مقدمة


المؤلف

هو شيخ الأمة، ورئيس متكلميه، ورأس فقهائها: أبو عبد الله محمد بن محمد بن النعمان بن عبد السلام بن جابر بن النعمان ابن التابعي الجليل الشهيد سعيد بن جبير، العكبري البغدادي، المعروف بـ (ابن المعلم) الشهير في الآفاق بـ (الشيخ المفيد)(1).

ولد في الحادي عشر من ذي القعدة بعكبرا - وهي مدينة تقع في شمال بغداد على الضفة الشرقية لنهر دجلة - سنة (336) أو (338) هـ.

وتوفي ببغداد ليلة الجمعة لثلاث خلون من شهر رمضان المبارك سنة (413) وكان يوم وفاته كيوم الحشر كما وصفه بعض المؤرخين، شيعه ثمانون ألفا، وصلى عليه تلميذه الشريف المرتضى علي بن الحسين بميدان الأشنان، الذي ضاق على الناس رغم سعته، ولم ير يوم أكبر

____________

(1) روي أن علي بن عيسى الرماني لقبه بالمفيد، بعد مناظرة طريفة جرت بينهما، أفحم الرماني فيها، وقيل أن الذي لقبه بالمفيد هو القاضي عبد الجبار المعتزلي. أنظر تفصيل ذلك في روضات الجنات 6: 159.


الصفحة 8
منه لشدة زحام الناس للصلاة عليه، ومن كثرة بكاء المؤالف والمخالف، ولا عجب فقد فقد العلم به حامل لوائه، وزعيم طلائعه، ورائد الفكر وفارسه المعلم وكميه المقدام، وثلم الدين بموته ثلمة لا يسدها شئ.

كان(1) قدس سره شيخا ربعة، نحيفا، أسمر، خشن اللباس، كثير الصلاة والصوم والتقشف والتخشع والصدقات، عظيم الخشوع، ما كان ينام من الليل إلا هجعة ثم يقوم ويصلي، أو يتلو كتاب الله، أو يطالع، أو يدرس.

كان مديما للمطالعة والتعلم، ومن أحفظ الناس، قيل إنه ما ترك للمخالفين كتابا إلا حفظه، وبهذا قدر على حل شبه القوم.

كان دقيق الفطنة، ماضي الخاطر، حاضر الجواب، حسن اللسان والجدل، ضنين السر، جميل العلانية، بارعا في جميع العلوم، حتى كان يقال: له على كل إمام منة.

كان نشيطا للبحث والمناظرة، صبورا على الخصم، وكان يناظر أهل كل عقيدة فلا يدرك شأوه، ولم يكن في زمانه من يدانيه أو يضاهيه في هذا المضمار، حتى جعل المخالفين في ضيق شديد بقوة حجته وتأثير

____________

(1) كل ما سنورده من أحواله وصفاته ومديحه فهو مما أطراه به كبار علماء الرجال والتاريخ من الفريقين، كصهره أبي يعلى الجعفري وتلميذيه النجاشي والطوسي، وكأبي حيان التوحيدي وابن النديم والخطيب البغدادي واليافعي والذهبي وابن الجوازي وابن حجر العسقلاني وابن كثير الشامي وغيرهم.


الصفحة 9
كلامه في الناس الذين راحوا يتهافتون لولوج باب السعادة والفوز، وسلوك نهج واحد أصيل وواضح، ألا وهو نهج آل البيت عليهم السلام، مما أثار حفيظة بعض المتعصبين - الذين كان دأبهم الانتصار لأنفسهم، فجانبوا الإنصاف بحق من خالفهم وإن كان محقا دونهم - كابن العماد الحنبلي واليافعي والخطيب البغدادي الذين راحوا يعلنون فرحهم وسرورهم بوفاة هذا المصلح العظيم، ناسين جليل قدره، فقالوا: " هلك به خلق من الناس إلى أن أرواح الله المسلمين منه "!!

كان شديدا على أهل البدع والأهواء وحملة الأفكار المنحرفة، وكان بعضهم يتفادى مناظرته ويخشى حجاجه، وله مع البعض الآخر كالقاضي عبد الجبار المعتزلي والقاضي أبي بكر الباقلاني رئيس الأشاعرة مناظرات كثيرة رواها تلامذته ومترجموه، وحفلت بها كتبه ك (العيون والمحاسن)، وكتب أكثر من خمسين كتابا ورسالة في الرد عليهم وتفنيد آرائهم، ومن أقطابهم: الجاحظ، ابن عباد، ابن قتيبة، ثعلب، الجبائي، أبو عبد الله البصري، ابن كلاب القطان - من رؤساء الحشوية -، الخالدي، النفسي، النصيبي، الكرابيسي، ابن رشيد، ابن الاخشيد، الحلاج وغيرهم، ألزمهم فيها الحجة بالمنطق والدليل الذي لا ينقض.

كما خص الإمامة وما يتفرع عنها من بحوث عقائدية وكلامية بمجموعة من مصنفاته القيمة، وما يهمنا منها هنا كتابة:


الصفحة 10

الافصاح في إثبات إمامة أمير المؤمنين عليه السلام


وهو هذا الكتاب الذي بين يديك، قال في ديباجته:

" إني - بمشيئة الله وتوفيقه - مثبت في هذا الكتاب جملا من القول في الإمامة يستغنى ببيانها عن التفصيل، ومعتمد في إيضاحها على موجز يغني عن التطويل، وراسم في أصول ذلك رسوما يصل بها إلى فروعها ذوو التحصيل.. والغرض فيما نورده الآن تلخيص جنس مفرد لم يتميز بالتحديد فيما أسلفناه، ولا وجدناه على ما نؤمه لأحد من أصحابنا المتقدمين رضي الله عنهم ولا عرفناه، مع صدق الحاجة إليه فيما كلفه الله تعالى جميع من ألزمه فروضه وأمره ونهاه، إذ كان به تمام الاخلاص لمن اصطفاه سبحانه من خلقه وتولاه، وكمال الطاعة في البراءة إليه ممن بمعصيته له عاداه ".

وقال في خاتمته:

" قد أثبت في هذا الكتاب جميع ما يتعلق به أهل الخلاف في إمامة أئمتهم من تأويل القرآن والاجماع والعمد لهم في الأخبار على ما يتفقون عليه من الاجماع دون ما يختلفون فيه، لشذوذه ودخوله في باب الهذيان، وبينت عن وجوه ذلك بواضح البيان، وكشفت عن الحقيقة فيه بجلي البرهان ".

أورد فيه أدلة علماء العامة على صحة إمامة أئمتهم، وآراء المتكلمين والمفسرين وأصحاب النظريات المختلفة والمذاهب المتعددة، ثم أجاب عنها بفهم قوي، ونظر دقيق، وأسلوب جميل، وبيان فصيح،

الصفحة 11
مبينا ضعفها وسقمها من عدة وجوه، ثم يفترض صحة الدليل الذي احتجوا به، تاركا ما أورده عليه من إشكالات جانبا، ليرده بوجوه وأدلة أخرى ذات معان جديدة تخلف عن سابقتها، مستشهدا في جميع ذلك بكثير من الآيات القرآنية، مستعينا بطريقي: النقل الصحيح المتواتر المتفق عليه، والعقل، فيستوفي البحث في المسألة الواحدة حتى يسقطها من الاعتبار، وبدلا من أن تكون دليلا لهم تصبح دليلا وحجة عليهم، غير تارك لهم ثغرة يلجؤون إليها إلا التسليم واتباع نهج الحق والصراط المستقيم بما جاءهم به من البينة والبرهان { فعلموا أن الحق لله } { فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل } { يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد }.

كما حاجج في هذا الكتاب أبرز الفرق وأشهرها كالسنة والمعتزلة والحشوية والخوارج فيما بينهم، بذكر حجج وأدلة وشبه بعضهم على البعض الآخر، مؤكدا قدرته وتفوقه وسعة اطلاعه بأفكار وعقائد الفرق والمذاهب الأخرى.

والمباحثات المذكورة في هذا الكتاب ليست كلها افتراضية أو غير واقعية، كما قد يتصور البعض، بل إن بعضها كان قد حدث فعلا، كما هو واضح في محاججته مع بعض متكلمي المعتزلة، وبعض المرجئة، قال في نهايتها بعد غلبته عليهما: " فلحق بالأول في الانقطاع، ولم

الصفحة 12
أحفظ منه إلا عبارات فارغة داخلة في باب الهذيان "(1).

وقد ضمنه مؤلفه منتخبا من كتابه (المسألة الكافئة) كما ذكر ذلك في معرض إحالته إليه(2).

وأحال فيه أيضا إلى كتابه الآخر (العيون والمحاسن)(3) الذي ألفه سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة(4)، أي قبل وفاته بثلاثين سنة، وكان عمره الشريف آنذاك خمسا أو سبعا وثلاثين سنة، فيكون تأليفه للإفصاح بعد هذا العمر.

والمتيقن لدينا أن الافصاح ليس آخر كتاب ألفه، لأنه وعد في آخره بتأليف كتاب في (إمامة أمير المؤمنين علي عليه السلام من القرآن) وقد ألفه فعلا، إذ عده تلميذه أبو العباس أحمد بن علي النجاشي (372 - 450 ه) من تأليفاته(5).

نسخ الكتاب

اعتمدنا في تحقيق هذا الكتاب على ثلاث نسخ خطية ورابعة مطبوعة.

النسخة الأولى:

وهي المحفوظة في خزانة مخطوطات مكتبة ملك،

____________

(1) الافصاح: 120.

(2) الافصاح: 129.

(3) الافصاح: 192.

(4) الفصول المختارة من العيون والمحاسن 2: 99 (5) رجال النجاشي: 40.


الصفحة 13
في طهران برقم (2926)، وتقع في (57)) ورقة، ليس فيها اسم الناسخ ولا تاريخ الاستنساخ، وكتب في رأس الصفحة الأولى (كتاب الايضاح لشيخنا الأعز الأجل السديد الشيخ المفيد طاب ثراه) كذا ورد عنوان الكتاب في هذه النسخة ولكن الصحيح (الافصاح) بدليل ما في سائر النسخ والمعاجم المختصة والفهارس المعنية بالتراث.

وقد رمزنا لها بـ (أ).

النسخة الثانية:

وهي المحفوظة في خزانة مخطوطات مكتبة المجلس النيابي الإيراني (مجلس شوراى ملى)، في طهران، برقم (10547)، وتقع في (40) ورقة، ليس فيها اسم الناسخ ولا تاريخ الاستنساخ.

ورمزنا لها بـ (ح).

النسخة الثالثة:

وهي المحفوظة في خزانة مخطوطات المكتبة المركزية العامة (آستان قدس رضوي) في مدينة مشهد المقدسة، برقم (7443)، وتقع في (51) ورقة، كتب في أولها:

(هذا كتاب الإفصاح في إثبات إمامة مولانا أمير المؤمنين عليه السلام، من مصنفات الشيخ أبي عبد الله محمد بن محمد بن النعمان المعروف بالشيخ المفيد قدس الله سره السعيد).

وفي آخرها:

(يقول العبد الفقير إلى الله الغني ابن زين العابدين محمد حسن الأرموي، النزيل عند سيده ومولاه أمير المؤمنين علي في مشهد الغري، على مشرفه آلاف التحية والسلام: قد اتفق لي الفراغ من كتابة هذه

الصفحة 14
النسخة الشريفة ليومين خلتا (كذا) من شهر رمضان من شهور سنة ألف وثلاثمائة وخمسون (كذا) الهجرية على هاجرها الصلوات والسلام، والمرجو من المنتفعين أن يذكرني (كذا) بالمغفرة والاستغفار، والله ولي التوفيق، سنة 1350).

ورمزنا لها بـ (ب).

النسخة الرابعة:

وهي المطبوعة في النجف الأشرف، المطبعة الحيدرية، سنة (1368 ه)، في (136) صفحة، وجاء في آخرها:

(إلى هنا تم كتاب الإفصاح للشيخ السديد الشيخ المفيد..

استنساخا على يد الفقير إلى ربه الغني عبد الرزاق(1) بن السيد محمد ابن السيد عباس بن السيد حسن بن السيد قاسم الموسوي نسبا المقرمي لقبا، في النجف الأشرف على مشرفه الصلاة والسلام، عصر يوم الأحد الثاني من شهر ذي الحجة الحرام من سنة الألف والثلثمائة والخمسين هجرية على مهاجرها ألف صلاة وتحية، سنة 1350 ذي الحجة.

صحح مقابلة من أوله إلى تمامه على نسخة العلامة الشيخ شير محمد بن صفر علي الهمداني الجورقاني دام بقاه).

وأعادت مكتبة المفيد في قم المقدسة طبعها بالأوفسيت ضمن

____________

(1) وهو العلامة الحجة، له تأليفات بلغت أكثر من اثنين وأربعين كتابا ورسالة، جلها في تاريخ الشهداء العلويين وأئمة آل البيت عليهم السلام، ولد في النجف الأشرف سنة (1316 ه) وتوفي فيها سنة (1391 ه)، وصدر له من منشورات مؤسستنا كتاب (مقتل الحسين) عليه السلام.


الصفحة 15
كتاب (عدة رسائل للشيخ المفيد).

ورمزنا لها بـ (م).

منهج التحقيق

لاحظنا أن النسخ الثلاث المخطوطة والنسخة المطبوعة في النجف الأشرف مليئة بالتصحيف والتحريف والسقط، فكان من العسير اختيار نسخة من بينها يصح الاعتماد عليها كي تكون أصلا في التحقيق، لذا اعتبرناها كلها أصولا معتمدة وبمرتبة واحدة، إذ تعد كل واحدة منها مكملة الأخرى، فعمدنا إلى مقابلة جميع النسخ مع بعضها البعض.

ثم تلا المقابلة تخريج الأحاديث والآثار والأشعار من أمهات المصادر المعتمدة عند الفريقين.

وفي مرحلة تقويم متن الكتاب وتصحيحه، قمنا بما يلي:

1 - إثبات أنسب الألفاظ وأصحها - عند اختلاف النسخ - في متن الكتاب، ثم الإشارة إلى الاختلافات ذات الوجوه المحتملة الواردة في النسخ الأخرى.

2 - تقطيع المتن بأحسن وجه يحفظ له المعنى ويسهل على القارئ تقبله، ويضيف عليه جمالية في الاخراج.

3 - ضبط بعض الكلمات الصعبة والأعلام.

4 - شرح المفردات الغامضة شرحا موجزا باعتماد أهم معاجم اللغة.

5 - ترجمة موجزة لبعض الرواة والأعلام الواردة في الكتاب.


الصفحة 16
6 - التعليق المقتضب عند الضرورة.

ومن ثم تأتي مرحلة ترتيب هوامش الكتاب وفقا للمعلومات والملاحظات المثبتة في الفقرات المتقدمة.

وأخيرا قمنا بإعداد الفهارس الفنية الشاملة لمحتويات هذا الكتاب.

شكر وثناء

يسر مؤسسة البعثة إذ تقدم للقارئ الكريم هذا الأثر القيم أن تتقدم بالثناء والتقدير للإخوة الأفاضل الذين ساهموا في إنجازه كل بحسب تخصصه، وكما يلي:

1 - مقابلة النسخ: الأخ كريم راضي الواسطي والأخ إسماعيل الموسوي.

2 - تخريج النصوص: الأخ عصام البدري.

3 - تقويم النص: الأخ علي موسى الكعبي والأخ شاكر شبع.

4 - تثبيت الهوامش: الأخ عبد الكريم البصري.

5 - إعداد الفهارس: الشيخ كريم الزريقي.

نسأل الله سبحانه أن يوفق كل العاملين في خدمة دينه المبين إلى ما يجب ويرضى، وأن يوفقنا لأداء واجبنا في حقل إحياء تراث أهل البيت عليهم السلام إنه تعالى ولي التوفيق.


قسم الدراسات الإسلامية
مؤسسة البعثة - قم   


الصفحة 17

صورة الصفحة الأولى من النسخة (أ).


الصفحة 18

صورة الصفحة الأخيرة من النسخة (أ).


الصفحة 19

صورة الصفحة الأولى من النسخة (ب).


الصفحة 20

صورة الصفحة الأخيرة من النسخة (ب).


الصفحة 21

صورة الصفحة الأخيرة من النسخة (ج).


الصفحة 22

صورة الصفحة الأولى من النسخة (ج).


الصفحة 23


بسم الله الرحمن الرحيم
هذا كتاب
(الافصاح في إثبات إمامة مولانا أمير المؤمنين عليه السلام)
من مصنفات
الشيخ أبي عبد الله محمد بن محمد بن النعمان
المعروف بـ (الشيخ المفيد) قدس الله سره السعيد




الصفحة 24

الصفحة 25
بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله موجب الحمد ومستحقه، وصلواته على خيرته من خلقه: محمد وآله.

أما بعد:

فإني - بمشيئة الله وتوفيقه - مثبت في هذا الكتاب جملا من القول في الإمامة يستغنى ببيانها عن التفصيل، ومعتمد في إيضاحها على موجز يغني عن التطويل وراسم في أصول ذلك رسوما يصل بها إلى فروعها ذوو التحصيل، وإن كان ما خرج من تصنيفاتي وأمالي في هذا الباب يوفي(1) - والله المحمود على ما تضمن - معناه من كل كتاب، ويعرف الزيادة فيه متأمله من ذوي الألباب.

____________

(1) (يوفى) ليس في ب.


الصفحة 26
والغرض فيما نورده الآن - بمعونة الله عز وجل - بعد الذي ذكرناه، ووصفنا حاله وبيناه، تلخيص جنس مفرد لم يتميز بالتحديد فيما أسلفناه، ولا وجدناه على ما نؤمه لأحد من أصحابنا المتقدمين رضي الله عنهم ولا عرفناه، مع صدق الحاجة إليه فيما كلفه الله تعالى جميع من ألزمه فروضه وأمره ونهاه(1)، إذ كان به تمام الاخلاص لمن اصطفاه سبحانه من خلقه وتولاه، وكمال الطاعة في البراءة إليه ممن بمعصيته(2) له عاداه، وبالله استعين، وإياه أستهدي إلى سبيل الرشاد.

____________

(1) في ب، م: ونهيه.

(2) في ب: ممن يرى بمعصية. وفي أ، ح: ممن يرى منه معصيته.


الصفحة 27

مسألة


إن سأل سائل، فقال: أخبروني عن الإمامة، ما هي في التحقيق على موضوع الدين واللسان؟

قيل له: هي التقدم فيما يقتضي طاعة(1) صاحبه، والاقتداء به فيما تقدم فيه على البيان.

فإن قال: فحدثوني عن هذا التقدم، بماذا حصل لصاحبه:

أبفعل نفسه، أم بنص مثله في الإمامة عليه، أم باختياره؟

قيل له: بل بإيثار سبق ظهور حاله أوجب له ذلك عند الله تعالى ليزكي أعماله، فأوجب على الداعي إليه بما يكشف عن مستحقه النص عليه، دون ما سوى ذلك مما عددت في الأقسام.

فإن قال: فخبروني عن المعرفة بهذا الإمام، أمفترضة على الأنام، أم مندوب إليها كسائر التطوع الذي يؤجر فاعله، ولا يكتسب تاركه الآثام؟

____________

(1) (طاعة) ليس في ب، م.


الصفحة 28
قيل له: بل فرض لازم كأوكد فرائض الإسلام.

فإن قال: فما الدليل على ذلك، وما الحجة فيه والبرهان؟

قيل له: الدليل على ذلك من أربعة أوجه:

أحدها: القرآن، وثانيها: الخبر عن النبي صلى الله عليه وآله، وثالثها:

الاجماع، ورابعها: النظر القياسي والاعتبار.

فأما القرآن: فقول الله سبحانه وتعالى: { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم }(1) فأوجب معرفة الأئمة من حيث أوجب طاعتهم، كما أوجب(2) معرفة نفسه، ومعرفة نبيه - عليه وآله السلام - بما ألزم من طاعتهما(3) على ما ذكرناه.

وقول الله تعالى: { يوم ندعوا كل أناس بإمامهم فمن أوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرءون كتابهم ولا يظلمون فتيلا }(4) وليس يصح أن يدعى أحد بما لم يفترض عليه علمه والمعرفة به.

وأما الخبر: فهو المتواتر(5) عن النبي صلى الله عليه وآله، أنه قال: " من مات وهو لا يعرف إمام زمانه، مات ميتة جاهلية "(6) وهذا صريح بأن الجهل

____________

(1) سورة النساء 4: 59.

(2) (معرفة الأئمة.. كما أوجب) ليس في أ.

(3) في أ: طاعتها.

(4) سورة الإسراء 17: 71.

(5) في أ: التواتر.

(6) كمال الدين 2: 412 / 10، الكافي 1: 308 / 3، غيبة النعماني: 330 / 5، حلية الأولياء 3: 224، مسند أحمد بن حنبل 4: 96، مجمع الزوائد 5: 218.


الصفحة 29
بالإمام يخرج صاحبه عن الإسلام.

وأما الاجماع: فإنه لا خلاف بين أهل الإسلام أن معرفة إمام(1) المسلمين واجبة على العموم، كوجوب معظم الفرائض في الدين.

وأما النظر والاعتبار: فإنا وجدنا الخلق منوطين بالأئمة في الشرع، إناطة يجب بها عليهم معرفتهم على التحقيق، وإلا كان ما كلفوه من التسليم لهم في أخذ الحقوق منهم، والمطالبة لهم في أخذ مالهم، والارتفاع إليهم في الفصل عند الاختلاف، والرجوع إليهم في حال الاضطرار، والفقر إلى حضورهم لإقامة الفرائض من صلوات وزكوات وحج وجهاد، تكليف ما لا يطاق، ولما استحال ذلك على الحكيم الرحيم سبحانه، ثبت أنه فرض معرفة الأئمة، ودل على أعيانهم بلا ارتياب.

فإن قال: فخبروني الآن من كان الإمام بعد الرسول صلى الله عليه وآله، والقائم في رئاسة الدين مقامه، لأعرفه فأؤدي بمعرفته ما افترض له علي من الولاء؟

قيل له: من أجمع المسلمون على اختلافهم في الآراء والأهواء على إمامته بعد النبي صلى الله عليه وآله(2)، ولم يختلفوا من بعد وفاته فيما أوجب له ذلك من اجتماع خصال الفضل له والأقوال فيه والأفعال: أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام.

____________

(1) في أ، ح، م: أئمة.

(2) في أ، ح زيادة: على حال.


الصفحة 30
فإن قال: أبينوا لي عن صحة هذا المقال، فإني أراكم مدعين الاجماع فيما ظاهره الاختلاف، ولست أقنع منكم فيه إلا بالشرح لوجهه والبيان(1).

قيل له: ليس فيما حكيناه من الاجماع(2) اختلاف ظاهر ولا باطن، فإن ظننت ذلك لبعدك عن الصواب، أفلا ترى أن الشيعة من فرق الأمة تقطع بإمامته عليه السلام بعد النبي صلى الله عليه وآله بلا فصل، وتقضي له بذلك إلى وقت وفاته، وتخطئ من شك في هذا المقال على كل حال؟

والحشوية(3) والمرجئة(4) والمعتزلة متفقون على إمامته عليه السلام بعد عثمان، وأنه

____________

(1) في ب، م: والمقال.

(2) (من الاجماع) ليس في ب، م.

(3) سميت الحشوية بهذا الاسم، لأنهم يحشون الأحاديث التي لا أصل لها في الأحاديث المروية عن الرسول صلى الله عليه وآله، أي يدخلونها فيها وليست منها، وهم من فرق المرجئة يقولون بالجبر والتشبيه، وإن الله تعالى موصوف عندهم بالنفس واليد والسمع والبصر، وقالوا: كل ثقة من العلماء يأتي بخبر مسند عن النبي فهو حجة. " المقالات والفرق: 6، 136 ". وأراد المصنف بالحشوية هنا أهل السنة عموما، أنظر ص 91 و 216.

(4) المرجئة: اختلف فيهم على أقوال: فقيل هم فرقة من فرق الإسلام يعتقدون أنه لا يضير مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة، سموا مرجئة لاعتقادهم أن الله تعالى أرجأ تعذيبهم عن المعاصي، أي أخره عنهم.

وقيل: هم الذين يقولون الإيمان قول بلا عمل، لأنهم يقدمون القول ويؤخرون العمل.

وقيل: ما عدا الشيعة من العامة، وسموا مرجئة لأنهم زعموا أن الله تعالى أخر نصب الإمام ليكون نصبه باختيار الأمة بعد النبي صلى الله عليه وآله. " المقالات والفرق: 5، 131، مجمع البحرين - رجا - 1: 177 ".


الصفحة 31
لم يخرج عنها حتى توفاه الله تعالى راضيا عنه، سليما من الضلال؟

والخوارج - وهم أخبث أعدائه وأشدهم(1) عنادا - يعترفون له بالإمامة، كاعتراف الفرق الثلاث، وإن فارقوهم بالشبهة في انتهاء الحال؟

ولا سادس في الأمة لمن ذكرناه يخرج بمذهبه عما شرحناه، فيعلم بذلك وضوح ما حكمنا به من الاجماع على إمامته(2) بعد النبي صلى الله عليه وآله كما وصفناه.

فأما الاجماع على ما يوجب له الإمامة من الخلال: فهو إجماعهم على مشاركته عليه السلام لرسول الله صلى الله عليه وآله في النسب، ومساهمته له في كريم الحسب، واتصاله به في وكيد السبب(3)، وسبقه كافة الأمة إلى الاقرار، وفضله على جماعتهم في جهاد الكفار، وتبريزه عليهم في المعرفة والعلم بالأحكام، وشجاعته وظاهر زهده اللذين لم يختلف فيهما(4) اثنان، وحكمته في التدبير وسياسة الأنام، وغناه بكماله في التأديب المحوج إليه المنقص(5) عن الكمال، وببعض هذه الخصال يستحق الإمامة فضلا عن جميعها على ما قدمناه.

وأما الاجماع على الأفعال الدالة على وجوب الإمامة والأقوال:

____________

(1) في أ، ح زيادة: له.

(2) في أ: بإمامته.

(3) في أ: النسب.

(4) في أ: الذي لم يختلف فيه.

(5) في ب، ح، م: النقص.


الصفحة 32
فإن الأمة متفقة على أن رسول الله صلى الله عليه وآله قدمه في حياته، وأمره على جماعة من وجوه أصحابه، واستخلفه في أهله واستكفاه أمرهم عند خروجه إلى تبوك قبل وفاته، واختصه لإيداع أسراره، وكتب عهوده، وقيامه مقامه في نبذها إلى أعدائه، وقد كان ندب ليعرض ذلك من تقدم عليه، فعلم الله سبحانه أنه لا يصلح له، فعزله بالوحي من سمائه.

ولم يزل(1) يصلح به إفساد من كان على الظاهر من خلصائه، ويسد به خلل أفعالهم المتفاوتة بحكمه وقضائه، وليس يمكن أحد ادعاء هذه الأفعال من الرسول صلى الله عليه وآله لغير أمير المؤمنين عليه السلام، على اجتماع ولا اختلاف، فيقدح بذلك في أس(2) ما أصلناه وبيناه.

وأما الأقوال المضارعة لهذه الأفعال في الدلالة: فهي أكثر من أن تحصى على ما شرطناه(3) في الاختصار، وإن كنا سنورد منها ما فيه كفاية، إن شاء الله تعالى:

فمنها: ما سلم لروايته الجميع من قول الرسول صلى الله عليه وآله بغدير خم(4)، بعد أن قرر أمته على المفترض له من الولاء الموجب لإمامته عليهم، والتقدم لسائرهم في الأمر والنهي والتدبير، فلم ينكره أحد منهم،

____________

(1) (يزل) ليس في أ.

(2) الأس: الأصل. " الصحاح - أسس - 3: 903 ".

(3) في أ، ب، ح: على شرطنا.

(4) خم: بئر حفرها مرة بن كعب، ونسب إلى ذلك غدير خم، وهو بين مكة والمدينة. " معجم البلدان 2: 388 ".


الصفحة 33
وأذعنوا بالإقرار له طائعين: " من كنت مولاه فعلي مولاه(1) فأعطاه بذلك حقيقة الولاية، وكشف به عن مماثلته له في فرض الطاعة والأمر لهم، والنهي والتدبير والسياسة(2) والرئاسة، وهذا نص - لا يرتاب بمعناه من فهم اللغة - بالإمامة.

ومنها أيضا: قوله صلى الله عليه وآله بلا اختلاف بين الأمة: " أنت مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي "(3) فحكم له بالفضل على الجماعة، والنصرة والوزارة والخلافة، في حياته وبعد وفاته، والإمامة له، بدلالة أن هذه المنازل كلها كانت لهارون من موسى عليه السلام في حياته، وإيجاب جميعها لأمير المؤمنين عليه السلام إلا ما أخرجه الاستثناء منها ظاهرا، وأوجبه بلفظ يعدله من بعد وفاته، وبتقدير ما كان يجب لهارون من موسى لو بقي بعد أخيه، فلم يستثنه النبي صلى الله عليه وآله، فبقي لأمير المؤمنين عليه السلام عموم ما حكم له من المنازل، وهذا نص على إمامته، لا خفاء به على من تأمله، وعرف وجوه القول فيه، وتبينه.

ومنها: قوله صلى الله عليه وآله على الاتفاق: " اللهم ائتني بأحب خلقك إليك، يأكل معي من هذا الطائر "(4) فجاءه بأمير المؤمنين عليه السلام، فأكل

____________

(1) الكافي 1: 227 / 1، علل الشرائع: 144، أمالي الصدوق: 291، حلية الأولياء 4: 23، مسند أحمد 1: 331، المستدرك للحاكم 3: 134.

(2) (والسياسة) ليس في أ.

(3) علل الشرائع: 222، أمالي الصدوق: 146 / 7، عيون أخبار الرضا عليه السلام 2: 10 / 23، سنن الترمذي 5: 641 / 3731، مسند أحمد 6: 438، مجمع الزوائد 9: 108.

(4) عيون أخبار الرضا عليه السلام 2: 187 / 2، أمالي الصدوق: 521 / 3، الخصال: 555، صحيح الترمذي 5: 636 / 3721، المستدرك 3: 130، مجمع الزوائد 7: 138.


الصفحة 34
معه، وقد ثبت أن أحب الخلق إلى الله تعالى أفضلهم عنده، إذ كانت محبته منبئة عن الثواب دون الهوى وميل الطباع، وإذا صح أنه أفضل خلق الله تعالى ثبت أنه كان الإمام، لفساد تقدم المفضول على الفاضل في النبوة وخلافتها العامة في الأنام.

ومنها: قوله صلى الله عليه وآله يوم خيبر: " لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، كرارا غير فرار، لا يرجع حتى يفتح الله على يديه "(1) فأعطاها من بين أمته جميعا عليا عليه السلام، ثم بين له من الفضيلة بما بان به من الكافة، ولولا ذلك لاقتضى الكلام خروج الجماعة من هذه الصفات على كل حال، وذلك محال، أو كان التخصيص بها ضربا من الهذيان، وذلك أيضا فاسد محال، وإذا وجب أنه أفضل الخلق بما شرحناه، ثبت أنه كان الإمام دون من سواه، على ما رتبناه.

وأمثال ما ذكرناه مما يطول به(2) التقصاص من تفضيله له عليه السلام على كافة أصحابه وأهل بيته، بأفعاله به وظواهر الأقوال فيه ومعانيها المعقولة، لمن فهم الخطاب والشهادة له بالصواب، ومقتضى العصمة من الذنوب والآفات، مما يدل على غناه عن الأمة، ويكشف بذلك عن كونه

____________

(1) أمالي الطوسي 1: 313، إرشاد المفيد: 36، إعلام الورى: 99، مسند أحمد 1: 185، صحيح مسلم 4: 1871 / 32، صحيح الترمذي 5: 639، المناقب لابن المغازلي: 177.

مناقب الخوارزمي: 105، ذخائر العقبى: 72، الرياض النضرة 3: 148 و 151.

(2) في أ: بذكره. والتقصاص: التتبع. أنظر المعجم الوسيط 2: 739.


الصفحة 35
إماما بالتنزيل الذي رسمناه، وقد استقصينا القول في أعيان هذه المسائل على التفصيل والشرح والبيان في غير هذا المكان(1)، فلا حاجة بنا إلى ذكره هاهنا مع الغرض الذي أخبرنا به عنه ووصفناه.

واعلم - أرشدك الله تعالى - أن فيما رسمناه من هذه الأصول أربع مسائل، يجب ذكرها والجواب عنها، لتزول به شبهة أهل الخلاف:

أولها: السؤال عن وجه الدلالة من الاجماع الذي ذكرناه في إمامة أمير المؤمنين عليه السلام بعد النبي صلى الله عليه وآله على إمامته من بعده على الفور، دون من قام ذلك المقام ممن يعتقد الجمهور في فعله الصواب.

ثانيها: عن الدلالة على أن أمير المؤمنين عليه السلام الأفضل عند الله تعالى من الجميع، وإن كان أفضل منهم في ظاهر الحال.

ثالثها: عن الدليل على فساد إمامة المفضول على الفاضل بحسب ما ذكرناه.

رابعها: عن حجة دعوى الاجماع في سائر ما عددناه، مع ما يظن فيه من خلاف البكرية والعثمانية والخوارج، وما يعتقدونه من الدفع لفضائل أمير المؤمنين عليه السلام الجواب عن السؤال الأول: أنه إذا ثبت بالحجة القاهرة من الاجماع وجود إمام بعد النبي صلى الله عليه وآله بلا فصل: وثبوت إمامته على الفور، ولم يكن على من ادعي ذلك له سوى أمير المؤمنين عليه السلام إجماع على حال

____________

(1) أنظر رسالته " تفضيل أمير المؤمنين على سائر الصحابة " والفصول المختارة من العيون والمحاسن 1: 64.