الصفحة 95

باب (1) القول في اللطيف (2) من الكلام

82 - القول في الجواهر

الجواهر عندي هي الأجزاء التي تتألف منها الأجسام، ولا يجوز على كل واحد في نفسه الانقسام، وعلى هذا القول أهل التوحيد كافة سوى شذاذ من أهل الاعتزال ويخالف فيه الملحدون ومن المنتمين إلى الموحدين إبراهيم بن سيار النظام.

83 - القول في الجواهر أهي متجانسة أم بينها (3) اختلاف؟

وأقول: إن الجواهر كلها متجانسة، وإنما تختلف بما يختلف في نفسه من الأعراض، وعلى هذا القول جمهور الموحدين.

____________

1 - كلمة باب سقطت من نسخة ألف و ب و ج وموجود في د وساير النسخ وهو الأصح لشروعه في نوع آخر من البحث لا يناسب ما سبق فيحتاج إلى تغيير العنوان وأيضا جملة البسملة موجودة هنا في النسخ وهي دالة على الشروع في نوع آخر من البحث كما لا يخفى.

2 - اللطف ألف و ب.

3 - جملة (أم بينها اختلاف وأقول إن الجواهر كلها متجانسة) سقطت من نسخة ب.


الصفحة 96

84 - القول في الجواهر، ألها مساحة في نفسها وأقدار؟

أقول: إن الجوهر له قدر في نفسه وحجم من أجله كان له حيز في الوجود، وبه فارق معنى ما خرج عن حقيقته، وعلى هذا القول أكثر أهل التوحيد.

85 - القول في حيز الجواهر والأكوان

وأقول: إن كل جوهر فله حيز في الوجود، وإنه لا يخلو عن عرض يكون به في بعض المحاذيات أو ما يقدره تقدير ذلك، وهذا العرض يسميه بعض المتكلمين كونا، وعلى هذا القول أكثر أهل التوحيد.

86 - القول في الجواهر وما يلزمها من الأعراض

أقول: إن كل عرض يصح حلوله في الجوهر ويكون الجوهر محتملا لوجوده، فإنه لا يخلو منه أو مما يعاقبه من الأعراض، وهذا مذهب أبي القاسم البلخي وأبي علي الجبائي ومن قبلهما أكثر المتكلمين، وخالف فيه عبد السلام بن محمد الجبائي وأجاز خلو الجواهر من الألوان والطعوم والأراييح ونحو ذلك من الأعراض.

87 - القول في بقاء (1) الجواهر

أقول: إن الجواهر مما يصح عليها البقاء وإنها توجد أوقاتا كثيرة ولا تفنى

____________

1 - بقايا ج.


الصفحة 97
من العالم إلا بارتفاع البقاء عنها، وعلى هذه الجملة أكثر الموحدين وإليها يذهب أبو القاسم البلخي ويخالف فيما ذكرناه من سبب فنائها (1) والجبائي وابنه و بنو نوبخت من الإمامية ومن سلك سبيلهم في هذا المقام، وإبراهيم النظام يخالف الجميع ويزعم أن الله تعالى يجدد الأجسام ويحدثها حالا فحالا.

88 - القول في الجواهر هل تحتاج إلى مكان؟

أقول: إنه لا حاجة للجواهر إلى الأماكن من حيث كانت جواهر إلا أن تتحرك أو تسكن فلا بدلها في الحركة والسكون من المكان وعلى غنائها عن المكان كافة الموحدين، وفي حاجتها إليه عند الحركة والسكون جمهورهم، و يخالف في ذلك الجبائي وابنه عبد السلام.

89 - القول في الأجسام

أقول: إن الأجسام هي الجواهر المتألفة طولا وعرضا وعمقا، وأقل ما تتألف منه الأجسام ثمانية أجزاء، اثنان منها أحدهما فوق صاحبه طولا، واثنان يليان هذين الاثنين من جهة اليمين أو الشمال يصير بذلك عرضا، وأربعة تلقاء هذه الأربعة فيحصل بذلك عمق، وعلى هذا القول جماعة من المتكلمين.

وقد زعم قوم أن الجسم يتألف من ستة أجزاء، وقال آخرون إنه يتألف من أربعة أجزاء، وذهب قوم إلى أن حقيقة الجسم هو المؤلف وقد يكون ذلك من جزئين، فالأجسام من نوع ما يبقى، وقد ذكرت ذلك في الجواهر المنفردة و

____________

1 - بقائها د و ج.


الصفحة 98
التأليف عندي وساير الأعراض لا تبقى. وهذا مذهب أبي القاسم البلخي و جماعة قبله من البغداديين، ولم يخالف في بقاء الأجسام أحد من أهل التوحيد سوى النظام فإنه زعم أنها تتجدد حالا بعد حال.

90 - القول في الأعراض

أقول: الأعراض هي المعاني المفتقرة في وجودها إلى المحال، ولا يجوز على شئ منها البقاء، وهذا مذهب أكثر البغداديين، وقد خالف فيه البصريون و غيرهم من أهل النحل والآراء.

91 - القول في قلب الأعراض وإعادتها

أقول: إن ذلك محال لا يصح بدلائل يطول ذكرها، وهو مذهب أبي القاسم وجميع من نفى بقاء الأعراض من الموحدين.

92 - القول في المعدوم

وأقول: إن المعدوم هو المنفي العين الخارج عن صفة الموجود، وأقول (1) إنه لا جسم ولا جوهر ولا عرض ولا شئ على الحقيقة، وإن سميته بشئ من هذه الأسماء فإنما تسميه به مجازا، وهذا مذهب جماعة من بغدادية المعتزلة و أصحاب المخلوق. والبلخي يزعم أنه شئ ولا يسميه بجسم ولا جوهر و لا عرض، والجبائي وابنه يزعمان أن المعدوم شئ وجوهر وعرض، والخياط يزعم إنه شئ وعرض وجسم.

____________

1 - ولا أقول إنه جسم ب ج هـ.


الصفحة 99

93 - القول في ماهية العالم

وأقول: العالم هو السماء والأرض وما بينهما وما فيهما من الجواهر والأعراض، ولست أعرف بين أهل التوحيد خلافا في ذلك.

94 - القول في الفلك

أقول: إن الفلك هو المحيط بالأرض الدائر عليها وفيه الشمس والقمر و ساير النجوم، والأرض في وسطه بمنزلة النقطة في وسط الدائرة، وهذا مذهب أبي القاسم البلخي وجماعة كثيرة من أهل التوحيد ومذهب أكثر القدماء والمنجمين، وقد خالف فيه جماعة من بصرية المعتزلة وغيرهم من أهل النحل.

95 - القول في حركة الفلك

أقول: إن المتحرك من الفلك من جهة الامكان ما اختص منه بالمكان و من جهة الوجوب ما لاقى الهواء وقطع بحركته المكان، وأما ما (1) يلي صفحته العليا فإنها لا متحركة ولا ساكنة لأنها في غير مكان، وأقول إن المتحرك منه إنما يتحرك حركة دورية كما يتحرك الدائر على الكرة، وإلى هذا يذهب البلخي و جماعة من الأوائل وكثير من أهل التوحيد.

96 - القول في الأرض وهيئتها وهل هي متحركة أو ساكنة؟

أقول: إن الأرض على هيئة الكرة في وسط الفلك وهي ساكنة لا تتحرك،

____________

1 - وأما المكان وهو ما يلي صفحته العليا ألف و ب.


الصفحة 100
وعلة سكونها أنها في المركز، وهو مذهب أبي القاسم وأكثر القدماء والمنجمين، وقد خالف فيه الجبائي وابنه وجماعة غيرهما من أهل الآراء والمذاهب من المقلدة والمتكلمين.

97 - القول في الخلا والملا

وأقول: إن العالم مملو من الجواهر (1) وإنه لا خلا فيه ولو كان فيه خلا لما صح فرق بين المجتمع والمتفرق من الجواهر والأجسام، وهو مذهب أبي القاسم خاصة من البغداديين ومذهب أكثر القدماء من المتكلمين ويخالف فيه الجبائي وابنه وجماعة من متكلمي الحشوية وأهل الجبر والتشبيه.

98 - القول في المكان

وأقول: إن المكان، ما أحاط بالشئ من جميع جهاته وإنه (2) لا يصح تحرك الجواهر إلا في الأماكن وهو مذهب أبي القاسم وغيره من البغداديين وجماعة من قدماء المتكلمين، ويخالف فيه الجبائي وابنه وبنو نوبخت والمنتمون إلى الكلام من أهل الجبر والتشبيه.

99 - القول في الوقت والزمان

وأقول: إن الوقت هو ما جعله الموقت وقتا للشئ وليس بحادث

____________

1 - الجواهر والأجسام ب.

2 - فلأنه.


الصفحة 101
مخصوص، والزمان اسم يقع على حركات (1) الفلك فلذلك لم يكن الفلك (2) محتاجا في وجوده إلى وقت ولا زمان وعلى هذا القول ساير الموحدين.

100 - القول في الطباع

وأقول: إن الطباع معان تحل الجواهر يتهيأ (3) بها المحل للانفعال كالبصر و ما فيه من الطبيعة التي بها يتهيأ لحلول الحس فيه والادراك، وكالسمع والأنف السليم واللهوات، وكوجوده في النار التي تحرق به ومن أجله (4) أمكن بها الاحراق، والأمر في ذلك وما أشبهه واضح الظهور والبيان.

فصل - وأقول: إن ما يتولد بالطبع فإنما هو لمسببه بالفعل في المطبوع، و إنه لا فعل على الحقيقة لشئ من الطباع، وهذا مذهب أبي القاسم الكعبي و هو خلاف مذهب المعتزلة في الطباع وخلاف الفلاسفة الملحدين أيضا فيما ذهبوا إليه من أفعال الطباع، وأباه الجبائي وابنه وأهل الحشو وأصحاب المخلوق والاجبار (5).

____________

1 - حركة ز.

2 - الفعل ألف.

3 - بهيئاتها ألف و ب و ج.

4 - في نسخة ألف و ب ود (ما أمكن) ولا ريب في فساد المعنى لو جعلنا ما نافية فهي إما مصدرية أو موصولة أو زائدة على فرض وجودها.

5 - الأخبار ألف و ب.


الصفحة 102

101 - القول في تركب الأجسام من الطبائع
واستحالتها (1) إلى العناصر والاسطقسات

وقد ذهب كثير من الموحدين إلى أن الأجسام كلها مركبة من الطبايع الأربع وهي الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة، واحتجوا في ذلك بانحلال كل جسم إليها وبما يشاهدونه من استحالتها كاستحالة الماء بخارا والبخار ماء والموات حيوانا والحيوان مواتا، وبوجود النارية والمائية والهوائية والترابية في كل جسم، وأنه لا ينفك جسم من الأجسام من ذلك، ولا يعقل على خلافه، ولا ينحل إلا إليه. وهذا ظاهر مكشوف ولست أجد لدفعه حجة اعتمدها ولا أراه (2) مفسدا لشئ من التوحيد والعدل والوعد والوعيد أو النبوات أو الشرائع فاطرحه لذلك، بل هو مؤيد للدين مؤكد لأدلة الله تعالى على ربوبيته وحكمته وتوحيده. وممن دان به من رؤساء المتكلمين النظام، وذهب إليه البلخي ومن اتبعه في المقال.

102 - القول في الإرادة وإيجابها

وأقول: إن الإرادة التي هي قصد لإيجاد أحد الضدين الخاطرين ببال المريد موجبة لمرادها، وإنه محال وجودها وارتفاع المراد بعدها بلا فصل إلا أن

____________

1 - جملات (إلى العناصر والاسطقسات وقد ذهب كثير من الموحدين إلى أن الأجسام كلها مركبة من الطبايع الأربع وهي) سقطت من ب.

2 - مسندا ألف و ب ود.


الصفحة 103
يمنع من ذلك من جهة فعل (1) غير المريد، وهذا مذهب جعفر بن حرب و جماعة من متكلمي البغداديين وهو مذهب البلخي وعلى خلافه الجبائي وابنه والبصريين من المعتزلة والحشوية وأهل الاجبار.

103 - القول في التولد

وأقول: إن من أفعال القادر ما يقع متولدا بأسباب يفعلها على الابتداء من غير توليد لها كالضارب لغيره فضربه متولد عن اعتماداته (2) وحركاته وإيلامه للمضروب متولد عن ضربه إياه، وكالرامي لغرضه وغيره من الأجسام، وكالمعتمد بلسانه في لهواته فيولد بذلك أصواتا وكلاما وما أشبه ذلك.

فالمبتدأ من الأحوال لا يكون متولدا. والمسبب عن المبتدأ نحو ما ذكرناه يكون متولدا عن فعل صاحب السبب. وهذا مذهب أهل العدل كافة سوى النظام و من وافقه في نفي التولد من أهل القدر والإجبار.

104 - القول في الفرق بين الموجب والمتولد

وأقول: إن كل متولد فهو موجب وليس كل موجب فهو متولد، والفرق بينهما إن الموجب الذي ليس بمتولد هو ما ولى الإرادة بلا فصل بينهما من فعل المريد، والموجب المتولد هو ما ولي الذي يلي الإرادة من الأفعال، وهذا مذهب

____________

1 - العبارة هنا مشوشة في النسخ الصحيح ما في المتن أو إحدى العبارتين الأولى (إلا أن يمنع من ذلك فعل غير المريد) الثانية (إلا أن يمنع من فعل المريد غير المريد).

2 - اعتماد آلة ج.


الصفحة 104
اختصرته أنا لقولي في المحدث الفعل الذي تسميه الفلاسفة النفس، والأصل فيه مذهب البلخي ومن ذهب إلى الجمع بين إيجاب الإرادة والتولد من متكلمي بغداد.

105 - القول في أنواع المولدات والمتولدات من الأفعال

وأقول: إن الاعتمادات والحركات والمماسات والمتباينات والنظر والاعتقادات والعلوم واللذات والآلام جميع ذلك يولد أمثاله وخلافه وليس واحد مما ذكرناه بالتوليد أخص من غيره مما سميناه.

وأقول، إن الفاعل قد يولد في غيره علما بأشياء إذا فعل به أسباب تلك العلوم كالذي يصيح بالساهي فيفعل به علما بالصيحة متولدا عن الصيحة به بدلالة أنه لا يصح امتناعه من العلم بذلك مع سماع ما بدهه من الصياح، وكالضارب لغيره المولد بضربه ألما فيه فإنه يولد فيه علما بالألم والضرب لاستحالة فقد علمه بالألم في حاله، وقد يولد الانسان في غيره غما وسرورا و حزنا وخوفا بما يورده عليه مما لا يمتنع معه من الغم والمسرة والجزع والخوف، و لا يصح امتناعه منه على كل حال وأشباه ذلك مما يطول بذكره الكلام. وهذا مذهب كثير من بغدادية المعتزلة وإليه ذهب أبو القاسم البلخي وخالف في كثير منه الجبائي وابنه وأنكر جملته النظام والمجبرة.

____________

1 - مسندا ألف و ب ود.

2 - العبارة هنا مشوشة في النسخ والصحيح ما في المتن أو إحدى العبارتين الأولى (إلا أن يمنع من ذلك فعل غير المريد) الثانية (إلا أن يمنع من فعل المريد غير المريد).

3 - اعتماد آلة ج.


الصفحة 105

106 - القول في أن الأمر بالسبب هل هو أمر بالمسبب أم لا؟

وأقول: إن الأمر بالسبب أمر بالمسبب ما لم يمنع (1) الأمر من المسبب أو يعلم أن صاحب السبب سيمنع من المسبب. فأما الأمر بالمسبب فهو مقتض (2) للأمر بالسبب لا محالة بل هو أمر به في المعنى (3) وإن لم يكن كذلك في اللفظ، ولست أعرف بين من أثبت التولد في هذا الباب خلافا.

107 - القول في أفعال الله تعالى وهل فيها متولدات أم لا؟

وأقول: إن في كثير من أفعال الله تعالى مسببات، وأمتنع من إطلاق لفظ الوصف عليها بأنها متولدات وإن كانت في المعنى كذلك لأنني أتبع فيما أطلقه في صفات الله تعالى وصفات أفعاله الشرع (4) ولا ابتدع. وقد أطلق المسلمون على كثير من أفعال الله تعالى أنها أسباب ومسببات، ولم أجدهم يطلقون عليها لفظ المتولد، ومن أطلقه منهم فلم يتبع فيه حجة في القول، ولا لجأ فيه إلى كتاب ولا سنة ولا إجماع، وهذا مذهب اختص به لما ذكرت من الاستدلال ولدلائل آخر ليس هنا موضع ذكرها.

فأما قولي في الأسباب فهو مذهب جماعة من البغداديين ومذهب أبي القاسم على قرب وأبي علي، وإنما خالف فيه أبو هاشم بن أبي علي خاصة

____________

1 - ما لم يعلم ألف.

2 - المقتضى د.

3 - بالمعنى ألف و ب.

4 - كلمة الشرع سقطت عن أكثر النسخ والعبارة تصح بدونها ومعها أصح.


الصفحة 106
من بين أهل العدل. وقد قال الله - عز وجل - مما يشهد بصحته: (وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون). وقال: (ألم تر أن الله له أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض ثم يخرج به زرعا مختلفا ألوانه ثم يهيج فتراه مصفرا) وآي في القرآن تدل على هذا المعنى كثيرة.

108 - القول في الشهوة

وأقول: إن الشهوة عبارة عن معنيين: أحدهما الطبع المختص بالحيوان الداعي له إلى ما يلائمه من جهة (1) اللذات. والمعنى الآخر ميل الطبع إلى الأعيان على التفصيل من جملة اللذات. فأما الأول فهو من فعل الله - سبحانه وتعالى - لا محالة ولا شك فيه ولا ارتياب، لأن الحيوان لا يملكه ولا له فيه اختيار. وأما الثاني فهو من فعل الحيوان بدلائل يطول بشرحها الكلام، وهذا مذهب جمهور البغداديين، والبصريون باتحاد (2) الموجود أو الممنوع من وجوده و ذلك محال، وكذلك النهي إذ هو نقيض الأمر وهذا مذهب كافة أهل العدل إلا من لا يعبأ به منهم والمجبرة على خلافهم فيه.

109 - القول في البدل

وأقول: إن الكفر قد كان يجوز أن يكون في وقت الإيمان بدلا منه، و

____________

1 - جملة.

2 - إيجاد د.


الصفحة 107
الإيمان قد كان يجوز أن يكون بدلا من الكفر في وقته، ولا أقول في حال الإيمان إن الكفر يجوز كونه فيه بدلا منه ولا الإيمان يجوز وجوده في حال الكفر بدلا منه، وذلك أن جواز الشئ هو تصحيحه وصحة إمكانه وارتفاع استحالته، والكفر مضاد للإيمان ووجود الضد محيل لجواز وجود ضده كما يحيل وجوده، فإذا قال القائل: (إن الكافر يجوز منه الإيمان الذي هو بدل من الكفر) تضمن ذلك جواز اجتماع الضدين، وإذا قال (قد كان يجوز) بتقدم لفظ (كان) على (يجوز) (1) لم يتضمن ذلك محالا.

فأما القول بأنه يجوز من الكافر الإيمان في مستقبل (2) أوقات الكفر، و يجوز من المؤمن الكفر كذلك وليس (3) بمنكر لارتفاع التضاد والإحالة، وليس هذا القول هو الخلاف بيننا وبين المجبرة وإنما خلافهم لنا في الأول وعليه أهل العدل كما إن أهل الاجبار بأسرهم على خلافهم فيه.

110 - القول في خلق ما لا عبرة به ولا صلاح فيه

وأقول: إن خلق ما لا عبرة به لأحد من المكلفين ولا صلاح فيه لأحد من المخلوقين عبث لا يجوز على الله تعالى، وهذا مذهب أهل العدل، وقد ذهب إلى خلافه جميع أهل الجبر، واشتبه على كثير من الناس فيه خلق ما في قعور البحار وقلل الجبال وبواطن الحيوان مما لا يحسه أحد من البشر، فذهب عليهم وجه الانتفاع به وانسد عليهم طريق الاعتبار بمشاهدته فخالفوا أهل الحق فيما

____________

1 - الجواز د وز.

2 - المستقبل د و هـ.

3 - فليس ب.


الصفحة 108
ذكرناه، وليس الأمر في هذا الباب على ما توهموه، وذلك أن البشر وإن لم يحسوا كثيرا مما وصفوه فإن الجن والملائكة يحسونه فيعتبرون به وما لا يقع عليه من جميع ذلك حس ذي حاسة فهو نفع (1) لبعض ما يعتبر به (2) من الحيوان أو مستحيل (3) من طبائع ما لا بد من وجوده في ألطاف العباد، وليس علينا في صحة هذه القضية أكثر من إقامة الدلالة على أن الله تعالى الغني الكريم الحكيم لا يخلق شيئا لنفسه، وإنما خلق ما يخترعه لغيره ولو (4) خلا ما خلقه من منفعة غيره مع قيام البرهان على أن صانعه - جلت عظمته - لا ينتفع به لكان عبثا لا معنى له، والله يجل عن فعل العبث علوا كبيرا.

111 - القول في الألم واللذة إذا استويا في اللطف والصلاح

وأقول: إنه لو استوى فعل الألم بالحيوان واللذة له في ألطاف المكلفين و مصالحهم الدينية لما جاز من الحكيم سبحانه أن يفعل الألم دون اللذة إذ لا داعي كان يكون إلى فعله حينئذ إلا العوض (5) عليه، والقديم سبحانه قادر على مثل العوض تفضلا، وكان الأولى في جوده (6) ورأفته أن يفعل اللذة لشرفها على الألم ولا يفعل الألم وقد ساوى ما هو أشرف منه في المصلحة. وهذا مذهب

____________

1 - يقع ألف.

2 - يعتريه ألف.

3 - يستحيل.

4 - ويوحده ما خلقه ألف.

5 - المعوض د.

6 - في وجوده ألف.


الصفحة 109
كثير من أهل العدل وقد خالف منهم فيه فريق والمجبرة بأسرهم على خلافه.

112 - القول في علم الله تعالى أن العبد يؤمن إن أبقاه بعد كفره،
أو يتوب إن أبقاه من فسقه، أيجوز أن يخترمه دون ذلك أم لا؟

وأقول: إن ذلك غير جايز فيمن لم ينقض توبته ويرجع في كفر بعد تركه، وجايز بعد الامهال فيمن انظر فعاد إلى العصيان، لأنه لو وجب ذلك دائما أبدا لخرج عن الحكمة إلى العبث ولم يكن (1) للتكليف أجر، وهذا مذهب أبي القاسم الكعبي وجماعة كثيرة من أصحاب الأصلح، ويخالف فيه البصريون من المعتزلة ومانعوا اللطف منهم وساير المجبرة.

113 - القول في الألم للمصلحة دون العوض

وأقول: إن العوض على الألم لمن يستصلح به غيره مستحق على الله تعالى في العدل وإن كان واجبا في وجوده لمن يجوز أن يفعله به من المؤمنين.

فأما ما يستصلح به غير المؤمنين من الآلام فلا بد من التعويض له عليه وإلا كان ظلما، ولهذا قلت: (إن إيلام الكافر لا يستحق عليه عوضا لأنه لا يقع إلا عقابا له واستصلاحا له في نفسه وإن جاز أن يصلح به غيره). وهذا مذهب من نفى الاحباط من أهل العدل والإرجاء وعلى خلافه البغداديون من المعتزلة و البصريون وساير المجبرة. وقد جمعت فيه بين أصول يختص بي جمعها دون

____________

1 - ولو لم يكن للمكلف أجر ألف و.


الصفحة 110
من وافقني في العدل والإرجاء بما كشف لي (1) النظر عن صحته ولم يوحشني من خالف فيه إذ بالحجة لي أتم أنس ولا وحشة من حق والحمد لله.

114 - القول في تعويض البهائم واقتصاص بعضها من بعض

وأقول: إنه واجب في جود الله تعالى وكرمه تعويض البهائم على ما أصابها من الآلام في دار الدنيا سواء كان ذلك الألم من فعله - جل اسمه - أم من فعل غيره لأنه إنما خلقها (2) لمنفعتها فلو حرمها العوض على ألمها لكان قد خلقها لمضرتها، والله يجل عن خلق شئ لمضرته وإيلامه لغير نفع يوصله إليه، لأن ذلك لا يقع إلا من سفيه ظالم، والله سبحانه عدل كريم حكيم عالم.

فأما الاقتصاص منها فغير جايز لأنها غير مكلفة ولا مأمورة ولا عالمة (3) بقبح القبيح، والقصاص ضرب من العقوبة وليس بحكيم (4) من عاقب غير مكلف ولا منته (5) عن فعل القبيح. ولو جاز الاقتصاص من بعضها لبعض لجاز عقابها على جناياتها على بعض ولوجب ثوابها على إحسانها إلى ما أحسنت إليه من بعض وذلك كله محال. وهذا مذهب كثير من أهل العدل وقد خالف فيه بعضهم و جماعة ممن سواهم.

____________

1 - في النظر د.

2 - جعلها ب.

3 - علة القبح ألف.

4 - بحكم ج نسخه ب ل د.

5 - منهى د وألف وب.


الصفحة 111

115 - القول في نعيم أهل الجنة أهو تفضل أو ثواب؟

وأقول: إن نعيم أهل الجنة على ضربين: فضرب منه تفضل محض لا يتضمن شيئا من الثواب، والضرب الآخر تفضل من جهة وثواب من أخرى. وليس في نعيم أهل الجنة ثواب وليس بتفضل على شئ من الوجوه، فأما التفضل منه المحض فهو ما يتنعم به الأطفال والبله والبهائم، إذ ليس لهؤلاء أعمال كلفوها، فوجب من الحكمة إثابتهم عليها. وأما الضرب الآخر (1) فهو تنعيم المكلفين وإنما كان تفضلا عليهم لأنهم لو منعوها ما كانوا مظلومين (2)، إذ ما سلف لله تعالى عندهم من نعمه وفضله وإحسانه يوجب (3) عليهم أداء شكره وطاعته وترك معصيته، فلو لم يثبهم بعد العمل ولا ينعمهم (4) لما كان لهم ظالما فلذلك كان ثوابه لهم تفضلا. وأما كونه ثوابا فلأن أعمالهم أوجبت في جود (5) الله تعالى وكرمه تنعمهم وأعقبتهم الثواب وأثمرته لهم فصار ثوابا من هذه الجهة وإن كان تفضلا من جهة ما ذكرناه، وهذا مذهب كثير من أهل العدل من المعتزلة والشيعة، ويخالف فيه البصريون من المعتزلة والجهمية ومن اتبعهم من المجبرة.

____________

1 - الثاني ألف.

2 - مكلفين ج.

3 - فوجب ألف.

4 - نعمهم ألف و ب و ج وز.

5 - وجود د.


الصفحة 112

116 - القول في ثواب الدنيا وعقابها وتعجيل المجازاة فيها

وأقول: إن الله تعالى - جل اسمه - يثيب بعض خلقه على طاعتهم في الدنيا ببعض مستحقهم من الثواب، ولا يصح أن يوفيهم أجورهم فيها لما يجب من إدامة جزاء المطيعين، وقد يعاقب بعض خلقه في الدنيا على معاصيهم فيها ببعض مستحقهم على خلافهم له وبجميعه أيضا، لأنه ليس كل معصية له يستحق عليها عذابا دائما كما ذكرنا في الطاعات، وقد قال الله. تعالى: (ومن يتق الله يجعل له مخرجا، ويرزقه من حيث لا يحتسب). وقال: (فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا، يرسل السماء عليكم مدرارا، ويمددكم بأموال و بنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا)، فوعدهم بضروب من الخيرات في الدنيا على الأعمال الصالحات. وقال في بعض من عصاه: (ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيمة أعمى). وقال في آخرين منهم: (لنذيقهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أخزى)، (لهم عذاب في الحياة الدنيا لعذاب الآخرة أشق وما لهم من الله من واق). وجاء الخبر مستفيضا عن النبي (ص) أنه قال: (حمى يوم كفارة ذنوب سنة)، وقال: ( صلة الرحم منسأة في الأجل (. وهذا مذهب جماعة من أهل العدل وتفصيله على ما ذكرت في تعجيل بعض الثواب وكل العقاب وبعضه مذهب جمهور الشيعة وكثير من المرجئة.

117 - القول في الاختيار للشئ وهل هو إرادة له؟

وأقول: إن الإرادة للشئ هو اختياره، واختياره هو إرادته وإيثاره. وقد

الصفحة 113
يعبر بهذه اللفظة عن المعنى الذي يكون قصدا لأحد الضدين، ويعبر بها أيضا عن وقوع الفعل على علم به وغير حمل عليه، ويعبر بلفظ (مختار) عن القادر خاصة ويراد بذلك أنه متمكن من الفعل وضده دون أن يراد به القصد و العزم. وهذا مذهب جماعة من المعتزلة البغداديين وكثير من الشيعة ويخالف فيه البصريون من المعتزلة وأهل الجبر كافة.

118 - القول في الإرادة التي هي تقرب؟

وأقول: (1)، إن الإرادة التي هي تقرب كغيرها من الإرادات المتقدمة للأفعال، وليس يصح مجامعتها للفعل لأنه لا يخرج إلى الوجود إلا وهو تقرب، ومحال تعلق الإرادة بالموجود أو الإرادة له بأن يكون تقربا وقد حصل كذلك، وأما كونها هي تقربا فلأن مرادها كذلك وحكم الإرادة في الحسن و القبح والقرب والبعد حكم المراد. وهذا مذهب أكثر أهل العدل والبصريون من المعتزلة يخالفونه وكذلك أهل الاجبار.

119 - القول في الإرادة هل هي مرادة بنفسها أم بإرادة غيرها
أم ليس يحتاج إلى إرادة؟

وأقول: إن الإرادة لا تحتاج إلى إرادة لأنها لو احتاجت إلى ذلك لما خرجت إلى الوجود إلا بخروج ما لا أول له من الإرادات وهذا محال بين الفساد. و ليس يصح أن تراد بنفسها لأن من شأن الإرادة أن يتقدم مرادها فلو وجب أو جاز

____________

1 - جملة (وأقول إن الإرادة) سقطت من نسخة ألف.


الصفحة 114
أن تراد الإرادة بنفسها لوجب أو جاز وجود نفسها قبل نفسها وهذا عين المحال.

وقد أطلق بعض أهل النظر من أصحابنا إن الإرادة مرادة بنفسها وعنى به أفعال الله تعالى الواقعة من جهته واختراعه وإيجاده لأنها هي نفس إرادته وإن لم يكن واقعة منه بإرادة غيرها ولن يصح ذلك فيها، وهذا مجاز و استعارة. والقول في التحقيق ما ذكرناه، وهذا مذهب أبي القاسم البلخي وكثير من البغداديين قبله وجماعة من الشيعة، ويخالف فيه آخرون منهم ومن (1) البصريين والمجبرة كافة.

120 - القول في الشهادة

وأقول: إن الشهادة منزلة يستحقها من صبر على نصرة دين الله تعالى صبرا قاده إلى سفك دمه وخروج نفسه دون الوهن منه في طاعته تعالى، وهي التي يكون صاحبها يوم القيامة من شهداء الله وأمنائه وممن ارتفع قدره عند الله وعظم محله حتى صار صديقا عند الله مقبول القول لاحقا بشهادته الحجج من شهداء الله حاضرا مقام الشاهدين على أممهم من أنبياء الله - صلوات الله عليهم - قال الله عز وجل: (وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين). وقال: (أولئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم). فالرغبة إلى الله تعالى في الشهادة إنما هي رغبة إليه في التوفيق للصبر المؤدي إلى ما ذكرناه، و

____________

1 - عدم ذكر البصريين أو جماعة منهم قبلا يناسب أن يكونوا جميعهم من المخالفين، وعليه تكون كلمة من زائدة، ويمكن كون من غير زائدة، وعليه يكون عطفا على منهم، يعني ويخالف فيه جماعة آخرون من البغداديين وجماعة من البصريين.