قالوا ادَّخَرْتَ لدارِك الأخرى زا | داً فقلتُ دَخَرْتُ لي ذُخْراً |
قَالُوا فَهَلْ يَكْفِيكَ قلتُ بلى | واللهِ بَلْ يكفي الوَرَى طرّا |
قالوا فَمَاذَا الزَّادُ قلتُ لهم | إنّي اذَّخَرْتُ محبَّةَ الزهرا(1) |
المجلس الأول ، من اليوم الثامن
القاسم (عليه السلام) ونصرته للحسين(عليه السلام) ومصرعه
جاء في الزيارة الناحية الشريفة مخاطبا لسيد الشهداء (عليه السلام) : ثمَّ اقتضاك العلمُ للإنكارِ ، ولَزِمَك أن تجاهدَ الفجَّار ، فَسِرتَ في أولادِك وأهاليك ، وشيعتِك وَمَواليك ، وصَدَعْتَ بالحقِّ والبيّنةِ ، ودعوتَ إلى الله بِالحكمةِ والموعظةِ الحسنةِ ، وأمرتَ بإقامةِ الحدودِ ، والطاعةِ للمعبودِ ، ونهيتَ عن الخبائثِ والطُّغيَانِ ، وواجهوك بالظُّلْمِ والعُدوان ، فجاهدتَهُم بَعدَ الإيعاظِ لهم ، وتأكيدِ الحُجَّةِ عليهم ، فنكثوا ذِمَامَك وبيعتَكَ ، وأسخطوا ربَّك وجدَّك ، وبدؤوك بالحرب ، فثبتَّ للطَّعنِ والضربِ ، وطحنتَ جُنُودَ الفُجَّارِ ، واقتحمت قَسْطَلَ الغُبَارِ ، مجالداً بذي الفَقَارِ ، كأنَّك عليُّ المختار .
فلما رأوك ثابتَ الجَأشِ ، غيرَِ خائف ولا خَاش ، نصبوا لك غَوائِلَ مَكْرِهم ، وقاتلوك بكيدِهم وشرِّهم ، وأمر اللعينُ جُنودَه ، فمنعوك الماءَ وَورودَهُ ، وناجزوك القِتالَ ، وعاجلوك النِّزَالَ ، ورشقوك بالسِّهامِ والنِّبالِ ، وبسطوا إليك أَكُفَّ الاصطلام ، ولم يرعوا لك ذِمَاماً ، ولا راقبوا فيك آثاماً ، في قَتلِهم أولياءَكَ ، وَنَهبِهِم رحَالَكَ ، أنت مُقدِمٌ في الهَبواتِ ، ومُحتمِلٌ للأذيَّاتِ ، وقد عَجِبَتْ من صَبرِك ملائكةُ السماواتِ ، وأحدقوا بك من كلِّ الجهاتِ ، وأثخنوك بالجراحِ ، وحالوا بينك وبين
____________
1- الروض الأنيق ، الشيخ فرج العمران : 35 ـ 36 .
الرَّوَاحِ ، ولم يبق لك ناصرٌ ، وأنت محتسِبٌ صابرٌ ، تذبُّ عن نِسْوتِكَ وأولادِكَ(1) .
روى أبو حمزة الثمالي ، قال : سمعت علي بن الحسين زين العابدين(عليه السلام) يقول : لما كان اليوم الذي استشهد فيه أبي(عليه السلام) جمع أهله وأصحابه في ليلة ذلك اليوم ، فقال لهم : يا أهلي وشيعتي ، اتخذوا هذا الليل جملا لكم ، فانهجوا بأنفسكم ، فليس المطلوب غيري ، ولو قتلوني ما فكّروا فيكم ، فانجوا رحمكم الله ، فأنتم في حلّ وسعة من بيعتي وعهدي الذي عاهدتموني .
فقال إخوته وأهله وأنصاره بلسان واحد : والله يا سيّدنا يا أبا عبدالله ، لاخذلناك أبداً ، والله لا قال الناس : تركوا إمامهم وكبيرهم وسيِّدهم وحده حتى قُتل ، ونبلوا بيننا وبين الله عذراً ، ولا نخلّيك أو نُقتل دونك ، فقال لهم(عليه السلام) : يا قوم ، إني في غد أُقتل وتُقتلون كلكم معي ، ولا يبقى منكم واحد . فقالوا : الحمد لله الذي أكرمنا بنصرك ، وشرَّفنا بالقتل معك ، أو لا نرضى أن نكون معك في درجتك يابن رسول الله؟ فقال : جزاكم الله خيراً ، ودعا لهم بخير ، فأصبح وقُتل وقُتلوا معه أجمعون .
فقال له القاسم بن الحسن(عليه السلام) : وأنا فيمن يقتل؟ فأشفق عليه ، فقال له : يا بنيّ ، كيف الموت عندك؟ قال : يا عمّ أحلى من العسل ، فقال : إي والله فداك عمُّك ، إنك لأحد من يُقتل من الرجال معي ، بعد أن تبلو ببلاء عظيم ، وابني عبدالله .
فقال : يا عم ، ويصلون إلى النساء حتى يُقتل عبدالله وهو رضيع؟ فقال : فداك عمّك ، يُقتل عبدالله إذا جفَّت روحي عطشاً ، وصرت إلى خيمنا فطلبت ماء ولبناً فلا أجد قط ، فأقول : ناولوني ابني لأشرب من فيه ، فيأتوني به ، فيضعونه على يدي ، فأحمله لأدنيه من فيَّ ، فيرميه فاسق ـ لعنه الله ـ بسهم فينحره ، وهو يناغي ، فيفيض دمه في كفي ، فأرفعه إلى السماء ، وأقول : اللهم صبراً واحتساباً
____________
1- المزار ، المشهدي : 503 ـ 504 .
فيك ، فتعجلني الأسنة منهم ، والنار تستعر في الخندق الذي فيه ظهر الخيم ، فأكرُّ عليهم في أمرّ أوقات في الدنيا ، فيكون ما يريد الله ، فبكى وبكينا ، وارتفع البكاء والصراخ من ذراري رسول الله(صلى الله عليه وآله) في الخيم ، ويسأل زهير بن القين ، وحبيب بن مظاهر عنّي ، فيقولون : يا سيّدنا ، فسيِّدنا عليٌّ(عليه السلام) ـ فيشيرون إليَّ ـ ماذا يكون من حاله؟ فأقول مستعبراً : ما كان الله ليقطع نسلي من الدنيا ، فكيف يصلون إليه وهو أب ثمانية أئمة(عليهم السلام)(1) .
ويقول الحاج أحمد العوى رحمه الله تعالى في شبل الإمام الحسن(عليه السلام) :
يا للشبابِ ذَوَتْ منه نَضَارَتُهُ | وغاض مَاءُ الصِّبَا من وَجْهِهِ النَّضِرِ |
وَشُعْلَةٌ من لهيبِ الحقِّ قد طُفِئَتْ | بِعَرْصَةِ الطفِّ بين البيضِ والسُّمُرِ |
له من الحسن الزاكي شَمَائِلُهُ | فإنَّه ابنُ عليٍّ خيرةِ الخِيَرِ |
أصابه الغَادِرُ الأَزْدِي بِضَرْبَتِهِ | فَخَرَّ منعفراً أَفديه من قَمَرِ |
للهِ قَلْبُ حُسَيْن حين عَايَنَهُ | يجودُ بالنفسِ في حَرِّ الثرى الوَعِرِ(2) |
روى الشيخ الطريحي عليه الرحمة في المنتخب ، قال : روي أنه لما آل أمر الحسين(عليه السلام) إلى القتال بكربلاء ، وقتل جميع أصحابه ، ووقعت النوبة على أولاد أخيه الحسن(عليه السلام) ، جاء القاسم بن الحسن(عليهما السلام) وقال : يا عمّ ، الإجازة لأمضي إلى هؤلاء الكفار ، فقال له الحسين(عليه السلام) : يابن أخي ، أنت من أخي علامة ، وأريد أن تبقى لي لأتسلَّى بك ، ولم يعطه إجازة للبراز ، فجلس مهموماً مغموماً ، باكي العين ، حزين القلب ، وأجاز الحسين(عليه السلام) إخوته للبراز ولم يجزه ، فجلس القاسم متألماً ، ووضع رأسه على رجليه ، وذكر أن أباه قد ربط له عوذة في كتفه الأيمن ، وقال له : إذا أصابك ألم وهمّ فعليك بحلّ العوذة وقراءتها ، فافهم معناها واعمل بكلِّ ما تراه
____________
1- مدينة المعاجز ، السيد هاشم البحراني : 4/215 ـ 216 ح 295 . 2- محرِّك الأشجان ، الحاج أحمد العوى : 55 .
مكتوباً فيها ، فقال القاسم لنفسه : مضى سنون عليَّ ولم يصبني مثل هذا الألم ، فحلَّ العوذة وفضَّها ونظر إلى كتابتها ، وإذا فيها : يا ولدي يا قاسم ، أوصيك أنك إذا رأيت عمَّك الحسين(عليه السلام) في كربلاء وقد أحاطت به الأعداء فلا تترك البراز والجهاد لأعداء الله وأعداء رسوله ، ولا تبخل عليه بروحك ، وكلَّما نهاك عن البراز عاوده ليأذن لك في البراز ، لتحظى في السعادة الأبدية .
فقام القاسم من ساعته وأتى إلى الحسين(عليه السلام) ، وعرض ما كتب أبوه الحسن(عليه السلام) على عمّه الحسين(عليه السلام) ، فلمَّا قرأ الحسين(عليه السلام) العوذة بكى بكاء شديداً وتنفَّس الصعداء ، وقال : يا ابن الأخ ، هذه الوصيّة لك من أبيك ، وعندي وصيّة أخرى منه لك ، ولابد من إنفاذها .
فمسك الحسين(عليه السلام) على يد القاسم وأدخله الخيمة ، وقال لأم القاسم(عليه السلام) : أليس للقاسم ثياب جدد؟ قالت : لا ، فقال لأخته زينب ، ائتيني بالصندوق ، فأتت به إليه ، ووضع بين يديه ، ففتحه وأخرج منه قباء الحسن(عليه السلام) وألبسه القاسم ، ولفَّ على رأسه عمامة الحسن(عليه السلام) .
إلى أن قال : فلمّا رأى الحسين(عليه السلام) أن القاسم يريد البراز قال له : يا ولدي ، أتمشي برجلك إلى الموت؟ قال : وكيف يا عمّ وأنت بين الأعداء وحيد فريد لم تجد محامياً ولا صديقاً؟ روحي لروحك الفداء ، ونفسي لنفسك الوقاء .
ثم إن الحسين(عليه السلام) شقَّ أزياق القاسم ، وقطع عمامته نصفين ، ثمَّ أدلاها على وجهه ، ثمَّ ألبسه ثيابه بصورة الكفن ، وشدَّ سيفه بوسط القاسم ، وأرسله إلى المعركة(1) وفي ذلك يقول الحجّة الشيخ علي الجشي عليه الرحمة :
أبُنَيَّ قَاسِمُ أنت صُبْحُ مَسَرَّتي | ومزيلُ همّي إنْ عَرَاني فَادِحُ |
قد كنتُ أرجو أن تكونَ عَلاَمةً | لي من أخي فَعَلاَمَ عنّي نَازَحُ |
____________
1- المنتخب للطريحي : 365 ـ 366 ، مدينة المعاجز ، السيد هاشم البحراني : 3/366 ح 93 .
جَدَّدْتَ فَقْدَ أخي فَنَارُ فِرَاقِهِ | في القَلْبِ كامنةٌ وفَقْدُك قَادِحُ |
قد كنتُ أرجو أَنْ تَزُفَّكَ هاشمٌ | في مَوْكِب منه يُسَاءُ الكاشحُ |
واليومَ بينَ الكاشحين مُزَمَّلا | بِدَم أَزُفُّكَ والنساءُ نَوَائِحُ(1) |
قال أبو الفرج ومحمد بن أبي طالب وغيرهما : ثم خرج القاسم بن الحسن(عليه السلام) ، وهو غلام صغير لم يبلغ الحلم ، فلمّا نظر الحسين(عليه السلام) إليه قد برز اعتنقه وجعلا يبكيان حتى غُشي عليهما ، ثم استأذن الحسين(عليه السلام) في المبارزة فأبى الحسين أن يأذن له ، فلم يزل الغلام يقبِّل يديه ورجليه حتى أذن له ، فخرج ودموعه تسيل على خديه وهو يقول :
إِنْ تنكروني فأَنَا ابنُ الحَسَنْ | سِبْطِ النبيِّ المصطفى والمُؤتَمَنْ |
هذا حسينٌ كالأسيرِ المُرْتَهَنْ | بين أُنَاس لا سقوا صَوْبَ المُزُنْ |
وكان وجهه كفلقة القمر ، فقاتل قتالا شديداً حتى قتل على صغره خمسة وثلاثين رجلا .
قال حميد : كنت في عسكر ابن سعد ، فكنت أنظر إلى هذا الغلام عليه قميص وإزار ونعلان قد انقطع شسع أحدهما ، ما أنسى أنها كانت اليسرى ، فقال عمرو بن سعد الأزدي : والله لأشدّن عليه ، فقلت : سبحان الله! وما تريد بذلك؟ والله لو ضربني ما بسطت إليه يدي ، يكفيه هؤلاء الذين تراهم قد احتوشوه ، قال : والله لأفعلنَّ ، فشدَّ عليه فما ولَّى حتى ضرب رأسه بالسيف ، ووقع الغلام لوجهه ، ونادى : يا عماه .
قال : فجاء الحسين (عليه السلام) كالصقر المنقضّ ، فتخلَّل الصفوف ، وشدَّ شدّة الليث الحرب ، فضرب عمراً قاتله بالسيف ، فاتّقاه بيده فأطنّها من المرفق ، فصاح ثم تنحَّى عنه ، وحملت خيل أهل الكوفة ليستنقذوا عمراً من الحسين (عليه السلام) ،
____________
1- الشواهد المنبرية ، الشيخ علي الجشي : 59 .
فاستقبلته بصدورها ، وجرحته بحوافرها ، ووطأته حتى مات .
فانجلت الغبرة فإذا بالحسين(عليه السلام) قائم على رأس الغلام ، وهو يفحص برجله ، فقال الحسين (عليه السلام) : يعزّ والله على عمك أن تدعوه فلا يجيبك ، أو يجيبك فلا يعينك ، أو يعينك فلا يغني عنك ، بعداً لقوم قتلوك ، ثمَّ احتمله ، فكأني أنظر إلى رجلي الغلام يخطّان في الأرض ، وقد وضع صدره على صدره ، فقلت في نفسي : ما يصنع؟ فجاء حتى ألقاه بين القتلى من أهل بيته .
ثم قال : اللهم أحصهم عدداً ، واقتلهم بدداً ، ولا تغادر منهم أحداً ، ولا تغفر لهم أبداً ، صبراً يا بني عمومتي ، صبراً يا أهل بيتي ، ولا رأيتم هواناً بعد هذا اليوم أبداً(1) .
وفي رواية عن حميد بن مسلم أيضاً قال : قال الحسين(عليه السلام) : بعداً لقوم قتلوك ، خصمهم فيك يوم القيامة رسول الله(صلى الله عليه وآله) ، ثمَّ قال : عزَّ على عمك أن تدعوه فلا يجيبك ، أو يجيبك ثم لا تنفعك إجابته ، يوم كثر واتره ، وقلَّ ناصره ، ثمَّ احتمله على صدره ، وكأني أنظر إلى رجلي الغلام تخطّان في الأرض حتى ألقاه مع ابنه علي ابن الحسين (عليه السلام) ، فسألت عن الغلام فقالوا : هو القاسم بن الحسن بن علي بن أبي طالب صلوات الله عليهم أجمعين(2) .
وروي عن الإمام الصادق(عليه السلام) أنه قال : كان الحسين بن علي(عليهما السلام) يضع قتلاه بعضهم على بعض ، ثم يقول : قتلانا قتلى النبيين وآل النبيين(3) .
ولله درّ الشيخ عبد الكريم الفرج رحمه الله تعالى إذ يقول :
واللهِ لا أنسى الحسينَ مُيَمِّماً | أَرْضَ العراقِ تحفُّه أطهارُها |
____________
1- بحار الأنوار ، المجلسي : 45/34 ـ 36 . 2- مقاتل الطالبيين ، أبو الفرج الإصفهاني : 58 . 3- الغيبة ، النعماني : 211 ، بحار الأنوار ، المجلسي : 80/45 ح 5 .
أقمارُ تَمٍّ من ذُؤَابةِ هَاشِم | سُبَّاقُ فَضْل للعلى مِضْمَارُها |
كالبدرِ قد حَاطَتْهُ هَالَةُ أَنْجُم | والشمسِ قَدْ حَفَّت بها أقمارُها |
هي كالأسودِ بل الأُسُودُ تَهَابُها | تخشى الأسودُ فأين منه نجارُها |
أفعالُها طَابَتْ فطاب أريجُها | وتعطَّرَتْ من عِطْرِه أقطارُها |
وَقَفُوا بيومِ الطفِّ أَكْرَمَ موقف | فيه عُيُونُ المجدِ قرَّ قرارُها |
قد أوضحوا طُرُقَ الشريعةِ فاغتدى | متجلِّياً للسالكين مَنَارُها |
خَطُّوا لأهلِ الحقِّ منهاجَ الإِبَا | وبُني بفعلِهِمُ لهم أسوارُها |
هَدَمُوا حُصُونَ البغي قسراً عندما | نهضوا فأمسى مُرْغَماً جَبَّارُها |
قد ذكَّروا أعداءَهم بدراً وما | فَتَكَتْ بِأُوْلاَهُمْ هُنَاكَ شِفَارُها |
سَدُّوا رِحَابَ الطفِّ من أشلائِهِمْ | والخيلُ صار على الجُسُومِ مَغَارُها |
لم يَبْرَحُوا الهيجاءَ حتى صُرِّعوا | فوقَ الرغامِ ووِسَادُهُمْ أحجارُها |
نفسي الفِدَاءُ لسبطِ أحمدَ مُفْرَداً | دارت عليه لدى الوغى فُجَّارُها |
أفديه فرداً لم يَجِدْ عوناً وقد | سُدَّتْ عليه من العداةِ قِفَارُها(1) |
المجلس الثاني ، من اليوم الثامن
الشهداء من أبناء الإمام الحسن الزكي(عليه السلام)
تحوطه من بني عدنان أغلمةٌ | بيض الوجوه كِرامٌ سادة رؤسا |
وكل ذي طلعة غراء مشرقة | من نور طلعته بدر السما اقتبسا |
يلقى السيوف بوجه شان طلعته | وقع السيوف ونحر بالقنا غرسا(2) |
____________
1- شعراء القطيف ، الشيخ علي المرهون : 256 ـ 257 . 2- المجالس السنية ، السيد محسن الأمين : 1/110 .
قال الشيخ المفيد عليه الرحمة في الإرشاد في عدد أولاد الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام) أنّهم : خمسة عشر ذكراً وأنثى : زيد بن الحسن ، وأختاه أم الحسن وأم الحسين ، أمهم أم بشير بنت أبي مسعود بن عقبة بن عمرو بن ثعلبة الخزرجيّة ، والحسن بن الحسن ، أمّه خولة بنت منظور الفزارية ، وعمرو بن الحسن وأخواه القاسم وعبدالله ابنا الحسن ، أمهم أم ولد ، وعبدالرحمن بن الحسن ، أمُّه أم ولد ، والحسين بن الحسن الملقَّب بالأثرم ، وأخوة طلحة بن الحسن ، وأختهما فاطمة بنت الحسن ، أمهم أم إسحاق بنت طلحة بن عبيدالله التيمي ، وأم عبدالله ، وفاطمة الصغرى ، وأم سلمة ، ورقية بنات الحسن ، لأمهات شتى(1) .
فأما عبد الرحمن فإنه خرج مع عمّه الحسين (عليه السلام) إلى الحجّ ، وتوفيِّ بالأبواء وهو محرم ، وأما الحسين بن الحسن المعروف بالأثرم كان له فضل وعبادة ، ولا بقية له ، وطلحة بن الحسن كان جواداً كثير العطاء والصدقات ، وأما عمرو بن الحسن فكان مع الحسين بكربلاء واستشهد .
وأمّا الحسن بن الحسن(عليه السلام) فإنه كان مع عمّه الحسين (عليه السلام) بكربلاء ، فجاهد معه جهاد الأسد الباسل ، وبالغ معه على احتمال الخطب النازل ، حتى أُثخن بالجراح ، وبقي ملقىً لم يكن به حراك ، إلى أن قُتل عمُّه الحسين ، وأتى أعداء الله للتجهيز على الجرحى ، فوجدوا الحسن بن الحسن ملقىً بين القتلى وبه نفس ، فأرادوا أن يجهزوا عليه ، فعرفه أسماء بن خارجة وكان بينه وبين خولة قرابة ، فمنعهم عنه ، وقال : والله لا أدعكم تُجهزون على ابن خولة أبداً .
وكانت أم الحسن بن الحسن (عليه السلام) خولة الفزارية ، أمّها مليكة أخت أسماء بن خارجة ، فقال عمر بن سعد : اتركوه لأبي حسّان ابن أخته ، فترك ، فأخذه أسماء بن خارجة وحمله إلى منزله ، فبقي يعالج جراحاته حتى برىء ورجع إلى المدينة .
____________
1- الإرشاد ، المفيد : 2/20 ، بحار الأنوار ، المجلسي : 44/163 .
وكان الحسن بن الحسن (عليه السلام) جليلا ، فاضلا ، ورعاً ، عالماً ، وكان يلي صدقات رسول الله(صلى الله عليه وآله) بإجازة علي بن الحسين زين العابدين(عليه السلام) وله مع الحجّاج خبر رواه الزبير بن بكار ، قال : وكان الحسن بن الحسن والياً على صدقات رسول الله(صلى الله عليه وآله) في عصره .
وروي أن الحسن بن الحسن خطب إلى عمّه الحسين (عليه السلام) إحدى ابنتيه ، فقال له الحسين (عليه السلام) : اختر أيهما شئت ، فاستحى الحسن ولم يردَّ جواباً ، فقال له الحسين : يا بنيّ ، إني اخترت لك ابنتي فاطمة ، فهي أكثر شبهاً بأمي فاطمة بنت محمد ، فزوَّجه بها ، وقبض الحسن بن الحسن وله خمس وثلاثون سنة ، ولما مات رحمه الله ضربت فاطمة بنت الحسين (عليه السلام) فسطاطاً تقرأ عنده القرآن ، وكانت تصوم النهار وتقوم الليل .
وأما زيد بن الحسن ، فإنه كان مع عمه الحسين بكربلاء ، وكان صغيراً لم يراهق ولم يقاتل ، وأخذ أسيراً مع الأسارى ، وسير به مع علي بن الحسين (عليهما السلام)وباقي الحرم والأطفال إلى الشام ، وأدخلوا على يزيد في أسوأ حال ومقام .
روي أنه كان ذات يوم جالساً بين يدي يزيد بن معاوية ، وكان ولده خالد جالساً معه ، فقال يزيد لزيد بن الحسن(عليه السلام) : أتصارع ابني خالداً؟ فقال : لا ، ولكن أعطه سكيناً وأعطني سكيناً وأقاتله ، فقال يزيد بن معاوية : شنشنة أعرفها من أخزم ، هل تلد الحيّة إلاَّ حية؟ يريد أن يقتل ابني بمحضري .
ثم إن زيد رجع إلى المدينة مع علي بن الحسين وحرم الحسين وأقام بها ، وكان زيد جليل القدر ، كريم الطبع ، ظريف النفس ، كثير البرّ ، وكان يتولَّى صدقات رسول الله(صلى الله عليه وآله) ، ومدحه الشعراء ، وقصده الناس من الآفاق لطلب فضله ، وأسنّ زيد حتى بلغ تسعين سنة(1) .
____________
1- وفيات الأئمة (عليهم السلام) ، مجموعة من علماء البحرين والقطيف : 131 ـ 132 .
وعبدالله بن الحسن كان مع عمّه الحسين(عليه السلام) ، وكان صغيراً لم يراهق ، ابن إحدى عشرة سنة ، فلمَّا فني أنصار الحسين(عليه السلام) وعزم على لقاء الأعداء بنفسه أتى مودِّعاً لنسائه ، فسمع عبدالله وداع عمّه الحسين (عليه السلام) والوصيَّة به ، فلمَّا خرج الحسين من الخيمة لحقه عبدالله فصاح الحسين بالنساء ، أمسكنه ، فخرجن النساء ليرددنه .
فقال : اتركوني ، فوالله لا فارق عمّي أو أموت دونه ، فانفلت من أيدي النساء ولحق عمَّه ، فرأى عبدُ الله مرَّةَ بن فضيل الأزدي وهو هاو إلى الحسين (عليه السلام) بسيفه ، فنادى : يا ابن الزانية ، أتقتل عمّي؟ فالتفت إليه مرة وضربه بسيفه ، فاتّقاها الغلام بيده فأطنَّها إلى الساعد ، فصاح عبدالله : يا عمَّاه أدركني ، فحلَّ عليه الحسين كما يحلّ الصقر على فريسته ، فأتاه وقتل مرة ، ثم وقف(عليه السلام) على الغلام وهو يفحص برجليه ، فقال : عزيز على عمك أن تدعوه فلا يجيبك ، أو يجيبك فلا ينفعك ، صوت كثر والله واتره وقلَّ ناصره ، ولكن هوَّن عليَّ ما نزل بي أنه بعين الله(1) .
وفي رواية الشيخ المفيد والسيد ابن طاووس عليهما الرحمة قالا : فخرج عبدالله بن الحسن بن علي(عليهم السلام) ـ وهو غلام لم يراهق ـ من عند النساء يشتدّ ، حتى وقف إلى جنب الحسين(عليه السلام) ، فلحقته زينب بنت علي(عليه السلام) لتحبسه ، فقال الحسين(عليه السلام) : احبسيه يا أختي ، فأبى وامتنع امتناعاً شديداً ، وقال : لا والله لا أفارق عمي ، وأهوى أبجر بن كعب ـ وقيل : حرملة بن كاهل ـ إلى الحسين(عليه السلام)بالسيف ، فقال له الغلام : ويلك يا ابن الخبيثة ، أتقتل عمي؟ فضربه بالسيف ، فاتّقاه الغلام بيده فأطنَّها إلى الجلد فإذا هي معلَّقة ، فنادى الغلام : يا أُمَّاه ، فأخذه الحسين(عليه السلام)فضمَّه إليه وقال : يابن أخي ، اصبر على ما نزل بك ، واحتسب في ذلك
____________
1- وفيات الأئمة (عليهم السلام) ، مجموعة من علماء البحرين والقطيف : 127 .
الخير ، فإن الله يلحقك بآبائك الصالحين ، قال السيد ابن طاووس عليه الرحمة : فرماه حرملة بن كاهل بسهم فذبحه وهو في حجر عمه الحسين(عليه السلام)(1) .
أقول : يعزّ على سيد شباب أهل الجنة(عليه السلام) أن يرى أهل بيته وهؤلاء الفتية من أولاد أخيه الإمام الحسن(عليه السلام) صرعى مخضَّبين بدمائهم ، وهم لم يبلغوا الحلم ولله درّ الشيخ صالح الكواز الحلي عليه الرحمة إذ يقول :
تلك الوُجُوهُ المُشْرِقاتُ كأنها الـ | أقمارُ تَسْبَحُ في غديرِ دماءِ |
رَقَدُوا وما مرَّتْ بهم سِنَةُ الكَرَى | وَغَفَتْ جُفُونُهُمُ بلا إغفاءِ |
متوسِّدين من الصعيدِ صُخُورَه | متمهِّدين حَرَارَةَ الرَّمْضَاءِ |
مُدّثِّرينَ بكربلا سَلْبَ القَنَا | مُزَّمِّلينَ على الرُّبَى بدِمَاءِ |
خَضَبوا وَمَا شابوا وكان خِضَابُهُمْ | بدم من الأوداجِ لا الحنَّاءِ |
أطفالُهُمْ بَلَغوا الحُلُومَ بِقُرْبِهِمْ | شوقاً إلى الهيجاءِ لا الحَسَناءِ |
وَمُغَسَّلين وَلاَ مِيَاهَ لهم سوى | عَبَراتِ ثكلى حَرَّةِ الأحشاءِ(2) |
المجلس الثالث ، من اليوم الثامن
وفاة القاسم ابن الإمام موسى بن جعفر(عليه السلام)
جاء في كتاب شجرة طوبى : روي في بعض الكتب أنه لما اشتدَّ غضب الرشيد على العلويين جعل يقطع الأيدي من أولاد فاطمة (عليها السلام) ، ويسمل الأعين ، وبنى عليهم الاسطوانات حتى شرَّدهم في البلدان ، ومن جملتهم القاسم ابن الإمام موسى بن جعفر ، وقد أخذ جانب الشرق لعلمه أن هناك ـ قبر ـ جدّه أمير المؤمنين (عليه السلام) ، وجعل
____________
1- بحار الأنوار ، المجلسي : 45/53 . 2- رياض المدح والرثاء : 161 ـ 162 .
يتمشَّى على شاطىء الفرات وإذا هو ببنتين تلعبان في التراب ، إحداهما تقول للأخرى : لا وحقّ الأمير ، صاحب بيعة يوم الغدير ، ما كان الأمر كذا وكذا ، وتعتذر من الأخرى ، فلمَّا رأى عذوبة منطقها قال لها : من تعنين بهذا الكلام؟ قالت : أعني الضارب بالسيفين ، والطاعن بالرمحين ، أبا الحسن والحسين ، علي بن أبي طالب(عليه السلام) ، قال لها : يا بنيَّة ، هل لك أن ترشديني إلى رئيس هذا الحيِّ؟ قالت : نعم ، إن أبي كبيرهم ، فمشت ومشى القاسم خلفها حتى أتت إلى بيتهم ، فبقي القاسم ثلاثة أيام بعزّ واحترام ، فلمّا كان اليوم الرابع دنا القاسم من الشيخ وقال له : يا شيخ ، أنا سمعت ممن سمع من رسول الله(صلى الله عليه وآله)أن الضيف له ثلاثة وما زاد على ذلك فما يأكل به صدقة ، وإني أكره أن آكل الصدقة ، وإني أريد أن تختار لي عملا اشتغل به لئلا يكون ما آكله صدقة .
فقال الشيخ : اختر لك عملا ، فقال له القاسم : اجعلني أسقي الماء في مجلسك ، فبقي القاسم على هذا إلى أن كانت ذات ليلة وخرج الشيخ في نصف الليل في قضاء حاجة له ، فرأى القاسم صافّاً قدميه وهو قائم وقاعد وراكع وساجد ، فعظُم في نفسه ، وجعل الله محبَّة القاسم في قلب الشيخ ، فلمّا أصبح الصباح جمع عشيرته وقال لهم : أريد أن أزوِّج ابنتي من هذا العبد الصالح ، فما تقولون؟ قالوا : نعم ما رأيت ، فزوَّجه من ابنته ، فبقي القاسم عندهم مدّة من الزمان حتى رزقه الله منها ابنة ، وصار لها من العمر ثلاث سنين ، ومرض القاسم مرضاً شديداً حتى دنا أجله ، وتصرَّمت أيامه ، فجلس الشيخ عند رأسه يسأله عن نسبه ، وقال : ولدي ، لعلّك هاشمي؟ قال له : نعم ، أنا ابن الإمام موسى بن جعفر(عليه السلام) فجعل الشيخ يلطم على رأسه وهو يقول : واحيائي من أبيك موسى بن جعفر (عليه السلام) ، قال له : لا بأس عليك يا عم ، إنك أكرمتني ، وإنك معنا في الجنة ، يا عم فإذا أنا متُّ فغسِّلني وحنِّطني وكفِّني وادفني ، وإذا صار وقت الموسم حُجَّ أنت وابنتك وابنتي هذه ، فإذا
فرغت من مناسك الحج فاجعل طريقك على المدينة ، فإذا أتيت المدينة فأنزل ابنتي على بابها فستدرج وتمشي ، فامش أنت وزوجتي خلفها حتى تقف على باب دار عالية ، فتلك الدار دارنا ، فتدخل البيت وليس فيها إلاّ نساء وكلّهن أرامل .
ثمَّ قضى(عليه السلام) نحبه فغسَّله وحنَّطه وكفَّنه ودفنه ، ولله درّ الحجة الشيخ علي الجشي عليه الرحمة إذ يقول :
وَقَضَى غريباً نازحاً عن دَارِهِ | نفسي فِدَا النَّائي الغريبِ القَاسِمِ |
يا ميِّتاً من هاشم مَا سَارَ مِنْ | خَلْفِ السريرِ له يشيِّعُ هَاشِمي |
يا ثاوياً في أَرْضِ بَاخمرا سَقَى | تلك المَرَابِعَ فيك صَوْبُ غَمَائِمِ |
ويتيمةُ النائي المشرَّدِ يَثْرِباً | قَدِمَتْ ولكنْ لا ببهجةِ قَادِمِ |
أَتُسَرُّ فاقدةٌ تَؤُمُّ فَوَاقِداً | مِنْ بَعْدِ عزٍّ لم تَجِدْ مِنْ رَاحِمِ |
مَحْنِيَّةُ الأضلاعِ داميةُ الحَشَى | تسعى كعالمة لِدَارِ الكاظمِ |
وبأَدْمُع حُمْر بكت لمعالم | مهجورة بينَ الديارِ قَوَاتِمِ |
لهفي على تلك المَعَالِمِ غُلِّقَتْ | أبوابُها وبها غَنَاءُ الْعَادِمِ |
وَسَفَى على أَعْتَابِها السافي وَقَدْ | كانت تُقَبِّلُها شِفَاهُ اللاَّثِمِ |
عَنْها نَأَتْ تلك الكِرَامُ فَمَا بِها | إلاَّ أَرَامِلُ أو يتامى هاشمي(1) |
قال : فلما صار وقت الحج حجَّ هو وابنته وابنة القاسم ، فلمَّا قضوا مناسكهم جعلوا طريقهم على المدينة ، فلمَّا وصلوا إلى المدينة أنزلوا البنت عند بابها على الأرض ، فجعلت تدرج والشيخ يمشي خلفها إلى أن وصلت إلى باب الدار فدخلت ، فبقي الشيخ وابنته واقفين خلف الباب ، وخرجن النساء إليها واجتمعن حولها ، وقلن : من تكونين؟ وابنة من؟ فلمَّا قلن لها النساء : ابنة من تكونين؟ لم تجبهم إلاَّ بالبكاء والنحيب ، فعند ذلك خرجت أم القاسم ، فلمَّا نظرت إلى شمائلها
____________
1- ديوان العلامة الجشي : 368 ـ 369 .
جعلت تبكي وتنادي ، وا ولداه ، وا قاسماه ، والله هذه يتيمة ولدي القاسم ، فقلن لها : من أين تعرفينها أنها ابنة القاسم؟ قالت : نظرت إلى شمائلها لأنها تشبه شمائل ولدي القاسم ، ثم أخبرتهم البنت بوقوف جدّها وأمّها على الباب ، وقيل : إنها مرضت لما علمت بموت ولدها ، فلم تمكث إلاَّ ثلاثة أيام حتى ماتت .
لهفي لأمِّ القاسمِ الثكلى وَقَدْ | ناحت شَجَىً إذْ غَابَ نَوْحَ حَمَائِمِ |
تَرْعَى النُّجُومَ أَسَىً بطرف سَاهِر | في فِكْرَة طالت وَوَجْد دَائِمِ |
محنيَّةُ الأضلاعِ بينَ ضُلُوعِها | نارٌ وَأَدْمُعُها كغيث سَاجِمِ |
وتقولُ هل لحبيبِ قلبيَ أَوْبَةٌ | فَأَقُول أهلا بالحبيبِ القَادِمِ |
أَو يَطْرُقُ الجَفْنَ الكرى في مَضْجَعي | فأرى الحبيبَ ولو برؤيةِ نَائِمِ |
يا نازحاً وعليَّ عَزَّ فِرَاقُهُ | خَلَّفْتَ قلبي كالحَمَامِ الحَائِمِ |
فَأَصمَّ مَسْمَعَها نعاءُ حزينة | تحكي شَمَائِلُها شَمَائِلَ قَاسِمِ |
تدعو بصوت منه ينصدعُ الصَّفَا | أبتاه وَجْدُك ما حييتُ ملازمي |
فكأنَّ ذاك النَعْيَ سَهْمُ منيَّة | فَقَضَتْ به لهفي لأمِّ القَاسِمِ(1) |
سمعت بموت ولدها فمرضت وقضت نحبها ، فما حال رملة لما نظرت إلى ولدها وهو مشقوق الرأس مقطَّعاً بالسيوف إرباً إرباً(2) فساعد الله قلبها وهي تراه مخضَّباً بدمه ، قد شقَّ السيف رأسه ، ويعزّ على سيد شباب أهل الجنة (عليه السلام) أن يرى هؤلاء الفتية على البوغاء مصرَّعين مجدَّلين ، وبقي بعدهم وحيداً لا ناصر له ولا معين ، ولله درّ السيد جعفر الحلي عليه الرحمة إذ يقول :
ولمَّا دنت آجالُهُم رحَّبوا بها | كأنَّ لهم بالموتِ بُلْغَةَ آمِلِ |
فَمَاتُوا وهم أزكى الأنامِ نقيبةً | وَأَكْرَمُ مَنْ يُبْكَى له بالَمحَافِلِ |
____________
1- ديوان العلامة الجشي : 369 ـ 370 . 2- شجرة طوبى ، الشيخ محمد مهدي الحائري : 1/171 .
عطاشى بجَنْبِ النَّهْرِ والماءُ حَوْلَهُمْ | يُبَاحُ إلى الوُرَّادِ عَذْبُ المَنَاهِلِ |
أبَا حَسَن إنَّ الذين عَهِدْتَهُمْ | ثِقَالَ الخُطَى إلاَّ لِكَسْبِ الفَضَائِلِ |
أُعَزّيكَ فيهم يَالَكَ الخيرُ إنَّهم | مَشَوا لِوُرُودِ الموتِ مِشْيَةَ عَاجِلِ |
أرادت بنو سُفْيَانَ فيهم مَذَلَّةً | وذلك من أبناك صَعْبُ التناولِ |
متى ذَلَّ قومٌ أنت خَلَّفْتَ فيهِمُ | إباءً به يندقُّ أَنْفُ الُمجَادِلِ |
نَعِمْتَ بهم عيناً فَقَدْ سَار ذِكْرُهُمْ | كما قَدْ فَشَا معروفُهُمْ في القَبَائِلِ |
أعادوك يَوْمَ الطفِّ حيّاً وَجَدَّدوا | لِعَلْيَاكَ ذِكْراً قَبْلَ ذا غَيْرَ خَامِلِ |
فلم تَفْجَعِ الأيَّامُ من قَبْلِ يَوْمِهِمْ | بأَكْرَمِ مقتول لألأَمِ قَاتِلِ(1) |
المجلس الرابع ، من اليوم الثامن
ما جرى على ذرية رسول الله(صلى الله عليه وآله) من القتل
والتشريد والاضطهاد من ولاة الجور
جاء في بعض زيارات أئمة أهل البيت(عليهم السلام) : يا مواليَّ ، فلو عاينكم المصطفى ، وسهام الأمة معرقة في أكبادكم ، ورماحهم مشرعة في نحوركم ، وسيوفها مولغة في دمائكم ، يشفي أبناء العواهر غليل الفسق من ورعكم ، وغيظ الكفر من إيمانكم ، وأنتم بين صريع في المحراب قد فلق السيف هامته ، وشهيد فوق الجنازة قد شُكَّت بالسهام أكفانه ، وقتيل بالعراء قد رُفع فوق القناة رأسُه ، ومكبَّل في السجن رُضَّت بالحديد أعضاؤه ، ومسموم قد قُطِّعت بجرع السمِّ أمعاؤه ، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون ، ولا حول ولا قوَّة إلاَّ بالله العلي العظيم .
فقد أوصى المصطفى(صلى الله عليه وآله) هذه الأمة بحفظ عترتة وأهل بيته(عليهم السلام) ، ولكن
____________
1- رياض المدح والرثاء ، الشيخ حسين القديحي : 229 .
هذه الأمة لم ترع حقَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) في عترته ، فانظر ماذا فعلوا بهم ، وما جرى عليهم من قتلهم ، وسفك دمائهم ، وتشريدهم عن أوطانهم ، وحبسهم في المطامير ، وغير ذلك مما جرى عليهم من ألوان العذاب ، من ولاة الجور والظلمة ، فتناسوا كل وصايا النبي(صلى الله عليه وآله)وكأنهم لم يسمعوا شيئاً من ذلك في حقّ عترته وأبنائه الطاهرين(عليهم السلام) ولله درّ الشيخ عبدالحسين العاملي عليه الرحمة إذ يقول :
حَجْرٌ على عيني يمرُّ بها الكرى | من بَعْدِ نازلة بعترةِ أحمدِ |
أقمارُ تَمٍّ غالها خَسْفُ الرَّدَى | واغتالها بصُرُوفِهِ الزمنُ الرَّدي |
شتَّى مصائِبُهُمْ فبين مُكابد | سمّاً ومنحور وبين مُصَفَّدِ |
سَلْ كربلا كم من حشاً لمحمَّد | نُهِبَتْ بها وكم استُجِذَّت من يدِ |
ولكم دم زاك أريق بها وكم | جُثَْمانِ قُدْس بالسيوفِ مبدَّدِ(1) |
قال أبو الحسن داود البكري : سمعت علي بن دعبل بن علي الخزاعي يحدّث عن أبيه : أنه رآه في النوم وقال له : لقيت رسول الله(صلى الله عليه وآله) وعليه ثياب بيض وقلنسوة بيضاء ، فقال لي : أنت دعبل؟ قلت : نعم يا رسول الله ، قال : فأنشدني قولك في أولادي ، فأنشدته قولي :
لا أضحك اللهُ سِنَّ الدهرِ إنْ ضَحِكَتْ | وآلُ أحمدَ مظلومونَ قد قُهِرُوا |
مُشَرَّدون نُفُوا عن عقرِ دَارِهِمُ | كأنَّهم قد جَنَوا ما ليس يُغْتَفَرُ |
قال : فقال لي : أحسنت ، وشفع فيَّ ، وأعطاني ثيابه ، وها هي وأشار إلى ثياب بدنه(2) .
وجاء عن ابن عباس(رضي الله عنه) ، في قوله تعالى : {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً}(3)
____________
1- رياض المدح والرثاء : 120 . 2- عيون أخبار الإمام الرضا(عليه السلام) ، الصدوق : 1/297 ـ 298 . 3- سورة الكهف ، الآية : 82 .
قال : حُفظا لصلاح أبيهما ، وما ذكر عنهما صلاحاً(1) .
وروي عن ابن عباس وجابر وأبي عبدالله الصادق(عليه السلام) أن الله يصلح بصلاح الرجل ولده وولد ولده ، ويحفظه في ذريته ، وكان السابع من آبائهما(2) .
قال المقريزي : فإذا صحَّ أن الله سبحانه قد حفظ غلامين لصلاح أبيهما فيكون قد حفظ الأعقاب برعاية الأسلاف ، وإن طالت الأحقاب ، ومن ذلك ما جاء في الأثر أن حمام الحرم من حمامتين عشَّشتا على فم الغار الذي اختفى فيه رسول الله(صلى الله عليه وآله)(3) فلذلك حرم حمام الحرم ، وإذا كان كذلك فمحمد(صلى الله عليه وآله) أحرى وأولى وأحقّ ، وأجدر أن يحفظ الله تعالى ذرّيّته ، فإنه إمام الصلحاء ، وما أصلح الله فساد خلقه إلاَّ به(4) .
وروي عن الإمام الحسن(عليه السلام) أنه قال لبعض الخوارج : بمَ حفظ الله مال الغلامين؟ قال : بصلاح أبيهما ، قال : فأبي وجدي خير منه!!(5) وروي عن الإمام علي بن الحسين(عليهما السلام) : ألا إن الله ذكر أقواماً بآبائهم فحفظ الأبناء للآباء ، قال تعالى : {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً} ولقد حدَّثني أبي عن آبائه أنه التاسع من ولده ، ونحن عترة رسول الله(صلى الله عليه وآله) احفظوها لرسول الله(صلى الله عليه وآله)(6) .
وروي عن الإمام الصادق جعفر بن محمد(عليهما السلام) قال : احفظوا فينا ما حفظ العبد الصالح في اليتيمين(7) .
قال الكاتب عبدالحليم الجندي : فليس في تاريخ البشرية كلِّها أسرة شُرِّدت
____________
1- المستدرك ، الحاكم : 2/369 . 2- راجع : الدرّ المنثور ، السيوطي : 4/235 ، فتح القدير ، الشوكاني : 3/306 ، وص 304 . 3- راجع: الصواعق المحرقة، ابن حجر: 242 ط. مصر، و 361 ط. بيروت ـ خاتمة في ذكر أمور مهمة. 4- فضل آل البيت (عليهم السلام) ، المقريزي : 110 . 5- تفسير الرازي : 21/162 مورد الآية . 6- رشفة الصادي : 91 باب 9 . 7- أخرجه ابن الأخضر في معالم العترة ، الصواعق المحرقة ، ابن حجر : 175 ط مصر ، 266 ط بيروت ، المقصد الثالث من الآية الرابعة ، رشفة الصادي : 91 باب 9 ، فضل آل البيت(عليهم السلام) ، المقريزي : 109 .
وجرِّدت ، وذاقت العذاب والاسترهاب ، مثل أهل بيت النبي(صلى الله عليه وآله) ، بدأ بهم تاريخ الإسلام مجده ، واستمرَّ فيهم بعبرته وعظمته ، قدَّم أبوهم للبشرية أسباب خلاصها بكتاب الله وسنَّة الرسول(صلى الله عليه وآله) ، وقدَّم أهل بيته أرواحهم في سبيل القيم التي نزل بها القرآن ، وجاءت بها السنة ، كانت مصابيحهم تتحطَّم لكن شعلتهم لا تنطفىء ، لتُخلِّد الجهاد والاستشهاد والإرشاد ، بالمثل العالي الذي كانوه ، والضوء الذي لم تمنع الموانع من انتشاره ، وعلَّم فيه أبناء النبي(صلى الله عليه وآله) أمته بعض علومه : أن الاستشهاد حياة للمستشهدين وللأحياء جميعا(1) .
وناهيك أيها الموالي لو سمعت كلمات أهل البيت(عليهم السلام) فيما جرى عليهم من الجور والعدوان ، والظلم والإستبداد ، فإليك بعض الكلمات التي خرجت من صدور أهل بيت الوحي(عليهم السلام) ، من صدور مكلومة بالألم ، طفح بها الكيل مما عانته من ولاة الجور وملؤها حسرةً وألماً ، فأصبحوا في الأمة التي خلَّفهم فيها رسول الله(صلى الله عليه وآله)بمنزلة بني إسرائيل في آل فرعون .
روى الكليني عليه الرحمة ، عن الحسين بن مصعب ، عن أبي عبدالله(عليه السلام)قال : قال أمير المؤمنين(عليه السلام) : كنت أبايع لرسول الله(صلى الله عليه وآله) على العسر واليسر والبسط والكره إلى أن كثر الإسلام وكثف ، قال : وأخذ عليهم علي(عليه السلام) أن يمنعوا محمداً وذرّيّته مما يمنعون منه أنفسهم وذراريهم ، فأخذتها عليهم ، نجا من نجا ، وهلك من هلك(2) .
وعن زيد بن علي بن الحسين ، عن أبيه ، عن جدّه (عليهم السلام) ، قال : قال علي(عليه السلام) : كنت مع الأنصار لرسول الله(صلى الله عليه وآله) على السمع والطاعة له في المحبوب والمكروه ، فلمّا عزَّ الإسلام ، وكثر أهله قال(صلى الله عليه وآله) : يا علي ، زد فيها : على أن تمنعوا
____________
1- الإمام جعفر الصادق(عليه السلام) ، عبد الحليم الجندي : 111 . 2- الكافي ، الشيخ الكليني : 8/261 ح 374 .
رسول الله وأهل بيته مما تمنعون منه أنفسكم وذراريكم ، قال : فحملها على ظهور القوم ، فوفى بها من وفى ، وهلك من هلك(1) .
وروي أنه قيل لعلي بن الحسين(عليه السلام) : كيف أصبحت؟ فقال(عليه السلام) : أصبحنا خائفين برسول الله(صلى الله عليه وآله) وأصبح جميع أهل الإسلام آمنين به(2) .
وروي عنه(عليه السلام) هذه الأبيات الشريفة :
نحن بنو المصطفى ذوو غُصَص | يَجْرَعُها في الأنامِ كاظمُنا |
عظيمةٌ في الأنامِ محنتُنا | أوَّلُنا مبتلى وآخِرُنا |
يَفْرَحُ هذا الورى بعيدِهِمُ | ونحن أعيادُنا مآتمُنا |
الناسُ في الأَمْنِ والسرورِ ولا | يَأْمَنُ طولَ الحَيَاةِ خائفُنا(3) |
وروى القندوزي الحنفي من مقتل أبي مخنف أن الإمام زين العابدين(عليه السلام) لما وصل من الأسر إلى المدينة خطب في أهل المدينة ، وقال(عليه السلام) في خطبته : أيها الناس ، أصبحنا مشرَّدين مطرودين مذودين شاسعين عن الأوطان ، من غير جرم اجترمناه ، ولا مكروه ارتكبناه ، ولا ثلمة في الإسلام ثلمناها ، ولا فاحشة فعلناها ، فوالله لو أن النبيَّ(صلى الله عليه وآله) أوصى إليهم في قتالنا لما زادوا على ما فعلوا بنا ، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون(4) .
وقال الناشىء الصغير من قصيدة له وهي بضعة عشر بيتاً ، ذكر منها الحموي قوله :
عجب لكم تفنون قتلا بسيفِكُمْ | ويسطوا عليكم مَنْ لكم كان يَخْضَعُ |
____________
1- شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 6/44 ـ 45 . 2- التذكرة الحمدونية ، ابن حمدون : 9/224 رقم : 443 ، بحار الأنوار ، المجلسي : 75/159 . 3- شجرة طوبى ، الحائري : 1/6 ، وأوردها الذهبي في سير أعلام النبلاء : 15/167 ونسبها لغير الإمام (عليه السلام) ، ينابيع المودة لذوي القربى ، القندوزي : 3/93 . 4- ينابيع المودة ، القندوزي : 3/93 .
فَمَا بقعةٌ في الأرضِ شرقاً ومغرباً | وليس لكم فيها قتيلٌ وَمَصْرَعُ |
ظُلِمْتم وقُتِّلتم وقُسِّم فيئُكُمْ | وضاقت بكم أَرْضٌ فلم يَحْمِ موضعُ |
كأنَّ رسولَ اللهِ أوصى بقتلِكم | وأجسامُكُمْ في كلِّ أرض توزَّعُ(1) |
وقال السيد صالح النجفي القزويني عليه الرحمة(2) :
فطوسٌ لكم والكرخُ شجواً وكربلا | وكوفانُ تبكي والبقيعُ وزمزمُ |
وكم قد تعطَّفْتُم عليهم ترحُّماً | فلم يعطفوا يوماً عليكم ويرحموا |
فَلاَ رَبِحَتْ آل الطليقِ تجارةً | ولا بَرِحَتْ هوناً تسامُ وتُرْغَمُ |
فما منكُمُ قد حَرَّمَ اللهُ حلَّلوا | وما لكُمُ قد حلَّل اللهُ حرَّموا |
وجدُّهُمُ لو كان أوصى بقتلِهِمْ | إليكم لما زِدْتُم على ما فعلتُمُ |
فَصَمْتُم من الدينِ الحنيفيِّ حَبْلَه | وَعُرْوَتَهُ الوثقى التي ليس تُفْصَمُ(3) |
وعن المنهال بن عمرو قال : دخلت على علي بن الحسين(عليه السلام) فقلت : كيف أصبحت أصلحك الله؟ فقال(عليه السلام) : ما كنت أرى شيخاً من أهل المصر مثلك لا يدري كيف أصبحنا ، فأما إذ لم تدر أو تعلم فسأخبرك ، أصبحنا في قومنا بمنزلة بني إسرائيل في آل فرعون ، إذ كانوا يذبِّحون أبناءهم ، ويستحيون نساءهم ، وأصبح شيخنا وسيِّدنا يُتَقَرَّبُ إلى عدوِّنا بشتمه أو سبِّه على المنابر ، وأصبحت قريش تعدّ أن لها الفضل على العرب; لأن محمداً(صلى الله عليه وآله) منها ، لا يعدّ لها فضل إلاَّ به ، وأصحبت العرب مقرّة لهم بذلك ، وأصبحت العرب تعدّ أن لها الفضل على العجم; لأن محمداً(صلى الله عليه وآله) منها ، لا يعدّ لها فضل إلاّ به ، وأصبحت العجم مقرّة لهم بذلك ، فلئن كانت العرب صدَّقت أن لها الفضل على العجم ، وصدَّقت قريش أن لها الفضل على العرب لأن محمداً(صلى الله عليه وآله)(منها) إن لنا أهل البيت الفضل على قريش لأن محمداً(صلى الله عليه وآله)
____________
1- معجم الأدباء ، الحموي : 13/292 ـ 293 ، لسان الميزان ، ابن حجر : 4/239 ـ 240 . 2- المتوفَّى سنة (1306 هـ) . 3- الإمام محمد الجواد(عليه السلام) ، الحاج حسين الشاكري : 489 .