التراب ، فقلت : ما لك يا رسول الله؟ فقال : شهدت قتل الحسين آنفاً .
وعن شهر بن حوشب أنه دخل الحسين بن علي (عليهما السلام) على النبيِّ(صلى الله عليه وآله)وهو يوحى إليه ، فنزل الوحي على رسول الله(صلى الله عليه وآله) وهو منكبٌّ على ظهره ، فقال جبرئيل : تحبُّه؟ فقال : ألا أحبُّ ابني؟ فقال : إن أمتك ستقتله من بعدك ، فمدَّ جبرئيل يده فإذا بتربة بيضاء ، فقال : في هذه التربة يقتل ابنك ، هذه ـ يا محمد ـ اسمها الطف .
وفي أخبار سالم بن الجعد أنه كان ذلك ميكائيل ، وفي مسند أبي يعلى أن ذلك ملك القطر .
وروي عن ابن عباس أنه قال : بينا أنا راقد في منزلي إذ سمعت صراخاً عظيماً عالياً من بيت أمِّ سلمة ، وهي تقول : يا بنات عبد المطلب ، أسعدنني وابكين معي ، فقد قُتل سيِّدكنَّ ، فقيل : ومن أين علمت ذلك؟ قالت : رأيت رسول الله الساعة في المنام شعثاً مذعوراً ، فسألته عن ذلك فقال : قتل ابني الحسين وأهل بيته فدفنتهم ، قالت : فنظرت فإذا بتربة الحسين التي أتى بها جبرئيل من كربلاء ، وقال : إذا صارت دماً فقد قتل ابنك ، فأعطانيها النبيُّ(صلى الله عليه وآله) فقال : اجعليها في زجاجة فلتكن عندك ، فإذا صارت دماً فقد قتل الحسين(عليه السلام) ، فرأيت القارورة الآن قد صارت دماً عبيطاً يفور(1) .
وروي عن الصادق جعفر بن محمد(عليهما السلام) قال : أصبحت يوماً أمّ سلمة رضي الله عنها تبكي ، فقيل لها : مِمَ بُكاؤكِ؟ فقالت : لقد قتل ابني الحسين الليلة ، وذلك أنني ما رأيت رسول الله منذ مضى إلاَّ الليلة ، فرأيته شاحباً كئيباً ، فقالت : قلت : ما لي أراك يا رسول الله شاحباً كئيباً؟ قال : ما زلت الليلة أحفر القبور للحسين
____________
1- مناقب آل أبي طالب ، ابن شهر آشوب : 3/213 .
وأصحابه عليه وعليهم السلام(1) .
وعن ابن عباس قال : بينا أنا راقد في منزلي إذ سمعت صراخاً عظيماً عالياً من بيت أمّ سلمة زوج النبي(صلى الله عليه وآله) ، فخرجت يتوجَّه بي قائدي إلى منزلها ، وأقبل أهل المدينة إليها الرجال والنساء ، فلمّا انتهيت إليها قلت : يا أم المؤمنين! ما لك تصرخين وتغوثين؟ فلم تجبني ، وأقبلت على النسوة الهاشميات وقالت : يا بنات عبدالمطلب ، أسعدنني وابكين معي فقد قتل والله سيِّدكنَّ وسيِّد شباب أهل الجنة ، قد والله قتل سبط رسول الله وريحانته الحسين ، فقلت : يا أمَّ المؤمنين ، ومن أين علمت ذلك؟ قالت : رأيت رسول الله في المنام الساعة شعثاً مذعوراً ، فسألته عن شأنه ذلك فقال : قتل ابني الحسين(عليه السلام) وأهل بيته اليوم فدفنتهم ، والساعة فرغت من دفنهم .
قالت : فقمت حتى دخلت البيت وأنا لا أكاد أن أعقل ، فنظرت فإذا بتربة الحسين التي أتى بها جبرئيل من كربلا ، فقال : إذا صارت هذه التربة دماً فقد قُتل ابنك ، وأعطانيها النبيُّ (صلى الله عليه وآله) فقال : اجعلي هذه التربة في زجاجة ـ أو قال : في قارورة ـ ولتكن عندك ، فإذا صارت دماً عبيطاً فقد قتل الحسين ، فرأيت القارورة الآن وقد صارت دماً عبيطاً تفور .
قال : فأخذت أمّ سلمة من ذلك الدم فلطَّخت به وجهها ، وجعلت ذلك اليوم مأتماً ومناحةً على الحسين(عليه السلام) ، فجاءت الركبان بخبره وأنه قتل في ذلك اليوم .
قال عمرو بن ثابت : قال أبي : فدخلت على أبي جعفر محمد بن علي منزله ، فسألته عن هذا الحديث ، وذكرت له رواية سعيد بن جبير هذا الحديث عن عبدالله ابن عباس ، فقال أبو جعفر(عليه السلام) : حدَّثنيه عمر بن أبي سلمة عن أمّه أمّ سلمة .
قال ابن عباس في رواية سعيد بن جبير عنه قال : فلمَّا كانت الليلة القابلة
____________
1- بحار الأنوار ، المجلسي : 45/230 عن الأمالي ، الطوسي : 90 ح 49 .
رأيت رسول الله(صلى الله عليه وآله) في منامي أغبر أشعث ، فذكرت له ذلك ، وسألته عن شأنه ، فقال لي : ألم تعلم أنّي فرغت من دفن الحسين وأصحابه؟!
قال عمرو بن أبي المقدام : فحدَّثني سدير ، عن أبي جعفر(عليه السلام) أن جبرئيل جاء إلى النبيِّ(صلى الله عليه وآله) بالتربة التي يقتل عليها الحسين(عليه السلام) ، قال أبو جعفر(عليه السلام) : فهي عندنا(1) .
وذكر العلامة المجلسي عليه الرحمة : عن بعض كتب المناقب ، عن أحمد بن جعفر القطيفي ، بالإسناد عن عمار أن ابن عباس رأى النبي(صلى الله عليه وآله) في منامه يوماً بنصف النهار ، وهو أشعث أغبر ، في يده قارورة فيها دم ، فقال : يا رسول الله! ما هذا الدم؟ قال : دم الحسين؟ لم أزل ألتقطه منذ اليوم ، فأحصي ذلك اليوم ، فوجد أنه قتل في ذلك اليوم(2) .
وروى زرّ بن حبيش ، عن سلمى قالت : دخلت على أم سلمة وهي تبكي ، فقلت لها : ما يبكيك؟ قالت : رأيت رسول الله(صلى الله عليه وآله) في المنام ، وعلى رأسه ولحيته أثر التراب ، فقلت : ما لك ـ يا رسول الله ـ مغبراً؟ قال : شهدت قتل الحسين آنفاً(3) .
وروي أن سلمى المدنيَّة قالت : دفع رسول الله(صلى الله عليه وآله) إلى أمّ سلمة قارورة فيها رمل من الطفّ ، وقال لها : إذا تحوَّل هذا دماً عبيطاً فعند ذلك يقتل الحسين ، قالت سلمى : فارتفعت واعية من حجرة أم سلمة ، فكنت أول من أتاها ، فقلت : ما دهاك يا أمَّ المؤمنين؟ قالت : رأيت رسول الله(صلى الله عليه وآله) في المنام والتراب على رأسه ، فقلت : ما لك؟ فقال : وثب الناس على ابني فقتلوه ، وقد شهدته قتيلا الساعة ،
____________
1- الأمالي ، الطوسي : 315 ح 87 ، بحار الأنوار : 25/231 . 2- بحار الأنوار ، المجلسي : 45/231 ح 3 ، المستدرك ، الحاكم : 4/398 ، المعجم الكبير ، الطبراني : 3/110 . 3- بحار الأنوار ، المجلسي : 45/232 ح 3 ، سنن الترمذي : 5/323 ، المستدرك ، الحاكم : 4/19 .
فاقشعرَّ جلدي ، فوثبت إلى القارورة ، فوجدتها تفور دماً ، قالت سلمى : فرأيتها موضوعة بين يديها(1)
وعن أمّ سلمة قالت : بينا رسول الله ذات يوم جالساً ، والحسين جالس في حجره ، إذا هملت عيناه بالدموع ، فقلت له : يا رسول الله! ما لي أراك تبكي جعلت فداك؟ قال : جاءني جبرئيل فعزَّاني بابني الحسين ، وأخبرني أن طائفة من أمتي تقتله ، لا أنالها الله شفاعتي .
وروي بإسناد آخر عن أم سلمة رضي الله عنها أنها قالت : خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله) من عندنا ذات ليلة فغاب عنا طويلا ، ثمَّ جاءنا وهو أشعث أغبر ، ويده مضمومة ، فقلت له : يا رسول الله! ما لي أراك شعثاً مغبراً؟ فقال : أسري بي في هذا الوقت إلى موضع من العراق يقال له : كربلاء ، فأريت فيه مصرع الحسين ابني وجماعة من ولدي وأهل بيتي ، فلم أزل ألقط دماءهم ، فها هو في يدي ، وبسطها إليَّ فقال : خذيها فاحتفظي بها ، فأخذتها فإذا هي شبه تراب أحمر ، فوضعته في قارورة وشددت رأسها واحتفظت بها .
فلمَّا خرج الحسين(عليه السلام) من مكة متوجِّهاً نحو العراق كنت أخرج تلك القارورة في كل يوم وليلة ، وأشمُّها وأنظر إليها ثمَّ أبكي لمصابه ، فلمَّا كان في اليوم العاشر من المحرَّم ـ وهو اليوم الذي قتل فيه(عليه السلام) ـ أخرجتها في أول النهار وهي بحالها ، ثمَّ عدت إليها آخر النهار فإذا هي دم عبيط ، فصحت في بيتي وبكيت وكظمت غيظي مخافة أن يسمع أعداؤهم بالمدينة فيتسرَّعوا بالشماتة ، فلم أزل حافظة للوقت واليوم حتى جاء الناعي ينعاه فحقَّق ما رأيت(2) .
وروي في بعض كتب المناقب المعتبرة ، عن أم سلمة قالت : جاء جبرئيل إلى
____________
1- بحار الأنوار ، المجلسي : 45/232 . 2- بحار الأنوار ، المجلسي : 44/239 ح 31 .
النبيِّ(صلى الله عليه وآله) فقال : إن أمتك تقتله ـ يعني الحسين ـ بعدك ، ثمَّ قال : ألا أريك من تربته؟ قالت : فجاء بحصيات فجعلهن رسول الله(صلى الله عليه وآله) في قارورة ، فلمَّا كان ليلة قتل الحسين(عليه السلام) قالت أم سلمة : سمعت قائلا يقول :
أيُّها القاتلون جَهْلا حُسيناً | أَبشروا بالعذابِ والتنكيلِ |
قَدْ لُعِنْتُم عَلَى لِسَانِ ابنِ داو | دَ وموسى وَصَاحِبِ الإنجيلِ |
قالت : فبكيت ، ففتحت القارورة فإذا قد حدث بها دم(1) .
ولله درّ الشيخ حسن التاروتي عليه الرحمة وطيب الله تربته إذ يقول :
فَلَمَّا تَضَايَقَ مَدُّ السيوفِ | بمُشْتَبَكِ الأضْبَعِ الأَضْبَعِ |
أُبيدوا فَغَصَّتْ بهم بُقْعَةٌ | بِهَا غَصَّ منهم فَمُ الأَبْقَعِ |
فُقُمْ فَانتظارُكَ ممدودةٌ | لها رَغْبَةُ العينِ والمَسْمَعِ |
أَثِرْ نَقْعهَا فحسينٌ قضى | وَغُلَّةُ أَحْشَاهُ لَمْ تُنْقَعِ |
وَقَدْ وَتَرَتْهُ أكُفُّ التِّرَاتِ | فَأَغْرَقَت الرَّمْيَ بالمَنْزَعِ |
إذَا قَعَدَ الشِّمرُ في صَدْرِهِ | فَمَا لِقُعُودِك من مَوْضِعِ |
إِلَى مَ وَأَهْلُكَ في مَهْلَك | وَشَمْلُ بَنَاتِك لم يُجْمَعِ |
أقام القَطِيعُ عَلَى رَأْسِها | مُقَامَ المُلاَءَةِ وَالمِلْفَعِ(2) |
المجلس الثامن
احتفاء الملائكة بالحسين(عليه السلام) وتوسُّل فطرس به
قال الراوندي عليه الرحمة : روي أنّه لمَّا ولد الحسين(عليه السلام) أمر الله تعالى
____________
1- بحار الأنوار ، المجلسي : 44/241 ح 34 . 2- رياض المدح والرثاء ، الشيخ حسين القديحي : 97 ـ 98 .
جبرئيل أن يهبط في ملأ من الملائكة فيهنىء محمّداً ، فهبط فمرَّ بجزيرة فيها مَلَك يقال له : فطرس ، بعثه الله في شيء فأبطأ فكسر جناحه فألقاه في تلك الجزيرة ، فعبد الله سبعمائة عام ، فقال فطرس لجبرئيل : إلى أين؟ فقال : إلى محمد ، قال : احملني معك إلى محمد لعلّه يدعو لي .
فلمّا دخل جبرئيل وأخبر محمداً بحال فطرس قال له النبيُّ(صلى الله عليه وآله) : قل له : يتمسَّح بهذا المولود ، فتمسَّح فطرس بمهد الحسين(عليه السلام) ، فأعاد الله عليه في الحال جناحه ، ثمَّ ارتفع مع جبرئيل إلى السماء فسمِّي عتيق الحسين(عليه السلام)(1) .
ولله درّ الشيخ محمد علي اليعقوبي عليه الرحمة إذ يقول :
ففي مَهْدِهِ الأملاكُ لاذت وَقَبْرُهُ | مُلُوكُ الورى تَعنو لديه وَصِيْدُها |
تُعَفِّرُ في أبْوَابِهِ جَبَهَاتِها | وَتَلْثمُهُ أفواهُها وخدودُها |
مِنَ الْخَمْسَةِ اللاَّئي لِجَبْهَةِ آدم | لأنوارِهَا الأملاكُ كان سجودُها |
أبو التسعةِ الغُرِّ الذين وُجُودُهُمْ | أضاءت به الدنيا وقام وجودُها(2) |
وروي عن إبراهيم بن شعيب قال : سمعت أبا عبدالله(عليه السلام) يقول : إن الحسين بن علي لمَّا ولد أمر الله عزَّ وجلَّ جبرئيل أن يهبط في ألف من الملائكة ، فيهنىء رسول الله(صلى الله عليه وآله) من الله عزَّ وجلَّ ومن جبرئيل ، قال : فهبط جبرئيل ، فمرَّ على جزيرة في البحر فيها مَلَك يقال له : فطرس ، كان من الحملة ، بعثه الله عزَّ وجلَّ في شيء فأبطأ عليه فكسر جناحه وألقاه في تلك الجزيرة ، فعبد الله تبارك وتعالى فيها سبعمائة عام حتى ولد الحسين بن علي(عليهما السلام) ، فقال الملك الجبرئيل : يا جبرئيل! أين تريد؟ قال : إن الله عزَّ وجلَّ أنعم على محمد بنعمة ، فبعثت أهنّئه من الله ومني ، فقال : يا جبرئيل! احملني معك لعلّ محمّداً(صلى الله عليه وآله) يدعو لي ، قال : فحمله .
____________
1- الخرائج والجرائح ، الراوندي : 1/252 ـ 253 ، بحار الأنوار ، المجلسي : 44/182 ح 7 . 2- الشيخ اليعقوبي دراسة نقدية في شعره ، الدكتور عبد الصاحب الموسوي : 341 .
قال : فلمَّا دخل جبرئيل على النبي(صلى الله عليه وآله) هنَّأه من الله عزَّ وجلَّ ومنه ، وأخبره بحال فطرس ، فقال النبيّ(صلى الله عليه وآله) : قل له : تمسَّح بهذا المولود ، وعد إلى مكانك ، قال : فتمسَّح فطرس بالحسين بن علي (عليهما السلام) وارتفع ، فقال يا رسول الله! أما إن أمَّتك ستقتله ، وله عليَّ مكافاة ألا يزوره زائر إلاَّ أبلغته عنه ، ولا يُسلِّم عليه مسلِّم إلاَّ أبلغته سلامه ، ولا يصلّي عليه مصلٍّ إلاَّ أبلغته صلاته ، ثمَّ ارتفع(1) .
ولله درّ الشيخ محمد رضا الغراوي عليه الرحمة إذ يقول :
يَا لمولود له الْفَضْلُ الْعَمِيمْ | حيثُ ميكالٌ أَتَى يَخْدمُهُ |
وَلَهُ جبريلُ في الْجَمْعِ العظيمْ | لَمْ يَزَلْ مِنْ شَرَف يلثمُهُ |
وبه فطرسُ للربِّ الكريمْ | قَدْ دَعَا مُبْتَغِياً يَرْحَمُهُ |
فأزالَ اللهُ منه الْوَصَبَا | واننثنى يَرْفُلُ في بُرْدِ الهَنَا |
قائلا أعتقني حِلْفُ الإِبَا | وإليَّ السبطُ حقّاً أَحْسَنا(2) |
قال ابن عباس : سمعت رسول الله(صلى الله عليه وآله) يقول : إن لله تبارك وتعالى مَلَكاً يقال له : دردائيل ، كان له ستة عشر ألف جناح ، ما بين الجناح إلى الجناح هواء ، والهواء كما بين السماء والأرض ، فجعل يوماً يقول في نفسه : أفوق ربِّنا جلَّ جلاله شيء؟ فعلم الله تبارك وتعالى ما قال فزاده أجنحة مثلها ، فصار له اثنان وثلاثون ألف جناح ، ثمَّ أوحى الله عزَّ وجلَّ إليه أن : طر ، فطار مقدار خمسمائة عام ، فلم ينل رأسه قائمة من قوائم العرش ، فلمَّا علم الله عزَّ وجلَّ إتعابه أوحى إليه : أيُّها الملك! عد إلى مكانك ، فأنا عظيم فوق كل عظيم ، وليس فوق شيء ، ولا أوصف بمكان ، فسلبه الله أجنحته ومقامه من صفوف الملائكة .
فلمَّا ولد الحسين بن علي (صلوات الله عليهما) ـ وكان مولده عشية الخميس
____________
1- بحار الأنوار ، المجلسي : 43/243 ح 18 . 2- ظرافة الأحلام ، السماوي : 61 .
ليلة الجمعة ـ أوحى الله إلى مالك خازن النيران : أن أخمد النيران على أهلها لكرامة مولود ولد لمحمد(صلى الله عليه وآله) ، وأوحى إلى رضوان خازن الجنان : أن زخرف الجنان وطيِّبها لكرامة مولود ولد لمحمد(صلى الله عليه وآله) في دار الدنيا ، وأوحى إلى حور العين : أن تزيَّنَّ وتزاورن لكرامة مولود ولد لمحمَّد(صلى الله عليه وآله) في دار الدنيا .
وأوحى الله إلى الملائكة : أن قوموا صفوفاً بالتسبيح والتحميد والتمجيد والتكبير ، لكرامة مولود ولد لمحمد(صلى الله عليه وآله) في دار الدنيا ، وأوحى الله عزَّ وجلَّ إلى جبرئيل(عليه السلام) : أن اهبط إلى نبيّي محمّد في ألف قبيل ، في القبيل ألف ألف ملك ، على خيول بلق مسرجة ملجمة ، عليها قباب الدرّ والياقوت ، معهم ملائكة يقال لهم : الروحانيون ، بأيديهم حراب من نور ، أن هنِّئوا محمّداً بمولوده ، وأخبره ـ يا جبرئيل ـ أني قد سمَّيته الحسين ، وعزِّه وقل له : يا محمد! يقتله شرار أمتك على شرار الدوابّ ، فويل للقاتل ، وويل للسائق ، وويل للقائد ، قاتل الحسين أنا منه بريءٌ; وهو مني بريءٌ ، لأنه لا يأتي أحد يوم القيامة إلاَّ وقاتل الحسين أعظم جرماً منه ، قاتل الحسين يدخل النار يوم القيامة مع الذين يزعمون أن مع الله إلهاً آخر ، والنار أشوق إلى قاتل الحسين ممّن أطاع الله إلى الجنَّة .
قال : فبينا جبرئيل يهبط من السماء إلى الأرض إذ مرَّ بدردائيل ، فقال له دردائيل : يا جبرائيل! ما هذه الليلة في السماء؟ هل قامت القيامة على أهل الدنيا؟ قال : لا ، ولكن ولد لمحمد (صلى الله عليه وآله) مولود في دار الدنيا ، وقد بعثني الله عزَّ وجلَّ إليه لأهنِّئه بمولوده ، فقال الملك له : يا جبرائيل! بالذي خلقك وخلقني إن هبطت إلى محمد فأقرئه منّي السلام ، وقل له : بحق هذا المولود عليك إلاَّ ما سألت الله ربَّك أن يرضى عنّي ، ويردَّ عليَّ أجنحتي ومقامي من صفوف الملائكة .
فهبط جبرئيل على النبي(صلى الله عليه وآله) ، وهنَّأه كما أمره الله عزَّ وجلَّ وعزَّاه ، فقال النبي(صلى الله عليه وآله) : تقتله أمتي؟ قال : نعم ، فقال النبي(صلى الله عليه وآله) : ما هؤلاء بأمتي ، أنا بريء منهم
والله بريء منهم ، قال جبرئيل : وأنا بريء منهم يا محمد .
فدخل النبي(صلى الله عليه وآله) على فاطمة وهنَّأها وعزَّاها ، فبكت فاطمة(عليها السلام) وقالت : يا ليتني لم ألده ، قاتل الحسين في النار ، وقال النبي(صلى الله عليه وآله) : أنا أشهد بذلك يا فاطمة ، ولكنه لا يُقتل حتى يكون منه إمام تكون منه الأئمة الهادية بعده .
ثمَّ قال(صلى الله عليه وآله) : الأئمة بعدي : الهادي علي ، المهتدي الحسن ، الناصر الحسين ، المنصور علي بن الحسين ، الشافع محمد بن علي ، النفّاع جعفر بن محمد ، الأمين موسى بن جعفر ، الرضا علي بن موسى ، الفعَّال محمد بن علي ، المؤتمن علي بن محمد ، العلاّم الحسن بن علي ، ومن يصلي خلفه عيسى بن مريم ، فسكنت فاطمة من البكاء .
ثمَّ أخبر جبرئيل النبيّ(صلى الله عليه وآله) بقضيَّة المَلَك وما أصيب به ، قال ابن عباس : فأخذ النبي(صلى الله عليه وآله) الحسين وهو ملفوف في خرق من صوف ، فأشار به إلى السماء ثمَّ قال : اللَّهُمَّ بحقِّ هذا المولود عليك ، لا بل بحقِّك عليه ، وعلى جدِّه محمّد وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ، إن كان للحسين بن علي بن فاطمة عندك قدر فارض عن دردائيل ، وردَّ عليه أجنحته ومقامه من صفوف الملائكة ، فاستجاب الله دعاءه ، وغفر للمَلَك ، والمَلَك لا يُعرف في الجنَّة إلاَّ بأن يقال : هذا مولى الحسين بن علي ابن رسول الله(صلى الله عليه وآله) وابن فاطمة بنت رسول الله(صلى الله عليه وآله)(1) .
وروي عن الصادق(عليه السلام) أنه قال : كان ملك من المقرَّبين يقال له : صلصائيل ، بعثه الله في بعث فأبطأ ، فسلبه ريشه ، ودقّ جناحيه ، وأسكنه في جزيرة من جزائر البحر إلى ليلة ولد الحسين(عليه السلام) فنزلت الملائكة واستأذنت الله في تهنئة جدّي رسول الله(صلى الله عليه وآله) ، وتهنئة أمير المؤمنين(عليه السلام) وفاطمة(عليها السلام) ، فأذن الله لهم ، فنزلوا أفواجاً من العرش ، ومن سماء (إلى) سماء ، فمرُّوا بصلصائيل وهو ملقى بالجزيرة .
____________
1- كمال الدين وتمام النعمة ، الصدوق : 282 ـ 284 ح 35 .
فلمَّا نظروا إليه وقفوا ، فقال لهم : يا ملائكة ربي! إلى أين تريدون؟ وفيم هبطتم؟ فقالت له الملائكة : يا صلصائيل! قد ولد في هذه الليلة أكرم مولود ولد في الدنيا بعد جدّه رسول الله(صلى الله عليه وآله) وأبيه علي وأمّه فاطمة وأخيه الحسن ، وهو الحسين(عليه السلام) وقد استأذنّا الله في تهنئة حبيبه محمد(صلى الله عليه وآله) لولده فأذن لنا ، فقال صلصائيل : يا ملائكة الله إني أسألكم بالله ربِّنا وربِّكم ، وبحبيبه محمد (صلى الله عليه وآله) وبهذا المولود أن تحملوني معكم إلى حبيب الله ، وتسألونه وأسأله أن يسأل الله بحقّ هذا المولود الذي وهبه الله أن يغفر لي خطيئتي ، ويجبر كسر جناحي ، ويردَّني إلى مقامي مع الملائكة المقرَّبين .
فحملوه وجاؤوا به إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله) ، فهنَّوه بابنه الحسين(عليه السلام) ، وقصّوا عليه قصّة المَلَك ، وسألوه مسألة الله والإقسام عليه بحقّ الحسين(عليه السلام) أن يغفر له خطيئته ، ويجبر كسر جناحه ، ويردَّه إلى مقامه مع الملائكة المقرَّبين .
فقام رسول الله(صلى الله عليه وآله) فدخل على فاطمة(عليها السلام) فقال لها : ناوليني ابني الحسين ، فأخرجته إليه مقموطاً ، يناغي جدَّه رسول الله(صلى الله عليه وآله) ، فخرج به إلى الملائكة ، فحمله على بطن كفِّه ، فهلَّلوا وكبَّروا ، وحمدوا الله تعالى وأثنوا عليه ، فتوجَّه به إلى القبلة نحو السماء فقال : اللَّهُمَّ إني أسألك بحقّ ابني الحسين أن تغفر لصلصائيل خطيئته ، وتجبر كسر جناحه ، وتردَّه إلى مقامه مع الملائكة المقرَّبين ، فتقبَّل الله تعالى من النبيّ(صلى الله عليه وآله)ما أقسم به عليه ، وغفر لصلصائيل خطيئته ، وجبر كسر جناحه ، وردَّه إلى مقامه مع الملائكة المقرَّبين(1) .
وروي أن جبرئيل(عليه السلام) نزل يوماً فوجد الزهراء(عليها السلام) نائمة ، والحسين في مهده يبكي ، فجعل يناغيه ويسلّيه حتى استيقظت ، فسمعت صوت من يناغيه ،
____________
1- بحار الأنوار ، العلامة المجلسي : 43/258 ح 47 .
فالتفتت فلم تر أحداً ، فأخبرها النبي(صلى الله عليه وآله) أنه كان جبرئيل(عليه السلام)(1) .
ولله درّ المرحوم الشيخ عبد المنعم الفرطوسي عليه الرحمة إذ يقول :
قُرْآنُ فَضْلِكَ فيه يَفْتَتِحُ الْفَمُ | حَمْداً وبالإِخلاصِ ذِكْرَكَ يَخْتِمُ |
وبأُفْقِ مَهْدِكَ من جِهَادِكَ أَشْرَقَتْ | لِلْفَتْحِ آيَاتٌ بِوَجْهِكَ تُرْسَمُ |
أنت الحسينُ ودُوْنَ مَجْدِك في العُلاَ | مَجْدُ المسيحِ ودونَ أُمِّك مريمُ |
فَلَقَدْ وُلِدْتَ مطهَّراً في بُرْدَة | مِنْ طُهْرِ فاطمة تُحَاكُ وَتُلْحَمُ |
وَلَقَدْ قُتِلْتَ بمَصْرَع يسمو به | مَجْدُ المَمَاتِ على الحَيَاةِ وَيَعْظُمُ |
والحقُّ من عينيك يَنْبَعُ نورُهُ | والصدقُ في شفتيك جَمْرٌ مُضْرَمُ |
أضحى جبينُكَ وهو فُرْقَانُ الهُدَى | بِدَمِ الشهادةِ والسعادةِ يُوْسَمُ |
وقرأتُ للفتحِ المباركِ سُورَةً | بالسَّهْم في صَفَحَاتِ قَلْبِكَ تُرْقَمُ |
فَخَضَبْتُ ناصيتي بِمَذْبَحِ جُثَّة | في نَحْرِها الدامي يَحُزُّ الِمخْذَمُ |
وعلمتُ أنَّك هَدْيُ آلِ محمَّد | وعريشُ مَهْدِكَ يومَ خَلْقِكَ مَأْتَمُ(2) |
المجلس التاسع
إخبار النبي(صلى الله عليه وآله) بمقتل الحسين(عليه السلام)
روي عن أبان بن تغلب ، عن أبي عبدالله ، عن أبيه(عليهما السلام) أنه قال : قال رسول الله(صلى الله عليه وآله) : من أراد أن يحيى حياتي ، ويموت ميتتي ، ويدخل جنّة ربّي : جنة عدن غرسها بيده ، فليتولَّ عليّاً ، وليتولَّ وليَّه ، وليعادِ عدوَّه ، وليأتمَّ بالأوصياء من بعده ، فإنهم أئمة الهدى من بعدي ، أعطاهم الله فهمي وعلمي ، وهم عترتي من
____________
1- بحار الأنوار ، المجلسي : 44/188 . 2- ديوان الفرطوسي : 2/17 .
لحمي ودمي ، إلى الله أشكو من أمتي ، المنكرين لفضلهم ، القاطعين فيهم صلتي ، وأيم الله ليقتلنَّ ابني ـ يعني الحسين ـ لا أنالهم الله شفاعتي(1) .
وعن العوام مولى قريش قال : سمعت مولاي عمر بن هبيرة ، قال : رأيت رسول الله(صلى الله عليه وآله) والحسن والحسين في حجره ، يقبِّل هذا مرّة ، ويقبِّل هذا مرَّة ، ويقول للحسين : الويل لمن يقتلك(2) .
وروي عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال : كان الحسين بن علي ذات يوم في حجر النبي(صلى الله عليه وآله) يلاعبه ويضاحكه ، فقالت عائشة : يا رسول الله ، ما أشد إعجابك بهذا الصبي!! فقال لها : ويلك ، وكيف لا أحبُّه ولا أعجب به ، وهو ثمرة فؤادي ، وقرَّة عيني؟ أما إنّ أمّتي ستقتله ، فمن زاره بعد وفاته كتب الله له حَجَّة من حججي ، قالت : يا رسول الله ، حجَّة من حججك؟ قال : نعم ، وحجّتين من حججي ، قالت : يا رسول الله ، حجّتين من حججك؟ قال : نعم ، وأربعة ، قال : فلم تزل تزاده ويزيد ويضعف حتّى بلغ تسعين حجَّة من حجج رسول الله(صلى الله عليه وآله) بأعمارها(3) .
وعن عبدالله بن محمد الصنعاني ، عن أبي جعفر(عليه السلام) قال : كان رسول الله(صلى الله عليه وآله)إذا دخل الحسين(عليه السلام) اجتذبه إليه ، ثمَّ يقول لأمير المؤمنين(عليه السلام) : أمسكه ، ثمَّ يقع عليه فيقبِّله ويبكي ، فيقول : يا أبه! لم تبكي؟ فيقول : يا بني! أقبِّل موضع السيوف منك وأبكي ، قال : يا أبه! وأقتل؟ قال : إي والله وأبوك وأخوك وأنت ، قال : يا أبه! فمصارعنا شتَّى؟ قال : نعم يا بنيَّ! قال : فمن يزورنا من أمتك؟ قال : لا يزورني ولا يزور أباك وأخاك وأنت إلاّ الصدّيقون من أمتي(4) .
وروى ابن شهر آشوب عليه الرحمة في المناقب ، عن ابن عباس قال : سألت
____________
1- بحار الأنوار ، المجلسي : 44/259 . 2- بحار الأنوار ، المجلسي : 44/302 ح 11 عن كامل الزيارات . 3- بحار الأنوار ، المجلسي : 44/260 عن كامل الزيارات . 4- بحار الأنوار ، المجلسي : 44/261 ح 14 عن كامل الزيارات .
هند عائشة أن تسأل النبيَّ(صلى الله عليه وآله) تعبير رؤيا ، فقال : قولي لها : فلتقصص رؤياها ، فقالت : رأيت كأنّ الشمس قد طلعت من فوقي ، والقمر قد خرج من مخرجي ، وكأن كوكباً خرج من القمر أسود ، فشدَّ على شمس خرجت من الشمس أصغر من الشمس فابتلعها ، فاسودّ الأفق لابتلاعها ، ثمَّ رأيت كواكب بدت من السماء وكواكب مسودّة في الأرض ، إلاَّ أن المسودّة أحاطت بأفق الأرض من كل مكان .
فاكتحلت عين رسول الله(صلى الله عليه وآله) بدموعه ، ثمَّ قال : هي هند ، اخرجي يا عدوَّة الله ـ مرَّتين ـ فقد جدَّدت عليَّ أحزاني ، ونعيت إليَّ أحبابي ، فلمَّا خرجت قال : اللهم العنها والعن نسلها .
فسئل عن تفسيرها فقال(صلى الله عليه وآله) ، : أمّا الشمس التي طلعت عليها فعلي بن أبي طالب(عليه السلام) ، والكوكب الذي خرج كالقمر أسود فهو معاوية ، مفتون فاسق جاحد لله ، وتلك الظلمة التي زعمت ، ورأت كوكباً يخرج من القمر أسود ، فشدَّ على شمس خرجت من الشمس أصغر من الشمس ، فابتلعها فاسودَّت ، فذلك ابني الحسين(عليه السلام) ، يقتله ابن معاوية فتسودُّ الشمس ويظلم الأفق ، وأمّا الواكب السود في الأرض أحاطت بالأرض من كل مكان فتلك بنو أمية(1) .
وعن ابن عباس أن رسول الله(صلى الله عليه وآله) في ذلك المرض كان يقول : ادعوا لي حبيبي ، فجعل يُدعى له رجل بعد رجل ، فيعرض عنه ، فقيل لفاطمة : امضي إلى عليّ ، فما نرى رسول الله يريد غير علي ، فبعثت فاطمة إلى علي(عليه السلام) ، فلمّا دخل فتح رسول الله(صلى الله عليه وآله) عينيه وتهلَّل وجهه ، ثمَّ قال : إليَّ يا علي ، إليَّ يا علي ، فما زال يدنيه حتى أخذه بيده وأجلسه عند رأسه ، ثمَّ أغمي عليه ، فجاء الحسن والحسين(عليه السلام)يصيحان ويبكيان حتى وقعا على رسول الله(صلى الله عليه وآله) ، فأراد عليُّ(عليه السلام) أن ينحّيهما عنه ، فأفاق رسول الله(صلى الله عليه وآله) ، ثمَّ قال : يا علي! دعني أشمُّها ويشمَّاني ، وأتزوَّد منهما ،
____________
1- بحار الأنوار ، المجلسي : 44/263 ح 21 .
ويتزوَّدان منّي ، أما إنهما سيُظلمان بعدي ويُقتلان ظلماً ، فلعنة الله على من يظلمهما ، يقول ذلك ثلاثاً ، ثمَّ مدَّ يده إلى علي(عليه السلام) فجذبه إليه حتى أدخله تحت ثوبه الذي كان عليه ، ووضع فاه على فيه ، وجعل يناجيه مناجاة طويلة حتى خرجت روحه الطيِّبة ، صلوات الله عليه وآله(1) .
وعن محمد بن جرير الطبري في كتاب دلائل الإمامة ، بإسناده عن حذيفة قال : سمعت الحسين بن علي(عليهما السلام) يقول : والله ليجتمعن على قتلي طغاة بني أمية ، ويقدمهم عمر بن سعد ، وذلك في حياة النبي(صلى الله عليه وآله) ، فقلت له : أنبأك بهذا رسول الله؟ فقال : لا ، فقال : فأتيت النبي فأخبرته فقال : علمي علمه ، وعلمه علمي; لأنا نعلم بالكائن قبل كينونته(2) .
وعن عبدالله بن يحيى قال : دخلنا مع علي إلى صفّين ، فلمَّا حاذى نينوى نادى : صبراً يا أبا عبدالله ، فقال : دخلت على رسول الله وعيناه تفيضان ، فقلت : بأبي أنت وأمي يا رسول الله ، ما لعينيك تفيضان؟ أغضبك أحد؟ قال : لا ، بل كان عندي جبرئيل فأخبرني أن الحسين يقتل بشاطىء الفرات ، وقال : هل لك أن أشمَّك من تربته؟ قلت : نعم ، فمدَّ يده فأخذ قبضة من تراب فأعطانيها ، فلم أملك عيني أن فاضتا ، واسم الأرض كربلا .
فلمَّا أتت عليه سنتان خرج النبيّ (صلى الله عليه وآله) إلى سفر ، فوقف في بعض الطريق واسترجع ودمعت عيناه ، فسئل عن ذلك فقال : هذا جبرئيل يخبرني عن أرض بشطّ الفرات ، يقال لها : كربلا ، يقتل فيها ولدي الحسين ، وكأني أنظر إليه وإلى مصرعه ومدفنه بها ، وكأني أنظر إلى السبايا على أقتاب المطايا ، وقد أُهدي رأس ولدي الحسين إلى يزيد لعنه الله ، فوالله ما ينظر أحد إلى رأس الحسين ويفرح إلاَّ خالف الله بين قلبه ولسانه ، وعذَّبه الله عذاباً أليماً .
____________
1- بحار الأنوار ، المجلسي : 22/510 . 2- بحار الأنوار ، المجلسي : 44/186 ح 14 .
ثمَّ رجع النبيُّ(صلى الله عليه وآله) من سفره مغموماً مهموماً ، كئيباً حزيناً ، فصعد المنبر وأصعد معه الحسن والحسين ، وخطب ووعظ الناس ، فلمَّا فرغ من خطبته وضع يده اليمنى على رأس الحسن ، ويده اليسرى على رأس الحسين ، وقال : اللهم إن محمداً عبدك ورسولك ، وهذان أطائب عترتي ، وخيار أرومتي ، وأفضل ذرّيّتي ، ومن أخلِّفهما في أمتي ، وقد أخبرني جبرئيل أن ولدي هذا مقتول بالسمّ ، والآخر شهيد مضرَّج بالدم ، اللهم فبارك له في قتله ، واجعله من سادات الشهداء ، اللهم ولا تبارك في قاتله وخاذله ، وأَصْلِهِ حرَّ نارك ، واحشره في أسفل درك الجحيم .
قال : فضجَّ الناس بالبكاء والعويل ، فقال لهم النبيُّ (صلى الله عليه وآله) : أيُّها الناس! أتبكونه ولا تنصرونه اللهم فكن أنت له ولياً وناصراً ، ثمَّ قال : يا قوم! إني مخلِّف فيكم الثقلين : كتاب الله وعترتي ، وأرومتي ، ومزاج مائي ، وثمرة فؤادي ، ومهجتي ، لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض ، ألا وإني لا أسألكم في ذلك إلاَّ ما أمرني ربي أن أسألكم عنه ، أسألكم عن المودّة في القربى ، واحذروا أن تلقوني غداً على الحوض وقد آذيتم عترتي ، وقتلتم أهل بيتي وظلمتموهم ، ألا إنه سيرد عليَّ يوم القيامة ثلاث رايات من هذه الأمة : الأولى راية سوداء مظلمة ، قد فزعت منها الملائكة ، فتقف عليَّ فأقول لهم : من أنتم؟ فينسون ذكري ، ويقولون : نحن أهل التوحيد من العرب ، فأقول لهم : أنا أحمد نبيُّ العرب والعجم ، فيقولون : نحن من أمَّتك ، فأقول : كيف خلَّفتموني من بعدي في أهل بيتي وعترتي وكتاب ربّي؟ فيقولون : أمَّا الكتاب فضيَّعناه ، وأمَّا العترة فحرصنا أن نبيدهم عن جديد الأرض ، فلمَّا أسمع ذلك منهم أعرض عنهم وجهي ، فيصدرون عُطاشى مسوّدةً وجوهُهُم .
ثمَّ ترد عليَّ راية أُخرى أشدُّ سواداً من الأُولى ، فأقول لهم : كيف خلَّفتموني من بعدي في الثقلين : كتاب الله وعترتي ؟ فيقولون : أمَّا الأكبر فخالفناه ، وأما الأصغر فمزَّقناهم كلَّ ممزَّق ، فأقول : إليكم عني ، فيصدرون عطاشى مسودّة وجوههم .
ثمَّ ترد عليَّ راية تلمع وجوههم نوراً ، فأقول لهم : من أنتم؟ فيقولون : نحن أهل كلمة التوحيد والتقوى من أمَّة محمد المصطفى ، ونحن بقيَّة أهل الحقّ ، حملنا كتاب ربِّنا ، وحلَّلنا حلاله ، وحرَّمنا حرامه ، وأحببنا ذرّيّة نبيِّنا محمَّد ، ونصرناهم من كلِّ ما نصرنا به أنفسَنَا ، وقاتلنا معهم من ناواهم ، فأقول لهم : أبشروا فأنا نبيُّكم محمد ، ولقد كنتم في الدنيا كما قلتم ، ثمَّ أسقيهم من حوضي ، فيصدرون مروّيين مستبشرين ، ثمَّ يدخلون الجنَّة خالدين فيها أبد الآبدين(1) .
ولله درّ السيد الحميري عليه الرحمة إذ يقول :
والناسُ يومَ الحشرِ راياتُهُمْ | خَمْسٌ فمنها هَالِكٌ أربعُ |
أربعةٌ في سَقَر أُوْدِعُوا | ليس لها من قَعْرِها مَطْلَعُ |
ورايةٌ يَقْدُمُها حيدرٌ | ووجهُهُ كالشمسِ إذ تطلعُ |
غداً يُلاَقي المصطفى حيدرٌ | ورايةُ الحَمْدِ له تُرْفَعُ |
مَوْلىً له الجنَّةُ مأمورةٌ | والنّارُ من إِجْلاَلِهِ تَفْزَعُ |
إمامُ صِدْق وَلَهُ شِيعةٌ | يُرْوَوا من الحَوْضِ ولم يُمْنَعُوا |
بذاك جاء الوحيُ من ربِّنا | يا شيعةَ الحقِّ فلا تجزعوا(2) |
المجلس العاشر
إخبار أمير المؤمنين(عليه السلام) بمقتل الحسين(عليه السلام)
وإخبار المحدِّثين بذلك
روى الشيخ الصدوق عليه الرحمة ، عن الأصبغ بن نباتة قال : بينا أمير
____________
1- بحار الأنوار ، المجلسي : 44/247 . 2- بحار الأنوار ، المجلسي : 47/331 ـ 332 .
المؤمنين(عليه السلام) يخطب الناس وهو يقول : سلوني قبل أن تفقدوني ، فوالله لا تسألوني عن شيء مضى ، ولا عن شيء يكون إلاَّ نبأتكم به فقام إليه سعد بن أبي وقاص فقال : يا أمير المؤمنين! أخبرني كم في رأسي ولحيتي من شعرة؟ فقال له : أما والله لقد سألتني عن مسألة حدَّثني خليلي رسول الله(صلى الله عليه وآله) أنك ستسألني عنها ، وما في رأسك ولحيتك من شعرة إلاَّ وفي أصلها شيطان جالس ، وإن في بيتك لسخلا يقتل الحسين ابني ، وعمر بن سعد يومئذ يدرج بين يديه(1) .
وروى الشيخ المفيد عليه الرحمة قال : وجاء في الآثار أن أمير المؤمنين(عليه السلام)كان يخطب ، فقال في خطبته : سلوني قبل أن تفقدوني ، فوالله لا تسألوني عن فئة تضلّ مائة وتهدي مائة إلاَّ أنبأتكم بناعقها وسائقها إلى يوم القيامة ، فقام إليه رجل فقال : أخبرني كم في رأسي ولحيتي من طاقة شعر؟ فقال أمير المؤمنين : والله لقد حدَّثني خليلي رسول الله(صلى الله عليه وآله) بما سألت عنه ، وإن على كل طاقة شعر في رأسك ملكاً يلعنك ، وعلى كل طاقة شعر في لحيتك شيطان يستفزّك ، وإن في بيتك لسخلا يقتل ابن بنت رسول الله(صلى الله عليه وآله) ، وآية ذلك مصداق ما خبَّرتك به ، ولولا أن الذي سألت عنه يعسر برهانه لأخبرتك به ، ولكنَّ آية ذلك ما أنبأتك به من لعنتك وسخلك الملعون ، وكان ابنه في ذلك الوقت صبيّاً صغيراً يحبو .
فلمَّا كان من أمر الحسين ما كان تولَّى قتله كما قال أمير المؤمنين(عليه السلام)(2) .
وعن سويد بن غفلة قال : كنت أنا عند أمير المؤمنين(عليه السلام) إذ أتاه رجل فقال : يا أمير المؤمنين! جئتك من وادي القرى ، وقد مات خالد بن عرفطة ، فقال له أمير المؤمنين : إنه لم يمت ، فأعادها عليه ، فقال له علي(عليه السلام) : لم يمت ، والذي نفسي
____________
1- الأمالي الصدوق : 196 ح 1 ، بحار الأنوار ، العلامة المجلسي : 44/256 ح 5 ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 2/286 . 2- بحار الأنوار ، المجلسي : 44/258 ح 7 عن الإرشاد : 1/330 .
بيده لا يموت ، فأعادها عليه الثالثة فقال : سبحان الله! أخبرك أنه مات وتقول لم يمت؟ فقال له علي(عليه السلام) : لم يمت ، والذي نفسي بيده لا يموت حتى يقود جيش ضلالة يحمل رايته حبيب بن جمَّاز .
قال : فسمع بذلك حبيب ، فأتى أمير المؤمنين فقال له : أناشدك الله فيَّ فإني لك شيعة ، وقد ذكرتني بأمر لا والله ما أعرفه من نفسي ، فقال له علي(عليه السلام) : إن كنت حبيب بن جماز فلتحملنّها ، فولَّى عنه حبيب ، وأقبل أمير المؤمنين(عليه السلام) يقول : إن كنت حبيب بن جماز لتحملنّها .
قال أبو حمزة : فوالله ما مات (أي خالد بن عرفطة) حتى بعث عمر بن سعد إلى الحسين بن علي(عليه السلام) ، وجعل خالد بن عرفطة على مقدّمته ، وحبيب صاحب رايته(1) .
وعن أبي عبدالله الجدلي قال : دخلت على أمير المؤمنين(عليه السلام) والحسين إلى جنبه ، فضرب بيده على كتف الحسين ، ثمَّ قال : إن هذا يقتل ولا ينصره أحد ، قال : قلت : يا أمير المؤمنين! والله إن تلك الحياة سوء ، قال : إن ذلك لكائن(2) .
وعن هانىء بن هانىء عن علي(عليه السلام) قال : ليقتل الحسين قتلا ، وإني لأعرف تربة الأرض التي يقتل عليها قريباً من النهرين .
وعن جابر ، عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال : قال علي للحسين : يا أبا عبدالله أسوة أنت قدماً؟ فقال : جعلت فداك ما حالي؟ قال : علمت ما جهلوا ، وسينتفع عالم بما علم ، يا بنيّ ، اسمع وأبصر من قبل أن يأتيك ، فو الذي نفسي بيده ليسفكن بنو أمية دمك ، ثمَّ لا يريدونك(3) عن دينك ، ولا ينسونك ذكر ربِّك ، فقال الحسين(عليه السلام) :
____________
1- بحار الأنوار ، المجلسي : 44/259 ح 11 عن بصائر الدرجات . 2- بحار الأنوار ، المجلسي : 44/261 ح 15 عن كامل الزيارات . 3- قال العلامة المجلسي عليه الرحمة في البحار : قوله(عليه السلام) : "لا يريدونك" أي لا يريدون صرفك عن دينك ، والأصوب لا يردونك ، وفي كامل الزيارات : ثم لا يزيلونك .
والذي نفسي بيده حسبي ، وأقررت بما أنزل الله ، وأصدِّق نبيَّ الله ، ولا أكذب قول أبي(1) .
وعن إسماعيل بن زياد قال : إن علياً(عليه السلام) قال للبراء بن عازب ذات يوم : يا براء! يقتل ابني الحسين وأنت حيٌّ لا تنصره ، فلمَّا قتل الحسين(عليه السلام) كان البراء بن عازب يقول : صدق والله علي بن أبي طالب ، قتل الحسين ولم أنصره ، ثم يظهر على ذلك الحسرة والندم(2) .
وروى عبدالله بن شريك العامري ، قال : كنت أسمع أصحاب علي إذا دخل عمر بن سعد من باب المسجد يقولون : هذا قاتل الحسين ، وذلك قبل أن يقتل بزمان طويل(3) .
وروى سالم بن أبي حفصة ، قال : قال عمر بن سعد للحسين(عليه السلام) : يا أبا عبدالله! إن قَبِلَنا ناساً سفهاء يزعمون أني أقتلك ، فقال له الحسين : إنهم ليسوا سفهاء ولكنهم حلماء ، أما إنه يقرُّ عيني أن لا تأكل برَّ العراق بعدي إلاَّ قليلا(4) .
وعن الحسن بن الحكم النخعي ، عن رجل قال : سمعت أمير المؤمنين صلوات الله عليه وهو يقول في الرحبة ، وهو يتلو هذه الآية : {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمْ السَّمَاءُ وَالاَْرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ}(5) وخرج عليه الحسين(عليه السلام) من بعض أبواب المسجد فقال : أما إن هذا سيُقتل وتبكي عليه السماء والأرض .
وعن إبراهيم النخعي قال : خرج أمير المؤمنين صلوات الله عليه فجلس في
____________
1- بحار الأنوار ، المجلسي : 44/262 ح 16 و17 عن كامل الزيارات . 2- بحار الأنوار ، المجلسي : 44/262 ح 18 عن بشارة المصطفى . 3- بحار الأنوار ، المجلسي : 44/262 ح 19 عن الإرشاد للشيخ المفيد : 2/131 . 4- بحار الأنوار ، المجلسي : 44/263 ح 10 . عن كشف الغمة : 2/218 ، والإرشاد للشيخ المفيد : 2/132 . 5- سورة الدخان ، الآية : 29 .
المسجد ، واجتمع أصحابه حوله ، وجاء الحسين(عليه السلام) حتى قام بين يديه ، فوضع يده على رأسه فقال : يا بنيّ! إن الله عيَّر أقواماً في القرآن فقال : {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمْ السَّمَاءُ وَالاَْرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ} وأيم الله ليقتلنك ، ثمَّ تبكيك السماء والأرض(1) .
وقد أخبر(عليه السلام) بذلك أيضاً كما روي عنه أنه(عليه السلام) لمَّا حضرته الوفاة قال لحسنين(عليهما السلام) : يا أبا محمد! ويا أبا عبدالله! كأني بكما وقد خرجت عليكما من بعدي الفتن من ههنا ، فاصبرا حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين . ثمَّ قال : يا أبا عبدالله! أنت شهيد هذه الأمة ، فعليك بتقوى الله والصبر على بلائه(2) .
قال ابن الأثير في ترجمة غرفة الأزدي قال : وكان من أصحاب النبيّ(صلى الله عليه وآله) ، ومن أصحاب الصفة ، وهو الذي دعا له النبيّ(صلى الله عليه وآله) أن يبارك له في صفقته ، قال غرفة الأزدي : دخلني شك من شأن عليّ(عليه السلام) ، فخرجت معه على شاطىء الفرات ، فعدل عن الطريق ، ووقف ووقفنا حوله ، فقال(عليه السلام) بيده : هذا موضع رواحلهم ، ومناخ ركابهم ، ومهراق دمائهم ، بأبي من لا ناصر له في الأرض ولا في السماء إلاَّ الله ، فلمَّا قتل الحسين(عليه السلام) خرجت حتى أتيت المكان الذي قُتلوا فيه ، فإذا هو كما قال(عليه السلام) ما أخطأ شيئاً ، قال : فاستغفرت الله مما كان مني من الشك ، وعلمت أن علياً(عليه السلام) لم يقدم إلاَّ بما عُهد إليه فيه(3) .
وعن سالم بن أبي جعدة قال : سمعت كعب الأحبار يقول : إن في كتابنا أن رجلا من ولد محمد رسول الله(صلى الله عليه وآله) يُقتل ، ولا يجفُّ عرق دوابّ أصحابه حتى يدخلوا الجنة فيعانقوا الحور العين ، فمرَّ بنا الحسن(عليه السلام) فقلنا : هو هذا؟ قال : لا ، فمرَّ بنا الحسين (عليه السلام) فقلنا : هو هذا؟ قال : نعم .
____________
1- بحار الأنوار ، المجلسي : 45/209 ح 15 عن كامل الزيارات . 2- بحار الأنوار ، المجلسي : 42/292 . 3- أسد الغابة ، ابن الأثير : 4/169 .