الفصل الثاني
في ذكر فضائله عليه السّلام على سبيل التفصيل
الفصل الثاني، في ذكر فضائله عليه السّلام على سبيل التفصيل، التي ظهرت للأنام، واشتهرت بين الخاص والعام، لكثرتها وغزارتها لا يمكن أن يحويها كتاب، أو يشتمل عليها(1) ذكر وخطاب، ولكن ما لا يُدرك كلّه لا يُترك كلّه.
وحيث أنّ هذه الرسالة موضوعةٌ على سبيل الاختصار، مجنّبةٌ الاطالة والاكثار، فلنقتصر في هذا الفصل على لُمع يسيرة من فضائله عليه السّلام، ونقول:
الفضائل التي له عليه السّلام إمّا أن تكون ثابتة له قبل وجوده وخلقته، أو حال حصوله وولادته، أو من بعد ذلك إلى وقت وفاته، أو بعد مُضيّه وحياته، فالأقسام حينئذ أربعة.
الأول: الفضائل الثابتة له قبل وجوده وخلقته
وهي كثيرة، منها ما رواه أخطب خوارزم، عن عبد الله بن مسعود، قال: قال
____________
1- في "ب" : يشتملها .
فأوحى الله تعالى [إليه] (2): حمدني عبدي، وعزّتي وجلالي لولا عبدان أُريد أن أخلقهما في دار الدنيا ما خلقتك.
قال: إلهي فيكونان منّي؟ قال: نعم يا آدم، إرفع رأسك وانظر، فرفع رأسه فاذا مكتوب على العرش: "لا إله إلاّ الله، محمّد نبيّ الرحمة، وعليّ مقيم الحجّة، ومن عرف حق عليّ زكى وطاب، ومن أنكر حقّه لُعن وخاب، أقسمت بعزّتي أن أُدخل الجنّة من أطاعه وإن عصاني، وأقسمت بعزّتي أن أُدخل النار من عصاه وإن أطاعني(3).
ومنها ما رواه أخطب خوارزم أيضاً عن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: يا عبد الله أتاني ملك فقال: يا محمد سل من أرسلنا من قبلك من رسلنا على ما بُعثوا؟
قال: قلت: على ما بُعثوا؟ قال: على ولايتك، وولاية عليّ بن أبي طالب(4).
ومنها ما رواه أيضاً باسناده عن ابن عباس، قال: سُئل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عن الكلمات التي تلقّاها آدم من ربّه فتاب عليه، قال: سأله بحقّ محمد وعليّ وفاطمة والحسن والحسين إلاّ تُبت عليّ، فتاب عليه(5).
ومن كتاب المناقب، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: كنت أنا وعليّ نوراً بين يدي الله عزّوجلّ من قبل أن يخلق آدم بأربعة عشر ألف سنة(6)، فلمّا خلق الله
____________
1- و (2) ما بين المعقوفتين اثبتناه من المصدر .
3- المناقب للخوارزمي : 318 ح 320 ، عنه كشف اليقين : 7 ، ونهج الحق : 232 ، وارشاد القلوب 2: 11، ونحوه في مائة منقبة : 105 المنقبة الخمسون ، وايضاً في بشارة المصطفى : 68 ، وفي البحار 27 : 10 ح 22 باب 10 .
4- المناقب للخوارزمي : 312 ح 312 ، عنه ارشاد القلوب 2: 11، وكشف اليقين : 6، وفي البحار 26: 307 ح70.
5- راجع كشف اليقين : 14 ، وارشاد القلوب 2: 11 عن الخوارزمي ولم نجده في كتابه .
6- في المصدر : عام .
فعليّ منّي وأنا منه، لحمه لحمي، ودمه دمي، فمن أحبّه فبحبّي أحبّه، ومن أبغضه فببغضي أبغضه(2).
حُسن الحضارة مجلوبٌ بتطرية(3) | وفي البداوة حُسنٌ غير مجلوبِ |
الثاني: ما ثبت له من الفضائل حال وجوده وولادته
ولد أمير المؤمنين عليه السّلام يوم الجمعة، الثالث عشر من رجب، سنة ثلاثين من عام الفيل، ولم يولد قبله ولابعده مولودٌ في بيت الله الحرام سواه، إكراماً له من الله عزّ اسمه، واجلالا لمحلّه في التعظيم.
روى صاحب كتاب بشارة المصطفى(4) صلّى الله عليه وآله وسلّم، عن يزيد بن قَعْنَبْ، قال: كنت جالساً مع العباس بن عبد المطلب، وفريق من بني عبد العُزّى بازاء بيت الله الحرام، إذ أقبلت فاطمة بنت أسد أُمّ أمير المؤمنين عليه السّلام، وكانت حاملا به لتسعة أشهر.
فأخذها(5) الطلق، فقالت: يا رب إنّي مؤمنة بك، و بما جاء من عندك من رسل وكُتب، وإنّي مصدّقة بكلام جدّي إبراهيم الخليل عليه السّلام، وانّه بنى البيت العتيق، فبحقّ الذي بنى هذا البيت و [بحقّ] (6) المولود الذي في بطني إلاّ ما يسّرت عليّ
____________
1- أثبتناها من المصدر .
2- المناقب للخوارزمي : 145 ح 170 ، عنه كشف اليقين : 11 ، وارشاد القلوب 2: 11، وفي كفاية الطالب : 315، والبحار 35: 33 ح30 باختلاف .
3- أَطْرى الرجل: أحسن الثناء عليه / لسان العرب.
4- في النسخ: بشائر، والصحيح ما أثبتناه.
5- في المصدر : وقد أخذها .
6- أثبتناه من المصدر .
قال يزيد بن قعنب: فرأيت(1) البيت قد انشق من(2) ظهره، ودخلت فاطمة فيه، وغابت عن أبصارنا، وعاد إلى حالته(3).
فرمنا أن ينفتح لنا قفل الباب فلم ينفتح، فعلمنا أنّ ذلك من أمر الله تعالى ثم خرجت في اليوم الرابع وعلى يدها أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السّلام، ثم قالت:
"إنّي فُضّلت على من تقدّمني من النساء، لأنّ آسية بنت مزاحم عبدت الله سرّاً في موضع لا يحبّ الله تعالى أن يُعبد فيه إلاّ اضطراراً، وإنّ مريم بنت عمران هزّت النخلة اليابسة بيدها حتّى أكلت منها رطباً جنياً، وإنّي دخلت بيت الله الحرام، فأكلت من ثمار الجنّة وأوراقها(4).
فلمّا أردت أن أخرج هتف بي هاتف: يا فاطمة سمّيه عليّاً، فهو عليّ، والله العليّ الأعلى يقول: [انّي] (5) شققت اسمه من اسمي، وأدّبته بأدبي، وأوقفته على غامض علمي، وهو الذي يكسر الأصنام في بيتي، ويؤذّن فوق ظهر بيتي، ويقدّسني، ويمجّدني، فطوبى لمن أحبّه وأطاعه، وويلٌ لمن أبغضه وعصاه".
[قالت: فولدت عليّاً ولرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ثلاثون سنة، فأحبّه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم حبّاً شديداً، وقال لها: اجعلي مهده بقرب فراشي.
وكان صلّى الله عليه وآله وسلّم يلي أكثر تربيته، وكان يطهّر عليّاً في وقت غَسله، ويُوجره اللبن عند شربه(6)، ويحرّك مهده عند نومه، ويناغيه في يقظته، ويحمله
____________
1- في المصدر : فرأينا .
2- في المصدر : انفتح عن .
3- في المصدر : والتزق الحائط .
4- في المصدر : أرزاقها .
5- أثبتناه من المصدر .
6- أي يجعل اللبن في فيه .
وكان يحمله على كتفه دائماً، ويطوف به جبال مكّة وشعابها وأوديتها] (1)(2).
الثالث: الفضائل الثابتة له إلى حين وفاته عليه السّلام
وهي شيئان، لأنّ الفضائل إمّا أن تكون حاصلة للشخص باعتبار آثاره وأفعاله، وإمّا أن لا تكون حاصلة له بهذا الاعتبار، بل بأسباب خارجة عنه، فهاهنا بابان:
الباب الأول: في الفضائل المكتسبة من الفعل والأثر
وتقريرها أن نقول: أصول الفضائل كلّها، نفسانيّةً كانت أو بدنيّةً، كما تقرّر في موضعه أربعة: العلم والعفّة والشجاعة والعدالة، وأمير المؤمنين عليه السّلام بلغ في هذه الأصول الغاية، وتجاوز النهاية.
[علمه عليه السلام]
أمّا العلم: فوصل فيه إلى الغاية القصوى التي لم يتيسّر لأحد من البشر سواه وسوى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وقد ذكرنا ذلك فيما تقدّم.
[عفّته عليه السلام]
وأمّا العفّة: فقد كان فيها الآية الكبرى، والمنزلة العظمى، ويكفيك في التنبيه(3)
____________
1- لم يكن ما وضعناه بين المعقوفتين في المصدر .
2- بشارة المصطفى : 7 ـ 8 ، عنه كشف اليقين : 18 ، وارشاد القلوب 2: 12، وكشف الغمة 1 : 61 ، ونحوه في معاني الأخبار : 62 ح 10 ، وأمالي الصدوق : 114 ح 9 مجلس 27 ، وروضة الواعظين : 76 ، عنهم البحار 35: 8 ح 11 باب 1 .
3- في "ب" : في البيّنة .
"... فانظر يا ابن حنيف إلى ما تقضمه(2) من هذا المقضم، فما اشتبه عليك علمه فالفظه(3)، وما أيقنت بطيب وجوهه فنل منه.
ألا وإنّ لكلّ مأموم إماماً يقتدي به، ويُستضاء(4) بنور علمه، ألا وإنّ أمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه(5)، ومن طعمه بقرصيه، ألا وإنّكم لا تقدرون على ذلك، ولكن أعينوني بورع واجتهاد، وعفّة وسداد(6) ...".
وقوله عليه السّلام: "... ولو شئت لاهتديت الطريق إلى مصفّى هذا العسل، ولباب هذا القمح، ونسائج هذا القزّ(7)، ولكن هيهات أن يغلبني هواي، ويقودني جشعي إلى تخيّر الأطعمة، ولعلّ بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص، ولا عهد له بالشبع ... .
أأقنع [من نفسي] (8) بأن يقال: [هذا] (9) أمير المؤمنين، ولا أُشاركهم في مكاره الدهر، و(10)جشوبة العيش ..."(11).
وقوله عليه السّلام فيه: "... وأيم الله ـ يميناً وأستثني فيها بمشيئة الله ـ لأروضنّ
____________
1- كذا الظاهر.
2- قَضِمَ ـ كسمع ـ : أكل بطرف أسنانه ، والمراد الأكل مطلقاً ، والمقضم ـ كمقعد ـ : المأكل .
3- ألفظه : أطرحه .
4- في المصدر : يَستضيء به .
5- الطِمر ـ بالكسر ـ : الثوب الخلق البالي .
6- نهج البلاغة ، الكتاب رقم 45 ، عنه البحار 40 : 340 ح 27 باب 98 ، وارشاد القلوب 2: 17 .
7- القز : الحرير .
8- أثبتناه من المصدر .
9- أثبتناه من المصدر .
10- في المصدر : أو أكون أُسوة لهم في جشوبة العيش ، والجشوبة : الخشونة .
11- نهج البلاغة ، الكتاب رقم 45، عنه البحار 40: 340 ح27، وارشاد القلوب 2: 17.
إلى غير ذلك من كلامه.
[شجاعته عليه السلام]
وأما الشجاعة: فالخوض في إثباتها يجري مجرى ايضاح الواضحات، وتقرير البديهيات فانّه لا خلاف بين جميع المسلمين وغيرهم أنّ علياً عليه السّلام كان أشجع الناس بعد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وأعظمهم بلاءً في الحروب، وتعجّبت من حملاته ملائكة السماء، وجعل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ضربته لعمرو بن ودٍّ العامري يوم الخندق أفضل من عمل أُمّته إلى يوم القيامة، كما قلناه.
ونزل جبرئيل عليه السّلام يوم بدر، وسمعه المسلمون كافّة وهو يقول: "لا سيف إلاّ ذو الفقار، ولا فتى إلاّ عليّ"(3)، وأمثال ذلك من جزئيّات وقائعه المشهورة عند الخاص والعام، التي حصلت في زمان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وبعده في حرب الجمل والنهروان وصفين.
وروى الخوارزمي، قال: كان أبطال المشركين إذا نظروا إلى عليٍّ عليه السّلام في الحرب عهد بعضهم إلى بعض(4).
وبالجملة فشجاعته مشهورة عند جميع الناس، حتّى صارت تُضرب بها الأمثال.
____________
1- أثبتناه من المصدر .
2- نهج البلاغة ، الكتاب رقم 45 ، والبحار 40 : 341 ح 27 باب 98 ، وارشاد القلوب 2: 18.
3- راجع المناقب للخوارزمي : 167 ح 200 ، وكشف اليقين : 128 ، وارشاد القلوب 2: 19، ونهج الحق : 244، وكفاية الطالب : 277 .
4- عنه كشف اليقين : 84، وارشاد القلوب 2: 20، وفي المناقب لابن المغازلي : 72 ح106، وقال الراغب في محاضرات الاُدباء 3: 138: قيل: كانت قريب إذا رأت أمير المؤمنين في كتيبة تواصت خوفاً منه.
[عدالته عليه السلام]
وأما العدالة: فقد بلغ عليه السّلام فيها الغاية القصوى، ويكفيك في التنبيه عليها كلامه في نهج البلاغة أيضاً لأخيه عقيل الذي لم يكن عنده أحدٌ أحبّ إليه منه، وهو قوله:
"والله لئن أبيت على حَسَك السعدان(1) مسهّداً، وأُجَرّ في الأغلال مصفّداً(2)، أحبّ إليّ من أن ألقى الله ورسوله يوم القيامة ظالماً لبعض العباد، أو غاصباً لشيء من الحطام، وكيف أظلم أحداً لنفس يُسرع إلى البلى قُفُولها(3)، ويطول في الثرى(4) حلولها.
والله لقد رأيت عقيلا وقد أملق(5) حتّى استماحني من بُرّكم(6) صاعاً، ورأيت صبيانه شُعثَ [الشعور، غبر] (7) الألوان من فقرهم، كأنّما سوّدت وجوههم بالعِظلم(8)، وعاودني مؤكّداً، وكرّر عليّ القول مُردّداً، فأصغيت إليه سمعي، فظنّ أنّي أبيعه ديني، وأتّبع قياده مفارقاً طريقي(9).
فأحميت له حديدة، ثم أدنيتها من جسمه ليعتبر بها، فضجّ ضجيج ذي دنف من ألمها، وكاد أن يحترق من مَيْسَمِهَا.
فقلت له: ثكلتك الثواكل يا عقيل، أتئنّ من حديدة أحماها إنسانها للعبه،
____________
1- كأنّه يريد من الحسك ، الشوك ، والسعدان : نبت ترعاه الابل له شوك تشبه به حلمة الثدي، والمسهّد ـ من سهّده ـ : إذا أسهره.
2- المصفّد: المقيّد.
3- قفولها : رجوعها .
4- الثرى : التراب .
5- أملق : إفتقر أشد الفقر .
6- البرّ : القمح .
7- أثبتنا ما بين المعقوفتين من المصدر ، والشعث ـ جمع أشعث ـ : وهو من الشعر المتلبّد بالوسخ ، والغُبر ـ بضم الغين ـ : جمع أغبر ، متغيّر اللون شاحبه .
8- العظلم : سواد يُصبغ به .
9- في المصدر والبحار : طريقتي .
وأعجب من ذلك طارقٌ طرقنا بملفوفة(1) في وعائها، ومعجونة شَنِئْتُها(2)، كأنّما عُجنت بريق حيّة أو قيئها، فقلت: أصلة، أم زكاة، أم صدقة؟ فذلك محرّم علينا أهل البيت.
فقال: لا ذا ولا ذاك، ولكنّها هديّة، فقلت: هبلتك الهبول، أعن دين الله أتيتني لتخدعني؟ أمختبط [أنت] (3) أم ذو جنّة أم تهجر؟
والله لو أُعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي الله تعالى في نملة أسلُبُها جلب شعيرة(4) ما فعلته، وإنّ دنياكم عندي لأهون من ورقة في فم جرادة تقضمها، ما لعلي ولنعيم يفنى، ولذّة لا تبقى، نعوذ بالله من سيئات العمل(5)، وقبح الزلل ..."(6).
فهذه أصول الفضائل، وأما فروعها الراجعة إليها، المندرجة تحتها وجزئيات فضائله، فغير متناهية، ولكنّا لابد أن نذكر منها شيئاً يسيراً ليحصل الجمع في ذكر فضائله عليه السّلام بين الأصول والفروع، والمطبوع والمسموع.
[كسر الأصنام]
فمن فضائله عليه السّلام انّه نشأ ورُبّي في الايمان، ولم يتدنّس بدنس الجاهلية، بخلاف غيره من سائر الصحابة، فانّ المسلمين أجمعوا على أنّه عليه السّلام لم يُشرِك بالله طرفة عين، ولم يسجد لصنم قط، بل هو الذي تولّى تكسير الأصنام لمّا صعد
____________
1- الملفوفة : نوع من الحلواء أهداها الأشعث بن قيس إلى عليّ عليه السّلام .
2- شنئتها : أي كرهتها .
3- أثبتنا ما بين المعقوفتين من المصدر.
4- جُلب الشعيرة ـ بضمّ الجيم ـ : قشرتها .
5- في المصدر والبحار وارشاد القلوب : سبات العقل ، والسبات : نومه .
6- نهج البلاغة ، الخطبة رقم 244 ، عنه البحار 41 : 162 ح 57 باب 107 ، وارشاد القلوب 2: 20.
روى أحمد بن حنبل في مسنده عن أبي مريم، عن علي عليه السّلام، قال: انطلقتُ أنا والنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم حتّى أتينا الكعبة، فقال لي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: اجلس وصعد على منكبي، فذهبت لأنهض به فرأى منّي ضعفاً، فنزل وجلس لي نبيّ الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وقال: اصعد على منكبي.
فصعدتُ على منكبيه ونهض بي، فرأيت أنّي لو شئت لنلتُ أُفق السماء، حتّى صعدت على البيت وعليه صنم كبير من صفر، فجعلت أزاوله عن يمينه وشماله وبين يديه ومن خلفه، حتّى اذا استمكنت منه قال لي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: أقذف به، فقذفت به، فتكسّر كما تتكسّر القوارير، ثم نزلت وانطلقت أنا ورسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم نستبق حتّى توارينا بالبيوت، خشية أن يلقانا أحد من الناس(1).
وقال بعض الشعراء في هذا المعنى، وقد قيل له إمدح عليّاً:
قيل لي قل لعليّ مِدَحاً | ...(2) تُطفئ ناراً موصدة |
قلت هل أمدح من في فضله | حار ذو اللّب إلى أن عبده |
والنبي المصطفى قال لنا | ليلة المعراج لمّا صعده |
وضع الله على ظهري يداً | فأراني القلب أن قد برده |
وعليّ واضع رجليه لي | بمكان وضع الله يده |
فانظر أيّها المنصف الفطن إلى حال هذا الرجل المجهول القدر، فعند المسلمين ما ذكرناه من عدم إشراكه بالله طرفة عين، وارتقائه فوق كتف النبي صلّى الله
____________
1- مسند أحمد 1 : 84 ، عنه كشف الغمة 1 : 79 ، وكشف اليقين : 24 ، وارشاد القلوب 2: 41، ومثله في المناقب للخوارزمي : 125 ح 140 ، ولاحظ أيضاً العمدة : 364 عن مناقب المغازلي ، وأخرج له صاحب الطرائف في ص 81 مصادر أخر ، فلاحظ .
2- كلمة غير مفهومة، لعلّها : "بيضاء"، والأنسب أن تكون: "مدحة".
ومن كتاب مسند أحمد بن حنبل أيضاً، عن عفيف الكندي، قال: كنت تاجراً، فقدمت الحجّ فأتيت العباس بن عبد المطلب لأبتاع منه شيئاً، وكان تاجراً، فوالله إنّي لعنده بمنى إذ خرج رجل من خباء قريب منه، فنظر إلى الشمس فلمّا رأها قد زالت قام يصلّي.
ثم خرجت امرأة من الخباء الذي خرج منه، فقامت خلفه فصلّت، ثم خرج غلامٌ حين(1) راهق الحلم من ذلك الخباء، فقام معه فصلّى.
فقلت للعباس: من هذا يا عباس؟ قال: هذا محمد بن عبد الله ابن أخي، فقلت: من هذه المرأة؟ قال: خديجة بنت خويلد، فقلت: من هذا الفتى؟ قال: عليّ بن أبي طالب ابن عمّه، فقلت: وما هذا الذي يصنع؟ قال: يصلّي، وهو يزعم أنّه نبيّ، ولم يتّبعه إلاّ امرأته وابن عمّه هذا الفتى(2).
[الاخبار بالغيب]
ومن فضائله عليه السّلام إخباره بالمغيبات، ولم يحصل لأحد من أُمّة محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم ذلك، وهو في مواضع كثيرة متعدّدة.
منها إخباره عليه السّلام بعمارة بغداد، وملك بني العباس، وذكر أحوالهم وأخذ المغول منهم.
____________
1- حانَ حينُهُ: أي قَرُبَ وقتُهُ / لسان العرب.
2- مسند أحمد 1 : 290 ، عنه كشف الغمة 1 : 82 ، وكشف اليقين : 33 ، وارشاد القلوب 2: 42، ونحوه في العمدة : 63 ح 75 عن تفسير الثعلبي ، وفي كفاية الطالب : 128 عن النسائي ، وانظر العدد القويّة : 246 ح 38 .
[حكاية والد العلاّمة الحلّي مع هولاكو]
روى الشيخ الأعظم، خاتمة المجتهدين، جمال الدين الحسن بن المطهر قدس الله نفسه، عن والده الشيخ السعيد سديد الدين رحمه الله، وكان ذلك سبب سلامة أهل الحلّة والكوفة والمشهدين الشريفين صلوات الله وسلامه على مشرّفهما من القتل، لأنّه لمّا وصل السلطان هولاكو إلى بغداد، وقبل أن يفتحها هرب [اكثر] أهل الحلّة إلى البطائح إلاّ القليل، وكان ممّن تخلّف(1) والدي رحمه الله، والسيد مجد الدين بن طاوس، والفقيه ابن أبي المعزّ.
فاجتمع رأيهم على مكاتبة السلطان بأنّهم مطيعون داخلون تحت الايليّة، وأنفذوا به شخصاً أعجميّاً، فأنفذ السلطان إليهم فرماناً من شخصين وقال لهما: إن كانت قلوبهم كما وردت به كتبهم يحضرون إلينا.
فجاء الرسولان الأميران، فخافوا لعدم معرفتهم بما ينتهي الحال إليه، فقال والدي رحمه الله: إن جئت وحدي كفى؟
قالا: نعم، فاُصعد معهما، فلمّا حضر بين يديه ـ وكان ذلك قبل فتح بغداد، وقبل قتل الخليفة ـ قال له السلطان: كيف أقدمتم على مكاتبتي، والحضور عندي قبل أن تعلموا ما ينتهي إليه أمري وأمر صاحبكم؟ وكيف تأمنون إن صالحني ورحلت عنه؟
فقال له والدي: إنّما أقدمنا على ذلك إنّا روينا عن إمامنا عليّ بن أبي طالب عليه السّلام أنّه قال في بعض خطبه: الزوراء، وما أدراك ما الزوراء، أرض ذات أثل، يُشيّد(2) فيه البنيان، ويكثر بها السكّان، يتّخذها ولد(3) العباس موطناً، ولزخرفهم مسكناً، تكون لهم دارَ لهو ولعب، ويكون بها الجور الجائر، والحيف المحيف(4)،
____________
1- في المصدر : وكان من جملة القليل .
2- في المصدر : يشتدّ .
3- في النسخ: بنو.
4- في المصدر : الخوف المخيف .
يكتفي الرجال منهم بالرجال، والنساء بالنساء، فعند ذلك الغمّ الغميم، والبكاء الطويل، والويل والعويل لأهل الزوراء من سطوات الترك، وما هم الترك، قوم صغار الحدق، وجوههم كالمجانّ المطرقة، لباسهم الحديد، جُردٌ، مُردٌ، يقدمهم ملك، يأتي من حيث بدأ ملكهم.
جهوريّ الصوت، قويّ الصولة، علي الهمّة، لا يمرّ بمدينة إلاّ فتحها، ولا ترفع عليه رايةٌ إلاّ نكسها، الويل الويل لمن ناواه، فلا يزال كذلك حتّى يظفر.
فلمّا وصف ذلك لنا ووجدنا الصفات فيكم، رجوناك فقصدناك، فطيّب قلوبهم وكتب لهم فرماناً باسم والدي رحمه الله يطيّب [فيه] (1) قلوب أهل الحلّة وأعمالها(2).
ومنها إنّ رجلا جاء إلى أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام، فقال: يا أمير المؤمنين إنّي مررت بوادي القرى، فرأيت خالد بن عرفطة قد مات، فاستغفر له.
فقال عليه السّلام: انّه لم يمت ولا يموت حتّى يقود جيش ضلالة، صاحب لوائه حبيب بن جمّاز، فقام رجل من تحت المنبر فقال: يا أمير المؤمنين إنّي لك شيعة، وإنّي لك محبٌّ.
فقال: ومن أنت؟ قال: حبيب بن جمّاز، فقال عليه السّلام: إيّاك أن تحملها، ولتحملنّها فتدخل بها من هذا الباب، وأومئ بيده إلى باب الفيل.
فلمّا مضى أمير المؤمنين عليه السّلام، ومضى الحسن ابنه من بعده، وكان من أمر الحسين عليه السّلام ما كان، بعث ابن زياد بعمر بن سعد إلى الحسين عليه السّلام، وجعل خالد بن عرفطة على مقدّمته، وحبيب بن جمّاز صاحب رايته، حتّى دخل
____________
1- أثبتناه من المصدر .
2- كشف اليقين : 80 ، ونحوه في نهج الحق : 244 باختصار .
ومنها: إخباره عن قتل نفسه الشريفة، وقال: والله لتخضبنّ هذه من هذه، ووضع يده على رأسه ولحيته(2).
ومنها: إخباره عليه السّلام بصلب ميثم التمار، وطعنه بحربة، عاشر عشرة على باب دار عمرو بن حريث، وأراه النخلة التي يُصلب على جذعها، فكان ميثم يأتيها ويصلّي عندها، ويقول لعمرو بن حريث: إنّي مجاورك فأحسن جواري، فصلبه عبيد الله بن زياد، وطعنه بحربة(3).
ومنها: إنّه خرج ذات ليلة من مسجد الكوفة متوجّهاً إلى داره، وقد مضى هزيع من الليل(4)، وفي خدمته كميل بن زياد، وكان من خيار شيعته ومحبّيه، فوصل في الطريق إلى باب رجل يتلو القرآن في ذلك الوقت، ويقرأ قوله تعالى: (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ اِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُوا الاَْلْبَابِ)(5).
بصوت شجيّ حزين، فاستحسن ذلك كميل في باطنه وأعجبه حال الرجل من غير أن يقول شيئاً.
فالتفت إليه عليه السّلام، فقال: يا كميل لا تُعجبك طنطنة الرجل، إنّه من أهل النار سأُنبئك فيما بعد، فتحيّر كميل في مكاشفته له على ما في باطنه، ولشهادته للرجل
____________
1- لاحظ كشف اليقين : 79 ، وارشاد القلوب 2: 34، ونهج الحق : 243 باختصار ، وكذلك المناقب لابن شهر آشوب 2 : 270 في اخباره بالبلايا والمنايا ، عنه البحار 41 : 313 ح 39 ، وارشاد المفيد : 173 ، وشرح نهج البلاغة 2 : 287 .
2- راجع ارشاد القلوب 2: 34، وارشاد المفيد : 168، عنه البحار 42: 192 ح6.
3- لاحظ ارشاد المفيد : 170 ، عنه البحار 42 : 124 ح 7 باب 122 ، واختيار معرفة الرجال : 295 ح 139 ، وشرح نهج البلاغة 2 : 291 .
4- الهزيع : صدر من الليل ، وفي الحديث : حتّى مضى هزيع من الليل ، أي طائفة منه نحو ثلثه وربعه ، والجمع : هُزُعٌ / لسان العرب.
5- الزمر : 9 .