وإلى أصحابه ثمَّ قال : ما دون هؤلاء سر ، فقلنا له : رأيت الراكب الذي استقبلته عشية أمس؟ قال : نعم ، وقد أردت مسألته ، فقلنا : قد والله استبرأنا لك خبره وكفيناك مسألته ، وهو امرؤ منّا ذو رأي وصدق وعقل ، وإنه حدَّثنا أنه لم يخرج من الكوفة حتى قتل مسلم وهاني ورآهما يجّران في السوق بأرجلهما .
فقال : إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، رحمة الله عليهما ، يردِّد ذلك مراراً ، فقلنا له : ننشدك الله في نفسك وأهل بيتك إلاَّ انصرفت من مكانك هذا ، فإنه ليس لك بالكوفة ناصر ولا شيعة ، بل نتخوَّف أن يكونوا عليك ، فنظر إلى بني عقيل فقال : ما ترون فقد قتل مسلم؟ فقالوا : والله لا نرجع حتى نصيب ثأرنا أو نذوق ما ذاق ، فأقبل علينا الحسين(عليه السلام) وقال : لا خير في العيش بعد هؤلاء ، فعلمنا أنه قد عزم رأيه على المسير ، فقلنا له : خار الله لك . فقال : رحمكما الله .
فقال له أصحابه : إنك والله ما أنت مثل مسلم ، ولو قدمت الكوفة لكان الناس إليك أسرع ، فسكت .
وارتجَّ الموضع بالبكاء لقتل مسلم بن عقيل ، وسالت الدموع عليه كلَّ مسيل ، وفي رواية : وبكى(عليه السلام) وبكى معه الهاشميون ، وكثر صراخ النساء حتى ارتجّ الوضع لقتل مسلم بن عقيل(1) .
وجاء في معالي السبطين للحائري عليه الرحمة قال : وفي بعض كتب المقاتل : كانت لمسلم(عليه السلام) بنت عمرها إحدى عشرة سنة ، واسمها حميدة ، وأمها أم كلثوم بنت علي(عليه السلام) ، وقيل : اسمها عاتكة وأمها رقيّة بنت علي(عليه السلام) وعمرها سبع سنين ، وهي التي سُحقت يوم الطفّ بعد شهادة الحسين(عليه السلام) لما هجم القوم على المخيَّم ، وكانت مع الحسين(عليه السلام) فلمَّا قام الحسين(عليه السلام) من مجلسه جاء إلى الخيمة فعزَّز البنت وقرَّبها من مجلسه ، فحسَّت البنت بالشرّ ، فمسح الحسين(عليه السلام) على رأسها وناصيتها
____________
1- مقتل الحسين(عليه السلام) ، المقرم : 178 .
كما يُفعل بالأيتام ، فقالت : يا عمّ ، ما رأيتك قبل هذا اليوم تفعل بي مثل ذلك ، أظنّ أنه قد اُستشهد والدي ، فلم يتمالك الحسين(عليه السلام) من البكاء ، وقال : يا بنتي ، أنا أبوكِ وبناتي أخواتكِ ، فصاحت ونادت بالويل ، فسمع أولاد مسلم بن عقيل ذلك الكلام ، وتنفسَّوا الصعداء ، وبكوا بكاءً شديداً ورموا بعمائمهم إلى الأرض ، ونادوا : وا مسلماه ، وا ابن عقيلاه(1) .
لم يُبْكِهَا عَدَمُ الوثوقِ بعمِّها | كلا ولا الوجدُ المبرِّحُ فيها |
لكنَّها تبكي مَخَافَةَ أنها | تمسي يتيمةَ عمِّها وأبيها |
وقال آخر :
أتقضي ولم تَبْكِكَ الباكياتُ | أمَا لك في المِصْرِ مِنْ نَائِحَه |
وكم طفلة لك قد أعولت | وَجَمْرَتُها في الحَشَا قَادِحَه |
يُعَزِّزُها السبطُ في حِجْرِهِ | لتغدوَ في قُرْبِهِ فَارِحَه |
تقولُ مَضَى عمُّ منّي أبي | فَمَنْ ليتيمتِهِ النائحه |
قال الراوي : ثم انتظر حتى إذا كان السحر قال لفتيانه وغلمانه : أكثروا من الماء ، فاستقوا وأكثروا ، وكان لا يمرُّ بماء إلاَّ اتّبعه مَنْ عليه ، ثم ارتحلوا فسار حتى انتهى إلى زبالة ، فأتاه بها خبر عبدالله بن يقطر ، وهو أخو الحسين(عليه السلام) من الرضاعة ، وكان سرَّحه إلى مسلم بن عقيل من الطريق وهو لا يعلم بقتله فأخذته خيل(2) .
____________
1- معالي السبطين ، الحائري : 1/266 . 2- لواعج الأشجان ، الأمين : 84 .
المجلس الخامس ، من اليوم الرابع
مقتل ولدي مسلم بن عقيل(عليه السلام)
روى الشيخ الصدوق عليه الرحمة في الأمالي ، قال : حدَّثنا أبي (رحمه الله) ، قال : حدَّثنا علي بن إبراهيم بن هاشم ، عن أبيه ، عن إبراهيم بن رجاء الجحدري ، عن علي بن جابر ، قال : حدَّثني عثمان بن داود الهاشمي ، عن محمد بن مسلم ، عن حمران بن أعين ، عن أبي محمد شيخ لأهل الكوفة ، قال : لما قُتل الحسين بن علي(عليهما السلام)أُسر من معسكره غلامان صغيران ، فأتي بهما عبيدالله بن زياد ، فدعا سجاناً له ، فقال : خذ هذين الغلامين إليك ، فمن طيِّب الطعام فلا تطعمهما ، ومن البارد فلا تسقهما ، وضيِّق عليهما سجنهما ، وكان الغلامان يصومان النهار ، فإذا جنَّهما الليل أُتيا بقرصين من شعير وكوز من الماء القراح .
فلمَّا طال بالغلامين المكث حتى صارا في السنة قال أحدهما لصاحبه : يا أخي ، قد طال بنا مكثنا ، ويوشك أن تفنى أعمارنا وتبلى أبداننا ، فإذا جاء الشيخ فأعلمه مكاننا ، وتقرَّب إليه بمحمد(صلى الله عليه وآله) لعله يوسِّع علينا في طعامنا ، ويزيد في شرابنا .
فلما جنَّهما الليل أقبل الشيخ إليهما بقرصين من شعير وكوز من الماء القراح ، فقال له الغلام الصغير : يا شيخ ، أتعرف محمداً؟ قال : فكيف لا أعرف محمداً وهو نبيّي! قال : أفتعرف جعفر بن أبي طالب؟ قال : وكيف لا أعرف جعفراً وقد أنبت الله له جناحين يطير بهما مع الملائكة كيف يشاء؟! قال : أفتعرف عليَّ بن أبي طالب؟ قال : وكيف لا أعرف علياً هو ابن عمِّ نبيّي وأخو نبيّي؟!
قال له : يا شيخ ، فنحن من عترة نبيك محمد(صلى الله عليه وآله) ، ونحن من ولد مسلم بن
عقيل بن أبي طالب ، بيدك أسارى ، نسألك من طيِّب الطعام فلا تطعمنا ، ومن بارد الشراب فلا تسقينا ، وقد ضيَّقت علينا سجننا ، فانكبَّ الشيخ على أقدامهما يقبِّلهما ويقول : نفسي لنفسكما الفداء ، ووجهي لوجهكما الوقاء ، يا عترة نبيِّ الله المصطفى ، هذا باب السجن بين يديكما مفتوح ، فخذا أيَّ طريق شئتما ، فلمَّا جنَّهما الليل أتاهما بقرصين من شعير وكوز من الماء القراح ووقفهما على الطريق ، وقال لهما : سيرا ـ يا حبيبيَّ ـ الليل ، واكمنا النهار حتى يجعل الله عزَّ وجلَّ لكما من أمركما فرجاً ومخرجاً ، ففعل الغلامان ذلك . ولله درّ الحجة الشيخ علي الجشي عليه الرحمة إذ يقول :
أفدي يتيمي مسلم إذا أُسِرَا | ظلماً وفي سجنِ الدعيِّ عُذِّبا |
قد ضُيِّقَ السجنُ عليهما وَلاَ | ذَاقَا طعاماً طَيِّبا أو مشربا |
حتى إذا ضاقا بما نالهما | ذرعاً وأمرُ اللهِ جَلَّ اقتربا |
فخاطبا السجَّانَ في أمرِهما | وبالنبيِّ المصطفى تقرَّبا |
هناك خلَّى عنهما فانطلقا | لا يَعْرِفانِ مَسْلَكاً ومَذْهَبا |
سَارا بليل وَهُما لم يدريا | أين الطريقُ يَطْلُبَانِ مَهْرَبا(1) |
قال : فلمَّا جنَّهما الليل انتهيا إلى عجوز على باب ، فقالا لها : يا عجوز ، إنا غلامان صغيران غريبان حدثان غير خبيرين بالطريق ، وهذا الليل قد جنَّنا ، أضيفينا سواد ليلتنا هذه ، فإذا أصبحنا لزمنا الطريق .
فقالت لهما : فمن أنتما يا حبيبيَّ؟ فقد شممت الروائح كلها ، فما شممت رائحة أطيب من رائحتكما ، فقالا لها : يا عجوز ، نحن من عترة نبيك محمد(صلى الله عليه وآله) ، هربنا من سجن عبيد الله بن زياد من القتل ، قالت العجوز : يا حبيبيَّ ، إن لي ختناً فاسقاً ، قد شهد الواقعة مع عبيد الله بن زياد ، أتخوَّف أن يصيبكما هاهنا فيقتلكما ، قالا :
____________
1- ديوان العلامة الجشي : 365 .
سواد ليلتنا هذه ، فإذا أصبحنا لزمنا الطريق ، فقال : سآتيكما بالطعام ، ثم أتتهما بطعام فأكلا وشربا ، فلمَّا ولجا الفراش قال الصغير للكبير : يا أخي ، إنا نرجو أن نكون قد أمنا ليلتنا هذه ، فتعال حتى أعانقك وتعانقني ، وأشمَّ رائحتك وتشمَّ رائحتي قبل أن يفرِّق الموت بيننا ، ففعل الغلامان ذلك ، واعتنقا وناما .
فلمَّا كان في بعض الليل أقبل ختن العجوز(1) الفاسق حتى قرع الباب قرعاً خفيفاً ، فقالت العجوز : من هذا؟ قال : أنا فلان ، قالت : ما الذي أطرقك هذه الساعة ، وليس هذا لك بوقت؟ قال : ويحكِ ، افتحي الباب قبل أن يطير عقلي ، وتنشقَّ مرارتي في جوفي ، جهد البلاء قد نزل بي . قالت : ويحك ، ما الذي نزل بك؟ قال : هرب غلامان صغيران من عسكر عبيد الله بن زياد ، فنادى الأمير في معسكره : من جاء برأس واحد منهما فله ألف درهم ، ومن جاء برأسيهما فله ألفا درهم ، فقد أتعبت وتعبت ولم يصل في يدي شيء ، فقالت العجوز : يا ختني ، احذر أن يكون محمد خصمك في يوم القيامة ، قال لها : ويحكِ ، إن الدنيا محرص عليها ، فقالت : وما تصنع بالدنيا ، وليس معها آخرة؟ قال : إني لأراك تحامين عنهما ، كأن عندك من طلب الأمير شيئاً ، فقومي فإن الأمير يدعوك ، قالت : وما يصنع الأمير بي؟ وإنما أنا عجوز في هذه البرية ، قال : إنما لي طلب ، افتحي لي الباب حتى أريح وأستريح ، فإذا أصبحت بكَّرت في أي طريق آخذ في طلبهما .
ففتحت له الباب ، وأتته بطعام وشراب فأكل وشرب ، فلما كان في بعض الليل سمع غطيط(2) الغلامين في جوف البيت ، فأقبل يهيج كما يهيج البعير الهائج ، ويخور كما يخور الثور ، ويلمس بكفه جدار البيت حتى وقعت يده على جنب الغلام الصغير ، فقال له : من هذا؟ قال : أمّا أنا فصاحب المنزل ، فمن أنتما؟
____________
1- الختن : كل من كان من قبل المرأة كأبيها وأخيها ، وكذلك زوج البنت أو زوج الأخت . 2- الغطيط : الصوت الذي يخرج مع نفس النائم .
فأقبل الصغير يحرِّك الكبير ويقول : قم يا حبيبي ، فقد والله وقعنا فيما كنا نحاذره ، قال لهما : من أنتما؟ قالا له : يا شيخ ، إن نحن صدقناك فلنا الأمان؟ قال : نعم ، قالا : أمان الله وأمان رسوله (صلى الله عليه وآله) ، وذمة الله وذمة رسوله؟ قال : نعم ، قالا : ومحمد بن عبدالله على ذلك من الشاهدين؟ قال : نعم ، قالا : والله على ما نقول وكيل وشهيد؟ قال : نعم ، قالا له : يا شيخ ، فنحن من عترة نبيك محمد(صلى الله عليه وآله) ، هربنا من سجن عبيدالله بن زياد من القتل ، فقال لهما : من الموت هربتما ، وإلى الموت وقعتما ، الحمد لله الذي أظفرني بكما .
فقام إلى الغلامين فشدَّ أكتافهما ، فبات الغلامان ليلتهما مكتفين ، فلمَّا انفجر عمود الصبح دعا غلاماً له أسود ، يقال له : فليح ، فقال : خذ هذين الغلامين ، فانطلق بهما إلى شاطىء الفرات ، واضرب عنقيهما ، وائتني برأسيهما لأنطلق بهما إلى عبيدالله بن زياد ، وآخذ جائزة ألفي درهم .
فحمل الغلام السيف ، ومشى أمام الغلامين ، فما مضى إلاَّ غير بعيد حتى قال أحد الغلامين : يا أسود ، ما أشبه سوادك بسواد بلال مؤذِّن رسول الله(صلى الله عليه وآله)! قال : إن مولاي قد أمرني بقتلكما ، فمن أنتما؟ قالا له : يا أسود ، نحن من عترة نبيك محمد(صلى الله عليه وآله) ، هربنا من سجن عبيدالله بن زياد من القتل ، أضافتنا عجوزكم هذه ، ويريد مولاك قتلنا ، فانكبَّ الأسود على أقدامهما يقبّلهما ويقول : نفسي لنفسكما الفداء ، ووجهي لوجهكما الوقاء ، يا عترة نبيِّ الله المصطفى ، والله لا يكون محمد(صلى الله عليه وآله)خصمي في القيامة ، ثم عدا فرمى بالسيف من يده ناحية ، وطرح نفسه في الفرات ، وعبر إلى الجانب الآخر ، فصاح به مولاه : يا غلام! عصيتني ، فقال : يا مولاي ، إنما أطعتك ما دمت لا تعصي الله ، فإذا عصيت الله فأنا منك بريء في الدنيا والآخرة .
فدعا ابنه ، فقال : يا بنيّ ، إنما أجمع الدنيا حلالها وحرامها لك ، والدنيا محرصٌ
عليها ، فخذ هذين الغلامين إليك ، فانطلق بهما إلى شاطىء الفرات ، فاضرب عنقيهما وائتني برأسيهما ، لأنطلق بهما إلى عبيدالله بن زياد وآخذ جائزة ألفي درهم ، فأخذ الغلام السيف ، ومشى أمام الغلامين ، فما مضى إلاّ غير بعيد حتى قال أحد الغلامين : يا شابّ ، ما أخوفني على شبابك هذا من نار جهنم! فقال : يا حبيبيّ ، فمن أنتما؟ قالا : من عترة نبيك محمد(صلى الله عليه وآله) ، يريد والدك قتلنا ، فانكبَّ الغلام على أقدامهما يقبّلهما ، وهو يقول لهما مقالة الأسود ، ورمى بالسيف ناحية ، وطرح نفسه في الفرات وعبر ، فصاح به أبوه : يا بنيَّ! عصيتني ، قال : لأن أطيع الله وأعصيك أحبُّ إلي من أن أعصى الله وأطيعك .
قال الشيخ : لا يلي قتلكما أحد غيري ، وأخذ السيف ومشى أمامهما ، فلمّا صار إلى شاطىء الفرات سلَّ السيف من جفنه ، فلما نظر الغلامان إلى السيف مسلولا اغرورقت أعينهما ، وقالا له : يا شيخ انطلق بنا إلى السوق واستمتع بأثماننا ، ولا ترد أن يكون محمد خصمك في القيامة غداً فقال : لا ، ولكن أقتلكما وأذهب برأسيكما إلى عبيدالله بن زياد ، وآخذ جائزة ألفي درهم .
فقالا له : يا شيخ ، أما تحفظ قرابتنا من رسول الله(صلى الله عليه وآله)؟ فقال : ما لكما من رسول الله قرابة ، قالا له : يا شيخ ، فائت بنا إلى عبيد الله ابن زياد حتى يحكم فينا بأمره ، قال : ما إلى ذلك سبيل إلاّ التقرّب إليه بدمكما ، قالا له : يا شيخ ، أما ترحم صغر سننا؟ قال : ما جعل الله لكما في قلبي من الرحمة شيئاً ، قالا : يا شيخ ، إن كان ولابدّ فدعنا نصلّي ركعات ، قال : فصلّيا ما شئتما إن نفعتكما الصلاة .
فصلّى الغلامان أربع ركعات ، ثم رفعا طرفيهما إلى السماء فناديا : يا حيُّ يا حليم ، يا أحكم الحاكمين ، احكم بيننا وبينه بالحق .
فقام إلى الأكبر فضرب عنقه ، وأخذ برأسه ووضعه في المخلاة ، وأقبل الغلام الصغير يتمرَّغ في دم أخيه وهو يقول : حتى ألقى رسول الله(صلى الله عليه وآله) وأنا مختضب بدم
أخي ، فقال : لا عليك ، سوف ألحقك بأخيك ، ثم قام إلى الغلام الصغير فضرب عنقه ، وأخذ رأسه ووضعه في المخلاة ، ورمى ببدنيهما في الماء ، وهما يقطران دماً .
ومرَّ حتى أتى بهما عبيدالله بن زياد وهو قاعد على كرسيٍّ له ، وبيده قضيب خيزران ، فوضع الرأسين بين يديه ، فلمّا نظر إليهما قام ثم قعد ، ثم قام ثم قعد ثلاثاً ، ثم قال : الويل لك ، أين ظفرت بهما؟ قال : أضافتهما عجوز لنا ، قال : فما عرفت لهما حقّ الضيافة؟ قال : لا ، قال : فأيَّ شيء قالا لك؟ قال : قالا : يا شيخ ، اذهب بنا إلى السوق فبعنا وانتفع بأثماننا فلا ترد أن يكون محمد(صلى الله عليه وآله) خصمك في القيامة ، قال : فأيَّ شيء قلت لهما؟ قال : قلت : لا ، ولكن أقتلكما وأنطلق برأسيكما إلى عبيدالله بن زياد ، وآخذ جائزة ألفي درهم ، قال : فأيَّ شيء قالا لك؟ قال : قالا : ائت بنا إلى عبيدالله بن زياد حتى يحكم فينا بأمره ، قال : فأي شيء قلت؟ قال : قلت : ليس إلى ذلك سبيل إلاّ التقرّب إليه بدمكما ، قال : أفلا جئتني بهما حيّين ، فكنت أضعف لك الجائزة ، وأجعلها أربعة آلاف درهم؟
قال : ما رأيت إلى ذلك سبيلا إلاَّ التقرُّب إليك بدمهما ، قال : فأيَّ شيء قالا لك أيضاً؟ قال : قالا لي : يا شيخ ، احفظ قرابتنا من رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، قال : فأي شيء قلت لهما؟ قال : قلت : ما لكما من رسول الله قرابة ، قال : ويلك ، فأيَ شيء قالا لك أيضاً؟ قال : قالا : يا شيخ ، ارحم صغر سننا ، قال : فما رحمتهما؟ قال : قلت : ما جعل الله لكما من الرحمة في قلبي شيئاً ، قال : ويلك ، فأيَّ شيء قالا لك أيضاً؟ قال : قالا : دعنا نصلّي ركعات ، فقلت : فصلّيا ما شئتما إن نفعتكما الصلاة ، فصلّى الغلامان أربع ركعات ، قال : فأيَّ شيء قالا في آخر صلاتهما؟ قال : رفعا طرفيهما إلى السماء ، وقالا : يا حي يا حليم ، يا أحكم الحاكمين ، أحكم بيننا وبينه بالحق .
قال عبيدالله بن زياد : فإن أحكم الحاكمين قد حكم بينكم ، من للفاسق؟ قال : فانتدب له رجل من أهل الشام ، فقال : أنا له ، قال : فانطلق به إلى الموضع
الذي قتل فيه الغلامين ، فاضرب عنقه ، ولا تترك أن يختلط دمه بدمهما ، وعجِّل برأسه ، ففعل الرجل ذلك ، وجاء برأسه فنصبه على قناة ، فجعل الصبيان يرمونه بالنبل والحجارة وهم يقولون : هذا قاتل ذرية رسول الله(صلى الله عليه وآله)(1) .
ولله درّ الشيخ صالح الكواز الحلي عليه الرحمة حيث يقول :
وصبية من بني الزهرا مُرَبَّطَة | بالحبلِ بين بني حَمَّالَةِ الحطبِ |
كأنَّ كلَّ فؤاد من عدوِّهِمُ | صَخْرُ بنُ حَرْب غدا يُغْرِيه بالحَرَبِ |
ليت الأُولى أطعموا المسكينَ قُوْتَهُمُ | وَتَالِيَيْهِ وهم في غَايَةِ السَّغَبِ |
حتى أَتَى هل أتى في مَدْحِ فَضْلِهِمُ | مِنَ الإلهِ لهم في أشرفِ الكُتُبِ |
يرون بالطفِّ أيتاماً لهم أُسِرَتْ | يستصرخون من الآباءِ كُلَّ أبي |
وأرؤساً سائرات بالرِّمَاحِ رَمَى | مَسِيرَها عُلَمَاءُ النَّجْمِ بالعَطَبِ(2) |
المجلس الأول ، من اليوم الخامس
مسير الإمام الحسين(عليه السلام) إلى كربلاء
فعلى الأطائب من أهل بيت محمد وعلي صلى الله عليهما وآلهما ، فليبك الباكون ، وإياهم فليندب النادبون ، ولمثلهم فالتذرف الدموع ، وليصرخ الصارخون ، ويضجَّ الضاجون ، ويعجَّ العاجون ، أين الحسن وأين الحسين ، أين أبناء الحسين ، صالح بعد صالح ، وصادق بعد صادق ، أين السبيل بعد السبيل ، أين الخيرة بعد الخيرة ، أين الشموس الطالعة ، أين الأقمار المنيرة ، أين الأنجم الزاهرة ،
____________
1- الأمالي ، الشيخ الصدوق : 143 ـ 149 ح 2 . 2- رياض المدح والرثاء ، الشيخ حسين القديحي : 158 .
أين أعلام الدين وقواعد العلم(1) .
قال الحجّة الشيخ محمد حسين آل سُميسِم النجفي رحمه الله تعالى :
لإنْ قصد الحُجَّاجُ بيتاً بمكة | وطافوا عليه والذبيحُ جريحُهُ |
فإنّي بوادي الطفِّ أصبحت مُحْرِماً | أطوفُ ببيت والحسينُ ذبيحُه |
تخفُّ له الأرواحُ قَبْلَ جُسُومِها | أليس به ثِقْلُ النبيِّ وروحُهُ |
مسحتُ جبيني في ثَرَاهَ ونِلْتُهُ | وَإِنْ عزَّ شأواً حيث إني مسيحُهُ |
أتسألني عن زمزم هاكَ مدمعي | أو الحجرِ الملثومِ هذا ضريحُهُ(2) |
قال السيّد وابن نما رحمهما الله في مسير الحسين (عليه السلام) إلى كربلاء : ثمَّ سار(عليه السلام)حتى مرَّ بالتنعيم ، فلقي هناك عيراً تحمل هدية قد بعث بها بحير بن ريسان الحميري عامل اليمن إلى يزيد بن معاوية ـ وكان عامله على اليمن ـ وعليها الورس والحُلل ، فأخذها(عليه السلام) لأن حكم أمور المسلمين إليه ، وقال لأصحاب الإبل : من أحبَّ منكم أن ينطلق معنا إلى العراق وفيناه كراه وأحسنّا صحبته ، ومن أحبَّ أن يفارقنا من مكاننا هذا أعطيناه من الكرى بقدر ما قطع من الطريق ، فمضى قوم وامتنع آخرون .
ثمَّ سار(عليه السلام) حتى بلغ ذات عرق ، فلقي بشر بن غالب وارداً من العراق فسأله عن أهلها ، فقال : خلَّفت القلوب معك ، والسيوف مع بني أمية ، فقال : صدق أخو بني أسد ، إن الله يفعل ما يشاء ، ويحكم ما يريد .
قال : ثمَّ سار صلوات الله عليه حتى نزل الثعلبية وقت الظهيرة ، فوضع رأسه فرقد ، ثم استيقظ فقال : قد رأيت هاتفاً يقول : أنتم تسرعون ، والمنايا تسرع بكم إلى الجنة ، فقال له ابنه علي : يا أبه ، أفلسنا على الحق؟ فقال : بلى ـ يا بنيّ ـ والذي إليه مرجع العباد ، فقال : يا أبه ، إذن لا نبالي بالموت ، فقال له الحسين(عليه السلام) : جزاك
____________
1- المزار ، محمد بن المشهدي : 578 . 2- سحر البيان وسمر الجنان ، الشيخ محمد حسن آل سميسم : 186 .
الله ـ يا بنيّ ـ خير ما جزى ولداً عن والد ، ثمَّ بات(عليه السلام) في الموضع .
فلمَّا أصبح إذا برجل من أهل الكوفة ـ يكنَّى أبا هرة الأزدي ـ قد أتاه فسلَّم عليه ، ثم قال : يا ابن رسول الله ، ما الذي أخرجك عن حرم الله وحرم جدك محمد(صلى الله عليه وآله)؟ فقال الحسين(عليه السلام) : ويحك أبا هرة ، إن بني أمية أخذوا مالي فصبرت ، وشتموا عرضي فصبرت ، وطلبوا دمي فهربت ، وأيم الله لتقتلني الفئة الباغية ، ليلبسنهم الله ذلا شاملا ، وسيفاً قاطعاً ، وليسلِّطن عليهم من يذلّهم حتى يكونوا أذلَّ من قوم سبأ إذ ملكتهم امرأة منهم ، فحكمت في أموالهم ودمائهم(1) .
وقال محمد بن أبي طالب : واتّصل الخبر بالوليد بن عتبة أمير المدينة بأن الحسين(عليه السلام) توجَّه إلى العراق ، فكتب إلى ابن زياد : أمَّا بعد ، فإن الحسين قد توجَّه إلى العراق ، وهو ابن فاطمة ، وفاطمة بنت رسول الله(صلى الله عليه وآله) ، فاحذر ـ يا ابن زياد ـ أن تأتي إليه بسوء فتهيج على نفسك وقومك أمراً في هذه الدنيا لا يصدّه شيء ، ولا تنساه الخاصة والعامة أبداً ما دامت الدنيا ، قال : فلم يلتفت ابن زياد إلى كتاب الوليد .
وفي رواية عن الرياشي بإسناده عن راوي حديثه قال : حججت فتركت أصحابي وانطلقت أتعسَّف الطريق وحدي ، فبينما أنا أسير إذ رفعت طرفي إلى أخبية وفساطيط ، فانطلقت نحوها حتى أتيت أدناها ، فقلت : لمن هذه الأبنية؟ فقالوا : للحسين(عليه السلام) ، قلت : ابن علي وابن فاطمة(عليهما السلام)؟ قالوا : نعم ، قلت : في أيِّها هو؟ قالوا : في ذلك الفسطاط ، فانطلقت نحوه ، فإذا الحسين(عليه السلام) متك على باب الفسطاط يقرأ كتاباً بين يديه ، فسلَّمت فردَّ عليَّ ، فقلت : يا ابن رسول الله ، بأبي أنت وأمي ، ما أنزلك في هذه الأرض القفراء التي ليس فيها ريف ولا منعة؟ قال : إن هؤلاء أخافوني ، وهذه كتب أهل الكوفة ، وهم قاتلي ، فإذا فعلوا ذلك ولم يدعوا لله
____________
1- اللهوف ، ابن طاووس : 43 ـ 44 ، بحار الأنوار ، المجلسي : 44/367 .
محرَّماً إلاَّ انتهكوه بعث الله إليهم من يقتلهم حتى يكونوا أذلَّ من فرم الأمة .
وقال ابن نما : حدَّث عقبة بن سمعان قال : خرج الحسين(عليه السلام) من مكة فاعترضته رسل عمرو بن سعيد بن العاص ، عليهم يحيى بن سعيد ، ليردّوه فأبى عليهم وتضاربوا بالسياط ، ومضى(عليه السلام) على وجهه ، فبادروه وقالوا : يا حسين ، ألا تتقي الله ، تخرج من الجماعة وتفرِّق بين هذه الأمة؟ فقال : لي عملي ، ولكم عملكم ، أنتم بريئون مما أعمل ، وأنا بريء مما تعملون .
قال : ورويتُ أن الطرماح بن حكم قال : لقيت حسيناً وقد امترتُ لأهلي ميرة فقلت : أذكّرك في نفسك ، لا يغرّنّك أهل الكوفة ، فوالله لئن دخلتها لتقتلنّ ، وإني لأخاف أن لا تصل إليها ، فإن كنت مجمعاً على الحرب فانزل أجأ فإنه جبل منيع ، والله ما نالنا فيه ذلّ قط ، وعشيرتي يرون جميعاً نصرك ، فهم يمنعونك ما أقمت فيهم ، فقال : إن بيني وبين القوم موعداً أكره أن أخلفهم ، فإن يدفع الله عنا فقديماً ما أنعم علينا وكفى ، وإن يكن ما لابدّ منه ففوزٌ وشهادة إن شاء الله . ثمَّ حملت الميرة إلى أهلي وأوصيتهم بأمورهم ، وخرجت أريد الحسين(عليه السلام) فلقيني سماعة بن زيد النبهاني فأخبرني بقتله فرجعت .
وقال الشيخ المفيد ـ رحمه الله ـ : ولما بلغ عبيدالله بن زياد إقبال الحسين(عليه السلام)من مكة إلى الكوفة بعث الحصين بن نمير صاحب شرطه ، حتى نزل القادسية ، ونظّم الخيل ما بين القادسية إلى خفان ، وما بين القادسية إلى القطقطانة ، وقال للناس : هذا الحسين يريد العراق .
ولما بلغ الحسين (عليه السلام) الحاجز من بطن الرمة بعث قيس ابن مسهر الصيداوي ، ويقال : إنه بعث أخاه من الرضاعة عبدالله بن يقطر إلى أهل الكوفة ، وكتب معه إليهم : بسم الله الرّحمن الرّحيم ، من الحسين بن علي إلى إخوانه المؤمنين والمسلمين ، سلام عليكم ، فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلاّ هو ، أمّا بعد ، فإن
كتاب مسلم بن عقيل جاءني يخبرني فيه بحسن رأيكم ، واجتماع ملأكم على نصرنا والطلب بحقنا ، فسألت الله أن يحسن لنا الصنيع ، وأن يثيبكم على ذلك أعظم الأجر ، وقد شخصت إليكم من مكة يوم الثلاثاء ، لثمان مضين من ذي الحجة يوم التروية ، فإذا قدم عليكم رسولي فانكمشوا في أمركم ، وجدّوا فإني قادم عليكم في أيامي هذه ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
وكان مسلم كتب إليه قبل أن يقتل بسبع وعشرين ليلة ، وكتب إليه أهل الكوفة أن لك ههنا مائة ألف سيف ولا تتأخَّر .
فأقبل قيس بن مسهر بكتاب الحسين(عليه السلام) حتى إذا انتهى إلى القادسية أخذه الحصين بن نمير فبعث به إلى عبيدالله بن زياد إلى الكوفة ، فقال له عبيدالله بن زياد : اصعد فسبَّ الحسين بن علي(1) .
وقال السيّد : فلمّا قارب دخول الكوفة اعترضه الحصين بن نمير ليفتّشه ، فأخرج قيس الكتاب ومزَّقه ، فحمله الحصين إلى ابن زياد ، فلمّا مثل بين يديه قال له : من أنت؟ قال : أنا رجل من شيعة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وابنه(عليهما السلام) ، قال : فلماذا خرَّقت الكتاب؟ قال : لئلا تعلم ما فيه ، قال : وممن الكتاب؟ وإلى من؟ قال : من الحسين بن علي إلى جماعة من أهل الكوفة لا أعرف أسماءهم ، فغضب ابن زياد فقال : والله لا تفارقني حتى تخبرني بأسماء هؤلاء القوم أو تصعد المنبر وتلعن الحسين بن علي وأباه وأخاه ، وإلاَّ قطَّعتك إرباً إرباً ، فقال قيس : أمّا القوم فلا أخبرك بأسمائهم ، وأمّا لعنة الحسين وأبيه وأخيه فأفعل ، فصعد المنبر وحمد الله ، وصلَّى على النبي (صلى الله عليه وآله) ، وأكثر من الترّحم على عليّ وولده صلوات الله عليهم ، ثم لعن عبيدالله بن زياد وأباه ، ولعن عتاة بني أمية عن آخرهم ، ثم قال : أنا رسول
____________
1- الإرشاد ، المفيد : 2/69 ـ 71 .
الحسين إليكم ، وقد خلَّفته بموضع كذا فأجيبوه(1) .
ثم قال الشيخ المفيد عليه الرحمة : فأمر به عبيدالله بن زياد أن يرمى من فوق القصر ، فرمي به فتقطَّع ، وروي أنه وقع إلى الأرض مكتوفاً فتكسَّرت عظامه ، وبقي به رمق ، فأتاه رجل يقال له : عبدالملك بن عمر اللخمي فذبحه ، فقيل له في ذلك وعيب عليه ، فقال : أردت أن أريحه .
ثم أقبل الحسين (عليه السلام) من الحاجز يسير نحو العراق ، فانتهى إلى ماء من مياه العرب فإذا عليه عبدالله بن مطيع العدوي ، وهو نازل به ، فلمّا رآه الحسين قام إليه فقال : بأبي أنت وأمي يا ابن رسول الله ، ما أقدمك؟ واحتمله وأنزله ، فقال له الحسين(عليه السلام) : كان من موت معاوية ما قد بلغك ، وكتب إليَّ أهل العراق يدعونني إلى أنفسهم .
فقال له عبدالله بن مطيع : أذكِّرك الله ـ يا ابن رسول الله ـ وحرمة الإسلام أن تنهتك ، أنشدك الله في حرمة قريش ، أنشدك الله في حرمة العرب ، فو الله لئن طلبت ما في أيدي بني أمية ليقتلنك ، ولئن قتلوك لا يهابوا بعدك أحداً أبداً ، والله إنها لحرمة الإسلام تنهتك ، وحرمة قريش وحرمة العرب ، فلا تفعل ولا تأت الكوفة ، ولا تعرِّض نفسك لبني أمية ، فأبى الحسين(عليه السلام) إلاّ أن يمضي .
وكان عبيدالله بن زياد أمر فأخذ ما بين واقصة إلى طريق الشام ، وإلى طريق البصرة ، فلا يدعون أحداً يلج ولا أحداً يخرج ، فأقبل الحسين(عليه السلام) لا يشعر شيء حتى لقي الأعراب ، فسألهم فقالوا : لا والله ما ندري غير أنا لا نستطيع أن نلج ولا نخرج ، فسار تلقاء وجهه(عليه السلام) .
وحدَّث جماعة من فزارة ومن بجيلة ، قالوا : كنا مع زهير بن القين البجلي حين أقبلنا من مكة ، وكنا نساير الحسين(عليه السلام) فلم يكن شيءٌ أبغض علينا من أن
____________
1- اللهوف ، السيد ابن طاووس : 46 ـ 47 .
ننازله في منزل ، وإذا سار الحسين(عليه السلام) فنزل في منزل لم نجد بدّاً من أن ننازله ، فنزل الحسين في جانب ونزلنا في جانب ، فبينا نحن جلوس نتغذى من طعام لنا إذ أقبل رسول الحسين(عليه السلام) حتى سلَّم ، ثمَّ دخل ، فقال : يا زهير بن القين ، إن أبا عبدالله الحسين بعثني إليك لتأتيه ، فطرح كل إنسان منّا ما في يده ، حتى كأنما على رؤوسنا الطير ، فقالت له امرأته ـ قال السيد : وهي ديلم بنت عمرو ـ : سبحان الله! أيبعث إليك ابن رسول الله ثم لا تأتيه؟ لو أتيته فسمعت كلامه ثم انصرفت .
فأتاه زهير بن القين ، فما لبث أن جاء مستبشراً ، قد أشرق وجهه ، فأمر بفسطاطه وثقله ومتاعه ، فقوِّض وحمل إلى الحسين(عليه السلام) ، ثم قال لامرأته : أنت طالق ، الحقي بأهلك فإني لا أحبُّ أن يصيبك بسببي إلاّ خير .
وزاد السيد ابن طاووس عليه الرحمة : وقد عزمت على صحبة الحسين(عليه السلام)لأفديه بروحي ، وأقيه بنفسي ، ثم أعطاها مالها ، وسلَّمها إلى بعض بني عمها ليوصلها إلى أهلها ، فقامت إليه وبكت وودَّعته ، وقالت : خار لله لك ، أسألك أن تذكرني في القيامة عند جدّ الحسين(عليه السلام)(1) .
وقال الشيخ المفيد : ثم قال لأصحابه : من أحبَّ منكم أن يتبعني وإلاَّ فهو آخر العهد ، إني سأحدِّثكم حديثاً ، إنّا غزونا البحر ، ففتح الله علينا وأصبنا غنائم ، فقال لنا سلمان رحمه الله : أفرحتم بما فتح الله عليكم وأصبتم من الغنائم؟ فقلنا : نعم ، فقال : إذا أدركتم سيِّد شباب آل محمد فكونوا أشدَّ فرحاً بقتالكم معه مما أصبتم اليوم من الغنائم ، فأمَّا أنا فأستودعكم الله ، قالوا : ثم ـ والله ـ ما زال في القوم مع الحسين حتى قتل رحمه الله(2) .
وفي المناقب : ولما نزل(عليه السلام) الخزيمية أقام بها يوماً وليلة ، فلمَّا أصبح أقبلت
____________
1- اللهوف ، السيد ابن طاووس : 45 . 2- الإرشاد ، المفيد : 2/63 ـ 73 .
إليه أخته زينب ، فقالت : يا أخي ، ألا أخبرك بشيء سمعته البارحة؟ فقال الحسين(عليه السلام) : وما ذاك؟ فقالت : خرجت في بعض الليل لقضاء حاجة فسمعت هاتفاً يهتف ، وهو يقول :
أَلاَ يا عينُ فاحتفلي بجهدِ | وَمَنْ يبكي على الشهداءِ بعدي |
على قوم تسوقُهُمُ المنايا | بمقدار إلى إنجازِ وَعْدِ |
وقال السيّد عليه الرحمة : أتاه خبر مسلم (عليه السلام) في زبالة ، ثمَّ إنه سار فلقيه الفرزدق فسلَّم عليه ثم قال : يا ابن رسول الله ، كيف تركن إلى أهل الكوفة وهم الذين قتلوا ابن عمك مسلم بن عقيل وشيعته؟ قال : فاستعبر الحسين(عليه السلام) باكياً ثمَّ قال : رحم الله مسلماً فلقد صار إلى رَوح الله وريحانه ، وتحيّته ورضوانه ، أما إنه قد قضى ما عليه ، وبقي ما علينا ، ثم أنشأ يقول :
فإن تكنِ الدنيا تُعَدُّ نفيسةً | فَدَارُ ثوابِ اللهِ أعلى وأنبلُ |
وإن تكنِ الأبدانُ للموتِ أُنشئت | فقتلُ امرء بالسيفِ في اللهِ أفضلُ |
وإن تكنِ الأرزاقُ قسماً مقدَّراً | فَقِلَّةُ حِرْصِ المرءِ في الرزقِ أجملُ |
وإن تكنِ الأموالُ للتركِ جَمْعُها | فما بالُ متروك به المرءُ يَبْخَلُ(1) |
وقال الشيخ المفيد عليه الرحمة : ثمَّ انتظر حتى إذا كان السحر قال لفتيانه وغلمانه : أكثروا من الماء ، فاستقوا وأكثروا ، ثمَّ ارتحلوا فسار حتى انتهى إلى زبالة ، فأتاه خبر عبدالله بن يقطر .
وقال السيّد : فاستعبر باكياً ، ثمَّ قال : اللهم اجعل لنا ولشيعتنا منزلا كريماً ، واجمع بيننا وبينهم في مستقرٍّ من رحمتك ، إنك على كل شيء قدير .
وقال الشيخ المفيد عليه الرحمة : فأخرج للناس كتاباً فقرأ عليهم فإذا فيه : بسم الله الرّحمن الرّحيم ، أمَّا بعد فإنه قد أتانا خبر فظيع : قتل مسلم بن عقيل ،
____________
1- اللهوف ، ابن طاووس : 45 ، بحار الأنوار ، المجلسي : 44/374 .
وهانىء بن عروة ، وعبدالله بن يقطر ، إلى أن قال (عليه السلام) : فمن أحبَّ منكم الانصراف فلينصرف في غير حرج ، ليس عليه ذمام .
فتفرَّق الناس عنه وأخذوا يميناً وشمالا حتى بقي في أصحابه الذين جاؤوا معه من المدينة ، ونفر يسير ممن انضمّوا إليه .
وإنّما فعل ذلك لأنه(عليه السلام) علم أن الأعراب الذين اتّبعوه إنما اتّبعوه وهم يظنّون أنه يأتي بلداً قد استقامت له طاعة أهلها ، فكره أن يسيروا معه إلاّ وهم يعلمون علامَ يقدمون ، فلمّا كان السحر أمر أصحابه فاستقوا ماءً وأكثروا ، ولله درّ الشيخ كاظم الأزري عليه الرحمة إذ يقول :
أفدي القُرُومَ الأولى سارت ركائُبهم | والموتُ خَلْفَهُمُ يَسْري على الأَثَرِ |
للهِ مَن في مغاني كربلاءَ ثَوَوا | وَعِنْدَهُمْ عِلْمُ ما يجري مِنَ القَدَرِ |
ثاروا ولولا قَضَاءُ اللهِ يُمْسِكُهُمْ | لم يترُكُوا لبني سفيانَ مِنْ أَثَرِ |
هُمُ الأسودُ ولكنَّ الوغى أُجُمٌ | وَلاَ مَخَاليبَ غَيْرُ البيضِ والسُّمُرِ |
أبدوا وَقَائِعَ تُنْسي ذِكْرَ غَيْرِهِمُ | وَالوخزُ بالسُّمْرِ يُنسي الوَخْزَ بالإِبَرِ |
سَلْ كربلا كم حَوَتْ منهم هِلاَلَ دُجَىً | كأنَّها فَلَكٌ لِلأَنْجُمِ الزُّهُرِ |
لم أنسَ حامية الإسلامِ منفرداً | صِفْرَ الأَنَامِلِ من حام ومنتصرِ |
رأى قَنَا الدينِ من بَعْدِ استقامتِها | مغموزةً وعليها صُدْعُ منكسِرِ |
فقام يجمعُ شملا غيرَ مجتمع | منها ويجبُرُ كسراً غيرَ مُنْجَبِرِ |
لم أنسه وهو خوَّاضٌ عَجَاجَتَها | يشقُّ بالسيفِ منها سَوْرَةَ السورِ(1) |
____________
1- رياض المدح والرثاء ، الشيخ حسين القديحي : 263 ـ 264 .
المجلس الثاني ، من اليوم الخامس
نزول الإمام الحسين(عليه السلام) كربلاء
جاء في كتاب المزار للمشهدي عليه الرحمة في بعض الزيارات الشريفة : وأشهد أنكم قد وفيتم بعهد الله وذمّته ، وبكل ما اشترطه عليكم في كتابه ، ودعوتم إلى سبيله ، وأنفدتم طاقتكم في مرضاته ، وحملتم الخلائق على منهاج النبوة ومسالك الرسالة ، وسرتم فيه بسيرة الأنبياء ، ومذاهب الأوصياء ، فلم يُطع لكم أمر ، ولم تَصغ إليكم أذنٌ ، فصلوات الله على أرواحكم وأجسادكم(1) .
رِجَالُهُمُ صَرْعَى وأسرٌ نساؤُهُمْ | وأطفالُهُمْ في السبيِ تشكو حِبَالَها |
وقال آخر :
ورد الحسينُ إلى العراقِ فَضنَهم | تركوا النفاقَ إذا العراقُ كماهيه |
ما ذاق طعمَ فُراتِهم حَتى قضى | عطشاً وغُسل بالدِماءِ القانية |
قال الشيخ المفيد عليه الرحمة : ثمّ سار(عليه السلام) حتى مرّ ببطن العقبة ، فنزل عليها ، فلقيه شيخ من بني عكرمة يقال له : عمر بن لوذان ، فسأله : أين تريد؟ فقال له الحسين (عليه السلام) : الكوفة ، فقال الشيخ : أنشدك الله لمّا انصرفت ، فوالله ما تقدم إلاَّ على الأسنّة وحدِّ السيوف ، وإن هؤلاء الذين بعثوا إليك لو كانوا كفوك مؤونة القتال ووطَّاؤا لك الأشياء فقدمت عليهم كان ذلك رأياً ، فأمّا على هذه الحال التي تذكر فإني لا أرى لك أن تفعل ، فقال له : يا عبدالله ، ليس يخفى عليَّ الرأي ، ولكن الله تعالى لا يُغلب على أمره .
ثمَّ قال(عليه السلام) : والله لا يدعونني حتى يستخرجوا هذه العلقة من جوفي ، فإذا
____________
1- المزار ، محمد بن المشهدي : 294 .
فعلوا سلَّط الله عليهم من يذلّهم حتى يكونوا أذَّل فِرَق الأمم .
ثمّ سار(عليه السلام) من بطن العقبة حتى نزل شراف(1) فلما كان السحر أمر فتيانه فاستقوا من الماء وأكثروا ، ثمَّ سار حتى انتصف النهار ، فبينما هو يسير إذ كبَّر رجل من أصحابه ، فقال له الحسين(عليه السلام) : الله أكبر ، لمِ كبَّرت؟
فقال : رأيت النخل ، فقال له جماعة ممن صحبه : والله إن هذا المكان ما رأينا فيه نخلة قط ، فقال الحسين(عليه السلام) : فما ترونه؟ قالوا : والله نراه أسنّة الرماح وآذان الخيل ، فقال : وأنا والله أرى ذلك .
ثم قال(عليه السلام) : ما لنا ملجأ نلجأ إليه ونجعله في ظهورنا ونستقبل القوم بوجه واحد؟ فقلنا له : بلى ، هذا ذو جشم(2) إلى جنبك ، فمل إليه عن يسارك ، فإن سبقت إليه فهو كما تريد ، فأخذ إليه ذات اليسار ، وملنا معه ، فما كان بأسرع من أن طلعت علينا هوادي الخيل ، فتبيَّنَّاها وعدلنا ، فلمّا رأونا عدلنا عن الطريق عدلوا إلينا كأن أسنّتهم اليعاسيب ، وكأن راياتهم أجنحة الطير ، فاستبقنا إلى ذي جشم فسبقناهم إليه ، وأمر الحسين(عليه السلام) بأبنيته فضُربت ، وجاء القوم زهاء ألف فارس ، مع الحر بن يزيد التميمي حتى وقف هو وخيله مقابل الحسين (عليه السلام) في حرّ الظهيرة ، والحسين وأصحابه معتّمون متقلدون أسيافهم .
فقال الحسين(عليه السلام) لفتيانه : اسقوا القوم وارووهم من الماء ، ورشّفوا الخيل ترشيفاً ، ففعلوا وأقبلوا يملأون القصاع والطساس من الماء ، ثمَّ يدنونها من الفرس ، فإذا عبَّ فيها ثلاثاً أو أربعاً أو خمساً عُزلت عنه ، وسُقي آخر ، حتى سقوها عن آخرها .
فقال علي بن الطعان المحاربي : كنت مع الحر يومئذ ، فجئت في آخر من جاء
____________
1- كقطام : موضع أو ماءة لبني أسد ، أو جبل عال . 2- ذو خشب خ ل ، وفي المصدر : ذو حسم .
من أصحابه ، فلمّا رأى الحسين(عليه السلام) ما بي وبفرسي من العطش قال : أنخ الراوية ـ والراوية عندي السقاء ـ ثمَّ قال : يا ابن الأخ ، أنخ الجمل ، فأنخته ، فقال : اشرب ، فجعلت كلَّما شربت سال الماء من السقاء ، فقال الحسين (عليه السلام) : اخنث السقاء ـ أي اعطفه ـ فلم أدر كيف أفعل ، فقام فخنثه فشربت وسقيت فرسي .
وكان مجيء الحرّ بن يزيد من القادسية ، وكان عبيدالله بن زياد بعث الحصين ابن نمير وأمره أن ينزل القادسية ، وتقدَّم الحر بين يديه في ألف فارس يستقبل بهم الحسين(عليه السلام) فلم يزل الحرّ موافقاً للحسين(عليه السلام) حتى حضرت صلاة الظهر فأمر الحسين(عليه السلام) الحجاج بن مسروق أن يؤذّن .
فلمَّا حضرت الإقامة خرج الحسين(عليه السلام) في إزار ورداء ونعلين ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثمَّ قال : أيها الناس ، إني لم آتكم حتى أتتني كتبكم ، وقدمت عليَّ رسلكم أن : اقدم علينا فليس لنا إمام ، لعل الله أن يجمعنا بك على الهدى والحق ، فإن كنتم على ذلك فقد جئتكم ، فأعطوني ما أطمئنّ إليه من عهودكم ومواثيقكم ، وإن لم تفعلوا وكنتم لمقدمي كارهين انصرفت عنكم إلى المكان الذي جئت منه إليكم .
فسكتوا عنه ولم يتكلَّموا كلمة ، فقال للمؤذِّن : أقم ، فأقام الصلاة ، فقال للحر : أتريد أن تصلي بأصحابك؟ فقال الحر : لا ، بل تصلّي أنت ونصلّي بصلاتك ، فصلّى بهم الحسين(عليه السلام) ، ثمَّ دخل فاجتمع عليه أصحابه ، وانصرف الحر إلى مكانه الذي كان فيه ، فدخل خيمة قد ضُربت له ، فاجتمع إليه جماعة من أصحابه ، وعاد الباقون إلى صفّهم الذي كانوا فيه ، ثمَّ أخذ كل رجل منهم بعنان فرسه وجلس في ظلّها .
فلمّا كان وقت العصر أمر الحسين(عليه السلام) أن يتهيأوا للرحيل ففعلوا ، ثمَّ أمر مناديه فنادى بالعصر وأقام ، فاستقدم الحسين(عليه السلام) وقام فصلَّى بالقوم ، ثمَّ سلَّم