المجلس الخامس عشر
في انتقام الله تعالى من قتلة الإمام الحسين(عليه السلام)
روي عن عطاء بن مسلم ، قال : قال السدّي : أتيت كربلاء أبيع البرَّ بها ، فعمل لنا شيخ من طيّء طعاماً ، فتعشَّينا عنده ، فذكرنا قتل الحسين(عليه السلام) ، قلت : ما شرك في قتله أحد إلاَّ مات بأسوأ ميتة ، فقال : ما أكذبكم يا أهل العراق! فأنا ممن شرك في ذلك ، فلم نبرح حتى دنا من المصباح ليصلحه وهو يتّقد ، فذهب يخرج الفتيلة بإصبعه ، فأخذت النار فيها ، فأخذ يُطفئُها بريقه ، فأخذت النار لحيته ، فعدا فألقى نفسه في الماء ، فرأيته كأنه فحمة(1) .
وروى المدائني عن القاسم بن الأصبغ بن نباتة ، قال : رأيت رجلا من بني أبان ابن دارم أسود الوجه ، وكنت أعرفه جميلا شديد البياض ، فقلت له : ما كدت أعرفك ، قال : إني قتلت شاباً أمرد مع الحسين ، بين عينيه أثر السجود ، فما نمت ليلة منذ قتلته إلاَّ أتاني ، فيأخذ بتلابيبي حتى يأتي جهنَّم فيدفعني فيها ، فأصيح ، فما يبقى أحد في الحيّ إلاَّ سمع صياحي ، قال : والمقتول العباس بن علي(عليه السلام)(2) .
وقال موسى بن عامر : وبعث (أي المختار) معاذ بن هانىء بن عدي الكندي ابن أخي حجر ، وبعث أبا عمرة صاحب حرسه ، فساروا حتى أحاطوا بدار خولي بن يزيد الأصبحي ، وهو صاحب رأس الحسين(عليه السلام) الذي جاء به ، فاختبأ في مخرجه ، فأمر معاذ أبا عمرة أن يطلبه في الدار ، فخرجت امرأته إليهم ، فقالوا لها : أين زوجك؟ فقالت : لا أدري أين هو؟ وأشارت بيدها إلى المخرج ، فدخلوا
____________
1- تذكرة الحفاظ ، الذهبي : 3/909 ، ترجمة الإمام الحسين(عليه السلام) من كتاب بغية الطلب في تأريخ حلب ، ابن العديم : 180 ـ 181 ح 163 . 2- مقاتل الطالبيين ، أبو الفرج الإصفهاني : 78 ـ 79 .
فوجدوه قد وضع على رأسه قوصرة ، فأخرجوه ، وكان المختار يسير بالكوفة ، ثمَّ إنَّه أقبل في أثر أصحابه ، وقد بعث أبو عمرة إليه رسولا ، فاستقبل المختار الرسول ، عند دار أبي بلال ومعه ابن كامل ، فأخبره الخبر .
فأقبل المختار نحوهم ، فاستقبل به فردَّده حتى قتله إلى جانب أهله ، ثمَّ دعا بنار فحرقه بها ، ثُمَ لم يبرح حتى عاد رماداً ، ثمَّ انصرف عنه ، وكانت امرأته من حضرموت ، يقال لها : العيوف بنت مالك بن نهار بن عقرب ، وكانت نصبت له العداوة حين جاء برأس الحسين(عليه السلام)(1) .
ومما جاء في سوء عاقبة بحر بن كعب لعنه الله تعالى ـ وهو الذي سلب ثوب الحسين(عليه السلام) ـ قال بعض الرواة في ذلك : ولمَّا بقي الحسين(عليه السلام) في ثلاثة رهط أو أربعة دعا بسراويل محقّقة ، يلمع فيها البصر ، يمانيّ محقّق ، ففزره ونكثه لكيلا يسلبه ، فقال له بعض أصحابه : لو لبست تحته تبَّاناً ، قال(عليه السلام) : ذلك ثوب مذلّة ولا ينبغي لي أن ألبسه ، قال : فلمَّا قُتل أقبل بحر بن كعب فسلبه إياه فتركه مجرَّداً ، قال محمد بن عبد الرحمن : إن يدي بحر بن كعب كانتا في الشتاء ينضحان الماء ، وفي الصيف كأنهما عود(2) .
وقال عمارة بن عمير : لما جيء برأس عبيد الله بن زياد وأصحابه ، فنصبت في المسجد في الرحبة ، فانتهيت إليهم وهم يقولون : قد جاءت ، فإذا حيَّة قد جاءت تتخلَّل الرؤوس حتى دخلت في منخري عبيد الله بن زياد ، فمكثت هنيهة ثمَّ خرجت ، فذهبت حتى تغيب ، ثمَّ قالوا : قد جاءت ، قد جاءت ، ففعلت ذلك مرَّتين أو ثلاثاً(3) .
____________
1- تاريخ الطبري : 4/531 . 2- تاريخ الطبري : 4/345 . 3- سنن الترمذي : 5/325 ـ 326 ح 3869 ، البداية والنهاية ، ابن كثير : 8/208 ، المعجم الكبير ، الطبراني : 3/112 ح 2832 ، سير أعلام النبلاء : 3/548 ـ 549 ، تأريخ دمشق : 37/461 .
وروي عن زرارة ، قال : قال أبو عبدالله(عليه السلام) ـ في حديث له ـ : يا زرارة! وما اختضبت منّا امرأة ، ولا ادّهنت ، ولا اكتحلت ولا رجَّلت حتى أتانا رأس عبيد الله بن زياد لعنه الله ، وما زلنا في عبرة بعده ، وكان جدّي إذا ذكره بكى حتى تملأ عيناه لحيته ، وحتى يبكي لبكائه رحمةً له مَنْ رآه(1) .
وروى اليعقوبي ، قال : وجَّه المختار برأس عبيد الله بن زياد إلى علي بن الحسين(عليهما السلام) في المدينة مع رجل من قومه ، وقال له : قف بباب علي بن الحسين ، فإذا رأيت أبوابه قد فُتحت ودخل الناس فذلك الذي فيه طعامه ، فادخل إليه ، فجاء الرسول إلى باب علي بن الحسين(عليهما السلام) ، فلمَّا فُتحت أبوابه ، ودخل الناس للطعام ، دخل ونادى بأعلى صوته : يا أهل بيت النبوّة ، ومعدن الرسالة ، ومهبط الملائكة ، ومنزل الوحي ، أنا رسول المختار بن أبي عبيد ، معي رأس عبيد الله بن زياد ، فلم تبق في شيء من دور بني هاشم امرأة إلاَّ صرخت ، ودخل الرسول فأخرج الرأس ، فلمَّا رآه علي بن الحسين(عليه السلام) قال : أبعده الله إلى النار .
وروى بعضهم قال : إن عليَّ بن الحسين(عليه السلام) لم ير ضاحكاً قطّ منذ قُتل أبوه إلاّ في ذلك اليوم ، وإنَّه كان له إبل تحمل الفاكهة من الشام ، فلمَّا أُتي برأس عبيد الله بن زياد أمر بتلك الفاكهة فَفُرِّقت بين أهل المدينة ، وامتشطت نساء آل رسول الله(صلى الله عليه وآله) ، واختضبن ، وما امتشطت امرأة ولا اختضبت مُنذ قُتل الحسين بن علي(عليهما السلام)(2) .
وممَّا جاء في انتقام الله تعالى من شمر بن ذي الجوشن لعنه الله : قال أبو مخنف : فحدَّثني مسلم بن عبدالله ، قال : وأنا والله مع شمر تلك الليلة ، فقلنا : لو أنك ارتحلت بنا من هذا المكان فإنّا نتخوَّف به ، فقال : أو كل ذا فَرَقاً من هذا الكذّاب ،
____________
1- بحار الأنوار ، العلامة المجلسي : 45/206 ح 13 . 2- تاريخ اليعقوبي : 2/259 .
والله لا أتحوَّل منه ثلاثة أيام ، ملأ الله قلوبكم رعباً ، قال : وكان بذلك المكان الذي كنَّا فيه دبا كثير ، فوالله إني لبين اليقظان والنائم إذ سمعت وقع حوافر الخيل ، فقلت في نفسي : هذا صوت الدبا ، ثم إني سمعته أشد ذلك ، فانتبهت ومسحت عيني وقلت : لا والله ما هذا بالدبا ، قال : وذهبت لأقوم فإذا أنا بهم قد أشرفوا علينا من التل فكبَّروا ، ثم أحاطوا بأبياتنا ، وخرجنا نشتدّ على أرجلنا ، وتركنا خيلنا .
قال : فأمرُّ على شمر وإنه لمتّزرٌ ببرد محقّق ، وكان أبرص فكأني أنظر إلى بياض كشحيه من فوق البرد ، فإنه ليطاعنهم بالرمح قد أعجلوه أن يلبس سلاحه وثيابه فمضينا وتركناه ، قال : فما هو إلاَّ أن أمعنت ساعة إذ سمعت : الله أكبر قُتل الخبيث(1) .
وقال القندوزي الحنفي في قصة المختار وانتقامه من قتلة الحسين(عليه السلام) : فتبعوا المختار ، فملكوا الكوفة ، وقتلوا الستة آلاف الذين قاتلوا الحسين(عليه السلام) ، وقُتل رئيسهم عمر بن سعد ، وخصَّ شمر بمزيد نكال ، وأوطأ الخيل صدره وظهره لأنه فعل ذلك بالحسين(عليه السلام)(2) .
وعن ابن عياش ، عن الكلبي قال : رأيت سنان بن أنس الذي قتل الحسين(عليه السلام) يَحدِث في المسجد ، شيخ كبير قد ذهب عقله(3) ، وفي سنان لعنه الله يقول الشاعر :
وأيُّ رزيَّة عَدَلَتْ حُسيناً | غَدَاةَ تبيرُهُ كفّا سِنَانِ(4) |
قال أبو مخنف : وإن رجلا من كندة ـ يقال له : مالك بن النسر من بني بداء ـ أتى الحسين(عليه السلام) فضربه على رأسه بالسيف ، وعليه برنس له ، فقطع البرنس
____________
1- تاريخ الطبري : 4/525 ـ 526 ، تأريخ دمشق ، ابن عساكر : 23/191 ـ 192 . 2- ينابيع المودة ، القندوزي : 3/28 . 3- ترجمة الإمام الحسين(عليه السلام) من كتاب بغية الطلب في تأريخ حلب ، ابن العديم : 182 ح 166 . 4- الجوهرة في نسب الإمام علي وآله (عليهم السلام) ، البري : 45 ، الاستيعاب ، ابن عبد البر : 1/395 .
وأصاب السيف رأسه ، فأدمى رأسه ، فامتلأ البرنس دماً ، فقال له الحسين(عليه السلام) : لا أكلت بها ولا شربت ، وحشرك الله مع الظالمين ، قال : فألقى ذلك البرنس ، ثمَّ دعا بقلنسوة فلبسها ، واعتمَّ وقد أعيى وبلد ، وجاء الكندي حتى أخذ البرنس ، وكان من خز ، فلمَّا قدم به بعد ذلك على امرأته أمِّ عبدالله ـ ابنة الحر أخت حسين بن الحرّ البدي ـ أقبل يغسل البرنس من الدم ، فقالت له امرأته : أسلب ابن بنت رسول الله(صلى الله عليه وآله)تُدخل بيتي؟ أخرجه عنّي ، فذكر أصحابه أنه لم يزل فقيراً بشرٍّ حتى مات(1) .
قال أبو مخنف : لمَّا أخذ الكندي عمامة الحسين(عليه السلام) قالت زوجة الكندي : ويلك ، قتلت الحسين وسلبت ثيابه ، فوالله لا جمعت معك في بيت واحد ، فأراد أن يلطمها فأصاب مسمارٌ يدَه ، فقُطعت يده من المرفق ولم يزل كان فقيراً(2) .
وروى أحمد بن حنبل في العلل ، عن عثمان بن أبي سليمان قال : لما بعث المختار برأس عمر بن سعد بن أبي وقاص إلى المدينة ألقي بين يدي علي بن الحسين(عليهما السلام) ، فخرَّ ساجداً(3) .
وروى ابن عساكر ، عن سليمان بن مسلم صاحب السقط ، عن أبيه قال : كان أول من طعن في سرادق الحسين (عليه السلام) عمر بن سعد ، قال : فرأيته هو وابنيه ضربت أعناقهم ، ثمَّ عُلِّقوا على الخشب ، وألهب فيهم النيران .
وعن أبي المُعلى العجلي قال : سمعت أبي أن الحسين(عليه السلام) لمَّا نزل كربلاء فأوَّل من طعن في سرادقه عمر بن سعد ، فرأيت عمر بن سعد وابنيه قد ضربت أعناقهم ، ثمَّ علِّقوا على الخشب ، ثمَّ ألهب فيهم النار ، وقال غيره : بعث المختار بن
____________
1- تاريخ الطبري : 4/342 . 2- ينابيع المودة ، القندوزي : 3/82 . 3- العلل ، أحمد بن حنبل : 1/133 ح 11 .
أبي عبيد إلى عمر بن سعد مولاه أبا عمر فقتله ، وقتل حفص بن عمر بن سعد(1) .
وعن رباح بن مسلم ، عن أبيه قال : قال ابن مطيع لعمر بن سعد بن أبي وقاص : اخترت همذان والريّ على قتل ابن عمِّك؟ فقال عمر : كانت أمور قضيت من السماء ، وقد أعذرت إلى ابن عمي قبل الوقعة فأبى إلاَّ ما أتى ، فلمَّا خرج ابن مطيع وهرب من المختار سار المختار بأصحابه إلى منزل عمر بن سعد فقتله في داره ، وقتل ابنه أسوأ قتلة(2) .
وروى ابن عساكر عن عمران بن ميثم قال : كنت جالساً عند المختار عن يمينه ، والهيثم بن الأسود عن يساره ، فقال : والله لأقتلن غداً رجلا يرضي قتله أهل السماء وأهل الأرض ، قال : وقد كان أعطى عمر بن سعد أماناً على أن لا يخرج من الكوفة إلاَّ بإذنه .
قال : فأتى عمر بن سعد رجل ، فقال : إن المختار حلف ليقتلن غداً رجلا ، والله ما أحسبه يعني غيرك ، قال : فخرج حتى نزل حمام عمر ، فقيل له : أترى هذا يخفى على المختار؟ فرجع فدخل داره ، فلمَّا كان من الغد غدوت فدخلت على المختار ، وجاء الهيثم بن الأسود فقعد ، قال : فجاء حفص بن عمر ، فقال للمختار : يقول لك أبو حفص : أتفي لنا بالذي كان بيننا وبينك؟ قال : اجلس ، قال : فجلس ، ودعا المختار أبا عمرة ، فجاء رجل قصير يتخشخش في الحديد فسارَّه ، ثمَّ دعا رجلين ، فقال : اذهبا معه ، قال : فذهب ، فوالله ما أحسبه بلغ دار عمر حتى جاء برأسه ، فقال حفص : إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، فقال المختار : اضرب عنقه ، وقال : عمر بالحسين(عليه السلام) ، وحفص بعلي بن الحسين(عليهما السلام) ، ولا سواء(3) .
____________
1- تاريخ مدينة دمشق ، ابن عساكر : 45/54 . 2- تاريخ مدينة دمشق ، ابن عساكر : 45/54 ـ 55 ، الطبقات الكبرى ، ابن سعد : 5/148 . 3- تاريخ مدينة دمشق ، ابن عساكر : 45/55 ـ 56 .
وعن موسى بن عامر أن المختار قال ذات يوم وهو يحدِّث جلساءه : لأقتلن غداً رجلا عظيم القدمين ، غائر العينين ، مشرف الحاجبين ، يسرُّ قتله المؤمنين والملائكة المقربين .
قال : وكان الهيثم بن الأسود النخعي عند المختار حين سمع هذه المقالة ، فوقع في نفسه أن الذي يريد عمر بن سعد بن أبي وقاص ، فلمَّا رجع إلى منزله دعا ابنه العريان فقال : الق ابن سعد الليلة ، فخبِّره بكذا وكذا ، وقل له : خذ حذرك ، فإنه لا يريد غيرك ، قال : فأتاه فاستخلاه ، ثمَّ خبَّره الخبر ، فقال له ابن سعد : جز الله بالإخاء أباك خيراً ، كيف يريد هذا بي بعد الذي أعطاني من العهود والمواثيق؟
وكان المختار أول ما ظهر أحسن شيء سيرةً وتألُّفاً للناس ، وكان عبدالله بن جعدة بن هبيرة أكرم خلق الله على المختار لقرابته بعليّ ، فكلَّم عمر بن سعد عبدالله بن جعدة وقال له : إني لا آمن هذا الرجل ـ يعني المختار ـ فخذ لي منه أماناً ، ففعل ، قال : فأنا رأيت أمانه وقرأته وهو :
بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا أمان من المختار بن أبي عبيد لعمر بن سعد بن أبي وقاص ، إنك آمن بأمان الله على نفسك وأهلك ومالك وأهل بيتك وولدك ، لا تؤاخذ بحدث كان منك قديماً ما سمعت وأطعت ولزمت رحلك وأهلك ومصرك ، فمن لقي عمر بن سعد من شرطة الله وشيعة آل محمد(صلى الله عليه وآله) وغيرهم من الناس فلا يعرض له إلاَّ بخير ، شهد السائب بن مالك ، وأحمر بن شميط ، وعبدالله بن شدَّاد ، وعبدالله بن كامل وجعل المختار على نفسه عهد الله وميثاقه ليفين لعمر بن سعد بما أعطاه من الأمان إلاَّ أن يحدث حدثاً ، وأشهد الله على نفسه وكفى بالله شهيداً .
قال : وكان أبو جعفر محمد بن علي(عليهما السلام) يقول : أمَّا أمان المختار لعمر بن سعد إلاَّ أن يحدث حدثاً فإنه كان يريد به إذا دخل الخلاء فأحدث .
قال : فلمَّا جاءه العريان بهذا خرج من تحت ليلته حتى أتى حمَّامه ، ثمَّ قال في
نفسه : أنزل داري ، فرجع فعبر الروحاء ، ثمَّ أتى داره غدوة ، وقد أتى حمَّامه ، فأخبر مولى له بما كان من أمانه وبما أريد منه ، فقال له مولاه : وأيُّ حدث أعظم مما صنعت ، إنك تركت رحلك وأهلك ، وأقبلت إلى ها هنا ، ارجع إلى رحلك ولا تجعل للرجل عليك سبيلا ، فرجع إلى منزله فأُتي المختار بانطلاقه ، فقال : كلا ، إن في عنقه سلسلة ستردّه ، لو جهد أن ينطلق ما استطاع .
قال : وأصبح المختار فبعث إليه أبا عمرة ، وأمره أن يأتيه به ، فجاءه حتى دخل عليه ، فقال : أجب ، فقام عمر فعثر في جبّة له ، ويضربه أبو عمرة بسيفه ، فقتله ، وجاء برأسه في أسفل قبائه حتى وضعه بين يدي المختار ، فقال المختار لابنه حفص بن عمر بن سعد ـ وهو جالس عنده ـ أتعرف هذا الرأس؟ فاسترجع ، وقال : نعم ، ولا خير في العيش بعده ، قال له المختار : صدقت فإنك لا تعيش بعده ، فأمر به فقُتل فإذا رأسه مع رأس أبيه .
ثمَّ إن المختار قال : هذا بحسين ، وهذا بعلي بن حسين رحمهما الله ، ولا سواء ، والله لو قتلت ثلاثة أرباع قريش ما وفوا بأنملة من أنامله ، فلمَّا قتل المختار عمر بن سعد وابنه بعث برأسيهما مع مسافر بن سعيد بن نمران الناعطي ، وظبيان بن عمارة التميمي حتى قدما به على محمد بن الحنفية ، وكتب إلى ابن الحنفية في ذلك كتاباً(1) .
وأمَّا حرملة بن كاهل فقد انتقم الله تعالى منه شرَّ انتقام ، فهو قاتل عبدالله الرضيع ، وهو الذي رمى العباس بن أمير المؤمنين(عليه السلام) بسهم فأصاب عينه ، وهو الذي حمل رأس الحسين(عليه السلام) ، وقد انتقم الله منه على يد المختار الثقفي ، روى الشيخ الطوسي عليه الرحمة ، عن المنهال بن عمرو قال : دخلت على علي بن الحسين(عليهما السلام)منصرفي من مكة ، فقال لي : يا منهال ، ما صنع حرملة بن كاهلة الأسدي؟ فقلت : تركته حيّاً بالكوفة ، قال : فرفع يديه جميعاً ، فقال : اللهمَّ أذقه حرَّ الحديد ، اللهمَّ
____________
1- تاريخ مدينة دمشق ، ابن عساكر : 45/56 ـ 58 ، تاريخ الطبري : 4/531 ـ 532 .
أذقه حرَّ الحديد ، اللهمَّ أذقه حرَّ النار . قال المنهال : فقدمت الكوفة ، وقد ظهر المختار بن أبي عبيد ، وكان لي صديقاً ، قال : فكنت في منزلي أياماً حتى انقطع الناس عنّي ، وركبت إليه فلقيته خارجاً من داره ، فقال : يا منهال ، لم تأتنا في ولايتنا هذه ، ولم تهنِّنا بها ، ولم تُشركنا فيها؟ فأعلمته أني كنت بمكة ، وأني قد جئتك الآن ، وسايرته ونحن نتحدَّث حتى أتى الكناس ، فوقف وقوفاً كأنه ينتظر شيئاً ، وقد كان أُخبر بمكان حرملة ابن كاهلة ، فوجَّه في طلبه ، فلم نلبث أن جاء قوم يركضون ، وقوم يشتدّون حتى قالوا : أيُّها الأمير ، البشارة ، قد أُخذ حرملة بن كاهلة ، فما لبثنا أن جيء به ، فلما نظر إليه المختار قال لحرملة : الحمد لله الذي مكَّنني منك ، ثمَّ قال الجزّار الجزّار ، فأتي بجزّار ، فقال له : اقطع يديه ، فقُطعتا ، ثمَّ قال له : اقطع رجليه ، فقُطعتا ، ثم قال : النار النار ، فأتي بنار وقصب فأُلقي عليه واشتعلت فيه النار .
فقلت : سبحان الله! فقال لي : يا منهال ، إن التسبيح لحَسن ، ففيم سبَّحت؟ فقلت : أيُّها الأمير ، دخلت في سفرتي هذه منصرفي من مكة على علي بن الحسين(عليهما السلام) فقال لي : يا منهال ، ما فعل حرملة بن كاهلة الأسدي؟ فقلت : تركته حيَّاً بالكوفة ، فرفع يديه جميعاً فقال : اللهم أذقه حرَّ الحديد ، اللهم أذقه حرَّ الحديد ، اللهم أذقه حرَّ النار .
فقال لي المختار : أسمعت علي بن الحسين(عليهما السلام) يقول هذا؟ فقلت : والله لقد سمعته ، قال : فنزل عن دابته ، وصلَّى ركعتين فأطال السجود ، ثمَّ قام فركب ، وقد احترق حرملة ، وركبت معه وسرنا ، فحاذيت داري ، فقلت : أيُّها الأمير ، إن رأيت أن تُشرِّفني وتُكرمني وتنزل عندي وتحرم بطعامي ، فقال : يا منهال ، تعلمني أن علي بن الحسين (عليه السلام) دعا بأربع دعوات فأجابه الله على يدي ، ثمَّ تأمرني أن آكل! هذا يومُ صوم شكراً لله عزَّ وجلَّ على ما فعلته بتوفيقه(1) .
____________
1- الآمالي ، الطوسي : 238 ـ 239 ح 15 .
فلعنة الله على حرملة بن كاهل الذي فجع أهل البيت(عليهم السلام) بقتله عبدالله الرضيع ، فلم تكن في قلبه شفقة ولا رحمة على رضيع الحسين(عليه السلام) فبأي ذنب قتله ، ولله درّ السيد حيدر الحلي عليه الرحمة إذ يقول في مقتل عبدالله الرضيع ومصيبة الفاطميات في السبا :
وَمُنْعَطِف أهوى لتقبيلِ طِفْلِهِ | فَقَبَّلَ منه قَبْلَه السَّهْمُ مَنْحَرا |
لقد وُلِدَا في سَاعَة هو والرَّدَى | وَمِنْ قَبْلِهِ في نَحْرِه السَّهْمُ كبَّرا |
وفي السَّبْيِ مما يصطفي الخِدْرُ نِسْوَةٌ | يعزُّ على فتيانِها أن تُسَيَّرا |
حَمَتْ خِدْرَها يَقْظَى وودَّت بنومِهَا | تَرُدُّ عليها جَفْنَها لا على الكَرَى |
فَأَضْحَتْ ولا من قَوْمِها ذو حفيظة | يقومُ وَرَاءَ الخِدْرِ عنها مُشَمِّرا |
مشى الدَّهْرُ يومَ الطفِّ أعمى فلم يَدَعْ | عِمَاداً لها إلاَّ وفيه تَعَثَّرا |
وَجَشَّمَها الْمَسْرَى بِبَيْدَاءَ قَفْرَة | وَلَمْ تَدْرِ قَبْلَ الطفِّ ما البيدُ والسُّرَى |
وَلَمْ تَرَ حتَّى عينُها ظِلَّ شَخْصِها | إِلَى أَنْ بَدَت في الغاضريَّةِ حُسَّرَا(1) |
المجلس السادس عشر
ظلامات أهل البيت(عليهم السلام) واضطهادهم
وما جرى عليهم من القتل والتشريد
جاء في بعض زيارات أئمّة أهل البيت(عليهم السلام) : وأنتم بين صريع في المحراب قد فلق السيف هامته ، وشهيد فوق الجنازة قد شُكَّت بالسهام أكفانه ، وقتيل بالعراء قد رُفع فوق القناة رأسه ، ومكبَّل في السجن رُضَّت بالحديد أعضاؤه ، ومسموم قد قُطِّعت بجرع السمِّ أمعاؤه ، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون ، ولا حول ولا قوَّة إلاَّ بالله العليِّ
____________
1- رياض المدح والرثاء ، الشيخ حسين القديحي : 63 .
العظيم ، ولله درّ السيد حيدر الحلي عليه الرحمة إذ يقول :
مَا ذَنْبُ أَهْلِ البيتِ حتَّـ | ـى مِنْهُمُ أَخْلَوا رُبُوعَهْ |
تركوهُمُ شتَّى مصائبُهُمْ | وأجمعُهَا فظيعَهْ |
فَمُغَيَّبٌ كالبدرِ ترتقبُ الـ | وَرَى شَوْقاً طُلُوعَه |
ومُكََابِدٌ للسمِّ قَدْ | سُقِيَتْ حُشَاشَتُهُ نَقِيعَه |
وَمُضَرَّجٌ بالسيفِ آ | ثَرَ عِزَّهُ وأبى خُضُوعَه |
وقد أخبر رسول الله(صلى الله عليه وآله) هذه الأمّة بما يجري على أهل بيته(عليهم السلام) من القتل والتشريد والإضطهاد ، وما يقع عليهم من الظلم والعدوان . روي عن عبدالله بن مسعود قال : أتينا رسول الله(صلى الله عليه وآله) فخرج إلينا مستبشراً ، يُعرف السرور في وجهه ، فما سألناه عن شيء إلاَّ أخبرنا به ، ولا سكتنا إلاّ ابتدأنا ، حتى مرَّت فتية من بني هاشم فيهم الحسن والحسين(عليهما السلام) ، فلمَّا رآهم التزمهم وانهملت عيناه ، فقلنا : يا رسول الله! ما نزال نرى في وجهك شيئاً نكرهه؟
فقال(صلى الله عليه وآله) : إنّا أهل بيت اختار الله لنا الآخرة على الدنيا ، وإنه سيلقى أهل بيتي من بعدي تطريداً ، وتشريداً في البلاد ، حتى ترتفع رايات سود من المشرق فيسألون الحق فلا يُعطونه ، ثمَّ يسألونه فلا يُعطونه ، ثمَّ يسألونه فلا يُعطونه ، فيقاتلون فيُنصرون ، فمن أدركه منكم أو من أعقابكم فليأت إمام أهل بيتي ولو حبواً على الثلج ، فإنها رايات هدى ، يدفعونها إلى رجل من أهل بيتي يواطىء اسمه اسمي . . فيملك الأرض ، فيملأها قسطاً وعدلا كما ملئت جوراً وظلماً(1) .
وروي عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله(صلى الله عليه وآله) قال : إن أهل بيتي سيلقون من بعدي من أمتي قتلا وتشريداً ، وإن أشدَّ قومنا لنا بغضاً بنو أمية ، وبنو المغيرة ،
____________
1- المستدرك على الصحيحين ، الحاكم : 4/511 ، المعجم الكبير ، الطبراني : 10/85 .
وبنو مخزوم(1) .
قال المناوي : وروي في الحديث : من آل بيتي مسموم ، ومقتول ، ومحروق ، قال : وفُسِّر الأول بالحسن(عليه السلام) ، والثاني بالحسين(عليه السلام) ، والثالث بزيد بن علي(عليه السلام)(2) .
وقد أوصى المصطفى(صلى الله عليه وآله) هذه الأمَّة بحفظ عترته وأهل بيته(عليهم السلام) ، ولكن هذه الأمة لم ترع حقَّ رسول الله(صلى الله عليه وآله) في عترته ، فانظر أُيها الموالي ماذا فعلوا بهم ، وما جرى عليهم من قتلهم ، وسفك دمائهم ، وتشريدهم عن أوطانهم ، وحبسهم في المطامير ، وغير ذلك من ألوان العذاب والتنكيل ، من ولاة الجور والظلمة ، فتناسوا كلَّ وصايا النبي(صلى الله عليه وآله) وكأنهم لم يسمعوا شيئاً من وصاياه في حقّ عترته وأبنائه الطاهرين(عليهم السلام) .
قال الباري تعالى عن اليتيمين في القرآن الكريم : {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً}(3) . وجاء في تفسير هذه الآية عن ابن عباس وجابر وأبي عبدالله الصادق(عليه السلام) : إن الله يصلح بصلاح الرجل ولده وولد ولده ، ويحفظه في ذرّيّته ، وكان السابع(4) من آبائهما(5) .
وقال المقريزي : فإذا صحَّ أن الله سبحانه قد حفظ غلامين لصلاح أبيهما فيكون قد حفظ الأعقاب برعاية الأسلاف ، وإن طالت الأحقاب ، ومن ذلك ما جاء في الأثر أن حمام الحرم من حمامتين عشَّشتا على فم الغار الذي اختفى فيه
____________
1- المستدرك على الصحيحين : 4/534 ح 8500 ، قال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ، الفتن ، نعيم بن حماد : 1/131 ح 319 . 2- الكواكب الدرية ، المناوي : 4/303 . 3- سورة الكهف ، الآية : 82 . 4- وقيل التاسع ، وقيل العاشر ، راجع فتح القدير ، الشوكاني 3/304 مورد الآية . 5- راجع : الدر المنثور ، السيوطي : 4/235 ، فتح القدير ، الشوكاني : 3/306 وص 304 مورد الآية .
رسول الله(صلى الله عليه وآله)(1) . فلذلك حَرُمَ حَمامُ الحرم ، وإذا كان كذلك فمحمد(صلى الله عليه وآله) أحرى وأولى وأحقّ وأجدر أن يحفظ الله تعالى ذرّيّته ، فإنه إمام الصلحاء ، وما أصلح الله فسادَ خَلقِه إلاَّ به(2) .
وروي عن الإمام الحسن(عليه السلام) أنه قال لبعض الخوراج : بمَ حفظ الله مال الغلامين؟ قال : بصلاح أبيهما ، قال : فأبي وجدّي خيرٌ منه!!(3) .
وروي عن الإمام علي بن الحسين(عليهما السلام) قال : ألا إن الله ذكر أقواماً بآبائهم فحفظ الأبناء للآباء ، قال تعالى : {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً} ولقد حدَّثني أبي عن آبائه أنه التاسع من ولده ، ونحن عترة رسول الله احفظوها لرسول الله(صلى الله عليه وآله)(4) .
وروي عن الإمام الصادق جعفر بن محمد(عليهما السلام) قال : احفظوا فينا ما حفظ العبد الصالح في اليتيمين(5) . وجاء عن ابن عباس(رضي الله عنه) ، في قوله تعالى : {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً} قال : حُفظا لصلاح أبيهما ، وما ذكر عنهما صلاحاً(6) .
وقال الكاتب عبد الحليم الجندي : فليس في تأريخ البشرية كلِّها أسرةٌ شُرِّدت وجُرِّدت ، وذاقت العذاب والاسترهاب ، مثل أهل بيت النبي(صلى الله عليه وآله) ، بدأ بهم تأريخ الإسلام مجده ، واستمر فيهم بعبرته وعظمتهم ، قدَّم أبوهم للبشريَّة أسباب خلاصها بكتاب الله وسنة الرسول(صلى الله عليه وآله) ، وقدَّم أهل بيته أرواحهم في سبيل القيم التي نزل بها القرآن ، وجاءت بها السنَّة ، كانت مصابيحُهم تتحطَّم ، لكنَّ
____________
1- راجع الصواعق المحرقة : 242 ط . مصر ، و 361 ط . بيروت ـ خاتمة في ذكر أمور مهمة . 2- فضل آل البيت ، المقريزي : 110 . 3- تفسير الرازي : 21/162 مورد الآية . 4- رشفة الصادي ، ابن شهاب الشافعي : 91 باب 9 . 5- الصواعق المحرقة ، ابن حجر : 175 ط . مصر ، 266 ط . بيروت ، المقصد الثالث من الآية الرابعة ، فضائل آل البيت ، المقريزي : 109 . 6- المستدرك ، الحاكم : 2/369 ، فضل آل البيت ، المقريزي : 109 .
شعلتهم لا تنطفىء ، لتخلِّد الجهاد والاستشهاد والإرشاد ، بالمثل العالي الذي كانوه ، والضوء الذي لم تمنع الموانع من انتشاره ، وعلَّم فيه أبناءُ النبي(صلى الله عليه وآله) أمتَه بعض علومه : أن الاستشهاد حياة للمستشهدين وللأحياء جيمعاً(1) .
وناهيك ـ أيُّها الموالي ـ لو سمعت كلمات أهل البيت(عليهم السلام) فيما جرى عليهم من الظلمة من الجور والعدوان والظلم والاستبداد ، فاستمع إلى كلماتهم التي خرجت من صدور مكلومة بالألم ، طفح بها الكيل حتى أصبحت مما عانته من ولاة الجور وملؤها حسرةٌ وألم ، فأصبحوا في الأُمة التي خلَّفهم فيها رسول الله(صلى الله عليه وآله) بمنزلة بني إسرائيل في آل فرعون ، يذبِّحون أنباءهم ويستحيون نساءهم .
روي عن زيد بن علي بن الحسين ، عن أبيه ، عن جده(عليهم السلام) ، قال : قال علي(عليه السلام) : كنت مع الأنصار لرسول الله(صلى الله عليه وآله) على السمع والطاعة له في المحبوب والمكروه ، فلمَّا عزَّ الإسلام ، وكثُر أهله ، قال(صلى الله عليه وآله) : يا علي ، زد فيها : على أن تمنعوا رسول الله وأهل بيته مما تمنعون منه أنفسكم وذراريكم ، قال : فحملها على ظهور القوم ، فوفى بها من وفى ، وهلك من هلك(2) .
وروي أنه قيل لعلي بن الحسين(عليه السلام) : كيف أصبحت؟ فقال(عليه السلام) : أصبحنا خائفين برسول الله(صلى الله عليه وآله) ، وأصبح جميع أهل الإسلام آمنين به(3) .
وروي عن الإمام علي بن الحسين(عليه السلام) هذه الأبيات الشريفة :
نحن بنو المصطفى ذوو غُصَص | يَجْرَعُها في الأنامِ كَاظِمُنا |
عظيمةٌ في الأنامِ مِحْنَتُنا | أوَّلُنا مُبْتَلىً وآخِرُنا |
يَفْرَحُ هذا الوَرَى بعيدِهِمُ | ونحن أعيادُنا مآتِمُنا |
____________
1- الإمام جعفر الصادق(عليه السلام) ، عبد الحليم الجندي : 111 . 2- شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 6/44 ـ 45 . 3- التذكرة الحمدونية ، ابن حمدون : 9/224 رقم : 443 .
والناسُ في الأَمْنِ والسُّرُورِ ولا | يَأْمَنُ طُوْلَ الحَيَاةِ خَائِفُنا(1) |
وروى القندوزي الحنفي من مقتل أبي مخنف أن الإمام زين العابدين(عليه السلام) لمَّا وصل من الأسر إلى المدينة خطب في أهل المدينة ، وقال(عليه السلام) في خطبته : . . أيها الناس ، أصبحنا مشرَّدين مطرودين مذودين شاسعين عن الأوطان ، من غير جرم اجترمناه ، ولا مكروه ارتكبناه ، ولا ثلمة في الإسلام ثلمناها ، ولا فاحشة فعلناها ، فوالله لو أن النبي(صلى الله عليه وآله) أوصى إليهم في قتالنا لما زادوا على ما فعلوا بنا ، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون(2) .
وقال الناشي الصغير في قصيدة له وهي بضعة عشر بيتاً ، ذكر منها الحموي قوله :
عجب لكم تُفنون قتلا بِسَيْفِكُمُ | ويسطو عليكم مَنْ لكم كان يَخْضَعُ |
فما بقعةٌ في الأرض شرقاً ومغرباً | وليس لكم فيها قتيلٌ ومَصْرَعُ |
ظُلِمْتُم وَقُتِّلْتُم وَقُسِّمَ فَيْئُكُمْ | وَضَاقَتْ بكم أرضٌ فلم يَحْمِ مَوْضِعُ |
كأنَّ رسولَ اللهِ أوصى بقتِلكم | وأجسامُكُمْ في كُلِّ أرض تُوَزَّعُ(3) |
وقال السيِّد صالح النجفي القزويني عليه الرحمة المتوفى سنة 1306 هـ :
فطوسٌ لكم والكَرْخُ شَجْواً وكربلا | وكوفانُ تبكي والبقيعُ وزمزمُ |
وكم قد تعطَّفتم عليهم ترحُّماً | فلم يعطفوا يوماً عليكم ويرحموا |
فَلاَ رَبِحَتْ آلُ الطليقِ تِجَارةً | ولا بَرِحَتْ هوناً تُسامُ وَتُرْغَمُ |
فَمَا مِنْكُمُ قَدْ حرَّم اللهُ حَلَّلُوا | وما لَكُمُ قد حلَّل اللهُ حَرَّمُوا |
وَجَدُّهُمُ لو كان أوصى بقتلِهِمْ | إليكم لَمَا زِدْتُم على ما فَعَلْتُمُ |
____________
1- شجرة طوبى ، الحائري : 1/6 ، وأوردها الذهبي في سير أعلام النبلاء : 15/167 ونسبها لغير الإمام(عليه السلام) . 2- ينابيع المودة لذوي القربى ، القندوزي : 3/93 . 3- معجم الأدباء ، الحموي : 13/292 ـ 293 ، لسان الميزان ، ابن حجر 4/239 ـ 240 .
فصمتُمْ من الدينِ الحنيفيِّ حَبْلَهُ | وعُرْوَتَهُ الوثقى التي ليس تُفْصَمُ(1) |
وعن المنهال بن عمرو قال : دخلت على علي بن الحسين(عليه السلام) فقلت : كيف أصبحت أصلحك الله؟ فقال(عليه السلام) : ما كنت أرى شيخاً من أهل المصر مثلك لا يدري كيف أصبحنا ، فأمَّا إذ لم تدر أو تعلم فسأخبرك : أصبحنا في قومنا بمنزلة بني إسرائيل في آل فرعون ، إذ كانوا يذبِّحون أبناءهم ، ويستحيون نساءهم ، وأصبح شيخنا وسيِّدنا يُتَقَرَّبُ إلى عدوِّنا بشتمه أو سبِّه على المنابر ، وأصبحت قريش تعدُّ أن لها الفضل على العرب لأن محمداً(صلى الله عليه وآله) منها ، لا يعدُّ لها فضل إلاَّ به وأصبحت العربُ مقرَّةً لهم بذلك ، وأصبحت العرب تعدُّ أن لها الفضل على العجم لأن محمداً(صلى الله عليه وآله) منها ، لا يُعدُّ لها فضل إلاَّ به ، وأصبحت العجمُ مقرَّةً لهم بذلك ، فلئن كانت العرب صدَّقت أن لها الفضل على العجم ، وصدَّقت قريش أن لها الفضل على العرب ، لأن محمد(صلى الله عليه وآله)(منها) إن لنا أهل البيت الفضل على قريش لأن محمداً(صلى الله عليه وآله)منا ، فأصبحوا يأخذون بحقّنا ، ولا يعرفون لنا حقاً ، فهكذا أصبحنا إذ لم تعلم كيف أصبحنا قال : فظننت أنه أراد أن يُسمع من في البيت(2) .
وروي عن الإمام محمد الباقر(عليه السلام) أنه قال : لا رعى الله (حقَّ) هذه الأمة ، فإنها لم ترع حقَّ نبيِّها(صلى الله عليه وآله) في أهله ، أما والله لو تركوا الحقَّ لأهله لما اختلف في الله تعالى اثنان ، وأنشد(عليه السلام) يقول :
إنَّ اليهودَ لِحُبِّهم لنبيِّهم | أَمِنُوا بَوَائِقَ حَادِثِ الأَزْمَانِ |
وذوو الصليبِ بحبِّهم لصليبِهِمْ | يمشون زهواً في قُرَى نَجْرَانِ |
والمؤمنون بحُبِّ آلِ محمَّد | يُرْمَونَ في الآفاق بالنيرانِ(3) |
____________
1- الإمام محمد الجواد(عليه السلام) ، الحاج حسين الشاكري : 489 . 2- الطبقات الكبرى ، ابن سعد : 5/219 ، تاريخ مدينة دمشق ، ابن عساكر : 396 ، تهذيب الكمال ، المزي : 20/399 ، المنتخب من ذيل المذيل ، الطبري : 119 . 3- كتاب الإلمام ، الإسكندراني : 5/301 ، ينابيع المودة ، القندوزي : 3/42 و 249 .
وروي عن الإمام جعفر بن محمد الصادق(عليه السلام) أنه قال : احفظوا فينا ما حفظ العبد الصالح في اليتيمين لأبيهما الصالح ، وكان الجدَّ السابع ، وقد ضيَّعت هذه الأمَّة حقَّ رسول الله(صلى الله عليه وآله) بقتل أولاده(1) .
قال الفخر الرازي في تفسير سورة (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ) : فانظركم قتل من أهل البيت(عليهم السلام) ، ثم العَالَم ممتلئ منهم ، ولم يبق من بني أمية أحدٌ يُعبأبه(2)
أقول : فهذه قبور آل رسول الله(صلى الله عليه وآله) مشتتة في البلدان ، نائية عن الأوطان ، ورحم الله شاعر أهل البيت(عليهم السلام) دعبل الخزاعي إذ يقول في ذلك :
قبور بكوفان ، وأخرى بطيبة | وأخرى بفخّ نالها صلواتِ |
وأخرى بأرض الجوزجان محلُّها | وقبر بباخمرى لدى الغرباتِ |
وقبر ببغداد لنفس زكية | تضمنها الرحمن في الغرفاتِ |
وقبر بطوس يا لها من مصيبة | ألحت على الأحشاء بالزفراتِ |
قبور ببطن النهر من جنب كربلا | معرسهم فيها بشط فراتِ |
توفوا عطاشا بالفرات فليتني | توفيت فيهم قبل حين وفاتي |
المجلس السابع عشر
ظلامات أهل البيت (عليهم السلام) وشيعتهم
روي أنه وقف الإمام الصادق صلوات الله عليه مستتراً في خفية ، يشاهد
المحامل التي حمل عليها عبدالله بن الحسن وأهله في القيود والحديد من المدينة إلى العراق بأمر المنصور الدوانيقي ، فلمَّا مرّوا به بكى ، وقال(عليه السلام) : ما وفت الأنصار ولا
____________
1- مقتل الحسين(عليه السلام) ، الخوارزمي : 2/115 ح 47 . 2- تفسير الفخر الرازي : 32/124 .
أبناء الأنصار لرسول الله(صلى الله عليه وآله) ، بايعهم على أن يمنعوا محمداً وأبناءه وأهله وذرّيّته مما يمنعون منه أنفسهم وأبناءهم وأهلهم وذراريهم فلم يفوا ، اللهم اشدد وطأتك على الأنصار(1) .
وقال منصور النمري رحمه الله تعالى في ظلامة أهل البيت(عليهم السلام) :
آلُ النبيِّ وَمَنْ يُحِبُّهُمُ | يتطامنون مَخَافَةَ الْقَتْلِ |
أَمِنَ النصارى واليهودُ وَهُمْ | من أُمَّةِ التوحيدِ في أَزْلِ(2) |
وقد أُنْشِدَ الرشيد هذين البيتين بعد موت منصور النمري رحمه الله تعالى ، فقال الرشيد ـ بعد أن أرسل إليه من يقتله ، فوجده قد مات ـ : لقد هممت أن أنبش عظامه فأحرقها . .(3)
وقال في طبقات الشعراء : إن الرشيد بعد سماعه لمدائح النمري في أهل البيت(عليهم السلام) ، أمر أبا عصمة بأن يخرج من ساعته إلى الرقّة ، ليسلَّ لسان منصور من قفاه ، ويقطع يده ورجله ، ثمَّ يضرب عنقه ، ويحمل إليه رأسه ، بعد أن يصلب بدنه ، فخرج أبو عصمة لذلك ، فلمَّا صار بباب الرقّة استقبلته جنازة النمري ، فرجع إلى الرشيد فأعلمه ، فقال له الرشيد : ويلي عليك يا بن الفاعلة ، فأَلاَّ إذ صادفته ميِّتاً فأحرقته بالنار!(4) .
وروى ابن أبي الحديد المعتزلي أيضاً ، قال : لما ولي خالد بن عبدالله القسري مكة ـ وكان إذا خطب بها لعن علياً والحسن والحسين(عليهم السلام) ـ فقال عبيدالله بن كثير السهمي وقد أخذ بأستار الكعبة :
لعن اللهُ مَنْ يسبُّ عليّاً | وحسيناً من سُوقَة وَإِمَامِ |
____________
1- شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 6/44 ـ 45 ، مقاتل الطالبيين ، الإصبهاني : 149 . 2- زهر الآداب وثمر الألباب ، القيرواني : 2/650 ، طبقات الشعراء ، ابن المعتز العباسي : 225 . 3- زهر الآداب ، هامش المستطرف : 1/254 ، الشعر والشعراء : 547 . 4- طبقات الشعراء ، ابن المعتز العباسي : 223 .
أيُسَبُّ المطهَّرون جُدُوداً | والكِرَامُ الآبَاءِ والأعمامِ |
يَأْمَنُ الطيرُ والحمامُ وَلاَ يَأْ | مَنُ آلُ الرسولِ عندَ المَقَامِ |
طِبْتَ بيتاً وطاب أهلُكَ أَهْلا | أهلُ بيتِ النبيِّ والإسلام |
رحمةُ اللهِ و السلامُ عليهم | كلَّما قام قائمٌ بسَلاَمِ(1) |
وقال حين عابوه على محبَّته لأهل البيت صلوات الله عليهم :
إنَّ امرءاً أمستَ مَعَايِبُهُ | حُبَّ النبيِّ لَغَيْرُ ذي ذَنْبِ |
وبني أبي حسن وَوَالِدِهِمْ | مَنْ طَابَ في الأَرْحَامِ والصُّلْبِ |
أَيُعَدُّ ذنباً أَنْ أُحِبَّهُمُ | بل حُبُّهم كَفَّارَةُ الذنبِ(2) |
وروى الآبي في نثر الدر بإسناده عن عبدالرحمن بن المثنى ، قال : خطب عبد الملك بن مروان ، فلمَّا انتهى إلى العظة قام إليه رجل من آل صوحان ، فقال : مهلا مهلا ، تأمرون فلا تأتمرون ، وتنهون فلا تنتهون ، وتعظون ولا تتعظون ، أفنقتدي بسيرتكم في أنفسكم؟ أم نطيع أمركم بألسنتكم؟ فإن قلتم : اقتدوا بسيرتنا فأنَّى؟ وكيف؟ وما الحجَّة؟ وما النصير من الله باقتداء سيرة الظلمة الفسقة ، الجورة الخونة ، الذين اتّخذوا مال الله دولا ، وعبيده خولا ، وإن قلتم : اقبلوا نصيحتنا ، وأطيعوا أمرنا ، فكيف ينصح لغيره من يغشُّ نفسه؟ أم كيف تجب الطاعة لمن لم تثبت له عند الله عدالته؟ وإن قلتم : خذوا الحكمة من حيث وجدتموها ، واقبلوا العظة ممن سمعتموها ، فعلامَ ولَّيناكم أمرنا ، وحكَّمناكم في دمائنا وأموالنا؟
أمَا علمتم أن فينا مَنْ هو أنطق منكم باللغات ، وأفصح بالعظات ، فتحلحلوا عنها أولا ، فأطلقوا عقالها ، وخلّوا سبيلها ، يبتدر(3) إليها آل الرسول(صلى الله عليه وآله) ، الذين
____________
1- شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 15/256 ، العتب الجميل ، ابن عقيل : 147 ، كتاب الحيوان ، الجاحظ : 3/194 . 2- البيان والتبيين ، الجاحظ 3/359 . 3- في نهاية الإرب : ينتدب إليها .
شرَّدتموهم في البلاد ، وفرَّقتموهم في كل واد ، بل تثبت في أيديكم لانقضاء المدّة ، وبلوغ المهلة ، وعظم المحنة ، إن لكل قائم قدراً لا يعدوه ، ويوماً لايخطوه ، وكتاباً بعده يتلوه {لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا}(1) {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَىَّ مُنقَلَب يَنقَلِبُونَ}(2) قال : ثم أُجلس الرجل فطُلب فلم يوجد(3) .
قال ابن الرومي :
أَلاَ أيُّها النَّاسُ طَالَ ضريرُكُمْ | بآلِ رَسُولِ اللهِ فَاخْشَوا أو ارْتَجُوا |
أكُلَّ أوان للنبيِّ محمَّد | قتيلٌ زَكِيٌّ بالدِّمَاءِ مُضَرَّجُ |
تبيعون فيه الدينَ شَرَّ أئِمَّة | فللهِ دينُ اللهِ قَدْ كَادَ يمرجُ |
إلى أن قال :
بني المصطفى كم يأكلُ الناسُ شِلْوَكم | لِبَلْوَاكُمُ عمَّا قليل مفرجُ |
أمَا فِيهِمُ راع لحقِّ نبيِّه | وَلاَ خَائفٌ من رَبِّهِ يتحرَّجُ(4) |
وأنشد موسى بن داود السلمي لأبيه يرثي الحسين صاحب فخ ومَن قُتل معه :
يَا عَينُ ابكي بِدَمْع منكِ مُنْهَمِرِ | فَقَدْ رأيتِ الذي لاقى بنو حَسَنِ |
صَرْعَى بِفَخ تجرُّ الريحُ فوقَهُمُ | أذيالَها وغوادي الدُّلَّجِ المُزُنِ |
حتَّى عَفَتْ أَعْظُمٌ لو كان شَاهَدَها | مُحَمَّدٌ ذَبَّ عنها ثمَّ لم تَهُن |
مَاذا يقولونَ والماضونَ قَبْلَهُمُ | عَلَى الْعَدَاوَةِ والبغضاءِ والإِحَنِ |
مَاذا يقولون إِنْ قال النبيُّ لَهُمْ | مَاذَا صنعتم بنا في سَالِفِ الزَّمَنِ |
____________
1- سورة الكهف ، الآية : 49 . 2- سورة الشعراء ، الآية : 227 . 3- نثر الدرّ الآبي : 5/203 ـ 204 ، نهاية الإرب ، النويري : 7/249 ، ورواها أيضاً الشيخ المفيد عليه الرحمة في كتابه الأمالي : 280 . 4- مقاتل الطالبيين ، الإصفهاني : 646 .