وانصرف إليهم بوجهه ، فحمد الله وأثنى عليه وقال : أمّا بعد أيها الناس ، فإنكم إن تتقوا الله وتعرفوا الحق لأهله يكن أرضى لله عنكم ، ونحن أهل بيت محمد (صلى الله عليه وآله)أولى بولاية هذا الأمر عليكم من هؤلاء المدّعين ما ليس لهم ، والسائرين فيكم بالجور والعدوان ، فإن أبيتم إلاَّ الكراهية لنا ، والجهل بحقّنا ، وكان رأيكم الآن غير ما أتتني به كتبكم وقدمت عليَّ به رسلكم انصرفت عنكم .
فقال له الحر : أنا والله ما أدري ما هذه الكتب والرسل التي تذكر؟ فقال الحسين(عليه السلام) لبعض أصحابه : يا عقبة بن سمعان ، أخرج الخرجين اللذين فيهما كتبهم إليَّ ، فأخرج خرجين مملوءين صحفاً فنثرت بين يديه ، فقال له الحر : لسنا من هؤلاء الذين كتبوا إليك ، وقد أُمرنا أنا إذا لقيناك لا نفارقك حتى نقدمك الكوفة على عبيدالله بن زياد .
فقال له الحسين(عليه السلام) : الموت أدنى إليك من ذلك ، ثمَّ قال لأصحابه : قوموا فاركبوا ، فركبوا ، وانتظر حتى ركبت نساؤه ، فقال لأصحابه : انصرفوا ، فلمَّا ذهبوا لينصرفوا حال القوم بينهم وبين الانصراف ، فقال الحسين(عليه السلام) للحر : ثكلتك أمّك ، ما تريد؟ فقال له الحر : أما لو غيرك من العرب يقولها لي وهو على مثل الحال التي أنت عليها ما تركت ذكر أمه بالثكل كائناً من كان ، ولكن والله مالي إلى ذكر أمك من سبيل إلاّ بأحسن ما نقدر عليه .
فقال له الحسين(عليه السلام) : فما تريد؟ قال : أريد أن أنطلق بك إلى الأمير عبيدالله ابن زياد ، فقال : إذاً والله لا أتّبعك ، فقال : إذاً والله لا أدعك ، فترادّا القول ثلاث مرّات ، فلما كثر الكلام بينهما قال له الحر : إني لم أؤمر بقتالك ، إنما أُمرت أن لا أفارقك حتى أقدمك الكوفة ، فإذا أبيت فخذ طريقاً لا يدخلك الكوفة ولا يردّك إلى المدينة ، يكون بيني وبينك نصفاً حتى أكتب إلى الأمير عبيدالله بن زياد ، فلعلّ الله أن يرزقني العافية من أن أُبتلى بشيء من أمرك فخذ هاهنا .
فتياسر عن طريق العذيب والقادسية ، وسار الحسين(عليه السلام) وسار الحر في أصحابه يسايره ، وهو يقول له : يا حسين ، إني أذكّرك الله في نفسك ، فإني أشهد لئن قاتلت لتُقتلنَ ، فقال له الحسين(عليه السلام) : أفبالموت تخوِّفني؟ وهل يعدو بكم الخطب أن تقتلوني؟ وسأقول كما قال أخو الأوس لابن عمه وهو يريد نصرة رسول الله(صلى الله عليه وآله)فخوَّفه ابن عمه وقال : أين تذهب فإنك مقتول؟ فقال :
سأمضي وما بالموتِ عارٌ على الفتى | إذا مَا نَوَى حقّاً وجاهد مسلما |
وآسى الرجالَ الصالحينَ بنفسِهِ | وفارق مثبوراً وودّع مُجرما |
فإنْ عشتُ لم أَنْدَمْ وإن متُّ لم أُلَمْ | كفى بك ذلاًّ أن تعيشَ وتُرْغَما(1) |
قال : ثم أقبل الحسين(عليه السلام) على أصحابه وقال : هل فيكم أحد يعرف الطريق على غير الجادة؟ فقال الطرماح : نعم يا ابن رسول الله ، أنا أخبر الطريق ، فقال الحسين(عليه السلام) : سر بين أيدينا ، فسار الطرماح واتّبعه الحسين(عليه السلام) وأصحابه ، وجعل الطرماح يرتجز ويقول :
يَا نَاقتي لا تَذْعري من زجري | وامضي بنا قَبْلَ طُلُوعِ الفَجْرِ |
بخيرِ فتيان وخيرِ سُفْرِ | آلِ رَسُولِ اللهِ آلِ الفَخْرِ |
السادةِ البِيْضِ الوُجُوهِ الزُّهْرِ | الطَّاعنينَ بالرِّمَاحِ السُّمْرِ |
الضاربينَ بالسُّيُوفِ البُتْرِ | حتَّى تُحلِّي بكريمِ الفَخْرِ |
عمَّره اللهُ بَقَاءِ الدَّهْرِ
يَا مَالِكَ النفعِ معاً والضرِ | أَيِّد حسيناً سيّدي بالنصرِ |
على الطُّغَاةِ من بقايا الكُفْرِ | على اللعينينِ سليلي صَخْرِ |
يزيدَ لا زالَ حَلِيفَ الخَمْرِ | وابن زيادِ العهرِ وابن العهرِ |
قال الشيخ المفيد عليه الرحمة : فلمَّا سمع الحر ذلك تنحَّى عنه ، فكان يسير
____________
1- الإرشاد ، المفيد : 2/76 ـ 81 ، بحار الأنوار ، المجلسي : 44/375 ـ 378 .
بأصحابه ناحية والحسين(عليه السلام) في ناحية ، حتى انتهوا إلى عذيب الهجانات ، ثم مضى الحسين(عليه السلام) حتى انتهى إلى قصر بني مقاتل فنزل به ، وإذا هو بفسطاط مضروب ، فقال : لمن هذا؟ فقيل : لعبيدالله بن الحر الجعفي ، قال : ادعوه إليَّ ، فلمَّا أتاه الرسول قال له : هذا الحسين بن علي(عليهما السلام) يدعوك ، فقال عبيدالله : إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، والله ما خرجت من الكوفة إلاّ كراهية أن يدخلها الحسين وأنا فيها ، والله ما أريد أن أراه و لا يراني .
فأتاه الرسول فأخبره ، فقام إليه الحسين (عليه السلام) فجاء حتى دخل عليه وسلَّم وجلس ، ثم دعاه إلى الخروج معه ، فأعاد عليه عبيدالله بن الحر تلك المقالة واستقاله مما دعاه إليه ، فقال له الحسين(عليه السلام) : فإن لم تكن تنصرنا فاتق الله أن لا تكون ممن يقاتلنا ، فوالله لا يسمع واعيتنا أحد ثم لا ينصرنا إلاّ هلك ، فقال له : أمّا هذا فلا يكون أبداً إن شاء الله .
ثم قام الحسين(عليه السلام) من عنده حتى دخل رحله ، ولما كان في آخر الليل أمر فتيانه بالاستقاء من الماء ، ثمَّ أمر بالرحيل فارتحل من قصر بني مقاتل(1) .
وفي رواية الشيخ الصدوق عليه الرحمة في الأمالي أنه التقى معه في القطقطانية ، قال عليه الرحمة : إن الحسين(عليه السلام) لما نزل القطقطانية حين مسيره إلى الكوفة دعا عبيدالله بن الحر الجعفي إلى نصرته ، فامتنع عبيدالله عن الإجابة ، وقدَّم للحسين(عليه السلام) فرسه ، فقال الحسين(عليه السلام) : لا حاجة لنا فيك ولا في فرسك ، وما كنت متخذ المضلين عضداً(2) .
ويروى أن عبيدالله بن الحر ندم بعد مقتل الحسين(عليه السلام) وأخذته الحسرة والأسف على تركه نصرة الحسين(عليه السلام) ، فقال :
____________
1- الإرشاد ، المفيد : 2/81 ـ 82 ، بحار الأنوار ، المجلسي : 44/378 ـ 379 . 2- الأمالي ، الصدوق : 219 .
فيالكِ حسرةً مادمتُ حيّاً | تَرَدَّدُ بين صدري والتراقي |
حسينٌ حين يطلُبُ بَذْلَ نصري | على أهلِ الضلالةِ والنفاقِ |
غداةَ يقولُ لي بالقصرِ قولا | أتترُكُنا وتُزْمِعُ بالفراقِ |
ولو أنّي أُوَاسيه بنفسي | لنلتُ كرامةً يومَ التَّلاَقِ |
مع ابن المصطفى روحي فِداه | تولَّى ثمَّ ودَّع بانطلاقِ |
فلو فَلَقَ التلهُّفُ قَلْبَ حيٍّ | لهمَّ اليومَ قلبي بانفلاقِ |
فقد فاز الأولى نصروا حسيناً | وخاب الآخرون ذوو النفاقِ(1) |
قال عقبة بن سمعان : فسرنا معه ساعة ، فخفق(عليه السلام) وهو على ظهر فرسه خفقة ، ثم انتبه وهو يقول : إنا لله وإنا إليه راجعون ، والحمد لله رب العالمين ، ففعل ذلك مرتين أو ثلاثاً ، فأقبل إليه ابنه علي بن الحسين (عليه السلام) فقال : ممَ حمدت الله واسترجعت؟ قال : يا بني ، إني خفقت خفقة فعنَّ لي فارس على فرس وهو يقول : القوم يسيرون ، والمنايا تسير إليهم ، فعلمت أنها أنفسنا نعيت إلينا ، فقال له : يا أبتِ ، لا أراك الله سوءاً ، ألسنا على الحقّ؟ قال : بلى ، والله الذي مرجع العباد إليه ، فقال : فإنّنا إذاً ما نبالي ، أن نموت محقين ، فقال له الحسين(عليه السلام) : جزاك الله من ولد خير ما جزى ولداً عن والده .
فلمَّا أصبح نزل وصلَّى بهم الغداة ، ثم عجَّل الركوب وأخذ يتياسر بأصحابه يريد أن يفرِّقهم فيأتيه الحر بن يزيد فيردّه وأصحابه ، فجعل إذا ردَّهم نحو الكوفة ردّاً شديدا امتنعوا عليه فارتفعوا ، فلم يزالوا يتسايرون كذلك حتى انتهوا إلى نينوى ـ المكان الذي نزل به الحسين(عليه السلام) ـ فإذا راكب على نجيب له ، عليه السلاح ، متنكِّب قوساً مقبل من الكوفة ، فوقفوا جميعاً ينتظرونه ، فلمّا انتهى إليهم سلَّم على الحرّ وأصحابه ، ولم يسلِّم على الحسين (عليه السلام) وأصحابه ، ودفع إلى الحر كتاباً من
____________
1- ذوب النضار ، ابن نما الحلي : 72 .
عبيدالله بن زياد لعنه الله ، فإذا فيه : أما بعد ، فجعجع بالحسين حين يبلغك كتابي هذا ويقدم عليك رسولي ، ولا تنزله إلاّ بالعراء في غير خضر وعلى غير ماء ، وقد أمرت رسولي أن يلزمك ولا يفارقك حتى يأتيني بإنفاذك أمري ، والسلام .
فلما قرأ الكتاب قال لهم الحر : هذا كتاب الأمير عبيدالله ، يأمرني أن أجعجع بكم في المكان الذي يأتيني كتابه ، وهذا رسوله وقد أمره أن لا يفارقني حتى أنفذ أمره فيكم ، فنظر يزيد بن المهاجر الكندي ـ وكان مع الحسين(عليه السلام) ـ إلى رسول ابن زياد فعرفه فقال له : ثكلتك أمك ، ماذا جئت فيه؟ قال : أطعت إمامي ووفيت ببيعتي ، فقال له ابن المهاجر : بل عصيت ربَّك ، وأطعت إمامك في هلاك نفسك ، وكسبت العار والنار ، وبئس الإمام إمامك ، قال الله عزَّ وجلّ : {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لاَ يُنصَرُونَ}(1) فإمامك منهم ، وأخذهم الحرّ بالنزول في ذلك المكان على غير ماء ولا في قرية ، فقال له الحسين(عليه السلام) : دعنا ـ ويحك ـ ننزل هذه القرية أو هذه ـ يعني نينوى والغاضرية ـ أو هذه ـ يعني شفية ـ قال : لا والله ما أستطيع ذلك ، هذا رجل قد بعث إليَّ عيناً عليَّ ، فقال له زهير بن القين : إني والله لا أرى أن يكون بعد الذي ترون إلاّ أشد مما ترون ، يا ابن رسول الله ، إن قتال هؤلاء القوم الساعة أهون علينا من قتال من يأتينا من بعدهم ، فلعمري ليأتينا من بعدهم ما لا قبل لنا به ، فقال الحسين(عليه السلام) : ما كنت لأبدأهم بالقتال ، ثمَّ نزل ، وذلك اليوم يوم الخميس ، وهو اليوم الثاني من المحرم سنة إحدى وستين(2) .
وقال السيد ابن طاووس رحمه الله : فقام الحسين(عليه السلام) خطيباً في أصحابه فحمد الله وأثنى عليه ، ثمَّ قال : إنه قد نزل من الأمر ما قد ترون ، وإن الدنيا تغيَّرت وتنكَّرت وأدبر معروفها ، ولم يبق منها إلاّ صبابة كصبابة الإناء ، وخسيس عيش
____________
1- سورة القصص ، الآية : 41 . 2- الإرشاد ، المفيد : 2/82 ـ 84 ، بحار الأنوار ، المجلسي : 44/379 ـ 381 .
كالمرعى الوبيل ، ألا ترون إلى الحقّ لا يعمل به ، وإلى الباطل لا يُتناهى عنه ، ليرغب المؤمن في لقاء ربه حقاً حقاً ، فإني لا أرى الموت إلاّ سعادة ، والحياة مع الظالمين إلاّ برماً .
فقام زهير بن القين فقال : قد سمعنا ـ هداك الله يا ابن رسول الله (صلى الله عليه وآله) ـ مقالتك ، ولو كانت الدنيا لنا باقية ، وكنا فيها مخلدين ، لآثرنا النهوض معك على الإقامة فيها .
قال : ووثب هلال بن نافع البجلي فقال : والله ما كرهنا لقاء ربنا ، وإنا على نيّاتنا وبصائرنا ، نوالي من والاك ، ونعادي من عاداك .
قال : وقام برير بن خضير فقال : والله يا ابن رسول الله ، لقد منَّ الله بك علينا أن نقاتل بين يديك ، فتُقطَّع فيك أعضاؤنا ، ثم يكون جدك شفيعنا يوم القيامة .
قال : ثم إن الحسين(عليه السلام) قام وركب وسار ، وكلما أراد المسير يمنعونه تارة ويسايرونه أخرى حتى بلغ كربلاء ، وكان ذلك في اليوم الثاني من المحرم(1) .
وفي المناقب : فقال له زهير : فسر بنا حتى ننزل بكربلاء ، فإنها على شاطىء الفرات ، فنكون هنالك ، فإن قاتلونا قاتلناهم ، واستعنا الله عليهم ، قال : فدمعت عينا الحسين(عليه السلام) ثم قال : اللهم إني أعوذ بك من الكرب والبلاء ، ونزل الحسين (عليه السلام) في موضعه ذلك ، ونزل الحر بن يزيد حذاءه في ألف فارس ، ودعا الحسين (عليه السلام) بدواة وبيضاء ، وكتب إلى أشراف الكوفة ممن كان يظنّ أنه على رأيه : بسم الله الرّحمن الرّحيم ، من الحسين بن علي إلى سليمان بن صرد ، والمسيب بن نجبة ، ورفاعة بن شداد ، وعبدالله بن وأل ، وجماعة المؤمنين .
أمّا بعد ، فقد علمتم أن رسول الله(صلى الله عليه وآله) قد قال في حياته : من رأى سلطاناً جائراً مستحلا لحُرم الله ، ناكثاً لعهد الله ، مخالفاً لسنة رسول الله ، يعمل في عباد الله
____________
1- اللهوف ، السيد ابن طاووس : 48 ـ 49 ، بحار الأنوار ، المجلسي : 44/381 .
بالإثم والعدوان ، ثمَّ لم يغيِّر بقول ولا فعل ، كان حقيقاً على الله أن يدخله مدخله ، وقد علمتم أن هؤلاء القوم قد لزموا طاعة الشيطان ، وتولّوا عن طاعة الرحمن ، وأظهروا الفساد ، وعطَّلوا الحدود ، واستأثروا بالفيء ، وأحلّوا حرام الله ، وحرَّموا حلاله ، وإني أحقّ بهذا الأمر لقرابتي من رسول الله(صلى الله عليه وآله) ، وقد أتتني كتبكم ، وقدمت عليَّ رسلكم ببيعتكم ، أنكم لا تسلموني ولا تخذلوني ، فإن وفيتم لي ببيعتكم فقد أصبتم حظّكم ورشدكم ، ونفسي مع أنفسكم ، وأهلي وولدي مع أهاليكم وأولادكم ، فلكم بي أسوة ، وإن لم تفعلوا ونقضتم عهودكم وخلعتم بيعتكم ، فلعمري ما هي منكم بنكر ، لقد فعلتموها بأبي وأخي وابن عمي ، والمغرور من اغترَّ بكم ، فحظَّكم أخطأتم ، ونصيبَكم ضيَّعتم ، ومن نكث فإنما ينكث على نفسه ، وسيغني الله عنكم ، والسلام .
ثم طوى الكتاب وختمه ودفعه إلى قيس بن مسهر الصيداوي ـ وساق الحديث كما مرَّ ـ ثم قال : ولما بلغ الحسين(عليه السلام) قتل قيس استعبر باكياً ، ثمَّ قال : اللهم اجعل لنا ولشيعتنا عندك منزلا كريماً ، واجمع بيننا وبينهم في مستقر من رحمتك ، إنك على كل شيء قدير .
قال : فوثب إلى الحسين(عليه السلام) رجل من شيعته ـ يقال له هلال بن نافع البجلي ـ فقال : يا ابن رسول الله ، أنت تعلم أن جدَّك رسول الله(صلى الله عليه وآله) لم يقدر أن يُشرب الناس محبته ، ولا أن يرجعوا إلى أمره ما أحبَّ ، وقد كان منهم منافقون يعدون بالنصر ، ويضمرون له الغدر ، يلقونه بأحلى من العسل ، ويخلفونه بأمرَّ من الحنظل ، حتى قبضه الله إليه ، وإن أباك علياً رحمة الله عليه قد كان في مثل ذلك ، فقوم قد أجمعوا على نصره وقاتلوا معه الناكثين والقاسطين والمارقين ، حتى أتاه أجلُه ، فمضى إلى رحمة الله ورضوانه ، وأنت اليوم عندنا في مثل تلك الحالة ، فمن نكث عهده ، وخلع بيعته ، فلن يضرَّ إلاَّ نفسه ، والله مغن عنه ، فسر بنا راشداً
معافىً ، مشرِّقاً إن شئت ، وإن شئت مغرِّباً ، فوالله ما أشفقنا من قدر الله ، ولا كرهنا لقاء ربِّنا ، وإنّا على نيّاتنا وبصائرنا ، نوالي من والاك ، ونعادي من عاداك .
ثم وثب إليه برير بن خضير الهمداني فقال : والله يا بن رسول الله ، لقد منَّ الله بك علينا أن نقاتل بين يديك ، تُقطَّع فيه أعضاؤنا ، ثم يكون جدك شفيعنا يوم القيامة بين أيدينا ، لا أفلح قوم ضيَّعوا ابن بنت نبيِّهم ، أفٍّ لهم غداً ماذا يلاقون؟ ينادون بالويل والثبور في نار جهنم .
قال : فجمع الحسين(عليه السلام) ولده وإخوته وأهل بيته ، ثمَّ نظر إليهم فبكى ساعة ، ثمَّ قال : اللهم إنا عترة نبيك محمد ، وقد أُخرجنا وطُردنا وأُزعجنا عن حرم جدنا ، وتعدَّت بنو أمية علينا ، اللهم فخذ لنا بحقنا ، وانصرنا على القوم الظالمين .
قال : فرحل من موضعه حتى نزل في يوم الأربعاء أو يوم الخميس بكربلاء ، وذلك في الثاني من المحرم سنة إحدى وستين .
ثم أقبل على أصحابه فقال (عليه السلام) : الناس عبيد الدنيا ، والدين لعق على ألسنتهم ، يحوطونه مادرَّت معايشهم ، فإذا مُحِّصوا بالبلاء قلَّ الديانون ، ثمَّ قال : أهذه كربلاء؟ فقالوا : نعم يا ابن رسول الله ، فقال : هذا موضع كرب وبلاء ، ههنا مناخ ركابنا ، ومحطّ رحالنا ، ومقتل رجالنا ، ومسفك دمائنا .
قال : فنزل القوم وأقبل الحر حتى نزل حذاء الحسين(عليه السلام) في ألف فارس ، ثم كتب إلى ابن زياد يخبره بنزول الحسين بكربلا(1) .
وفي رواية أخرى : قال الحسين (عليه السلام) : وما اسم هذا المكان؟ قالوا له : كربلاء ، قال : ذات كرب وبلاء ، ولقد مرَّ أبي بهذا المكان عند مسيره إلى صفين وأنا معه ، فوقف فسأل عنه ، فأخبر باسمه ، فقال : هاهنا محطّ ركابهم ، وهاهنا مهراق
____________
1- بحار الأنوار ، المجلسي : 44/381 ـ 383 .
دمائهم ، فسُئل عن ذلك فقال : ثقل لآل بيت محمد ، ينزلون هاهنا(1) .
وقبض قبضة منها فشمَّها وقال : هذه والله هي الأرض التي أخبر بها جبرئيل رسول الله(صلى الله عليه وآله)أنني أقتل فيها ، أخبرتني أم سلمة(2) .
وفي رواية عن أبي مخنف في مقتله بإسناده عن الكلبي أنه قال : وساروا جميعاً إلى أن أتوا إلى أرض كربلاء ، وذلك في يوم الأربعاء ، فوقف فرس الحسين(عليه السلام) من تحته ، فنزل عنها وركب أخرى فلم ينبعث من تحته خطوة واحدة ، ولم يزل يركب فرساً بعد فرس حتى ركب سبعة أفراس وهن على هذا الحال ، فلما رأى الإمام ذلك الأمر الغريب قال(عليه السلام) : ما يقال لهذه الأرض؟ قالوا : أرض الغاضرية ، قال : فهل لها اسم غير هذا؟ قالوا : تسمَّى نينوى ، قال : هل لها اسم غير هذا؟ قالوا : تسمَّى بشاطىء الفرات ، قال : هل لها اسم غير هذا؟ قالوا : تسمَّى كربلاء .
فتنفّس الصعداء وقال : أرض كرب وبلاء ، ثم قال : قفوا ولا ترحلوا منها ، فهاهنا والله مناخ ركابنا ، وهاهنا والله سفك دمائنا ، وهاهنا والله هتك حريمنا ، وهاهنا والله قتل رجالنا ، وهاهنا والله ذبح أطفالنا ، وهاهنا والله تزال قبورنا ، وبهذه التربة وعدني جدي رسول الله(صلى الله عليه وآله) ولا خُلف لقوله(3) .
ولله درّ الحجة الشيخ علي الجشي عليه الرحمة إذ يقول :
لم أنسَ إذْ وَقَفَ الجوادُ بكربلا | بابنِ البتولةِ والعدى حَفَّتْ بِهِ |
يَا مُهْرُ لِمْ لا سِرْتَ عن وادي البلا | والكربِ خوفاً من بلاه وكربِهِ |
أَوَهَلْ إليك اللهُ أَوْحَى أَنَّ في | واديه مَصْرَعَهُ ومصرعَ صَحْبِهِ(4) |
____________
1- الأخبار الطوال ، الدينوري : 252 ـ 253 . 2- كلمات الإمام الحسين(عليه السلام) ، الشيخ الشريفي : 374 . 3- الدمعة الساكبة ، البهبهاني : 4/256 . 4- الشواهد المنبرية ، الشيخ علي الجشي : 45 .
ولله درّ المرحوم الشيخ الفرطوسي إذ يقول :
هذه كربلاءُ دارُ البلايا | وهي كربٌ مشفوعةٌ ببلاءِ |
هاهنا هاهنا تحطُّ رحالٌ | للمنايا على صعيدِ الفَنَاءِ |
هاهنا تُذْبَحُ الذراري فَتَرْوَى | تُرْبَةُ الأرضِ من سُيُولِ الدِّمَاءِ |
هاهنا تُقْتَلُ الرِّجَالُ وَتُسْبَى | بَعْدَ قَتْلِ الرجالِ خيرُ نساءِ |
هاهنا تُحْرَقُ الخيامُ فَتَأْوي | من خِبَاء مذعورةً لخباءِ |
هاهنا تُنْهَبُ الملاحفُ منها | وتُعَرَّى من الحلي في العَرَاءِ |
هاهنا يُلْهِبُ الظما كلَّ قلب | يتلظَّى وَقْداً لبردِ الرواءِ |
فتموتُ الأطفالُ وهي عُطاشى | والأواني تَجُفُّ من كلِّ مَاءِ |
ويُجَرُّ العليلُ من فوقِ نُطْع | سحبوه بغلظة وجَفَاءِ |
وتشالُ الرؤوسُ فوقَ عوال | وتُعَافُ الأجسامُ في الرمضاءِ |
وصفايا الزهراءِ تُحْمَلُ أسرى | فوق نُوْق عُجْف بغيرِ وِطَاءِ |
يومَ عاشورَ أنت يومٌ أريعوا | بك آلُ الرسولِ في كربلاءِ(1) |
المجلس الثالث ، من اليوم الخامس
مرور أمير المؤمنين(عليه السلام) بكربلاء
وبكاؤه على الحسين(عليه السلام)
جاء في بعض زيارات أئمة أهل البيت(عليهم السلام) : يا مواليَّ ، فلو عاينكم المصطفى ، وسهام الأمة معرقة في أكبادكم ، ورماحهم مشرعة في نحوركم ، وسيوفها مولغة في دمائكم ، يشفي أبناء العواهر غليل الفسق من ورعكم ، وغيظ
____________
1- ملحمة أهل البيت(عليهم السلام) ، الفرطوسي : 3/274 ـ 275 .
الكفر من إيمانكم ، وأنتم بين صريع في المحراب قد فلق السيف هامته ، وشهيد فوق الجنازة قد شُكَّت بالسهام أكفانه ، وقتيل بالعراء قد رفع فوق القناة رأسه ، ومكبَّل في السجن رُضَّت بالحديد أعضاؤه ، ومسموم قد قطِّعت بجرع السمِّ أمعاؤه ، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون ، ولا حوله ولا قوّة إلاَّ بالله العليِّ العظيم ، ولله درّ الشيخ عبدالحسين الحياوي إذ يقول :
يعزُّ على الطهرِ البتولِ بأن ترى | عزيزاً لها ملقىً وأكفانُهُ العَفْرُ |
يعزُّ عليها أَنْ تراه محرَّماً | عليه فُرَاتُ الماءِ وهو لها مَهْرُ |
يعزُّ على المختارِ أن سليلَهُ | يُرَضُّ بعتب العادياتِ له صَدْرُ |
فَلاَ صبرَ محمودٌ بقتلِ ابنِ فاطم | وليس لمن لم يجرِ مَدْمَعُهُ عُذْرُ(1) |
روى الشيخ الصدوق عليه الرحمة عن ابن عباس قال : كنت مع أمير المؤمنين(عليه السلام) في خرجته إلى صفين ، فلمَّا نزل بنينوى وهو بشط الفرات قال بأعلى صوته : يا ابن عباس ، أتعرف هذا الموضع؟ قلت له : ما أعرفه يا أمير المؤمنين ، فقال(عليه السلام) : لو عرفته كمعرفتي لم تكن تجوزه حتى تبكي كبكائي .
قال : فبكى طويلا حتى اخضلّت لحيته ، وسالت الدموع على صدره ، وبكينا معاً وهو يقول : أوه أوه ، مالي ولآل أبي سفيان؟ مالي ولآل حرب حزب الشيطان وأولياء الكفر؟ صبراً يا أبا عبدالله ، فقد لقي أبوك مثل الذي تلقى منهم .
ثمَّ دعا بماء فتوضَّأ وضوء الصلاة ، فصلَّى ما شاء الله أن يصلي ، ثمَّ ذكر نحو كلامه الأول إلاَّ أنه نعس عند انقضاء صلاته وكلامه ساعة ، ثمَّ انتبه فقال : يا ابن عباس ، فقلت : ها أنا ذا ، فقال : ألا أحدِّثك بما رأيت في منامي آنفاً عند رقدتي؟ فقلت : نامت عيناك ورأيت خيراً يا أمير المؤمنين .
قال : رأيت كأني برجال قد نزلوا من السماء ، معهم أعلام بيض ، قد تقلَّدوا
____________
1- مثير الأحزان ، الجواهري : 146 .
سيوفهم وهي بيض تلمع ، وقد خطّوا حول هذه الأرض خطّة ، ثم رأيت كأن هذه النخيل قد ضربت بأغصانها الأرض تضطرب بدم عبيط ، وكأني بالحسين سخلي وفرخي ومضغتي ومخي قد غرق فيه ، يستغيث فيه فلا يغاث ، وكأن الرجال البيض قد نزلوا من السماء ، ينادونه ويقولون : صبراً آل الرسول ، فإنكم تُقتلون على أيدي شرار الناس ، وهذه الجنة ـ يا أبا عبدالله ـ إليك مشتاقة ، ثم يُعزّونني ويقولون : يا أبا الحسن أبشر ، فقد أقرَّ الله به عينك يوم يقوم الناس لربِّ العالمين .
ثمَّ انتبهت هكذا ، والذي نفس عليٍّ بيده ، لقد حدَّثني الصادق المصدَّق أبو القاسم(صلى الله عليه وآله) أني سأراها في خروجي إلى أهل البغي علينا ، وهذه أرض كرب وبلاء ، يُدفن فيها الحسين(عليه السلام) وسبعة عشر رجلا من ولدي وولد فاطمة (عليها السلام) ، وإنها لفي السماوات معروفة ، تذكر أرض كرب وبلاء ، كما تذكر بقعة الحرمين ، وبقعة بيت المقدس .
ثمَّ قال لي : يا ابن عباس ، اطلب في حولها بعر الظباء ، فوالله ما كذبت ولا كُذبت ، وهي مصفرَّة ، لونها لون الزعفران ، قال ابن عباس : فطلبتها فوجدتها مجتمعة ، فناديته : يا أمير المؤمنين ، قد أصبتها على الصفة التي وصفتها لي ، فقال علي(عليه السلام) : صدق الله ورسوله (صلى الله عليه وآله) .
ثم قام(عليه السلام) يهرول إليها فحملها وشمَّها ، وقال : هي هي بعينها ، أتعلم يا ابن عباس ما هذه الأبعار؟ هذه قد شمَّها عيسى بن مريم ، وذلك أنه مرَّ بها ومعه الحواريون ، فرأى ههنا الظباء مجتمعة وهي تبكي ، فجلس عيسى وجلس الحواريون معه ، فبكى وبكى الحواريون ، وهم لا يدرون لم جلس ولم بكى . فقالوا : يا روح الله وكلمته ، ما يبكيك؟ قال : أتعلمون أيَّ أرض هذه؟ قالوا : لا ، قال : هذه أرض يُقتل فيها فرخ الرسول أحمد(صلى الله عليه وآله) ، وفرخ الحرَّة الطاهرة البتول شبيهة أمي ، ويُلحد فيها ، طينة أطيب من المسك لأنها طينة الفرخ المستشهد ،
وهكذا يكون طينة الأنبياء وأولاد الأنبياء ، فهذه الظباء تكلِّمني وتقول : إنها ترعى في هذه الأض شوقاً إلى تربة الفرخ المبارك ، وزعمت أنها آمنة في هذه الأرض ، ثمَّ ضرب بيده إلى هذه الصيران فشمَّها وقال : هذه بعر الظباء على هذه الطيب لمكان حشيشها ، اللهم فأبقها أبداً حتى يشمَّها أبوه فيكون له عزاء وسلوة .
قال : فبيقت إلى يوم الناس هذا ، وقد اصفرَّت لطول زمانها ، وهذه أرض كرب وبلاء ، ثم قال بأعلى صوته : يا ربّ عيسى بن مريم! لا تبارك في قتلته ، والمعين عليه ، والخاذل له .
ثمَّ بكى بكاء طويلا وبكينا معه حتى سقط لوجهه وغشي عليه طويلا ، ثم أفاق فأخذ البعر فصَّره في ردائه ، وأمرني أن أصرَّها كذلك ، ثم قال : يا ابن عباس ، إذا رأيتها تنفجر دماً عبيطاً ، ويسيل منها دم عبيط ، فاعلم أن أبا عبدالله قد قتل بها ، ودفن .
قال ابن عباس : فوالله لقد كنت أحفظها أشدَّ من حفظي لبعض ما افترض الله عزَّ وجلَّ عليَّ ، وأنا لا أحلّها من طرف كمّي ، فبينما أنا نائم في البيت إذ انتبهت فإذا هي تسيل دماً عبيطاً ، وكان كمي قد امتلأ دماً عبيطاً ، فجلست وأنا باك وقلت : قد قتل والله الحسين ، والله ما كذبني عليٌّ قط في حديث حدَّثني ، ولا أخبرني بشيء قط أنه يكون إلاَّ كان كذلك; لأن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يخبره بأشياء لا يخبر بها غيره ، ففزعت وخرجت وذلك عند الفجر ، فرأيت والله المدينة كأنها ضباب لا يستبين منها أثر عين ، ثمَّ طلعت الشمس ورأيت كأنها منكسفة ، ورأيت كأن حيطان المدينة عليها دم عبيط ، فجلست وأنا باك فقلت : قد قُتل والله الحسين (عليه السلام) ، وسمعت صوتاً من ناحية البيت وهو يقول :
اصبروا آل الرسول | قُتل الفرخ النحول |
نزل الروح الأمين | ببكاء وعويل |
ثم بكى بأعلى صوته وبكيت ، فأثبتُّ عندي تلك الساعة ، وكان شهر المحرم يوم عاشورا لعشر مضين منه ، فوجدته قتل يوم ورد علينا خبره وتاريخه كذلك ، فحدَّثت هذا الحديث أولئك الذين كانوا معه ، فقالوا : والله لقد سمعنا ما سمعت ونحن في المعركة ولا ندري ما هو ، فكنا نرى أنه الخضر(عليه السلام)(1) .
وعن جرداء بنت سمين ، عن زوجها هرثمة بن أبي مسلم ، قال : غزونا مع علي بن أبي طالب(عليه السلام) صفين ، فلمَّا انصرفنا نزل بكربلا فصلَّى بها الغداة ، ثم رفع إليه من تربتها فشمَّها ، ثم قال : واهاً لك أيتها التربة ، ليحشرنَّ منك أقوام يدخلون الجنة بغير حساب .
فرجع هرثمة إلى زوجته ـ وكانت شيعة لعلي(عليه السلام) ـ فقال : ألا أحدِّثك عن وليِّك أبي الحسن؟ نزل بكربلا فصلَّى ، ثم رفع إليه من تربتها فقال : واهاً لك أيتها التربة ، ليحشرنَّ منك أقوام يدخلون الجنة بغير حساب ، قال : أيها الرجل ، فإن أمير المؤمنين(عليه السلام) لم يقل إلاّ حقاً .
فلما قدم الحسين(عليه السلام) قال هرثمة : كنت في البعث الذين بعثهم عبيدالله بن زياد لعنهم الله ، فلمَّا رأيت المنزل والشجر ذكرت الحديث ، فجلست على بعيري ، ثمَّ صرت إلى الحسين(عليه السلام) فسلَّمت عليه ، وأخبرته بما سمعت من أبيه في ذلك المنزل الذي نزل به الحسين ، فقال : معنا أنت أم علينا؟ فقلت : لا معك ولا عليك ، خلَّفت صبية أخاف عليهم عبيدالله بن زياد ، قال : فامض حيث لا ترى لنا مقتلا ، ولا تسمع لنا صوتاً ، فوالذي نفس حسين بيده لا يسمع اليوم واعيتنا أحد فلا يعيننا إلاَّ كبَّه الله لوجهه في نار جهنم(2) .
وعن القداح ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه(عليهما السلام) قال : مرَّ علي بكربلاء ، في
____________
1- بحار الأنوار ، المجلسي : 44/252 ح 2 عن الأمالي للصدوق : 694 ـ 696 ح 5 . 2- بحار الأنوار ، المجلسي : 44/255 ح 4 عن الأمالي للصدوق : 199 ح 7 .
اثنين من أصحابه ، قال : فلمّا مرَّ بها ترقرقت عيناه للبكاء ، ثمَّ قال : هذا مناخ ركابهم ، وهذا ملقى رحالهم ، وههنا تهراق دماؤهم ، طوبى لك من تربة عليك تهراق دماء الأحبة(1) .
ولله درّ ابن العرندس عليه الرحمة إذ يقول :
فَيَا ساكني أرضِ الطفوفِ عليكُمُ | سَلاَمُ محبٍّ ماله عنكُمُ صَبْرُ |
نشرْتُ دواوينَ الثَّنَا بَعْدَ طَيِّها | وفي كلِّ طرس من مديحي لكم سَطْرُ |
فطابق شعري فيكُمُ دَمْعُ ناظري | فَمُبْيَضُّ ذا نَظْمٌ ومُحْمَرُّ ذا نَثْرُ |
فَلاَ تتهموني بالسلوِّ فإنّما | مواعيدُ سلواني وحقِّكُمُ الحشرُ |
فذلّي بكم عزٌّ وفقري بكم غِنىً | وعُسْري بكم يُسْرٌ وكسري بكم جَبْرُ |
ترقُّ بروقُ السُّحْبِ لي من ديارِكم | فينهلُّ من دمعي لِبَارِقِها الْقَطْرُ |
فعينايَ كالخنساءِ تجري دموعُها | وقلبي شديدٌ في محبَّتِكم صَخْرُ |
وَقَفْتُ على الدارِ التي كنتُمُ بها | فَمَغْناكُمُ من بَعْدِ معناكُمُ قَفْرُ |
وقد دَرَسَتْ منها الدروسُ وطالما | بها دُرِسَ العلمُ الإلهيُّ والذِّكْرُ |
وسالت عليها من دموعي سَحَائِبٌ | إلى أن تروَّى البانُ بالدمعِ والسِّدْرُ |
فَرَاقَ فِرَاقُ الروحِ لي بَعْدَ بُعْدِكم | وَدَارَ بِرَسْمِ الدارِ في خاطري الفكرُ |
وقد أقلعت عنها السحابُ ولم تَجُدْ | ولا درَّ من بَعْدِ الحسينِ لها دَرُّ |
إمامُ الهدى سِبْطُ النبوَّةِ وَالِدُ الـ | أئمةِ ربُّ النهيِ مولىً له الأمرُ(2) |
____________
1- بحار الأنوار ، المجلسي : 44/258 ح 8 . 2- الغدير ، الأميني : 7/14 .
المجلس الرابع ، من اليوم الخامس
ما جاء في قبر الإمام الحسين (عليه السلام) وأرض كربلاء
روي عن عمرو بن ثابت ، عن أبيه ، عن أبي جعفر(عليه السلام) قال : خلق الله تبارك وتعالى أرض كربلاء قبل أن يخلق الكعبة بأربعة وعشرين ألف عام ، وقدَّسها وبارك عليها ، فما زالت قبل خلق الله الخلق مقدَّسة مباركة ، ولا تزال كذلك حتى يجعلها الله أفضل أرض في الجنة ، وأفضل منزل ومسكن يسكن الله فيه أولياءه في الجنة(1) .
وعن أبي الجارود قال : قال علي بن الحسين(عليه السلام) : اتّخذ الله أرض كربلاء حرماً آمناً مباركاً قبل أن يخلق الله أرض الكعبة ويتّخذها حرماً بأربعة وعشرين ألف عام ، وإنه إذا زلزل الله تبارك وتعالى الأرض وسيَّرها رفعت كما هي بتربتها نورانية صافية ، فجعلت في أفضل روضة من رياض الجنة ، وأفضل مسكن في الجنة ، لا يسكنها إلاّ النبيون والمرسلون ، أو قال : أولو العزم من الرسل ، فإنها لتزهر بين رياض الجنة كما يزهر الكوكب الدريّ بين الكواكب لأهل الأرض ، يغشي نورها أبصار أهل الجنة جميعاً ، وهي تنادي : أنا أرض الله المقدَّسة الطيِّبة المباركة ، التي تضمَّنت سيِّد الشهداء وسيِّد شباب أهل الجنة(2) .
قال : وروي قال أبو جعفر(عليه السلام) : الغاضرية هي البقعة التي كلَّم الله فيها موسى بن عمران ، وناجى نوحاً فيها ، وهي أكرم أرض الله عليه ، ولولا ذلك ما
____________
1- كامل الزيارات ، ابن قولويه : 450 ، وعنه بحار الأنوار ، المجلسي : 98/107 ح 5 . 2- بحار الأنوار ، المجلسي : 98/108 ح 10 عن كامل الزيارات : 451 ح 5 .
استودع الله فيها أولياءه وأبناء نبيه ، فزوروا قبورنا بالغاضرية(1) .
وعن حماد بن أيوب ، عن أبي عبدالله ، عن أبيه ، عن آبائه ، عن أمير المؤمنين(عليهم السلام) قال : قال رسول الله(صلى الله عليه وآله) : يقبر ابني في أرض يقال لها كربلاء ، هي البقعة التي كانت فيها قبة الإسلام ، التي نجَّى الله عليها المؤمنين الذين آمنوا مع نوح في الطوفان(2) .
وعن الفضل بن يحيى ، عن أبيه ، عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال : زوروا كربلاء ، ولا تقطعوه ، فإن خير أولاد الأنبياء ضمنته ، ألا وإن الملائكة زارت كربلاء ألف عام من قبل أن يسكنه جدي الحسين(عليه السلام) ، وما من ليلة تمضي إلاّ وجبرئيل وميكائيل يزورانه ، فاجتهد ـ يا يحيى ـ أن لا تُفقد من ذلك الموطن .
وعن إسحاق بن عمار قال : سمعت أبا عبدالله(عليه السلام) يقول : إن لموضع قبر الحسين بن علي(عليهما السلام) حرمة معلومة ، من عرفها واستجار بها أُجير ، قلت : فصف لي موضعها جعلت فداك ، قال : امسح من موضع قبره اليوم ، فامسح خمسة وعشرين ذراعاً من ناحيةِ رجليه ، وخمسة وعشرين ذراعاً من خلفه ، وخمسة وعشرين ذراعاً مما يلي وجهه ، وخمسة وعشرين ذراعاً من ناحية رأسه ، وموضع قبره منذ يوم دفن روضة من رياض الجنة ، ومنه معراج يعرج فيه بأعمال زوّاره إلى السماء ، فليس ملك ولا نبيٌّ في السموات إلاَّ وهم يسألون الله أن يأذن لهم في زيارة قبر الحسين(عليه السلام) ففوج ينزل وفوج يعرج . وفي رواية قال (عليه السلام) : موضع قبر الحسين ترعة من ترع الجنة(3) .
وعن منصور بن العباس يرفعه إلى أبي عبدالله(عليه السلام) قال : حريم قبر
____________
1- بحار الأنوار ، المجلسي : 98/108 ـ 109 ح 13 . 2- كامل الزيارات ، ابن قولويه : 452 ح 7 و9 ، بحار الأنوار ، المجلسي : 98/108 . 3- بحار الأنوار ، الملجسي : 98/108 ـ 111 عن كامل الزيارات .
الحسين(عليه السلام) خمس فراسخ من أربعة جوانب القبر(1) .
وعن أبي هاشم الجعفري قال : دخلت على أبي الحسن علي بن محمد(عليه السلام)وهو محموم عليل فقال لي : يا أبا هاشم ، ابعث رجلا من موالينا إلى الحير(2) يدعو الله لي ، فخرجت من عنده فاستقبلني علي بن بلال ، فأعلمته ما قال لي وسألته أن يكون الرجل الذي يخرج ، فقال : السمع والطاعة ، ولكنني أقول : إنه أفضل من الحير إذا كان بمنزلة من في الحير ، ودعاؤه لنفسه أفضل من دعائي له بالحير ، فأعلمته صلوات الله عليه ما قال ، فقال لي : قل له : كان رسول الله(صلى الله عليه وآله) أفضل من البيت والحجر ، وكان يطوف بالبيت ويستلم الحجر ، وإن لله تبارك وتعالى بقاعاً يحبّ أن يدعى فيها فيستجيب لمن دعاه ، والحير منها(3) .
وفي رواية قال(عليه السلام) : ألا قلت له : إن رسول الله(صلى الله عليه وآله) كان يطوف بالبيت ويقبّل الحجر ، وحرمة النبي(صلى الله عليه وآله) والمؤمن أعظم من حرمة البيت ، وأمره الله أن يقف بعرفة ، إنما هي مواطن يحبّ الله أن يُذكر فيها ، فأنا أحبّ أن يُدعى لي حيث يُحبّ الله أن يُدعى فيها ، والحير من تلك المواضع(4) .
وفي لفظ ثالث عن أبي هاشم الجعفري قال : دخلت أنا ومحمد بن حمزة عليه نعوده وهو عليل ، فقال لنا : وجّهوا قوماً إلى الحير من مالي ، فلمّا خرجنا من عنده قال لي محمد بن حمزة : المشير يوجِّهنا إلى الحير وهو بمنزلة من في الحير ، قال : فعدت إليه فأخبرته ، فقال لي : ليس هو هكذا ، إن لله مواضع يحب أن يعبد فيها ، وحائر الحسين(عليه السلام) من تلك المواضع .
وروي عن الإمام الرضا ، عن آبائه(عليهم السلام) قال : قال علي بن الحسين(عليهما السلام) :
____________
1- بحار الأنوار ، المجلسي : 98/111 ح 27 عن كامل الزيارات . 2- يعني قبر الحسين (عليه السلام) وسمي بالحائر الحسيني لأن الماء حار حوله لما اُجرى بأمر المتوكل العباسي . 3- بحار الأنوار ، المجلسي 98/113 ح 34 . 4- بحار الأنوار ، المجلسي : 98/112 ـ 113 ح 32 و 33 و 36 .
كأني بالقصور وقد شيدت حول قبر الحسين(عليه السلام) ، وكأني بالأسواق قد حفّت حول قبره ، فلا تذهب الأيام والليالي حتى يسار إليه من الآفاق ، وذلك عند انقطاع ملك بني مروان .
ولله درّ الحجّة الشيخ فرج العمران عليه الرحمة إذ يقول :
قُبّةٌ كان زينةُ العرشِ فيها | بل هو العرشُ لا الذي في سماها |
كان فيها الحسينُ ربُّ المعالي | وارثُ العلم مِن لَدُنْ أنبياها |
هو مَنْ كانت الأئمَّةُ منه | وَهُمُ سادةُ الورى شُفَعَاها |
فعليه ربُّ السماواتِ صلَّى | صلاةً لا منتهى لمداها(1) |
وعن هشام بن سالم ، عن أبي عبدالله(عليه السلام) في حديث طويل قال : قلت له : فما لمن أقام عنده ـ يعني الحسين(عليه السلام)؟ قال : كل يوم بألف شهر ، قال : فما للمنفق في خروجه إليه والمنفق عنده؟ قال : درهم بألف درهم(2) .
وعن قدامة بن زائدة ، عن أبيه ، عن علي بن الحسين(عليه السلام) ، عن زينب بنت علي(عليه السلام) ، عن أم أيمن ، قالت في حديث طويل عن النبي(صلى الله عليه وآله) قال : أتى جبرئيل فأومى إلى الحسين(عليه السلام) وقال : إن سبطك هذا مقتول في عصابة من ذريتك وأهل بيتك وأخيار من أمتك ، بضفة الفرات ، بأرض تُدعى كربلاء ، من أجلها يكثر الكرب والبلاء على أعدائك وأعداء ذرّيّتك في اليوم الذي لا ينقضي كربه ولا تُفنى حسرته ، وهي أطهر بقاع الأرض وأعظمها حرمة ، وإنها لمن بطحاء الجنة .
وروى محمد بن سنان ، عمّن حدثه ، عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال : خرج أمير المؤمنين(عليه السلام) يسير بالناس ، حتى إذا كان من كربلاء على مسيرة ميل أو ميلين فتقدَّم بين أيديهم حتى إذا صار بمصارع الشهداء قال : قُبض فيها مائتا نبي ، ومائتا
____________
1- شعراء القطيف ، الشيخ علي المرهون : 2/29 . 2- بحار الأنوار ، المجلسي : 98/114 ح 37 و 38 .
وصي ، ومائتا سبط ، شهداء بأتباعهم ، فطاف بها على بغلته خارجاً رجليه من الركاب ، وأنشأ يقول : مناخ ركاب ومصارع شهداء ، لا يسبقهم من كان قبلهم ، ولا يلحقهم من كان بعدهم(1) .
وعن عبدالله بن سنان قال : سمعت أبا عبدالله(عليه السلام) يقول : قبر الحسين بن علي(عليه السلام) عشرون ذراعاً في عشرين ذراعاً مكسّراً ، روضة من رياض الجنة ، منه معراج إلى السماء ، فليس من ملك مقرَّب ولا نبيٍّ مرسل إلاَّ وهو يسأل الله أن يزوره ، وفوج يهبط وفوج يصعد(2) .
وعن أبي الجارود قال : قال لي أبو جعفر(عليه السلام) : كم بينك وبين قبر أبي عبدالله(عليه السلام)؟ قال : قلت : يوم وشيء فقال له : لو كان منا على مثل الذي هو منكم لا تخذناه هجرة(3) . ولله درّ الشاعر إذ يقول :
إذا شئتَ النجاة فزر حسيناً | لكي تلقى الإلهَ قريرَ عينِ |
فإن النارَ ليس تمسُّ جسماً | عليه غُبارُ زوَّارِ الحسينِ |
ومما جاء في فضل زيارة الحسين(عليه السلام) ما روي عن الإمام الرضا ، عن أبيه(عليهما السلام) قال : سئل الصادق(عليه السلام) عن زيارة قبر الحسين(عليه السلام) فقال : أخبرني أبي(عليه السلام) أن من زار قبر الحسين(عليه السلام) عارفاً بحقه كتبه الله في عليين ، ثم قال : إن حول قبر الحسين(عليه السلام) سبعين ألف ملك شعثاً غبراً ، يبكون عليه إلى يوم القيامة(4) .
وروى ابن قولويه عليه الرحمة عن الحسين بن ثوير بن أبي فاختة قال : قال أبو عبدالله(عليه السلام) : يا حسين ، من خرج من منزله يريد زيارة قبر الحسين بن علي(عليه السلام)إن كان ماشياً كتب له بكل خطوة حسنة ، ومحي عنه سيئة ، حتى إذا صار
____________
1- بحار الأنوار ، المجلسي : 98/116 ح 42 و 44 . 2- بحار الأنوار ، المجلسي : 98/106 ح 1 . 3- بحار الأنوار ، المجلسي : 98/115 ح 39 . 4- بحار الأنوار ، المجلسي : 89/69 ح 1 .