عبيدالله : أتتك بخائن رجلاه ، فلما دنا من ابن زياد ـ وعنده شريح القاضي ـ التفت نحوه فقال :
أريدُ حباءَه ويريدُ قتلي | عذيرُكَ مِنْ خليلِكَ مِنْ مُرَادِ |
وقد كان أول ما قدم مكرماً له ملطفاً ، فقال له هانىء : وما ذاك أيها الأمير؟ قال : إيه يا هانىء بن عروة ، ما هذه الأمور التي تربص في دارك لأمير المؤمنين وعامة المسلمين ، جئت بمسلم بن عقيل فأدخلته دارك ، وجمعت له الجموع ، والسلاح والرجال في الدور حولك ، وظننت أن ذلك يخفى عليَّ؟ قال : ما فعلت ذلك وما مسلم عندي ، قال : بلى قد فعلت ، فلما كثر بينهما وأبى هانىء إلاَّ مجاحدته ومناكرته ، دعا ابن زياد معقلا ذلك العين ، فجاء حتى وقف بين يديه وقال : أتعرف هذا ؟ قال : نعم ، وعلم هانىء عند ذلك أنه كان عيناً عليه ، وأنه قد أتاه بأخبارهم فأسقط في يده ساعة .
ثم راجعته نفسه ، فقال : اسمع مني وصدِّق مقالتي ، فوالله ما كذبت ، والله ما دعوته إلى منزلي ، ولا علمت بشيء من أمره حتى جاءني يسألني النزول ، فاستحييت من ردّه ، وداخلني من ذلك ذمام فضيَّفته وآويته ، وقد كان من أمره ما بلغك ، فإن شئت أن أعطيك الآن موثقاً مغلَّظاً أن لا أبغيك سوءاً ولا غائلة ، ولآتينّك حتى أضع يدي في يدك ، وإن شئت أعطيتك رهينة تكون في يدك حتى آتيك ، وأنطلق إليه فآمره أن يخرج من داري إلى حيث شاء من الأرض ، فأخرج من ذمامه وجواره .
فقال له ابن زياد : والله لا تفارقني أبداً حتى تأتيني به ، قال : لا والله لا أجيئك به أبداً ، أجيئك بضيفي تقتله؟ قال : والله لتأتيني به ، قال : والله لا آتيك به ، فلمّا كثر الكلام بينهما قام مسلم بن عمرو الباهلي ـ وليس بالكوفة شاميٌّ ولا بصريّ غيره ـ فقال : أصلح الله الأمير ، خلّني وإياه حتى أكلِّمه ، فقام فخلا به
ناحية من ابن زياد ، وهما منه بحيث يراهما ، فإذا رفعا أصواتهما سمع ما يقولان .
فقال له مسلم : يا هانىء ، أنشدك الله أن تقتل نفسك ، وأن تدخل البلاء في عشيرتك ، فوالله إني لأنفس بك عن القتل ، إن هذا ابن عمِّ القوم ، وليسوا قاتليه ولا ضائريه ، فادفعه إليهم ، فإنه ليس عليكم بذلك مخزاة ولا منقصة ، إنما تدفعه إلى السلطان .
فقال هانىء : والله إن عليَّ في ذلك الخزي والعار أن أدفع جاري وضيفي وأنا حيٌّ صحيح أسمع وأرى ، شديد الساعد ، كثير الأعوان ، والله لو لم يكن لي إلاَّ واحد ليس لي ناصر لم أدفعه حتى أموت دونه ، فأخذ يناشده وهو يقول : والله لا أدفعه إليه أبداً .
فسمع ابن زياد لعنه الله ذلك فقال : أدنوه مني ، فأدنوه منه ، فقال : والله لتأتينّي به أو لأضربنّ عنقك ، فقال هانىء : إذاً والله تكثر البارقة حول دارك ، فقال ابن زياد : والهفاه عليك ، أباالبارقة تخوِّفني؟ وهو يظنّ أن عشيرته سيمنعونه ، ثمَّ قال : أدنوه منّي ، فأدني منه ، فاستعرض وجهه بالقضيب ، فلم يزل يضرب به أنفه وجبينه وخدّه حتى كسر أنفه ، وسالت الدماء على وجهه ولحيته ، ونثر لحم جبينه وخدّه على لحيته ، حتى كسر القضيب ، وضرب هانىء يده على قائم سيف شرطي وجاذبه الرجل ومنعه .
فقال عبيدالله : أحروري سائر اليوم؟ قد حلّ دمك ، جرُّوه ، فجرُّوه فألقوه في بيت من بيوت الدار ، وأغلقوا عليه بابه ، فقال : اجعلوا عليه حرساً ، ففعل ذلك به ، فقام إليه حسان بن أسماء فقال : أَرُسُلُ غَدْر سائر اليوم؟ أمرتنا أن نجيئك بالرجل حتى إذا جئناك به هشَّمت أنفه ووجهه ، وسيَّلت دماءه على لحيته ، وزعمت أنك تقتله؟
فقال له عبيدالله : وإنك لههنا؟ فأمر به فلهز وتعتع وأجلس ناحية ، فقال
محمد بن الأشعث : قد رضينا بما رأى الأمير ، لنا كان أم علينا ، إنما الأمير مؤدِّب . وبلغ عمرو بن الحجاج أن هانئاً قد قتل فأقبل في مذحج حتى أحاط بالقصر ومعه جمع عظيم ، وقال : أنا عمرو بن الحجاج ، وهذه فرسان مذحج ووجوهها ، لم نخلع طاعة ولم نفارق جماعة ، وقد بلغهم أن صاحبهم قد قُتل فأعظموا ذلك ، فقيل لعبيدالله بن زياد : وهذه فرسان مذحج بالباب؟!
فقال لشريح القاضي : ادخل على صاحبهم فانظر إليه ، ثم اخرج فأعلمهم أنه حيّ لم يُقتل ، فدخل شريح فنظر إليه ، فقال هانىء لما رأى شريحاً : يا لله يا للمسلمين ، أهلكت عشيرتي؟ أين أهل الدين؟ أين أهل المصر؟ والدماء تسيل على لحيته ، إذ سمع الضجّة على باب القصر ، فقال : إني لأظنّها أصوات مذحج ، وشيعتي من المسلمين ، إنه إن دخل عليَّ عشرة نفر أنقذوني .
فلمَّا سمع كلامه شريح خرج إليهم فقال لهم : إن الأمير لما بلغه كلامكم ومقالتكم في صاحبكم أمرني بالدخول إليه فأتيته فنظرت إليه ، فأمرني أن ألقاكم وأعرِّفكم أنه حيٌّ ، وأن الذي بلغكم من قتله باطل ، فقال له عمرو بن الحجاج وأصحابه : أمَّا إذا لم يُقتل فالحمد لله ، ثم انصرفوا .
فخرج عبيدالله بن زياد فصعد المنبر ومعه أشراف الناس وشُرطه وحشمه ، فقال : أمّا بعد أيها الناس ، فاعتصموا بطاعة الله وطاعة أئمتكم ، ولا تفرَّقوا فتهلكوا وتذلّوا وتقتلوا وتجفوا وتحرموا ، إن أخاك من صدقك ، وقد أعذر من أنذر ، والسلام .
ثمَّ ذهب لينزل فما نزل عن المنبر حتى دخلت النظارة المسجد من قبل باب التمارين يشتدّون ويقولون : قد جاء ابن عقيل ، فدخل عبيدالله القصر مسرعاً وأغلق أبوابه ، فقال عبدالله بن حازم : أنا ـ والله ـ رسول ابن عقيل إلى القصر لأنظر ما فعل هانىء ، فلمَّا ضُرب وحُبس ركبت فرسي فكنت أول داخل الدار
على مسلم بن عقيل بالخبر ، وإذا نسوة لمراد مجتمعات ينادين : يا عبرتاه ، يا ثكلاه ، فدخلت على مسلم فأخبرته الخبر ، فأمرني أن أنادي في أصحابه وقد ملأ بهم الدور حوله فكانوا فيها أربعة آلاف رجل ، فقال : ناد : يا منصور أمت ، فناديت فتنادى أهل الكوفة واجتمعوا عليه .
فعقد مسلم رحمه الله لرؤوس الأرباع : كندة ومذحج وتميم وأسد ومضر وهمدان ، وتداعى الناس واجتمعوا ، فما لبثنا إلاّ قليلا حتى امتلأ المسجد من الناس والسوق ، وما زالوا يتوثّبون حتى المساء ، فضاق بعبيدالله أمره ، وكان أكثر عمله أن يمسك باب القصر ، وليس معه إلاّ ثلاثون رجلا من الشُرَط ، وعشرون رجلا من أشراف الناس وأهل بيته وخاصته ، وأقبل من نأى عنه من أشراف الناس يأتونه من قبل الباب الذي يلي دار الروميين ، وجعل من في القصر مع ابن زياد يشرفون عليهم فينظرون إليهم وهم يرمونهم بالحجارة ويشتمونهم . .(1) .
ولله درّ الشفهيني عليه الرحمة إذ يقول :
يَا وَاقِفاً في الدارِ مفتكراً | مهلا فقد أودى بك الفِكْرُ |
إِنْ تُمْسِ مكتئباً لِبَيْنِهِمُ | فعقيبَ كُلِّ كآبة وِزْرُ |
هلاَّ صَبَرْتَ على المصابِ بهم | وعلى المصيبةِ يُحْمَدُ الصبرُ |
وجعلتَ رُزْءَكَ في الحسينِ ففي | رُزْءِ ابنِ فاطمة لكَ الأجرُ |
مكروا به أَهْلُ النفاقِ وهل | لمنافق يُسْتَبْعَدُ المَكْرُ |
بصحائف كوجوهِهِمْ وَرَدَتْ | سُوداً وَفَحْوُ كَلاَمِهِم هَجْرُ |
حتى أناخ بِعقرِ سَاحَتِهِم | ثِقَةً تَأَكَّدَ منهُمُ الْغَدْرُ |
وتسارعوا لقتالِهِ زُمَرَاً | مَا لا يحيطُ بعدِّهِ حَصْرُ |
طافوا بأَرْوَعَ في عَرينتِهِ | يُحْمَى النزيلُ وَيَأْمَنُ الثَّغْرُ |
____________
1- الإرشاد ، المفيد : 2/46 ـ 52 ، بحار الأنوار ، المجلسي : 44/344 ـ 349 .
جيشٌ لَهَامٌ يومَ معركة | وليومِ سِلْم وَاحِدٌ وترُ |
فكأنَّهم سِرْبٌ قد اجتمعت | ألفاً فبدَّدَ شَمْلَها صَقْرُ |
حتى إذا قَرُبَ المدى وبه | طَافَ العدى وَتَقَاصَرَ العمرُ |
أردوه منعفراً تمجُّ دماً | منه الظُّبا والذُّبَّلُ السُّمْرُ |
تَطَأُ الخيولُ إِهَابَه وعلى الـ | خدِّ التريبِ لوطيِهَا أَثْرُ |
ظَام يبلُّ أَوامَ غُلَّتِهِ | ريّاً بفيضِ نجيعِهِ النَّحْرُ |
تأباها إجلالا فتزجُرُها | فئةٌ يقودُ عُصَاتَها شِمْرُ |
فتجولُ في صَدْر أَحَاطَ على | عِلْمِ النبوَّةِ ذلك الصَّدْرُ |
بأبي القتيلَ وَمَنْ بمصرعِهِ | ضَعُفَ الهدى وَتَضَاعَفَ الكُفْرُ |
بأبي الذي أَكْفَانُهُ نُسِجَتْ | من عِثْيَر وَحَنُوطُهُ عَفْرُ(1) |
المجلس الثالث ، من اليوم الرابع
مقتل مسلم بن عقيل(عليه السلام)
جاء في بعض زيارات أئمة أهل البيت(عليهم السلام) : فهل المحن يا ساداتي إلاَّ التي لزمتكم ، والمصائب إلاَّ التي عمَّتكم ، والفجايع إلاَّ التي خصَّتكم ، والقوارع إلاَّ التي طرقتكم ، صلوات الله عليكم وعلى أرواحكم وأجسادكم ، ورحمة الله وبركاته ، بأبي وأمي يا آل المصطفى ، إنّا لا نملك إلاَّ أن نطوف حول مشاهدكم ، ونعزّي فيها أرواحكم ، على هذه المصائب العظيمة الحالّة بفنائكم ، والرزايا الجليلة النازلة بساحتكم ، التي أثبتت في قلوب شيعتكم القروح ، وأورثت أكبادهم الجروح ، وزرعت في صدورهم الغصص ، فنحن نُشهد الله أنّا قد شاركنا أولياءكم وأنصاركم
____________
1- الغدير ، الشيخ الأميني : 6/367 .
المتقدِّمين ، في إراقة دماء الناكثين والقاسطين والمارقين ، وقتلة أبي عبدالله سيِّد شباب أهل الجنة يوم كربلاء ، بالنيَّات والقلوب ، والتأسُّف على فوت تلك المواقف ، التي حضروا لنصرتكم ، والله وليّي يبلِّغكم منّي السلام(1) .
روي عن ابن عباس ، قال : قال علي(عليه السلام) لرسول الله(صلى الله عليه وآله) : يا رسول الله ، إنك لتحبّ عقيلا؟ قال : إي والله ، إنّي لأحبُّه حبين : حبّاً له ، وحباً لحبِّ أبي طالب له ، وإن ولده لمقتول في محبّة ولدك ، فتدمع عليه عيون المؤمنين ، وتصلّي عليه الملائكة المقرَّبون ، ثمَّ بكى رسول الله(صلى الله عليه وآله) حتى جرت دموعه على صدره ، ثم قال : إلى الله أشكو ما تلقى عترتي من بعدي(2) .
قال الراوي فيما يخص أمر مسلم بن عقيل(عليه السلام) في الكوفة : إن ابن زياد دعا كثير بن شهاب ، وأمره أن يخرج فيمن أطاعه في مذحج ، فيسير في الكوفة ويخذّل الناس عن ابن عقيل (عليه السلام) ، ويخوِّفهم الحرب ، ويحذّرهم عقوبة السلطان ، وأمر محمد بن الأشعث أن يخرج فيمن أطاعه من كندة وحضرموت ، فيرفع راية أمان لمن جاء من الناس ، وقال مثل ذلك لقعقاع الذهلي ، وشبث بن ربعي التميمي ، وحجار بن أبجر السلمي ، وشمر بن ذي الجوشن العامري ، وحبس باقي وجوه الناس عنده استيحاشاً إليهم لقلّة عدد من معه من الناس .
فخرج كثير بن شهاب يخذّل الناس عن مسلم ، وخرج محمد بن الأشعث حتى وقف عند دور بني عمارة ، فبعث ابن عقيل إلى محمد بن الأشعث عبدالرحمن بن شريح الشيباني ، فلمّا رأى ابن الأشعث كثرة من أتاه تأخَّر عن مكانه ، وجعل محمد بن الأشعث ، وكثير بن شهاب ، والقعقاع بن ثور الذهلي ، وشبث بن ربعي يردّون الناس عن اللحوق بمسلم ، ويخوّفونهم السلطان ، حتى اجتمع إليهم عدد
____________
1- المزار ، محمد بن المشهدي : 299 . 2- الأمالي ، الصدوق : 191 ح 3 ، بحار الأنوار ، المجلسي : 22/288 ح 58 .
كثير من قومهم وغيرهم ، فصاروا إلى ابن زياد من قبل دار الروميين ، ودخل القوم معهم .
فقال كثير بن شهاب : أصلح الله الأمير! معك في القصر ناس كثير من أشراف الناس ومن شرطك وأهل بيتك ومواليك ، فاخرج بنا إليهم ، فأبى عبيدالله ، وعقد لشبث بن ربعي لواء وأخرجه ، وأقام الناس مع ابن عقيل يكثرون حتى المساء ، وأمرهم شديد ، فبعث عبيدالله إلى الأشراف فجمعهم ، ثمَّ أشرفوا على الناس فمنَّوا أهل الطاعة الزيادة والكرامة ، وخوَّفوا أهل المعصية الحرمان والعقوبة ، وأعلموهم وصول الجند من الشام إليهم .
وتكلَّم كثير بن شهاب حتى كادت الشمس أن تغرب ، فقال : أيها الناس ، الحقوا بأهاليكم ، ولا تعجلوا الشرَّ ، ولا تعرِّضوا أنفسكم للقتل ، فإن هذه جنود أمير المؤمنين يزيد قد أقبلت ، وقد أعطى اللهَ الأميرُ عهداً لئن تممتم على حربه ، ولم تنصرفوا من عشيَّتكم ، أن يحرم ذرّيّتكم العطاء ، ويفرِّق مقاتليكم في مفازي الشام ، وأن يأخذ البريء منكم بالسقيم ، والشاهد بالغائب ، حتى لا يبقى له بقية من أهل المعصية إلاّ أذاقها وبال ما جنت أيديها ، وتكلَّم الأشراف بنحو من ذلك .
فلمّا سمع الناس مقالتهم أخذوا يتفرَّقون ، وكانت المرأة تأتي ابنها أو أخاها فتقول : انصرف! الناس يكفونك ، ويجيء الرجل إلى ابنه أو أخيه ويقول : غداً تأتيك أهل الشام ، فما تصنع بالحرب والشرّ؟ انصرف! فيذهب به فينصرف ، فما زالوا يتفرَّقون حتى أمسى ابن عقيل ، وصلَّى المغرب وما معه إلاّ ثلاثون نفساً في المسجد .
فلمّا رأى أنه قد أمسى وليس معه إلاّ أولئك النفر خرج متوجهاً إلى أبواب كندة ، فلم يبلغ الأبواب إلاَّ ومعه منه عشرة ، ثمَّ خرج من الباب وإذا ليس معه إنسان يدلّه ، فالتفت فإذا هو لا يحسّ أحداً يدلّه على الطريق ، ولا يدلّه على منزله ،
ولا يواسيه بنفسه إن عرض له عدوّ ، فمضى على وجهه متلدِّداً في أزقّة الكوفة لا يدري أين يذهب؟ حتى خرج إلى دور بني جبلة من كندة ، فمضى حتى أتى إلى باب امرأة يقال لها طوعة ، أم ولد كانت للأشعث بن قيس ، وأعتقها وتزوَّجها أسيد الحضرمي فولدت له بلالا ، وكان بلال قد خرج مع الناس ، وأمه قائمة تنتظره .
فسلَّم عليها ابن عقيل فردَّت عليه السلامَ ، فقال لها : يا أمة الله ، اسقيني ماء ، فسقته وجلس ، ودخلت ثمَّ خرجت فقالت : يا عبدالله ، ألم تشرب؟ قال : بلى ، قالت : فاذهب إلى أهلك ، فسكت ، ثمَّ أعادت مثل ذلك ، فسكت ، ثم قالت في الثالثة : سبحان الله! يا عبدالله ، قم عافاك إلى أهلك ، فإنه لا يصلح لك الجلوس على بابي ، ولا أحلّه لك ، فقام وقال : يا أمة الله ، ما لي في هذا المصر أهل ولا عشيرة ، فهل لك في أجر ومعروف ، ولعلي مكافيك بعد هذا اليوم ، قالت : يا عبدالله ، وما ذاك؟ قال : أنا مسلم بن عقيل ، كذّبني هؤلاء القوم ، وغرّوني وأخرجوني ، قالت : أنت مسلم؟! قال : نعم ، قالت : ادخل .
فدخل إلى بيت في دارها غير البيت الذي تكون فيه ، وفرشت له وعرضت عليه العشا فلم يتعش ، ولم يكن بأسرع من أن جاء ابنها فرآها تكثر الدخول في البيت والخروج منه ، فقال لها : والله إنه ليريبني كثرة دخولك إلى هذا البيت وخروجك منه منذ الليلة ، إن لك لشأناً ، قالت له : يا بنيَّ ، الهُ عن هذا ، قال : والله لتخبريني ، قالت له : أقبل على شأنك ، ولا تسألني عن شيء ، فألحَّ عليها فقالت : يا بنيّ ، لا تخبرن أحداً من الناس بشيء مما أخبرك به ، قال : نعم ، فأخذت عليه الأيمان فحلف لها ، فأخبرته فاضطجع وسكت .
ولما تفرَّق الناس عن مسلم بن عقيل (عليه السلام) ، طال على ابن زياد ، وجعل لا يسمع لأصحاب ابن عقيل صوتاً كما كان يسمع قبل ذلك ، فقال لأصحابه : أشرفوا فانظروا هل ترون منهم أحداً؟ فأشرفوا فلم يجدوا أحداً ، قال : فانظروهم لعلهم
تحت الظلال قد كمنوا لكم ، فنزعوا تخاتج المسجد ، وجعلوا يخفضون بشعل النار في أيديهم وينظرون ، وكانت أحياناً تضيء لهم ، وتارة لا تضيء لهم كما يريدون ، فدلّوا القناديل ، وأطنان القصب تشدّ بالحبال ثم يجعل فيها النيران ، ثمّ تدلّى حتى ينتهي إلى الأرض ، ففعلوا ذلك في أقصى الظلال وأدناها وأوسطها حتى فعل ذلك بالظلّة التي فيها المنبر ، فلمَّا لم يروا شيئاً أعلموا ابن زياد بتفرّق القوم .
ففتح باب السدّة التي في المسجد ، ثمَّ خرج فصعد المنبر ، وخرج أصحابه معه ، وأمرهم فجلسوا قبيل العتمة ، وأمر عمر بن نافع فنادى : ألا برئت الذمة من رجل من الشُرَط أو العرفاء والمناكب أو المقاتلة صلَّى العتمة إلاَّ في المسجد ، فلم يكن إلاّ ساعة حتى امتلأ المسجد من الناس ، ثم أمر مناديه فأقام الصلاة وأقام الحرس خلفه وأمرهم بحراسته من أن يدخل إليه من يغتاله ، وصلَّى بالناس . ثمَّ صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أما بعد ، فإن ابن عقيل السفيه الجاهل قد أتى ما رأيتم من الخلاف والشقاق ، فبرئت ذمة الله من رجل وجدناه في داره ، ومن جاء به فله ديته ، اتقوا الله عباد الله ، والزموا الطاعة وبيعتكم ، ولا تجعلوا على أنفسكم سبيلا .
يا حصين بن نمير! ثكلتك أمك إن ضاع باب سكة من سكك الكوفة ، وخرج هذا الرجل ولم تأتني به ، وقد سلَّطتك على دور أهل الكوفة ، فابعث مراصد على أهل الكوفة ودورهم ، وأصبح غداً واستبرء الدور ، وجسْ خلالها حتى تأتيني بهذا الرجل ، وكان الحصين بن نمير على شرطه ، وهو من بني تميم ، ثم دخل ابن زياد القصر وقد عقد لعمرو بن حريث راية ، وأمَّره على الناس .
فلمّا أصبح جلس مجلسه وأذن للناس ، فدخلوا عليه ، وأقبل محمد بن الأشعث فقال : مرحباً بمن لا يُستغشّ ولا يُتَّهم ، ثم أقعده إلى جنبه ، وأصبح ابن تلك العجوز فغدا إلى عبدالرحمن بن محمد بن الأشعث ، فأخبره بمكان مسلم بن
عقيل عند أمه ، فأقبل عبدالرحمن حتى أتى أباه وهو عند ابن زياد فسارَّه ، فعرف ابن زياد سراره ، فقال له ابن زياد بالقضيب في جنبه : قم فأتني به الساعة ، فقام وبعث معه قومه لأنه قد علم أن كل قوم يكرهون أن يصاب فيهم مثل مسلم بن عقيل .
فبعث معه عبيدالله بن عباس السلمي في سبعين رجلا من قيس حتى أتوا الدار التي فيها مسلم بن عقيل (عليه السلام) ، فلمَّا سمع وقع حوافر الخيل وأصوات الرجال علم أنه قد أتي .
(وفي رواية : فعجَّل دعاءه الذي كان مشغولا به بعد صلاة الصبح ، ثمَّ لبس لامته وقال لطوعة : قد أدَّيتِ ما عليك من البر ، وأخذتِ نصيبك من شفاعة رسول الله(صلى الله عليه وآله) ، ولقد رأيت البارحة عمي أمير المؤمنين(عليه السلام) في المنام وهو يقول لي : أنت معي في الجنة)(1) وخرج إليهم مصلتاً سيفه وقد اقتحموا عليه الدار ، فشدَّ عليهم يضربهم بسيفه حتى أخرجهم من الدار ، قال ابن شهر آشوب عليه الرحمة : فحمل مسلم عليهم وهو يقول :
هو الموتُ فاصنع وَيْكَ ما أنت صَانِعُ | فأنتَ لكأسِ الموتِ لا شكَّ جَارِعُ |
فصبراً لأمرِ اللهِ جَلَّ جلالُهُ | فَحُكْمُ قَضَاءِ اللهِ في الخلقِ ذائعُ |
فقتل منهم واحداً وأربعين رجلا(2)
قال محمد بن أبي طالب : لما قَتل مسلم منهم جماعة كثيرة ، وبلغ ذلك ابن زياد ، أرسل إلى محمد بن الأشعث يقول : بعثناك إلى رجل واحد لتأتينا به ، فثلم في أصحابك ثلمة عظيمة ، فكيف إذا أرسلناك إلى غيره؟ فأرسل ابن الأشعث : أيها الأمير ، أتظنّ أنك بعثتني إلى بقَّال من بقالي الكوفة ، أو إلى جرمقاني من جرامقة
____________
1- نفس المهموم ، الشيخ عباس القمي : 56 . 2- مناقب آل أبي طالب ، ابن شهر آشوف : 4/93 ، مقتل الحسين(عليه السلام) ، المقرم : 159 .
الحيرة؟ أو لم تعلم أيها الأمير أنك بعثتني إلى أسد ضرغام ، وسيف حسام ، في كفّ بطل همام ، من آل خير الأنام ، فأرسل إليه ابن زياد : أعطه الأمان فإنك لا تقدر عليه إلاّ به(1) . وفي رواية قال : وإنما أرسلتني إلى سيف من أسياف محمد بن عبدالله(صلى الله عليه وآله) ، فمدّه بالعسكر(2) .
قال العلامة المجلسي عليه الرحمة : روي في بعض كتب المناقب عن عمرو بن دينار قال : أرسل الحسين(عليه السلام) مسلم بن عقيل إلى الكوفة وكان مثل الأسد ، قال عمرو وغيره : لقد كان من قوّته أنه يأخذ الرجل بيده ، فيرمي به فوق البيت(3) .
رجعنا إلى رواية الشيخ المفيد عليه الرحمة قال : ثمَّ عادوا إليه ، فشدَّ عليهم كذلك ، فاختلف هو وبكر بن حمران الأحمري ضربتين ، فضرب بكر فم مسلم ، فقطع شفته العليا ، وأسرع السيف في السفلى وفصلت له ثنيتاه ، وضرب مسلم في رأسه ضربة منكرة ، وثنَّاه بأخرى على حبل العاتق ، كادت تطلع إلى جوفه .
فلمَّا رأوا ذلك أشرفوا عليه من فوق البيت ، وأخذوا يرمونه بالحجاة ، ويلهبون النار في أطنان القصب ثمَّ يرمونها عليه من فوق البيت ، فلما رأى ذلك خرج عليهم مصلتاً بسيفه في السكة ، فقال محمد بن الأشعث : لك الأمان لا تقتل نفسك ، وهو يقاتلهم ويقول :
أقسمتُ لا أُقتلُ إلاّ حرّا | وإنْ رأيتُ الموتَ شيئاً نُكْرا |
ويُخْلَطُ الباردُ سُخْناً مرّا | رَدَّ شُعَاعَ الشمس فاستقرّا |
كلُّ امرىء يوماً ملاق شراً | أخافُ أن أُكْذَبَ أو أُغرَّا |
فقال له محمد بن الأشعث : إنك لا تكذب ولا تغرّ ولا تخدع ، إن القوم بنو
____________
1- بحار الأنوار ، المجلسي : 44/354 . 2- المنتخب ، الطريحي : 299 الليلة العاشرة . 3- بحار الأنوار ، المجلسي : 44/354 .
عمك ، وليسوا بقاتليك ، ولا ضائريك ، وكان قد أثخن بالحجارة ، وعجز عن القتال فانتهز واستند ظهره إلى جنب تلك الدار .
(وجاء في بعض الروايات : وأثخنته الجراحات وأعياه نزف الدم فاستند إلى جنب تلك الدار ، فتحاملوا عليه يرمونه بالسهام والحجارة ، فقال : ما لكم ترموني بالحجارة كما ترمى الكفار وأنا من أهل بيت الأنبياء الأبرار؟ ألا ترعون حقّ رسول الله(صلى الله عليه وآله) في عترته؟ فقال له ابن الأشعث : لا تقتل نفسك وأنت في ذمتي ، قال مسلم(عليه السلام) : أأوسر وبي طاقة؟ لا والله لا يكون ، لا يكون ذلك أبداً ، وحمل على ابن الأشعث فهرب منه ، ثمَّ حملوا عليه من كل جانب ، وقد اشتد به العطش ، فطعنه رجل من خلفه فسقط إلى الأرض وأسر(1) .
وقيل : إنهم عملوا له حفيرة وستروها بالتراب ، ثمَّ انكشفوا بين يديه حتى إذا وقع فيها أسروه)(2) ولله درّ السيد رضا الهندي عليه الرحمة إذ يقول :
فللهِ من مُفْرَد أسلموه | لحكم الدعيِّ فما استسلما |
وآثَرَ وهو وليدُ الأُبَاةِ | بأَنْ يَرْكَبَ الأخطرَ الأعظما |
ولمَّا رأوا بَأْسَه في الوغى | شديداً يُجَلُّ بأَنْ يُرْغَما |
أطلُّوا على شُرُفَاتِ السُّطُوحِ | ويَرْمُونَهُ الْحَطَبَ المُضْرَما |
ولولا خديعتُهُمْ بالأمانِ | لَمَا أوثقوا الأَسَدَ الضَّيْغَما(3) |
وفي رواية الشيخ المفيد عليه الرحمة قال : فأعاد ابن الأشعث عليه القول : لك الأمان ، فقال : آمنٌ أنا؟ قال : نعم ، فقال للقوم الذين معه : ألي الأمان؟ قال القوم له : نعم ، إلاَّ عبيدالله بن العباس السلمي فإنه قال : لا ناقة لي في هذا ولا جمل ،
____________
1- مناقب آل أبي طالب ، ابن شهر آشوب : 44/244 ، مقتل الحسين(عليه السلام) ، الخوارزمي 1/209 ـ 210 . 2- المنتخب ، الطريحي : 299 الليلة العاشرة . 3- المنتخب من الشعر الحسيني ، السيد علي أصغر الحسيني : 174 .
ثمَّ تنحَّى .
فقال مسلم : أما لو لم تأمنوني ما وضعت يدي في أيديكم ، فأتي ببغلة فحمل عليها ، واجتمعوا حوله ونزعوا سيفه ، وكأنه عند ذلك يئس من نفسه ، فدمعت عيناه ، ثمَّ قال : هذا أول الغدر ، فقال له محمد بن الأشعث : أرجو أن لا يكون عليك بأس ، قال : وما هو إلاَّ الرجاء؟ أين أمانكم؟ إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، وبكى ، فقال له عبيدالله بن العباس : إن من يطلب مثل الذي طلبت إذا ينزل به مثل ما نزل بك لم يبكِ ، قال : والله إني ما لنفسي بكيت ، ولا لها من القتل أرثي ، وإن كنتُ لم أحبَّ لها طرفة عين تلفاً ، ولكني أبكي لأهلي المقبلين ، إني أبكي للحسين وآل الحسين(عليه السلام) .
ولله درّ الشيخ حسين الحياوي عليه الرحمة إذ يقول :
قد خاض بَحْرَ الموتِ في حَمَلاتِهِ | وعُبَابُهُ بِصِفَاحِهِم مُتَلاطِمُ |
وتراه طَلاَّعَ الثنايا في الوَغَى | تبكي العدى والثغرُ منه باسمُ |
قد آمنته وَلاَ أَمَانَ لِغَدْرِها | فَبَدَتْ له مما تُجِنُّ عَلاَئِمُ |
سلبته لاَمَةَ حَرْبِهِ ثمَّ اغتدى | متأمِّراً فيه ظلُومٌ غاشمُ |
أسرته ملتهبَ الفؤادِ من الظما | وله على الْوَجَناتِ دَمْعٌ سَاجِمُ |
لم يبكِ من خوف على نفس | لكنَّه أبكاه رَكْبٌ قَادِمُ |
يبكي حسيناً أن يُلاَقيَ مالقي | من غَدْرِهِم فَتُبَاحَ منه مَحَارِمُ(1) |
ثم أقبل على محمد بن الأشعث فقال : يا عبدالله ، إني أراك والله ستعجز عن أماني ، فهل عندك خير؟ تستطيع أن تبعث من عندك رجلا على لساني أن يبلغ حسيناً ـ فإني لا أراه إلاّ وقد خرج اليوم أو خارج غداً وأهل بيته ـ ويقول له : إن ابن عقيل بعثني إليك ، وهو أسير في يد القوم لا يرى أنه يمسي حتى يقتل ، وهو يقول لك : ارجع فداك أبي وأمي بأهل بيتك ، ولا يغررك أهل الكوفة فإنهم
____________
1- رياض المدح والرثاء ، الشيخ حسين القديحي : 146 .
أصحاب أبيك الذي كان يتمنّى فراقهم بالموت أو القتل ، إن أهل الكوفة قد كذبوك وليس لمكذوب رأي ، فقال ابن الأشعث : والله لأفعلنَّ ولأعلمن ابن زياد أني قد أمنتك .
قال الشيخ المفيد عليه الرحمة : وأقبل ابن الأشعث بابن عقيل إلى باب القصر ، واستأذن فأذن له ، فدخل على عبيدالله بن زياد ، فأخبره خبر ابن عقيل ، وضرب بكر إياه ، وما كان من أمانه له ، فقال له عبيدالله : وما أنت والأمان؟ كأنّا أرسلناك لتؤمنه ، إنما أرسلناك لتأتينا به ، فسكت ابن الأشعث وانتهى بابن عقيل إلى باب القصر ، وقد اشتدَّ به العطش ، وعلى باب القصر ناس جلوس ، ينتظرون الإذن ، فيهم عمارة بن عقبة بن أبي معيط ، وعمرو بن حريث ، ومسلم بن عمرو ، وكثير بن شهاب ، وإذا قلّةٌ باردةٌ موضوعةٌ على الباب ، فقال مسلم : اسقوني من هذا الماء .
فقال له مسلم بن عمرو : أتراها ما أبردها؟! لا والله لا تذوق منها قطرة أبداً حتى تذوق الحميم في نار جهنم ، فقال له ابن عقيل : ويحك ، من أنت؟ فقال : أنا الذي عرف الحق إذ أنكرته ، ونصح لإمامه إذ غششته ، وأطاعه إذ خالفته ، أنا مسلم بن عمرو الباهلي ، فقال له ابن عقيل : لأمك الثكل ، ما أجفاك واقطعك وأقسى قلبك! أنت ـ يا ابن باهلة ـ أولى بالحميم والخلود في نار جهنم مني .
ثم جلس فتساند إلى حائط ، وبعث عمرو بن حريث غلاماً له فأتاه بقلّة عليها منديل وقدح ، فصبَّ فيه ماء ، فقال له : اشرب ، فأخذ كلّما شرب امتلأ القدح دماً من فمه ، ولا يقدر أن يشرب ، ففعل ذلك مرتين ، فلمَّا ذهب في الثالثة ليشرب سقطت ثناياه في القدح ، فقال : الحمد لله ، لو كان لي من الرزق المقسوم لشربته . ولله درّ من قال من الشعراء :
عينُ جودي لمسلمِ بنِ عقيلِ | لرسولِ الحسينِ سبطِ الرسولِ |
لغريب بَيْنَ الأعادي وحيد | وقتيل لنَصْرِ خيرِ قتيلِ |
وابكِ مَنْ قد بكاه أحمدُ شجواً | قَبْلَ ميلادِهِ بعهد طويلِ |
وبكاه الحسينُ والآلُ لمَّا | جاءهم نَعْيُه بدمع هَمُولِ |
تركوه لدى الهِيَاجِ وحيداً | لعدوٍّ مُطالب بذُحُولِ |
ثمَّ ساقوه بينهم يتهادى | للدعيِّ الرذيلِ وابنِ الرذيلِ |
ظامياً طاوياً عليلا جريحاً | طالباً منهُمُ رُوَاءَ الغليلِ(1) |
قال الراوي : وخرج رسول ابن زياد فأمر بإدخاله إليه ، فلمَّا دخل لم يسلِّم عليه بالإمرة ، فقال له الحرسي : ألا تسلِّم على الأمير؟ فقال : إن كان يريد قتلي فما سلامي عليه ؟ !(2) ، وفي رواية السيد ابن طاووس قال : فقال له : اسكت ويحك ، والله ما هو لي بأمير ، فقال ابن زياد : لا عليك ، سلَّمت أم لم تسلِّم فإنك مقتول ، فقال له مسلم : إن قتلتني فلقد قتل مَنْ هو شرٌّ منك من هو خير مني ، وبعد فإنك لا تدع سوء القتلة ، وقبح المثلة ، وخبث السريرة ، ولؤم الغلبة ، لا أحد أولى بها منك ، فقال له ابن زياد : يا عاقّ ، يا شاقّ ، خرجت على إمامك ، وشققت عصا المسلمين ، وألقحت الفتنة بينهم .
فقال له مسلم : كذبت يا بن زياد ، إنما شقَّ عصا المسلمين معاوية وابنه يزيد ، وأما الفتنة فإنما ألقحها أنت وأبوك زياد بن عبيد ، عبد بني علاج من ثقيف ، وأنا أرجو أن يرزقني الله الشهادة على يدي شرّ بريّته(3) .
فقال له ابن زياد : لعمري لتقتلن ، قال : كذلك؟ قال : نعم ، قال : فدعني أوصي إلى بعض قومي ، قال : افعل ، فنظر مسلم إلى جلساء عبيدالله بن زياد ،
____________
1- المنتخب من الشعر الحسيني ، السيد علي أصغر المدرسي : 171 . 2- الإرشاد ، المفيد : 2/58 ـ 61 . 3- اللهوف في قتلى الطفوف ، السيد ابن طاووس الحسني : 35 .
وفيهم عمر بن سعد بن أبي وقاص ، فقال : يا عمر ، إن بيني وبينك قرابة ، ولي إليك حاجة ، وقد يجب لي عليك نجح حاجتي ، وهي سرٌّ ، فامتنع عمر أن يسمع منه ، فقال له عبيدالله بن زياد : لم تمتنع أن تنظر في حاجة ابن عمّك؟ فقام معه فجلس حيث ينظر إليهما ابن زياد ، فقال له : إن عليَّ بالكوفة ديناً استدنته منذ قدمت الكوفة سبع مائة درهم ، فبع سيفي ودرعي فاقضها عني ، وإذا قتلت فاستوهب جثتي من ابن زياد فوارها ، وابعث إلى الحسين(عليه السلام) من يردّه ، فإني قد كتبت إليه أعلمه أن الناس معه ، ولا أراه إلاّ مقبلا .
فقال عمر لابن زياد : أتدري ـ أيها الأمير ـ ما قال لي؟ إنه ذكر كذا وكذا فقال ابن زياد : إنه لا يخونك الأمين ، ولكن قد يؤتمن الخائن ، أمّا ماله فهو له ، ولسنا نمنعك أن تصنع به ما أحبَّ ، وأمّا جثّته فإنا لا نبالي إذا قتلناه ما صُنع بها ، وأمّا حسين فإنه إن لم يردنا لم نرده .
ثمَّ قال ابن زياد : إيه ابن عقيل ، أتيت الناس وهم جمع فشتَّت بينهم ، وفرّقت كلمتهم ، وحملت بعضهم على بعض ، قال : كلا لست لذلك أتيت ، ولكنَّ أهل المصر زعموا أن أباك قتل خيارهم ، وسفك دماءهم ، وعمل فيهم أعمال كسرى وقيصر ، فأتيناهم لنأمر بالعدل ، وندعو إلى الكتاب ، فقال له ابن زياد : وما أنت وذاك يا فاسق؟ لِمَ لمْ تعمل فيهم بذلك إذ أنت بالمدينة تشرب الخمر؟
قال مسلم : أنا أشرب الخمر؟ أما ـ والله ـ إن الله ليعلم أنك غير صادق وأنك قد قلت بغير علم ، وأني لست كما ذكرت ، وأنك أحقّ بشرب الخمر مني ، وأولى بها من يلغ في دماء المسلمين ولغاً ، فيقتل النفس التي حرَّم الله قتلها ، ويسفك الدم الذي حرَّم الله على الغصب والعداوة ، وسوء الظن ، وهو يلهو ويلعب ، كأن لم يصنع شيئاً .
فقال له ابن زياد : يا فاسق ، إن نفسك منَّتك ما حال الله دونه ، ولم يرك الله له
أهلا ، فقال مسلم : فمن أهله إذا لم نكن نحن أهله ؟ فقال ابن زياد : أمير المؤمنين يزيد ، فقال مسلم : الحمد لله على كل حال ، رضينا بالله حكماً بيننا وبينكم ، فقال له ابن زياد : قتلني الله إن لم أقتلك قتلة لم يقتلها أحد في الإسلام من الناس .
فقال له مسلم : أما إنك أحق من أحدث في الإسلام ما لم يكن ، وإنك لا تدع سوء القتلة ، وقبح المثلة ، وخبث السيرة ، ولؤم الغلبة ، لا أحد أولى بها منك ، فأقبل ابن زياد يشتمه ويشتم الحسين وعلياً وعقيلا ، وأخذ مسلم لا يكلِّمه .
ولله درّ السيد رضا الهندي عليه الرحمة إذ يقول :
وجاؤوا به مُثْقَلا بالجراحِ | ظمآن أعياهُ نَزْفُ الدِّمَا |
غَريبَ الدِّيَارِ فَدَتْكَ النفوسُ | تُكَابِدُ وَحْدَكَ ما استُعظما |
أَتُوْقَفُ بين يَدَيْ فاجر | ويسقيك من كَأْسِهِ العلقما |
ويشتمُ أُسْرَتَك الطيِّبين | وقد كان أولى بأَنْ يُشْتََما |
وَتُقْتَلُ صبراً ولا ناصرٌ | وَلاَ مَنْ يقيمُ لك المأتما(1) |
ثم قال ابن زياد : اصعدوا به فوق القصر ، فاضربوا عنقه ، ثم أتبعوا جسده ، فقال مسلم (عليه السلام) : والله لو كان بيني وبينك قرابة ما قتلتني ، فقال ابن زياد : أين هذا الذي ضرب ابن عقيل رأسه بالسيف؟ فدعا بكر بن حمران الأحمري ، فقال له : اصعد فليكن أنت الذي تضرب عنقه ، فصعد به ، وهو يكبِّر ويستغفر الله ويصلّي على رسول الله(صلى الله عليه وآله) ويقول : اللهم احكم بيننا وبين قوم غرّونا وكذّبونا وخذلونا ، وأشرفوا به على موضع الحذّائين اليوم ، فضرب عنقه وأتبع جسده رأسه(2) .
وقال السيد ابن طاووس عليه الرحمة بعد ما ذكر بعض ما مرَّ : فضرب عنقه ونزل مذعوراً ، فقال له ابن زياد : ما شأنك؟ فقال : أيها الأمير ، رأيت ساعة قتلته
____________
1- المنتخب من الشعر الحسيني ، السيد علي أصغر الحسيني : 174 . 2- كتاب الإرشاد ، المفيد : 2/61 ـ 63 .
رجلا أسود سيّيء الوجه حذائي ، عاضّاً على إصبعه أو قال : شفتيه ، ففزعت فزعاً لم أفزعه قط! فقال ابن زياد : لعلّك دهشت(1) .
وقال المسعودي : دعا ابن زياد بكير بن حمران الذي قتل مسلماً ، فقال : أقتلته؟ قال : نعم ، قال : فما كان يقول وأنتم تصعدون به لتقتلوه؟ قال : كان يُكبِّر ويُسبِّح ويُهلِّل ويستغفر الله ، فلمّا أدنيناه لنضرب عنقه قال : اللهم احكم بيننا وبين قوم غرّونا وكذّبونا ثم خذلونا وقتلونا ، فقلت له : الحمد لله الذي أقادني منك ، وضربته ضربة لم تعمل شيئاً ، فقال لي : أوما يكفيك فيَّ خدش مني وفاء بدمك أيها العبد؟ قال ابن زياد : وفخراً عند الموت؟ قال : وضربته الثانية فقتلته(2) .
قال الشيخ المفيد عليه الرحمة : فقام محمد بن الأشعث إلى عبيدالله بن زياد فكلَّمه في هانىء بن عروة ، فقال : إنك قد عرفت موضع هانىء من المصر ، وبيته في العشيرة ، وقد علم قومه أني وصاحبي سقناه إليك ، وأنشدك الله لمّا وهبته لي ، فإني أكره عداوة المصر وأهله ، فوعده أن يفعل ، ثم بداله وأمر بهانىء في الحال ، فقال : أخرجوه إلى السوق فاضربوا عنقه ، فأخرج هانىء حتى أتي به إلى مكان من السوق كان يباع فيه الغنم ، وهو مكتوف ، فجعل يقول : وامذحجاه ولا مذحج لي اليوم ، يا مذحجاه ، يا مذحجاه ، أين مذحج؟ فلمَّا رأى أن أحداً لا ينصره جذب يده فنزعها من الكتاف ، ثم قال : أما من عصا أو سكين أو حجارة أو عظم يحاجز به رجل عن نفسه؟ ووثبوا إليه فشدّوه وثاقاً ، ثم قيل له : امدد عنقك ، فقال : ما أنا بها بسخيٍّ ، وما أنا بمعينكم على نفسي ، فضربه مولى لعبيدالله بن زياد تركي يقال له : رشيد بالسيف ، فلم يصنع شيئاً ، فقال له هانىء : إلى الله المعاد ، اللهم إلى رحمتك ورضوانك ، ثم ضربه أخرى فقتله .
____________
1- اللهوف في قتلى الطفوف ، ابن طاووس : 36 ، بحار الأنوار ، المجلسي : 44/357 . 2- مروج الذهب ، المسعودي : 3/60 .
ولما قتل مسلم بن عقيل وهانىء بن عروة رحمة الله عليهما بعث ابن زياد برأسيهما مع هانىء بن أبي حية الوادعي والزبير بن الأروح التميمي إلى يزيد ابن معاوية . . .
وفي مسلم بن عقيل وهانىء بن عروة رحمهما الله يقول عبدالله بن الزبير الأسدي :
فإن كنتِ لا تدرين ما الموتُ فانظري | إلى هانىء في السوقِ وابنِ عقيلِ |
إلى بَطَل قد هشَّمَ السيفُ وَجْهَه | وآخَرَ يهوي من طِمَارِ قتيلِ |
أصابهما أمرُ اللعينِ فأصبحا | أحاديثَ مَنْ يسري بكلِّ سبيلِ |
ترى جسداً قد غيَّر الموتُ لَوْنَهُ | وَنَضْحَ دم قد سال كلَّ مَسِيلِ |
فتىً كان أحيى من فتاة حيّية | وَأقْطَعَ من ذي شفرتينِ صقيلِ |
أيركبُ أسماءُ الهماليجَ آمناً | وقد طالبته مَذْحجٌ بذُحُولِ |
تُطِيفُ حواليه مُرَادٌ وكلُّهم | على رقبة من سائل ومسولِ(1) |
المجلس الرابع ، من اليوم الرابع
وصول خبر مقتل مسلم للحسين(عليه السلام)
وخبر ابنته حميدة
قال السيد ابن طاووس عليه الرحمة : ثمَّ سار الحسين(عليه السلام) حتى بلغ زبالة ، فأتاه فيها خبر مسلم بن عقيل ، فعرَّف بذلك جماعة ممن تبعه فتفرَّق عنه أهل الأطماع والارتياب ، وبقي معه أهله وخيار الأصحاب .
قال الراوي : وارتجَّ الموضع بالبكاء والعويل لقتل مسلم بن عقيل (عليه السلام) ،
____________
1- الإرشاد ، المفيد : 2/63 ـ 65 ، بحار الأنوار ، المجلسي : 44/349 ـ 360 .
وسالت الدموع كل مسيل ، ثم إن الحسين(عليه السلام) سار قاصداً لما دعاه الله ، فلقيه الفرزدق الشاعر فسلَّم عليه وقال : يا ابن رسول الله ، كيف تركن إلى أهل الكوفة وهم الذين قتلوا ابن عمِّك مسلم بن عقيل وشيعته؟ قال : فاستعبر الحسين(عليه السلام)باكياً ثم قال : رحم الله مسلماً ، فلقد صار إلى رَوح الله وريحانه ، وتحيّته ورضوانه ، أما إنه قد قضى ما عليه ، وبقي ما علينا ، ثم أنشأ يقول :
فإنْ تكن الدنيا تُعَدُّ نفسيةً | فَدَارُ ثوابِ اللهِ أعلى وأنبلُ |
وإن تكن الأبدانُ للموتِ أُنشئت | فَقَتْلُ امرء بالسيفِ في اللهِ أفضلُ |
وإن تكن الأرزاقُ قسماً مقدَّراً | فَقِلَّةُ حِرْصِ المرءِ في الرزقِ أجملُ |
وإن تكن الأموالُ للتركِ جَمْعُها | فما بالُ متروك به المرءُ يبخلُ(1) |
وروي في خبر آخر عن عبدالله بن سليمان والمنذر بن المشمعل الأسديين قالا : لمّا قضينا حجَّنا لم تكن لنا همّة ، إلاَّ اللحاق بالحسين(عليه السلام) لننظر ما يكون من أمره ، فأقبلنا ترقل بنا ناقتانا مسرعين حتى لحقنا بزرود ، فلمَّا دنونا منه إذا نحن برجل من أهل الكوفة قد عدل عن الطريق حين رأى الحسين(عليه السلام) ، فوقف الحسين كأنه يريده ، ثمَّ تركه ومضى ومضينا نحوه ، فقال أحدنا لصاحبه : اذهب بنا إلى هذا لنسأله ، فإنَّ عنده خبر الكوفة ، فمضينا إليه فقلنا : السلام عليك ، فقال : وعليكما السلام ، قلنا : ممن الرجل؟ قال : أسدي ، قلنا له : ونحن أسديان ، فمن أنت؟ قال : أنا بكر بن فلان ، وانتسبنا له ، ثم قلنا له : أخبرنا عن الناس من ورائك .
قال : لم أخرج من الكوفة حتى قتل مسلم بن عقيل وهاني بن عروة ، ورأيتهما يجّران بأرجلهما في السوق ، فأقبلنا حتى لحقنا الحسين(عليه السلام) فسايرناه حتى نزل الثعلبية ممسياً ، فجئنا حين نزل فسلَّمنا عليه فردَّ علينا السلام ، فقلنا له ، رحمك الله ، إن عندنا خبراً إن شئت حدَّثناك علانية وإن شئت سراً ، فنظر إلينا
____________
1- اللهوف في قتلى الطفوف ، ابن طاووس : 45 ، بحار الأنوار ، المجلسي : 44/347 .