن أبي وقاص مثل ذلك .
فلمّا وصلت الكتب إلى يزيد ، دعا سرجون مولى معاوية فقال : ما رأيك؟ إن الحسين (عليه السلام) قد نفذ إلى الكوفة مسلم بن عقيل يبايع له ، وقد بلغني عن النعمان ضعف وقول سيء فمن ترى أن أستعمل على الكوفة؟ وكان يزيد عاتباً على عبيدالله بن زياد ، فقال له سرجون : أرأيت لو نُشر لك معاوية حياً ما كنت آخذاً برأيه؟ قال : بلى ، قال : فأخرج سرجون عهد عبيدالله على الكوفة ، وقال : هذا رأي معاوية ، مات وقد أمر بهذا الكتاب ، فَضُمَّ المصرين إلى عبيدالله ، فقال له يزيد : أفعل ، ابعث بعهد عبيدالله بن زياد إليه .
ثم دعا مسلم بن عمرو الباهلي وكتب إلى عبيدالله معه : أمّا بعد فإنه كتب إليَّ شيعتي من أهل الكوفة يخبرونني أن ابن عقيل فيها ، يجمع الجموع ليشقّ عصا المسلمين ، فسر حين تقرأ كتابي هذا حتى تأتي الكوفة ، فتطلب ابن عقيل طلب الخرزة حتى تثقفه فتوثقه أو تقتله أو تنفيه ، والسلام .
وسلَّم إليه عهده على الكوفة ، فخرج مسلم بن عمرو حتى قدم على عبيدالله البصرة ، وأوصل إليه العهد والكتاب ، فأمر عبيدالله بالجهاز من وقته والمسير
والتهيؤ إلى الكوفة من الغد ، ثم خرج من البصرة فاستخلف أخاه عثمان(1) .
وقال ابن نما عليه الرحمة : رويت إلى حصين بن عبدالرحمن أن أهل الكوفة كتبوا إليه ـ يعني إلى الحسين (عليه السلام) ـ : إنا معك مائة ألف ، وعن داود بن أبي هند ، عن الشعبي ، قال : بايع الحسين(عليه السلام)أربعون ألفاً من أهل الكوفة على أن يحاربوا من حارب ، ويسالموا من سالم ، فعند ذلك ردّ جواب كتبهم يمنّيهم بالقبول ، ويعدهم بسرعة الوصول ، وبعث مسلم بن عقيل(2) .
وقال السيّد رحمه الله بعد ذلك : وكان الحسين(عليه السلام) قد كتب إلى جماعة من أشراف البصرة كتاباً مع مولى له اسمه سليمان ويكنّى أبا رزين ، يدعوهم إلى نصرته ولزوم طاعته ، منهم يزيد بن مسعود النهشلي والمنذر بن الجارود العبدي ، فجمع يزيد بن مسعود بني تميم وبني حنظلة وبني سعد ، فلمّا حضروا قال : يا بني تميم ، كيف ترون موضعي فيكم وحسبي منكم؟ فقالوا : بخ بخ ، أنت والله فقرة الظهر ، ورأس الفخر ، حللت في الشرف وسطاً ، وتقدَّمت فيه فرطاً ، قال : فإني قد جمعتكم لأمر أريد أن أشاوركم فيه ، وأستعين بكم عليه ، فقالوا : إنّا والله نمنحك النصيحة ، ونحمد لك الرأى فقل نسمع .
فقال : إن معاوية مات فأهون به والله هالكاً ومفقوداً ، ألا وإنه قد انكسر باب الجور والإثم ، وتضعضعت أركان الظلم ، وقد كان أحدث بيعة عقد بها أمراً ظنَّ أن قد أحكمه ، وهيهات والذي أراد ، اجتهد والله ففشل ، وشاور فخذل ، وقد قام يزيد شارب الخمور ، ورأس الفجور ، يدّعي الخلافة على المسلمين ، ويتأمَّر عليهم مع قصر حلم وقلّة علم ، لا يعرف من الحق موطىء قدمه ، فأقسم بالله قسماً مبروراً لجهاده على الدين أفضل من جهاد المشركين ، وهذا الحسين بن علي
____________
1- الإرشاد ، المفيد : 2/38 ـ 43 . 2- مثير الأحزان ، ابن نما الحلي : 17 .
ابن رسول الله(صلى الله عليه وآله) ذو الشرف الأصيل ، والرأي الأثيل ، له فضل لا يوصف ، وعلم لا يُنزف ، وهو أولى بهذا الأمر لسابقته وسنّه وقدمته وقرابته ، يعطف على الصغير ، ويحنو على الكبير ، فأكرم به راعي رعية ، وإمام قوم ، وجبت لله به الحجّة ، وبلغت به الموعظة ، ولا تعشوا عن نور الحق ، ولا تسكعوا في وهدة الباطل ، فقد كان صخر بن قيس انخذل بكم يوم الجمل ، فاغسلوها بخروجكم إلى ابن رسول الله ونصرته ، والله لا يقصر أحد عن نصرته إلاَّ أورثه الله الذل في ولده ، والقلة في عشيرته ، وها أنا قد لبست للحرب لامتها ، وادّرعت لها بدرعها ، من لم يقتل يمت ، ومن يهرب لم يفت ، فأحسنوا رحمكم الله ردّ الجواب .
فتكلَّمت بنو حنظلة فقالوا : أبا خالد! نحن نبل كنانتك ، وفرسان عشيرتك ، إن رميت بنا أصبت ، وإن غزوت بنا فتحت ، لا تخوض والله غمرة إلاَّ خضناه ، ولا تلقى والله شدّة إلاّ لقيناها ، ننصرك بأسيافنا ، ونقيك بأبداننا ، إذا شئت .
وتكلمت بنو سعد بن زيد ، فقالوا : أبا خالد! إن أبغض الأشياء إلينا خلافك والخروج من رأيك ، وقد كان صخر بن قيس أمرنا بترك القتال فحمدنا أمرنا وبقي عزّنا فينا ، فأمهلنا نراجع المشورة ويأتيك رأينا .
وتكلَّمت بنو عامر بن تميم فقالوا : يا أبا خالد! نحن بنو أبيك وحلفاؤك ، لا نرضى إن غضبت ، ولا نقطن إن ظعنت ، والأمر إليك فادعنا نجبك ، ومرنا نطعك ، والأمر لك إذا شئت .
فقال : والله ـ يا بني سعد ـ لئن فعلتموها لا رفع الله السيف عنكم أبداً ، ولا زال سيفكم فيكم .
ثم كتب إلى الحسين صلوات الله عليه : بسم الله الرّحمن الرّحيم ، أمّا بعد ، فقد وصل إليَّ كتابك ، وفهمت ما ندبتني إليه ودعوتني له ، من الأخذ بحظي من طاعتك ، والفوز بنصيبي من نصرتك ، وإن الله لم يخل الأرض قط من عامل عليها
بخير ، أو دليل على سبيل نجاة ، وأنتم حجة الله على خلقه ، ووديعته في أرضه ، تفرَّعتم من زيتونة أحمديّة ، هو أصلها وأنتم فرعها ، فاقدم سعدت بأسعد طائر ، فقد ذلَّلت لك أعناق بني تميم ، وتركتهم أشدَّ تتابعاً في طاعتك من الإبل الظماء لورود الماء يوم خمسها ، وقد ذلَّلت لك رقاب بني سعد ، وغسلت درن صدروها بماء سحابة مزن حين استهلَّ برقها فلمع .
فلمَّا قرأ الحسين(عليه السلام) الكتاب قال : مالك آمنك الله يوم الخوف وأعزَّك وأرواك يوم العطش ، فلمَّا تجهز المشار إليه للخروج إلى الحسين(عليه السلام) بلغه قتله قبل أن يسير ، فجزع من انقطاعه عنه .
وأمَّا المنذر بن جارود فإنه جاء بالكتاب والرسول إلى عبيدالله بن زياد ، لأن المنذر خاف أن يكون الكتاب دسيساً من عبيدالله ، وكانت بحرية بنت المنذر بن جارود تحت عبيدالله بن زياد ، فأخذ عبيدالله الرسول فصلبه ، ثم صعد المنبر وتوعَّد أهل البصرة على الخلاف ، وإثارة الإرجاف ، ثم بات تلك الليلة فلما أصبح استناب عليهم أخاه عثمان بن زياد ، وأسرع هو إلى قصد الكوفة(1) .
وقال ابن نما : كتب الحسين(عليه السلام) كتاباً إلى وجوه أهل البصرة ، منهم الأحنف بن قيس ، وقيس بن الهيثم ، والمنذر بن الجارود ، ويزيد بن مسعود النهشلي ، وبعث الكتاب مع زراع السدوسي ـ وقيل : مع سليمان المكنَّى بأبي رزين ـ فيه : إني أدعوكم إلى الله وإلى نبيه ، فإن السنة قد أميتت ، فإن تجيبوا دعوتي ، وتطيعوا أمري أهدكم سبيل الرشاد ، فكتب الأحنف إليه : أما بعد فاصبر إن وعد الله حق ، ولا يستخفنك الذين لا يوقنون(2) .
ولله درّ الشيخ يوسف أبو ذئب الخطي عليه الرحمة إذ يقول :
____________
1- اللهوف ، السيد ابن طاووس : 26 ـ 29 . 2- مثير الأحزان ، ابن نما الحلي : 17 ، بحار الأنوار ، المجلسي : 44/332 .
أتته لأرجاسِ العراقِ صحائفٌ | لَهَا الوفقُ بدءٌ والنفاقُ خِتَامُ |
ألا اقْدِمْ إلينا أنت مولىً وسيِّدٌ | لك الدهرُ عبدٌ والزمانُ غُلاَمُ |
ألا اقدمْ علينا إنّنا لك شيعةٌ | وأنت لنا دونَ الأنامِ إمامُ |
أغثنا رعاك اللهُ أنت غياثُنا | وأنت لنا في النائباتِ عِصَامُ |
فلبَّاهُمُ لمَّا دعوه ولم تَزَلْ | تُلَبِّي دُعَاءَ الصارخين كِرَامُ |
وساق لهم غُلْباً كأنَّهُمُ على الـ | عوادي بدورٌ في الكَمَالِ تَمَامُ |
مساعيرُ حرب من لويِّ بنِ غالب | عَزَائِمُهُمْ لم يَثْنِهِنَّ زمامُ |
هُمُ الصِّيْدُ إلاَّ أنَّهم أَبْحُرُ النَّدَى | سوى أنهم لِلْمُجْدِبينَ غَمَامُ(1) |
المجلس الثاني ، من اليوم الرابع
دخول ابن زياد الكوفة ومقتل هانىء بن عروة
إذا كنتِ لا تدرين ما الموتُ فانظري | إلى هانىء في السوقِ وابنِ عقيلِ |
إلى رَجُل قد هشَّم السيفُ وَجْهَهُ | وآخرَ يُلقى من طِمَارِ قتيلِ |
قال الراوي : فلمّا أشرف (ابن زياد) على الكوفة نزل حتى أمسى ليلا ، فظنَّ أهلُها أنه الحسين(عليه السلام) ودخلها مما يلي النجف ، فقالت امرأة : الله أكبر! ابن رسول الله (صلى الله عليه وآله) وربّ الكعبة ، فتصايح الناس قالوا : إنّا معك أكثر من أربعين ألفاً ، وازدحموا عليه حتى أخذوا بذنب دابته ، وظنُّهم أنه الحسين (عليه السلام) ، فحسر اللثام ، وقال : أنا عبيدالله ، فتساقط القوم ، ووطأ بعضهم بعضاً ، ودخل دار الإمارة ، وعليه عمامة سوداء .
فلمَّا أصبح قام خاطباً ، وعليهم عاتباً ، ولرؤسائهم مؤنّباً ، ووعدهم
____________
1- رياض المدح والرثاء ، الشيخ حسين القديحي : 31 .
بالإحسان على لزوم طاعته ، وبالإساءة على معصيته والخروج عن حوزته ، ثم قال : يا أهل الكوفة ، إن أمير المؤمنين يزيد ولانّي بلدكم ، واستعملني على مصركم ، وأمرني بقسمة فيئكم بينكم ، وإنصاف مظلومكم من ظالمكم ، وأخذ الحقّ لضعيفكم من قويّكم ، والإحسان للسامع المطيع ، والتشديد على المريب ، فأبلغوا هذا الرجل الهاشميَّ مقالتي ليتّقي غضبي ، ونزل ، يعني بالهاشمي مسلم بن عقيل(عليه السلام) .
وقال الشيخ المفيد عليه الرحمة : وأقبل ابن زياد إلى الكوفة ، ومعه مسلم بن عمرو الباهلي ، وشريك بن الأعور الحارثي ، وحشمه وأهل بيته حتى دخل الكوفة وعليه عمامة سوداء ، وهو متلثِّم ، والناس قد بلغهم إقبال الحسين(عليه السلام)إليهم ، فهم ينتظرون قدومه ، فظنّوا حين رأوا عبيدالله أنه الحسين(عليه السلام) ، فأخذ لا يمرّ على جماعة من الناس إلاَّ سلَّموا عليه ، وقالوا : مرحباً بك يا ابن رسول الله ، قدمت خير مقدم ، فرأى من تباشرهم بالحسين (عليه السلام) ما ساءه ، فقال مسلم بن عمرو لمَّا أكثروا : تأخَّروا ، هذا الأمير عبيدالله ابن زياد .
وسار حتى وافى القصر بالليل ومعه جماعة قد التفّوا به ، لا يشكّون أنه الحسين(عليه السلام) فأغلق النعمان بن بشير عليه وعلى خاصته ، فناداه بعض من كان معه ليفتح لهم الباب ، فاطلع عليه النعمان وهو يظنّه الحسين (عليه السلام) فقال : أنشدك الله إلاَّ تنحّيت ، والله ما أنا بمسلِّم إليك أمانتي ، ومالي في قتالك من إرب ، فجعل لا يكلِّمه ، ثم إنه دنا وتدلَّى النعمان من شرف القصر ، فجعل يكلِّمه ، فقال : افتح لا فتحت فقد طال ليلك ، وسمعها إنسان خلفه ، فنكص إلى القوم الذين اتّبعوه من أهل الكوفة على أنه الحسين(عليه السلام) فقال : يا قوم! ابن مرجانة والذي لا إله غيره ، ففتح له النعمان فدخل ، وضربوا الباب في وجوه الناس وانفضّوا .
وأصبح فنادى في الناس : الصلاة جامعة ، فاجتمع الناس ، فخرج إليهم
فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أمّا بعد ، فإن أمير المؤمنين يزيد ولاّني مصركم وثغركم وفيئكم ، وأمرني بإنصاف مظلومكم وإعطاء محرومكم ، والإحسان إلى سامعكم ومطيعكم كالوالد البرّ ، وسوطي وسيفي على من ترك أمري وخالف عهدي ، فليتق امرؤٌ على نفسه ، الصدق ينبي عنك لا الوعيد ، ثمَّ نزل ، وأخذ العرفاء والناس أخذاً شديداً فقال : اكتبوا إليَّ العرفاء ، ومن فيكم من طلبة أمير المؤمنين ، ومن فيكم من أهل الحرورية ، وأهل الريب الذين شأنهم الخلاف والنفاق والشقاق ، فمن يجيء لنا بهم فبريء ، ومن لم يكتب لنا أحداً فليضمن لنا من في عرافته أن لا يخالفنا منهم مخالف ، ولا يبغي علينا باغ ، فمن لم يفعل برئت منه الذمة وحلال لنا دمه وماله ، أيّما عريف وجد في عرافته من بغية أمير المؤمنين أحد لم يرفعه إلينا صلب على باب داره ، وألغيت تلك العرافة من العطاء .
ولما سمع مسلم بن عقيل(عليه السلام) مجيء عبيدالله إلى الكوفة ، ومقالته التي قالها ، وما أخذ به العرفاء والناس ، خرج من دار المختار حتى انتهى إلى دار هانىء بن عروة فدخلها ، فأخذت الشيعة تختلف إليه في دار هانىء على تستّر واستخفاء من عبيدالله ، وتواصوا بالكتمان .
فدعا ابن زياد مولى له يقال له : معقل ، فقال : خذ ثلاثة آلاف درهم ، واطلب مسلم بن عقيل والتمس أصحابه ، فإذا ظفرت بواحد منهم أو جماعة فأعطهم هذه الثلاثة آلاف درهم ، وقل لهم : استعينوا بها على حرب عدوّكم ، وأعلمهم أنك منهم ، فإنك لو قد أعطيتهم إياها لقد اطمأنّوا إليك ووثقوا بك ، ولم يكتموك شيئاً من أمورهم وأخبارهم ، ثم غد عليهم ورح حتى تعرف مستقرَّ مسلم بن عقيل ، وتدخل عليه .
ففعل ذلك ، وجاء حتى جلس إلى مسلم بن عوسجة الأسدي في المسجد الأعظم وهو يصلّي ، فسمع قوماً يقولون : هذا يبايع للحسين (عليه السلام) ، فجاء وجلس
إلى جنبه حتى فرغ من صلاته ، ثم قال : يا عبدالله ، إني امرؤ من أهل الشام ، أنعم الله عليَّ بحبِّ أهل البيت (عليهم السلام) وحبِّ من أحبَّهم ، وتباكى له وقال : معي ثلاثة آلاف درهم أردت بها لقاء رجل منهم بلغني أنه قدم الكوفة يبايع لابن بنت رسول الله(صلى الله عليه وآله) ، فكنت أريد لقاءه فلم أجد أحداً يدلّني عليه ، ولا أعرف مكانه ، فإني لجالس في المسجد الآن إذ سمعت نفراً من المؤمنين يقولون : هذا رجل له علم بأهل هذا البيت ، وإني أتيتك لتقبض مني هذا المال ، وتدخلني على صاحبك ، فإني أخ من إخوانك ، وثقة عليك ، وإن شئت أخذت بيعتي له قبل لقائه .
فقال له ابن عوسجة : أحمد الله على لقائك إياي ، فقد سرَّني ذلك ، لتنال الذي تحبّ ، ولينصرنَّ الله بك أهل بيت نبيِّه عليه وعليهم السلام ، ولقد ساءني معرفة الناس إياي بهذا الأمر قبل أن يتمَّ مخافة هذا الطاغية وسطوته ، فقال له معقل : لا يكون إلاّ خيراً ، خذ البيعة عليَّ! فأخذ بيعته ، وأخذ عليه المواثيق المغلَّظة ليناصحنَّ وليكتمنَّ ، فأعطاه من ذلك ما رضي به ، ثمَّ قال له : اختلف إليَّ أياماً في منزلي ، فإني طالب لك الإذن على صاحبك ، وأخذ يختلف مع الناس فطلب له الإذن فأذن له ، وأخذ مسلم بن عقيل بيعته ، وأمر أبا ثمامة الصائدي بقبض المال منه ، وهو الذي كان يقبض أموالهم ، وما يعين به بعضهم بعضاً ، ويشتري لهم به السلاح ، وكان بصيراً وفارساً من فرسان العرب ، ووجوه الشيعة ، وأقبل ذلك الرجل يختلف إليهم فهو أول داخل وآخر خارج ، حتى فهم ما احتاج إليه ابن زياد من أمرهم ، فكان يخبره به وقتاً فوقتاً(1) .
وقال ابن شهر آشوب عليه الرحمة : لما دخل مسلم الكوفة سكن في دار سالم بن المسيب فبايعه اثنا عشر ألف رجل ، فلمّا دخل ابن زياد انتقل من دار سالم إلى دار هانىء في جوف الليل ، ودخل في أمانه ، وكان يبايعه الناس حتى بايعه
____________
1- الإرشاد ، المفيد : 2/43 ـ 46 .
خمسة وعشرون ألف رجل ، فعزم على الخروج ، فقال هانىء : لا تعجل ، وكان شريك ابن الأعور الهمداني جاء من البصرة مع عبيدالله بن زياد ، فمرض فنزل دار هانىء أياماً ، ثمَّ قال لمسلم : إن عبيدالله يعودني ، وإني مطاوله الحديث ، فاخرج إليه بسيفك فاقتله ، وعلامتك أن أقول : اسقوني ماء ، ونهاه هانىء عن ذلك .
فلمَّا دخل عبيدالله على شريك وسأله عن وجعه ، وطال سؤاله ورأى أن أحداً لا يخرج فخشي أن يفوته فأخذ يقول :
ما الانتظارُ بسلمى أن تحيِّيها | كأسَ المنيَّةِ بالتعجيلِ اسْقُوها |
وفي مقاتل الطالبيين :
ما الانتظارُ بسلمى أَنْ تحيّوها | حيّوا سُليمى وَحَيُّوا مَنْ يحيّيها |
كأسَ المنيَّةِ بالتعجيلِ أسقوها(1)
فتوهَّم ابن زياد وخرج ، فلمَّا دخل القصر أتاه مالك بن يربوع التميمي بكتاب أخذه من يدي عبدالله بن يقطر فإذا فيه : للحسين بن علي(عليهما السلام) ، أمَّا بعد فإني أخبرك أنه قد بايعك من أهل الكوفة كذا ، فإذا أتاك كتابي هذا فالعجل العجل فإن الناس كلهم معك ، وليس لهم في يزيد رأي ولا هوى ، فأمر ابن زياد بقتله(2) .
وقال ابن نما الحلي عليه الرحمة : فلمَّا خرج ابن زياد دخل مسلم والسيف في كفّه قال له شريك : ما منعك من الأمر؟ قال مسلم : هممت بالخروج فتعلَّقت بي امرأةٌ وقالت : نشدتك الله إن قتلت ابن زياد في دارنا ، وبكت في وجهي ، فرميت السيف وجلست ، قال هانىء : يا ويلها ، قتلتني وقتلت نفسها ، والذي فررت منه وقعت فيه .
وقال أبو الفرج في المقاتل : قال هانىء لمسلم : إني لا أحبّ أن يقتل في داري ، قال : فلمّا خرج مسلم قال له شريك : ما منعك من قتله؟ قال : خصلتان :
____________
1- مقاتل الطالبيين ، الأصبهاني : 65 . 2- مناقب آل أبي طالب : 4/91 ـ 92 .
أما إحداهما فكراهية هانىء أن يقتل في داره ، وأمّا الأخرى فحديث حدَّثنيه الناس عن النبي(صلى الله عليه وآله) أن الإيمان قيد الفتك ، فلا يفتك مؤمن ، فقال له هانىء : أما والله لو قتلته لقتلت فاسقاً فاجراً كافراً(1) .
قال الشيخ المفيد عليه الرحمة : وخاف هانىء بن عروة عبيدالله على نفسه ، فانقطع عن حضور مجلسه وتمارض ، فقال ابن زياد لجلسائه : ما لي لا أرى هانئاً؟ فقالوا : هو شاك ، فقال : لو علمت بمرضه لعدته ، ودعا محمد بن الأشعث ، وأسماء ابن خارجة ، وعمرو بن الحجاج الزبيدي ـ وكانت رويحة بنت عمرو تحت هانىء بن عروة ، وهي أم يحيى بن هانىء ـ فقال لهم : ما يمنع هانىء بن عروة من إتياننا؟ فقالوا : ما ندري ، وقد قيل إنه يشتكي ، قال : قد بلغني أنه قد برىء ، وهو يجلس على باب داره ، فالقوه ومروه أن لا يدع ما عليه من حقنا ، فإني لا أحبّ أن يفسد عندي مثله من أشراف العرب .
فأتوه حتى وقفوا عليه عشيَّةً وهو جالس على بابه ، وقالوا له : ما يمنعك من لقاء الأمير؟ فإنه قد ذكرك وقال : لو أعلم أنه شاك لعدته ، فقال لهم : الشكوى تمنعني ، فقالوا : قد بلغه أنك تجلس كل عشيَّة على باب دارك ، وقد استبطأك ، والإبطاء والجفاء لا يحتمله السلطان ، أقسمنا عليك لما ركبت معنا ، فدعا بثيابه فلبسها ، ثمَّ دعا ببغلته فركبها حتى إذا دنا من القصر كأن نفسه أحسَّت ببعض الذي كان ، فقال لحسان بن أسماء بن خارجة : يا ابن الأخ ، إني والله لهذا الرجل لخائف ، فما ترى؟ فقال : يا عمّ ، والله ما أتخوَّف عليك شيئاً ، ولم تجعل على نفسك سبيلا ، ولم يكن حسان يعلم في أيِّ شيء بعث إليه عبيدالله .
فجاء هانىء حتى دخل على عبيدالله بن زياد وعنده القوم ، فلما طلع قال
____________
1- مقاتل الطالبيين ، الأصبهاني : 71 والحديث رواه أبو داود في سننه : 2/79 ومعناه أن الإيمان يمنع من الفتك الذي هو القتل بعد الأمان .