مقدمة الناشر

المرحوم العلامة السيد شرف الدين علم من أعلام العلم والجهاد والوحدة الإسلامية، قضى عمره المبارك في سبيل ذلك، وقدم تراثاً علمياً جهادياً وحدوياً لا يمكن أن ينسى، وسيظل يخدم القضية الإسلامية خير خدمة.

ولقد امتاز أسلوبه بالوضوح والاحترام للرأي المقابل، والدقة، والموضوعية التامة. الأمر الذي جلب إليه قلوب الأصدقاء والأعداء معاً.

وكان له في مجال تحقيق تفاهم فقهي أكبر بين المذاهب الاسلامية باع طويل، وتأليفات ثمينة القدر. اخترنا منها هذا الكراس القيِّم ـ رغم صغره ـ متوخِّين نفس الأهداف السامية التي عمل لها.

فرحم الله العلاّمة الجليل شرف الدين، ونفع الجميع بعلمه الغزير.

معاونية العلاقات الدولية  
في منظمة الإعلام الإسلامي


الصفحة 6

الصفحة 7

كلمة موجزة

هذه مسائل فقهية مفرغة بأسلوب واضح متين، اعتمدت الحجة القوية، وانتهجت السبيل القويم، وحسبها أنها نتيجة فكرة نيرة، ويراعة بارعة، توفرت على النظريات العلمية الدقيقة فأسلست إليها القياد، وأخذت بزمامها فتصرفت بها كما تريد، واتجهت بها نحو الحق والصواب فآزرتهما، وأخذت بناصرهما، وتلك كتب سيدنا العم الأعظم سماحة الإمام شرف الدين التي تفخر بها المكتبة العربية، أقبل عليها رواد العلم، وطالبو الحقيقة يتزودون بزادها العلمي النافع، ويكبرون فيها سداد الرأي وقوة البرهان، وعظيم الإنصاف، والمدافعة عن الحق.

وفي هذه المباحث القيمة ستقرأ علماً صحيحاً استمده من كتاب الله وسنة رسوله فلم يستنطق غيرهما، ولم يعتمد سواهما، وستحظى بفروع من الفقه قليلة في عددها، كثيرة في فائدتها، وانما أدار سيدنا دام ظله بحثه على هذه المسائل بخصوصها، وجعلها موضوع رسالته الوجيزة لأن هذه المسائل

الصفحة 8
الفرعية التي نقدمها إليك أيها القارئ الكريم كان الجدل فيها بارزاً، والضجيج حولها متعالياً، والحملات عنيفة، فأراد أن يخفف من حدة المتحامل، وأن يأخذ بيد المنصف إلى الصواب، وشاء من جهة ثانية أن يوضح أن الفرقة الجعفرية لا تختار فرعاً من الفروع إلا أن تكون فيه على بينة من أمرها، وحيطة بالغة في اختيارها، فالآية الكريمة المحكمة، والسنة الصحيحة عليهما المعول، وإليهما المفزع، يأخذانها بالأعناق إلى ما تذهب إليه، ولا تحيد عنهما فيما تختار.

وهذه المسائل انموذج صحيح تعطيك صورة صادقة عن الاستنتاج الموفق والاجتهاد المعتدل، تلمس فيها التوجيه الرفيع، فإنها لا تكترث بغير البرهان الجلي، والحجة القويمة المستمدَّين من كتاب الله وسنة رسوله صلّي الله عليه وآله وسلَّم.

نور الدين شرف الدين


الصفحة 9

الجمع بين الصلاتين

لا خلاف ـ بين أهل القبلة من أهل المذاهب الإسلامية كلها ـ في جواز الجمع بعرفة وقت الظهر بين الفريضتين ـ الظهر والعصر ـ وهذا في اصطلاحهم جمع تقديم، كما لا خلاف بينهم في جواز الجمع في المزدلفة وقت العشاء بين الفريضتين (1) ـ المغرب والعشاء ـ وهذا في الاصطلاح جمع تأخير (2) بل لا خلاف في استحباب هذين الجمعين وأنهما من السنن النبوية وإنما اختلفوا في جواز الجمع بين الصلاتين فيما عدا هذين.

ومحل النزاع هنا إنما هو جواز الجمع بين الفريضتين بأدائهما معاً في وقت احداهما تقديماً على نحو الجمع بعرفة أو تأخيراً على نحو الجمع بالمزدلفة.

____________

(1) انما انعقد اجماع أهل القبلة على جواز الجمع بعرفة والمزدلفة للحجاج خاصة، أما غيرهم فمحل خلاف.

(2) وذلك لتأخير صلاة المغرب عن وقتها وجمعها مع العشاء في وقتها، كما أن الجمع في عرفة انما كان جمع تقديم لتقديم صلاة العصر عن وقتها وجمعها مع الظهر في وقتها.

الصفحة 10

وقد صدع الأئمة من آل محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم بجوازه مطلقاً غير ان التفريق أفضل، وتبعهم في هذا شيعتهم في كل عصر ومصر، فاذا هم يجمعون غالباً بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء سفراً وحضراً لعذر أو لغير عذر، وجمع التقديم وجمع التأخير عندهم في الجواز سواء.

أما الحنفية فمنعوا الجمع فيما عدا جمعي عرفة والمزدلفة بقول مطلق مع توفر الصحاح الصريحة بجواز الجمع ولا سيما في السفر، لكنهم تأولوها على صراحتها فحملوها على الجمع الصوري. وسيتضح لك بطلان ذلك قريباً ان شاء الله تعالى.

وأما الشافعية والمالكية والحنبلية فأجازوه في السفر على خلاف بينهم فيما عداه من الأعذار كالمطر والطين والمرض والخوف، وعلى تنازع في شروط السفر المبيح له (1).

حجتنا التي نتعبد فيما بيننا وبين الله سبحانه في هذه المسألة وفي غيرها انما هي صحاحنا عن أئمتنا عليهم السلام، وقد نحتج على الجمهور بصحاحهم لظهورها فيما نقول وحسبنا منها ما قد أخرجه الشيخان في صحيحيهما، واليك ما أخرجه مسلم في باب الجمع بين الصلاتين في الحضر من صحيحه إذ قال:

حدثنا يحيي بن يحيي قال: قرأت على مالك عن أبي الزبير عن سعيد ابن جبير عن ابن عباس قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

____________

(1) وذلك أن منهم من اشترط سفر القربة كالحج والعمرة والغزو ونحو ذلك دون غيره ومنهم من اشترط الاباحة دون سفر المعصية ومنهم من اشترط ضرباً خاصاً من السير ومنهم من لم يشترط شيئاً فأي سفر كان وبأي صفة كان يراه مبيحاً للجمع، والتفصيل في فقههم.

الصفحة 11
الظهر والعصر جميعاً والمغرب والعشاء جميعاً (1) في غير خوف ولا سفر.

(قال): وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو ابن دينار عن أبي الشعشاء جابر بن زيد عن ابن عباس. قال: صليت مع النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ثمانياً جميعاً أظنه أخر الظهر وعجل العصر وأخر المغرب وعجل العشاء. قال: وأنا أظن ذلك.(2) اهـ. قلت: ان يتبعون الا الظن وان الظن لا يغني من الحق شيئاً.

(قال): حدثنا أبو الربيع الزهراني حدثنا حماد بن زيد عن عمرو بن دينار عن جابر بن زيد عن ابن عباس: ان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم صلى بالمدينة سبعاً وثمانياً الظهر والعصر والمغرب والعشاء(3).

(قال): وحدثني أبو الربيع الزهراني حدثنا حماد عن الزبير بن الخريت عن عبد الله بن شقيق قال: خطبنا ابن عباس يوماً بعد العصر حتى غربت الشمس وبدت النجوم وجعل الناس يقولون: الصلاة الصلاة قال: فجاءه رجل من بني تميم لا يفتر ولا ينثني: الصلاة الصلاة قال: فقال ابن عباس: اتعلمني بالسنة لا أم لك ؟ ثم قال: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم جمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء. قال عبد الله بن شقيق فحاك في صدري من

____________

(1) لعلك لا تجهل أن اصطلاحهم في الجمع بين الصلاتين انما هو ايقاعهما معاً في وقت احداهما دون الأخرى جمع تقديم أو جمع تأخير هذا هو مراد المتقدمين منهم والمتأخرين من عهد الصحابة إلى يومنا هذا، وهذا هو محل النزاع كما سمعته في الأصل.

(2) وهذا الحديث أخرجه أحمد بن حنبل من حديث ابن عباس ص221 من الجزء الأول من مسنده وفي تلك الصفحة نفسها أخرج من طريق أخر عن ابن عباس أيضاً. قال: صلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في المدينة مقيماً غير مسافر سبعاً وثمانياً.

(3) هذا في الاصطلاح لف ونشر غير مرتب وهو جائز ولو قال صلى ثمانياً وسبعاً لكان مرتباً.

الصفحة 12
ذلك شيء فأتيت أبا هريرة فسألته فصدق مقالته (1).

(قال): وحدثنا ابن ابي عمر حدثنا وكيع حدثنا عمران بن حدير عن عبد الله بن شقيق العقيلي قال: قال رجل لابن عباس: الصلاة فسكت. ثم قال: الصلاة فسكت. ثم قال: الصلاة فسكت. فقال ابن عباس: لا أم لك أتعلمنا بالصلاة ؟! كنا تجمع بين الصلاتين على عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم.

قلت: وللنسائي من طريق عمرو بن هرم عن أبي الشعثاء ان ابن عباس صلى في البصرة الظهر والعصر ليس بينهما شيء فعل ذلك من شغل، وفيه رفعه إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم (2).

(قال مسلم): وحدثنا أحمد بن يونس وعون بن سلام جميعاً عن زهير قال ابن يونس: حدثنا زهير حدثنا أبو الزبير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس. قال: صلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم الظهر والعصر جميعاً بالمدينة في غير خوف ولا سفر (3) قال أبو الزبير: فسألت سعيداً لِمَ فعل ذلك؟ فقال: سألت ابن عباس كما سألتني. فقال أراد أن لا يحرج أحداً من أمته.

(قال): وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كريب قالا: حدثنا أبو معاوية، وحدثنا أبو كريب وأبو سعيد الاشج واللفظ لأبي كريب قالا

____________

(1) من هوان الدنيا على الله تعالى وهوان آل محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم على هؤلاء أن يحوك في صدورهم شيء من ابن عباس فيسألوا أبا هريرة وليتهم بعد تصديق أبي هريرة عملوا بالحديث وهذا الحديث أخرجه أحمد بن حنبل ايضاً عن ابن عباس في ص251 من الجزء الأول من مسنده.

(2) كما نقله الزرقاني في الجمع بين الصلاتين من شرح الموطأ ص263 من جزئه الأول.

(3) وهذا الحديث مما أخرجه مالك في باب الجمع بين الصلاتين من الموطأ، والامام أحمد عن ابن عباس في مسنده.

الصفحة 13
ـ يعني أبا كريب وأبا سعيد ـ حدثنا وكيع وأبو معاوية كلاهما عن الاعمش عن حبيب بن أبي ثابت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: جمع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء بالمدينة في غير خوف ولا مطر.

(قال): وفي حديث وكيع قال: قلت لابن عباس لِمَ فعل ذلك؟ قال: كيلا يحرج أمته. وفي حديث أبي معاوية قيل لابن عباس: ما أراد إلى ذلك؟ قال: أراد أن لا يحرج أمته.

(قال): وحدثنا يحيى بن حبيب الحارثي حدثنا خالد بن الحرث حدثنا قرة بن خالد حدثنا أبو الزبير حدثنا سعيد بن جبير حدثنا ابن عباس: ان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم جمع بين الصلاة في سفرة سافرها في غزوة تبوك فجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء. قال سعيد فقلت لابن عباس: ما حمله على ذلك؟ قال: أراد أن لا يحرج أمته.

(قال): حدثنا يحيى بن حبيب حدثنا خالد بن الحرث حدثنا قرة بن خالد حدثنا أبو الزبير حدثنا عامر بن وائلة أبو الطفيل حدثنا معاذ بن جبل. قال: جمع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في غزوة تبوك بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء. قال فقلت: ما حمله على ذلك؟ فقال: أراد أن لا يحرج أمته. أهـ.

قلت: هذه الصحاح صريحة في أن العلة في تشريع الجمع إنما هي التوسعة بقول مطلق على الأمة وعدم احراجها بسبب التفريق رأفة بأهل الأشغال وهم أكثر الناس، والحديثان الأخيران ـ حديث معاذ والذي قبله ـ لا يختصان بموردهما ـ أعني السفر ـ اذ علة الجمع فيهما مطلقة لا دخل فيها للسفر من حيث كونه سفراً، ولا للمرض والمطر والطين والخوف من حيث هي هي وإنما هي كالعام يرد في مورد خاص، فلا يتخصص به

الصفحة 14
بل يطرد في جميع مصاديقه، ولذا ترى الإمام مسلماً لم يوردهما في باب الجمع في الحضر ليكونا أدلة من جواز الجمع بقول مطلق وهذا من فهمه وعلمه وانصافه.

وصحاحه ـ في هذا الموضوع ـ التي سمعتها والتي لم تسمعها كلها على شرط البخاري، ورجال أسانيدها كلهم قد احتج البخاري بهم في صحيحه، فما المانع له يا ترى من ايرادها بأجمعها في صحيحه؟ وما الذي دعاه إلى الاقتصار على النزر اليسير منها؟ ولماذا لم يعقد في كتابه باباً للجمع في الحضر ولا باباً للجمع في السفر؟ مع توفر الصحاح ـ على شرطه ـ الواردة في الجمع، ومع أن أكثر الأئمة قائلون به في الجملة، ولماذا اختار من أحاديث الجمع ماهو أخسها دلالة عليه؟ ولم وضعه في باب يوهم صرفه عن معناه؟ فإني أربأ بالبخاري وأحاشيه أن يكون كالذين يحرفون الكلم عن مواضعه، أو كالذين يكتمون الحق وهم يعلمون.

وإليك ما اختاره في هذا الموضوع، ووضعه في غير موضعه، اذ قال ـ في باب تأخير الظهر إلى العصر من كتاب مواقيت الصلاة من صحيحه (1) ـ: حدثنا أبو النعمان قال حدثنا حماد بن زيد عن عمرو بن دينار عن جابر بن

____________

(1) تعقبه شيخ الاسلام الانصاري عند بلوغه إلى هذا الباب من شرحه ـ تحفة الباري ـ فقال: المناسب للحديث باب: صلاة الظهر مع العصر والمغرب مع العشاء، فقي التعبير بما قاله تجوز وقصور إلى أن قال: وتأويل ذلك بأنه فرغ من الأولى فدخل وقت الثانية فصلاها عقبها خلاف الظاهر، انتهى بلفظه في آخر ص292 من الجزء الثاني من شرحه، قال القسطلاني في ص293 في الجزء الثاني من شرحه ارشاد الساري: وتأوله على الجمع الصوري بأن يكون أخر الظهر إلى آخر وقتها وعجل العصر في أول وقتها ضعيف لمخالفة الظاهر وهكذا قال أكثر علمائهم ولا سيما شارحو صحيح البخاري، كما ستسمعه في الأصل ان شاء الله.

الصفحة 15
زيد عن ابن عباس: ان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم صلى بالمدينة سبعاً وثمانياً الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، فقال أيوب: لعله في ليلة مطيرة، قال: عسى. قلت: ان يتبعون الا الظن.

وأخرج في باب وقت المغرب عن آدم قال: حدثنا شعبة قال: حدثنا عمرو بن دينار قال: سمعت جابر بن زيد عن ابن عباس قال: صلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم سبعاً جميعاً وثمانياً جميعاً.

وأرسل في باب «ذكر العشاء والعتمة» عن ابن عمر وأبي أيوب وابن عباس أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم صلى المغرب والعشاء ـ يعني جمعهما ـ في وقت إحداهما دون الاخرى.

وهذا النزر اليسير من الجم الكثير من صحاح الجمع كاف في الدلالة على ما نقول كما لا يخفى، ويؤيده ما عن ابن مسعود اذ قال: جمع النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ يعني في المدينة ـ بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء فقيل له في ذلك فقال: صنعت هذا لئلا تحرج أمتي. أخرجه الطبراني (1).

والمأثور عن عبد الله بن عمر (2) اذ قيل له: لم ترى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم جمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء مقيماً غير مسافر، أنه أجاب بقوله: فعل ذلك لئلا تحرج أمته.

وبالجملة فان علماء الجمهور كافة ممن يقول بجواز الجمع وممن لا يقول به متصافقون على صحة هذه الاحاديث وظهورها فيما نقول من الجواز

____________

(1) كما في أواخر ص263 من الجزء الأول من شرح الموطأ للزرقاني قال: وارادة نفي الحرج تقدح في حمله على الجمع الصوري لأن القصد إليه لا يخلو من حرج.

(2) في حديث تجده في صفحة 242 من الجزء الرابع من كنز العمال عدده في تلك الصفحة 5078 مسنداً إلى عبد الله.

الصفحة 16
مطلقاً، فراجع ما شئت مما علقوه عليها يتضح لك ذلك (1) نعم تأولوها حملا لها على مذاهبهم، وكانوا في تأولها على غمة وفي ليل من الحيرة مظلم، وحسبك ما نقله النووي عنهم في تعليقه على هذه الاحاديث من شرحه لصحيح مسلم. اذ قال ـ بعد اعتبارها ظاهرة في الجمع حضراً ـ: وللعلماء فيها تأويلات ومذاهب، فمنهم من تأولها على أنه جمع لعذر المطر.

(قال): وهذا مشهور عن جماعة من كبار المتقدمين (2).

(قال): وهو ضعيف بالرواية الثانية عن ابن عباس من غير خوف ولا مطر (3).

(قال): ومنهم من تأولها على أنه كان في غيم فصلى الظهر ثم انكشف الغيم وظهر أن وقت العصر دخل فصلاها فيه (3).

(قال): وهذا أيضاً باطل لانه ان كان فيه أدنى احتمال في الظهر والعصر فلا احتمال فيه في المغرب والعشاء.

(قال): ومنهم من تأولها على تأخير الأولى إلى آخر وقتها فصلاها فيه فلما

____________

(1) وحسبك تعليق النووي في شرحه لصحيح مسلم والزرقاني في شرحه لموطأ مالك والعسقلاني والقسطلاني وزكريا الانصاري في شروحهم لصحيح البخاري وسائر من علق على أي كتاب من كتب السنن يشتمل على حديث ابن عباس في الجمع بين الصلاتين حيث صححوه بكل طرقه التي نقلناها عن صحيحي مسلم والبخاري واستظهروا منها جواز الجمع في الحضر لمجرد وقاية الأمة من الحرج، وما أدري والله ما الذي حملهم على الاعراض عنها، ولعل هذا من حظ أهل البيت عندهم.

(2) كالامامين مالك والشافعي وجماعة من أهل المدينة.

(3) على أنه بعيد عن اللفظ غاية البعد ولا قرينة عليه.

(3) هذا خرص ومجازفة ورجم بالغيب.

الصفحة 17
فرغ منها دخل وقت العصر فصلاها فيه فصار جمعه للصلاتين صورياً (1).

(قال): وهذا ضعيف أيضاً أو باطل لأنه مخالف للظاهر مخالفة لا تحتمل.

(قال): وفعل ابن عباس حين خطب فناداه الناس الصلاة الصلاة! وعدم مبالاته بهم واستدلاله بالحديث لتصويب فعله بتأخيره صلاة المغرب إلى وقت العشاء وجمعهما جميعاً في وقت الثانية وتصديق أبي هريرة له وعدم انكاره صريح في رد هذا التأويل.

قلت: ورده ابن عبد البر والخطابي وغيرهما بأن الجمع رخصة فلو كان صورياً لكان أعظم ضيقاً من الاتيان بكل صلاة في وقتها لأن أوائل الأوقات وأواخرها مما لا يدركه أكثر الخاصة فضلاً عن العامة (قالوا) ومن الدليل على أن الجمع رخصة قول ابن عباس: أراد أن لا يحرج أمته (قالوا) وأيضاً فصريح أخبار الجمع بين الفريضتين إنما هو بأدائهما معاً في وقت احداهما دون الأخرى اما بتقديم الثانية على وقتها وادائها مع الأولى في وقتها أو بتأخير الأولى عن وقتها إلى وقت الثانية وادائهما وقتئذ معاً (قالوا) وهذا هو المتبادر إلى الفهم من اطلاق لفظ الجمع في السنن كلها وهذا هو محل النزاع.

(قال النووي) ومنهم من تأولها فحملها على الجمع لعذر المرض أو نحوه مما هو في معناه (قال) وهذا قول أحمد بن حنبل والقاضي حسين من أصحابنا واختاره الخطابي والمتولي والروياني من أصحابنا وهو المختار في

____________

(1) وقد تعلم أن ابا حنيفة وأصحابه تأولوا صحاح الجمع حضراً وسفراً بحملها كلها على الجمع الصوري فقالوا بمنع مطلقاً وهذا غريب منهم إلى أبعد غاية وقد كفانا مناقشتهم والبحث معهم عدة من الاعلام تسمع في الأصل كلامهم.

الصفحة 18
تأويلها، لظاهر الأحاديث.

قلت: لا ظهور في الأحاديث ولا دلالة فيها عليه بشيء من الدوال والقول به تحكم كما اعترف به القسطلاني في شرحه لصحيح البخاري (1).

وقد تعقبه بعض الأعلام أيضاً اذ قال: وقيل ان الجمع كان للمرض وقواه النووي وفيه نظر لانه لو جمع للمرض لما صلى معه الا من به المرض، والظاهر أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم جمع بأصحابه، وبه صرح ابن عباس في رواية ثابتة عنه. انتهى(2).

قلت: ولما لم يكن لصحاح الجمع تأويل يقبله العلماء رجع قوم من الجمهور إلى رأينا في المسألة تقريباً من حيث لا يقصدون. وقد ذكرهم النووي بعد أن زيف التأولات بما سمعت. فقال: وذهب جماعة من الأئمة إلى جواز الجمع في الحضر للحاجة لمن لا يتخذه عادة وهو قول ابن سيرين وأشهب من أصحاب مالك، وحكاه الخطابي عن القفال الشاشي الكبير من أصحاب الشافعي، وعن أبي اسحاق المروزي وعن جماعة من أصحاب الحديث واختاره ابن المنذر (قال) ويؤيده ظاهر قول ابن عباس: أراد أن لا يحرج أمته اذ لم يعلله بمرض ولا غيره والله أعلم، هذا كلامه (3) وبه صرح غير

____________

(1) فراجع من شرحه ارشاد الساري باب تأخير الظهر إلى العصر تجد في ص293 من جزئه الثاني ما هذا لفظه: وحمله ـ أي حديث ابن عباس في الجمع حضراً ـ بعضهم على الجمع للمرض وقواه النووي فتعقبوه بأنه مخالف لظاهر الحديث وتقييده به ترجيح بلا مرجع وتخصيص بلا مخصص. اهـ.

(2) فراجعه في ص263 من الجزء الأول من شرح الزرقاني لموطأ مالك في باب الجمع بين الصلاتين.

(3) في ص455 من الجزء الرابع من شرحه لصحيح مسلم المطبوع في هامش ارشاد الساري وتحفة الباري شرحي صحيح البخاري ولا يخفى ميل النووي إليه في آخر كلامه اذ أيده بقول ابن عباس وعلق على قول ابن عباس قوله فلم يعلله بمرض ولا غيره فكان آخر كلامه ناقصاً لتأويله.

الصفحة 19
واحد من أعلامهم (1).

ولعل المحققين منهم في هذا العصر على رأينا كما شافهني به غير واحد منهم، غير انهم لا يجرؤون على مبادهة العامة بذلك، وربما يمنعهم الاحتياط فان التفريق بين الصلوات مما لا خلاف فيه، وهو أفضل بخلاف الجمع، لكن فاتهم أن التفريق قد أدى بكثير من أهل الاشغال إلى ترك الصلاة كما شاهدناه عياناً بخلاف الجمع فإنه أقرب إلى المحافظة على أدائها، وبهذا يكون الاحوط للفقهاء أن يفتوا العامة بالجمع وأن ييسروا ولا يعسروا ـ يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ـ وما جعل عليكم في الدين من حرج ـ والدليل على جواز الجمع مطقاً موجود والحمد لله سنة صحيحة صريحة كما سمعت، بل كتاباً محكماً مبيناً، الا تصغون لأتلو عليكم من محكماته ما يتجلى به أن أوقات الصلوات المفروضة ثلاثة فقط، وقت لفريضتي الظهر والعصر مشتركاً بينهما، ووقت لفريضتي المغرب والعشاء على الاشتراك بينهما أيضاً، وثالث لفريضة الصبح خاصة، فاستمعوا له وانصتوا (أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهوداً).

قال الامام الرازي حول تفسيرها ـ من سورة الاسراء ص428 من الجزء الخامس من تفسيره الكبير ـ ماهذا لفظه: فان فسرنا الغسق بظهور

____________

(1) كالزرقاني في شرحه للموطأ وسائر من علق على حديث ابن عباس في الجمع بين الصلاتين ممن شرح الصحاح والسنن كالعسقلاني والقسطلاني وغيرهما.

الصفحة 20
أول الظلمة كان الغسق عبارة عن أول المغرب (1) وعلى هذا التقدير يكون المذكور في الآية ثلاثة أوقات: وقت الزوال ووقت أول المغرب ووقت الفجر (قال) وهذا يقتضى أن يكون الزوال وقتاً للظهر والعصر فيكون هذا الوقت مشتركاً بين هاتين الصلاتين، وان يكون أول المغرب وقتاً للمغرب والعشاء فيكون هذا الوقت مشتركاً أيضاً بين هاتين الصلاتين (قال) فهذا يقتضي جواز الجمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء مطلقاً (2)، (قال) الا انه دل الدليل على ان الجمع في الحضر من غير عذر لا يجوز فوجب أن يكون الجمع جائزاً لعذر السفر وعذر المطر وغيره.

قلت: امعنا بحثاً عما ذكره من دلالة الدليل على ان الجمع في الحضر من غير عذر لا يجوز فلم نجد له ـ شهد الله ـ عيناً ولا أثراً، نعم كان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يجمع في حال العذر وقد جمع أيضاً في حال عدمه لئلا يحرج أمته ولا كلام في ان التفريق أفضل ولذلك كان يؤثره رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم الا لعذر كما هي عادته في المستحبات كلها صلّى الله عليه وآله وسلّم.

____________

(1) هذا المعنى نقله الرازي ـ حول الآية من تفسيره الكبير ـ عن ابن عباس وعطاء والنضر بن شميل، ونقله الإمام الطبرسي ـ في مجمع البيان ـ عن ابن عباس وقتادة.

(2) أما اذا فسرنا الغسق بتراكم الظلمة وشدتها نصف الليل ـ كما عن الصادق عليه السلام ـ فوقت الفرائض الأربع الظهر والعصر والمغرب والعشاء ممتد من الزوال إلى نصف الليل، فالظهر والعصر يشتركان في الوقت من الزوال إلى الغروب الا أن الظهر قبل العصر ويشترك المغرب والعشاء من الغروب إلى نصف الليل غير ان المغرب قبل العشاء، أما فريضة الصبح فقد اختصها الله بوقتها المنوه به في قوله سبحانه: (وقرآن الفجر ان قرآن الفجر كان مشهوداً).

الصفحة 21

هل البسملة آية قرأنية؟
وهل تقرأ في الصلاة؟

اختلفت آراء أهل الرأي من المسلمين في ذلك، فذهب مالك والأوزاعي إلى أنها ليست من القرآن ومنعا من قراءتها في الفرائض بقول مطلق سواء أكانت في افتتاح الحمد أم في افتتاح السورة بعدها، وسواء قرئت جهراً أم اخفاتاً، نعم أجازا قراءتها في النافلة (1).

أما أبو حنيفة والثوري واتباعهما فقرأوها في افتتاح أم القرآن لكن اوجبوا اخفاتها حتى في الجهريات وهذا يشعر بموافقتهما لمالك والاوزاعي وربما كان دالا عليه اذ لا نعرف وجهاً لاخفاتها في الجهريات سوى أنها ليست من أم الكتاب.

____________

(1) نقل ابن رشد هذا كله عن مالك في صفحة 96 من الجزء الأول من كتابه بداية المجتهد، وقال الرازي حول البسملة من تفسيره الكبير صفحة 100 من جزئه الأول ما هذا نصه: قال مالك والاوزاعي انها ليست من القرآن إلا في سورة النمل ولا تقرأ في الصلاة لا سراً ولا جهراً إلا في قيام شهر رمضان.

الصفحة 22

لكن الشافعي قرأها في الجهريات جهراً وفي الاخفاتيات اخفاتاً وعدها آية من فاتحة الكتاب، وهذا قول أحمد بن حنبل وأبي ثور وأبي عبيد، واختلف المنقول عن الشافعي في أنها آية من كل سورة عدا براءة أم أنها ليست بآية من غير أم الكتاب فنقل عنه القولان جميعاً، لكن المحققين من أصحابه قد اتفقوا على أن البسملة قرآن من سائر السور (1) وتأولوا القولين المنقولين عن إمامهم الشافعي (2).

أما نحن ـ معشر الامامية ـ فقد أجمعنا ـ تبعاً لأئمة الهدى من أهل بيت النبوة ـ على أنها آية تامة من السبع المثاني ومن كل سورة من القرآن العظيم ما خلا براءة، وان من تركها في الصلاة عمداً بطلت صلاته سواء أكانت فرضاً أم كانت نفلا وأنه يجب الجهر بها فيما يجهر فيه بالقراءة وأنه يستحب الجهر بها فيما يخافت فيه (3) وأنها بعض آية من سورة النمل ونصوص أئمتنا في هذا كله متضافرة متواترة تواتراً معنوياً وأساليبها ظاهرة في الانكار على مخالفيهم فيها كقول الامام أبي عبد الله الصادق عليه السلام (4) مالهم؟! عمدوا إلى أعظم آية في كتاب الله عز وجل فزعموا أنها بدعة إذا أظهروها وهي بسم الله الرحمن الرحيم اهـ.

____________

(1) نقل اتفاقهم هذا وتأولهم لقولي امامهم جماعة من الاعلام أحدهم الرازي حول البسملة من تفسيره الكبير صفحة 104 من جزئه الأول.

(2) وذلك أنهم قالوا لم يختلف النقل عنه في أصل المسألة وانما اختلف النقل عنه في أنها آية تامة من سائر السور أو أنها بعض آية من كل سورة.

(3) ان للامام الرازي حول البسملة من تفسيره الكبير عدة حجج على الجهر بها وقد نقل في الثالثة منها أن علياً رضي الله عنه كان مذهبه الجهر بـ (بسم الله الرحمن الرحيم) في جميع الصلوات. وقال: ان هذه الحجة قوية في نفسي راسخة في عقلي لا تزول البتة.

(4) نقله عنه الامام الطبرسي حول البسملة من الجزء الأول من مجمع البيان.

الصفحة 23

وحجتنا من طريق الجمهور صحاحهم وهي كثيرة.

أحدها: ماهو ثابت عن ابن جريج عن أبيه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى: (ولقد آتيناك سبعاً من المثاني). قال: فاتحة الكتاب بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وقرأ السورة. قال ابن جريج: فقلت لأبي: لقد أخبرك سعيد عن ابن عباس أنه قال: بسم الله الرحمن الرحيم آية؟ قال: نعم. وهذا الحديث أخرجه الحاكم في المستدرك: وأورده الذهبي في تلخيصه وصرحا بصحة اسناده (1).

ثانيها: ما صح عن ابن عباس أيضاً. قال: ان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كان إذا جاءه جبرائيل فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم علم أنها سورة (2).

ثالثها: ما صح عن ابن عباس أيضاً. قال: كان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لا يعلمُ ختم السورة حتى تنزل بسم الله الرحمن الرحيم (3).

رابعها: ما صح عنه أيضا. قال: كان المسلمون لا يعلمون انقضاء السورة حتى تنزل بسم الله الرحمن الرحيم فإذا نزلت بسم الله الرحمن الرحيم علموا ان السورة قد انقضت (4).

____________

(1) فراجع تفسير سورة الفاتحة من كتاب التفسير من المستدرك للحاكم، ومن تلخيصه للذهبي صفحة 257 من جزئهما الثاني تجد الحديث منصوصاً على صحته من الحاكم والذهبي كليهما.

(2) أخرجه الحاكم في كتاب الصلاة من مستدركه صفحة 231 من جزئه الأول فقال: هذا حديث صحيح الاسناد ولم يخرجاه.

(3) أخرجه الحاكم في كتاب الصلاة من مستدركه وأورده الذهبي في التلخيص مصرِّحَينِ بصحته على شرط الشيخين. فراجع صفحة 231 من الجزء الأول من المستدرك وتلخيصه المطبوعين معاً.

(4) أخرجه الحاكم في صفحة 232 من الجزء الأول من المستدرك ثم قال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين وصححه الذهبي على شرطهما أيضاً اذ أورده في التلخيص.

الصفحة 24

خامسها: ما صح عن أم سلمة قالت: كان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين إلى آخرها يقطعها حرفاً حرفا (1).

وعن أم سلمة أيضاً من طريق آخر قالت: ان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قرأ في الصلاة بسم الله الرحمن الرحيم وعدها آية الحمد لله رب العالمين آيتين. الرحمن الرحيم ثلاث آيات. مالك يوم الدين أربع. إياك نعبد وإياك نستعين. فجمع خمس أصابعه. الحديث (2).

سادسها: ما صح عن نعيم المجمر. قال: كنت وراء أبي هريرة فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم ثم قرأ بأم القرآن حتى بلغ ولا الضالين قال آمين فقال الناس آمين (3) فلما سلم قال: والذي نفسي بيده اني لأشبهكم صلاة برسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم (4).

وعن أبي هريرة أيضاً قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يجهر ـ في الصلاة ـ

____________

(1) أخرجه الحاكم في المستدرك وأورده الذهبي في تلخيصه مصرحين بصحته على شرط الشيخين فراجع من المستدرك وتلخيصه الصفحة 232 من جزئهما الأول.

(2) أخرجه الحاكم عن أم سلمة بعد حديثها السابق شاهداً له.

(3) ليس من مذهبنا قول آمين عند انتهاء الفاتحة من الصلاة لا للمنفرد ولا للمأموم ولا للامام لكونه ليس منها ولا من القرآن في شيء اجماعاً وقولا واحداً، ولم يرو فيه أثر من طريقنا ولم ينقل عن أحد من أئمتنا بخلاف الجمهور فانه من شعارهم وقد رووا فيه أخباراً صحاحاً على شرطهم، وحديث أبي هريرة هذا من جملتها فهو من السنن أثناء الصلاة عندهم.

(4) أخرجه الحاكم في المستدرك بعد حديثي أم سلمة بلا فصل، وأورده الذهبي ثمة في تلخيصه مصرحين بصحته على شرط الشيخين.

الصفحة 25
ببسم الله الرحمن الرحيم (1).

سابعها: ما صح عن أنس بن مالك قال: صلى معاوية بالمدينة صلاة فجهر فيها بالقراءة فقرأ فيها بسم الله الرحمن الرحيم لأم القرآن ولم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم للسورة التي بعدها حتى قضى تلك القراء. فلما سلم ناداه من سمع ذلك من المهاجرين والأنصار من كل مكان: يا معاوية أسرقت الصلاة أم نسيت؟؟ فلما صلى بعد ذلك قرأ بسم الله الرحمن الرحيم للسورة التي بعد أم القرآن. الحديث أخرجه الحاكم في المستدرك وصححه على شرط مسلم (2) وأخرجه غير واحد من أصحاب المسانيد كالامام الشافعي في مسنده (3) وعلق عليه تعليقة يجدر بنا إيرادها. اذ قال (4): ان معاوية كان سلطاناً عظيم القوة شديد الشوكة فلولا أن الجهر بالتسمية كان كالأمر المقرر عند كل الصحابة من المهاجرين والأنصار لما قدروا على اظهار الانكار عليه بسبب ترك التسمية. اهـ.

____________

(1) أخرجه الحاكم بعد الحديث المتقدم شاهداً له وأخرجه البيهقي في السنن الكبيرة كما في صفحة 105 من الجزء الأول من تفسير الرازي.

(2) وأورده الذهبي في تلخيص المستدرك وصححه على شرط مسلم وجعله الحاكم والذهبي علة ونقيضاً لحديث قتادة عن أنس. اذ قال: صليت خلف النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وأبي بكر وعمر وعثمان فلم أسمع أحداً منهم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم وهذا باطل كما سنوضحه في الأصل قريباً إن شاء الله تعالى وقد أخرجه الحاكم وما بعده تزييفاً له وشواهد لبطلانه.

(3) راجع من مسنده صفحة 13.

(4) فيما نقله عنه الرازي في الحجة الرابعة من حججه على الجهر بالبسملة صفحة 105 من الجزء الأول من تفسيره الكبير.

الصفحة 26

ولنا تعليقة على هذا الحديث الفت إليها كل بحاثة فأقول: ان من أمعن في هذا الحديث وجده من الأدلة على مذهبنا في البسملة وفي عدم جواز التبعيض في السورة التي تقرأ في الصلاة بعد أم القرآن اذ لا وجه لانكارهم عليه إلا بناء على مذهبنا في المسألتين.

ثامنها: ما صح عن أنس أيضاً من طريق آخر. قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يجهر ـ في الصلاة ـ ببسم الله الرحمن الرحيم (1).

تاسعها: ما صح عن محمد بن السري العسقلاني. قال: صليت خلف المعتمر بن سليمان مالا أحصي صلاة الصبح والمغرب فكان يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم قبل فاتحة الكتاب وبعدها ـ للسورة ـ وسمعت المعتبر يقول: ما آلو أن أقتدي بصلاة أبي، وقال أبي: ما آلو ان اقتدي بصلاة أنس بن مالك. وقال أنس: ما آلو أن اقتدي بصلاة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم (2). قلت: آنست من هذا الحديث وغيره أنهم كانوا يقرأون بعد أم القرآن سورة تامة من بسملتها حتى منتهاها كما هو مذهبنا ويدل عليه كثير من الأخبار (3).

وعن قتادة. قال: سئل أنس بن مالك كيف كانت قراءة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم؟ قال: كانت مداً ثم قرأ بسم الله الرحمن الرحيم يمد الرحمن ويمد الرحيم.

____________

(1) أخرجه الحاكم وأورده الذهبي في باب الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم من كتابيهما وقالا: رواة هذا الحديث عن آخرهم ثقات وجعلاه علة ونقيضاً لحديث قتادة عن أنس.

(2) أخرجه الحاكم في المستدرك وأورده الذهبي في التلخيص ونصا على أن رواته عن آخرهم ثقات وجعلاه علة ونقيضاً لحديث قتادة عن أنس، الباطل.

(3) فعن ابن عمر أنه كان لا يدع بسم الله الرحمن الرحيم لأم القرآن وللسورة التي بعدها أخرجه الإمام الشافعي في صفحة 13 من مسنده.

الصفحة 27

وعن حميد الطويل عن أنس بن مالك. قال: صليت خلف النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وخلف أبي بكر وخلف عمر وخلف عثمان وخلف علي فكلهم كانوا يجهرون بقراءة بسم الله الرحمن الرحيم.

أخرج هذه الأحاديث كلها وما قبلها امام المحدثين أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحاكم النيسابوري في مستدركه ثم قال بعد الأخير منها ما هذا نصه: انما ذكرت هذا الحديث شاهداً لما تقدمه. ففي هذه الاخبار التي ذكرناها معارضة لحديث قتادة الذي يرويه أئمتنا عنه ـ ولفظه عن أنس قال: صليت خلف النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وأبي بكر وعمر وعثمان فلم أسمع أحداً منهم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم ـ (ثم قال الحاكم) وقد بقي في الباب عن أمير المؤمنين عثمان وعلي وطلحة بن عبيد الله وجابر بن عبد الله وعبد الله بن عمر والحكم بن عمير الثمالي والنعمان بن بشير وسمرة بن جندب وبريدة الاسلمي وعائشة بنت الصديق رضي الله عنه كلها مخرجة عندي في الباب تركتها إيثاراً للتخفيف واختصرت منها ما يليق بهذا الباب وكذلك ذكرت في الباب من جهر ببسم الله الرحمن الرحيم من الصحابة والتابعين وأتباعهم رضي الله عنهم. انتهى كلامه (1). قلت: وذكر الرازي في تفسيره الكبير (2) ان البيهقي روى الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم في سننه عن عمر بن الخطاب وابن عباس وابن عمر وابن الزبير، ثم قال الرازي ما هذا لفظه: وأما ان علي بن أبي طالب رضي الله عنه كان يجهر بالتسمية فقد ثبت بالتواتر ومن اقتدى في دينه بعلي بن أبي

____________

(1) فراجعه في صفحة 234 الجزء الأول من المستدرك.

(2) أثناء الحجة الخامسة من حججه على الجهر بالبسملة صفحة 105 من جزئه الأول.

الصفحة 28
طالب فقد اهتدى. (قال) والدليل عليه قول رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم «اللهم ادر الحق مع علي حيث دار».

وحسبنا حجة ـ على أن البسملة آية قرآنية في مفتتح السور كلها ما خلا براءة ـ ان الصحابة كافة فالتابعين أجمعين فسائر تابعيهم وتابعي التابعين في كل خلف من هذه الامة منذ دون القرآن إلى يومنا هذا مجمعون اجماعاً عملياً على كتابة البسملة في مفتتح كل سورة خلا براءة.

كتبوها كما كتبوا غيرها من سائر الآيات بدون ميزة مع أنهم كافة متصافقون على أن لا يكتبوا شيئاً من غير القرآن الا بميزة بينة حرصاً منهم على أن لا يختلط فيه شيء من غيره. الا تراهم كيف ميزوا عنه أسماء سوره ورموز أجزائه وأحزابه وأرباعه وأخماسه وأعشاره فوضعوها خارجة عن السور على وجه يعلم منه خروجها عن القرآن احتفاظاً به واحتياطاً عليه، ولعلك تعلم ان الأمة قل ما اجتمعت بقضها وقضيضها على أمر كاجتماعها على ذلك وهذا بمجرده دليل على أن بسم الله الرحمن الرحيم آية مستقلة في مفتتح كل سورة رسمها السلف والخلف في مفتتحها والحمد لله على الاعتدال.

وأيضاً فان من المأثور المشهور عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قوله: كل أمر ذي بال لا يبدأ ببسم الله الرحمن الرحيم أقطع (1) وكل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله فهو أبتر أو أجذم(2) ومن المعلوم أن القرآن أفضل ما أوحاه الله تعالى

____________

(1) أخرجه بهذا اللفظ الشيخ عبد القادر الرهاوي في أربعينه بسنده إلى أبي هريرة. ورواه السيوطي في حرف الكاف من جامعه الصغير صفحة 91 من جزئه الثاني، وأورده المتقي الهندي في صفحة 193 من الجزء الأول من كنز العمال وهو الحديث 2497.

(2) أرسله الامام الرازي بهذا اللفظ حول البسملة من الجزء الأول من تفسيره.

الصفحة 29
إلى أنبيائه ورسله وان كل سورة منه ذات بال وعظمة تحدى الله بها البشر فعجزوا عن أن يأتوا بمثلها، فهل يمكن أن يكون القرآن أقطع؟! تعالى الله وتعالى فرقانه الحكيم وتعالت سوره عن ذلك علواً كبيراً.

والصلاة هي الفلاح وهي خير العمل كما ينادى به في أعلى المنائر والمنابر ويعرفه البادي والحاضر لا يوازنها ولا يكايلها شيء بعد الإيمان بالله تعالى وكتبه ورسله واليوم الآخر فهل يجوز أن يشرعها الله تعالى بتراء جذماء؟ ان هذا لا يجرؤ على القول به بر ولا فاجر، لكن الأئمة البررة مالكاً والأوزاعي وأبا حنيفة رضي الله عنهم ذهلوا عن هذه اللوازم، وكل مجتهد في الاستنباط من الأدلة الشرعية معذور ومأجور ان اصاب وان أخطأ.

حجة مخالفينا في المسألة

احتجوا بأمور:

أحدها: أنها لو كانت آية من الفاتحة للزم التكرار فيها بالرحمن الرحيم، ولو كانت جزءاً من كل سورة للزم تكرارها في القرآن مئة وثلاث عشرة مرة.

والجواب: ان الحال قد تقتضي ذلك اهتماماً ببعض الشؤون العظمى وتأكيداً لها وعناية بها، وفي الذكر الحكيم من هذا شيء كثير وحسبك سورة الرحمن وسورتا المرسلات والكافرون، وأي شأن من أهم مهمات الدنيا والآخرة يستوجب التأكيد الشديد ويستحق أعظم العنايات كاسم الله الرحمن الرحيم؟ وهل بعثت الأنبياء وهبطت الملائكة ونزلت الكتب السماوية الا باسم الله الرحمن الرحيم والهداية، اليه، عز وجل؟ وهل قامت

الصفحة 30
السماوات والأرض ومن فيهن الا باسم الله الرحمن الرحيم (1): (يا أيها الناس أذكروا نعمة الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض لا إله إلا هو فأنّى تؤفكون)؟.

ثانيها: ما جاء عن أبي هريرة مرفوعاً اذ قال: يقول الله تعالى قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين يقول الله تعالى: حمدني عبدي. واذا قال: الرحمن الرحيم. يقول الله تعالى: آثنى علي عبدي. واذا قال: مالك يوم الدين. يقول الله تعالى: مجدني عبدي. واذا قال: اياك نعبد واياك نستعين. يقول الله تعالى هذا بيني وبين عبدي. الخبر، ووجه الاستدلال به أنه لم يذكر في آيات الفاتحة بسم الله الرحمن الرحيم ولو كانت آية لذكرها.

والجواب: ان هذا معارض بخبر ابن عباس مرفوعاً وفيه قسمت الصلاة بيني وبين عبدي فاذا قال العبد: بسم الله الرحمن الرحيم قال الله تعالى: دعاني عبدي. الحديث (2) وهو طويل، وشاهدنا فيه أنه قد اشتمل على البسملة فنقض حديث أبي هريرة. على أن أبا هريرة روى عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم

____________

(1) فالمؤمن يفتتح أعماله كلها باسم الله الرحمن الرحيم فإذا أكل أو شراب أو قام أو قعد أو دخل أو خرج أو اخذ أو اعطى أو قرأ أو كتب أو أملى أو خطب أو ذبح أو نحر قال بسم الله الرحمن الرحيم. والقابلة إذا أخذت الولد حين ولادته تقول: بسم الله واذا مات قال بسم الله واذا دخل القبر قيل بسم الله واذا قام من قبره قال بسم الله. وإذا حضر الموقف قال بسم الله وهل منجى يومئذ أو ملجأ إلا الله؟ ثبتنا الله بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة.

(2) نقله المتقي الهندي حول البسملة صفحة 320 من الجزء الأول من الكنز عن شعب الإيمان للبيهقي.