الصفحة 65

غرابة في ترك أوامره بعد وفاته ، وإذا كان أغلبهم يطعنُ في تأميره أسامة بن زيد لصغر سنّه ، رغم أنها سريّة محدودة ولمدّة قصيرة فكيف يقبلون تأمير عليّ (عليه السلام)على صغر سنّه ولمدّة الحياة ، وللخلافة المطلقة ؟ ولقد شهِدتَ أنتَ بنفسك بأن بعضهم كان يبغض عليَّا (عليه السلام) ويحقد عليه !!

أجابني متحرّجا : لو كان الإمام علىّ ـ كرّم اللّه وجهه ورضي اللّه عنه ـ يعلَمُ أنّ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) استخلفه ، ما كان ليسكتَ عن حقّه ! وهو الشجاع الذي لا يخشى أحدا ويهابه كل الصحابة .

قلتُ : سيدي هذا موضوع آخر لا أريد الخوض فيه ، لأنك لم تقتنع بالأحاديث النبوية الصحيحة ، وتحاول تأويلها وصرفها عن معناها حفاظا على كرامة السلف الصالح ، فكيف أُقنعك بسكوت الإمام علىّ (عليه السلام) أو باحتجاجه عليهم بحقّه في الخلافة ؟

ابتسم الرّجل قائلاً : أنا واللّه من الذين يفضّلون سيدنا عليّا ـ كرّم اللّه وجهه ـ على غيره ، ولو كان الأمر بيدي لما قدّمتُ عليه أحدا من الصحابة ، لأنه باب مدينة العلم ، وهو أسد اللّه الغالب ، ولكن مشيئة اللّه سبحانه ، هو الذي يقدّم من يشاء ويؤخّر من يشاء ، {لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ}(1) .

ابتسمتُ بدوري له ، وقلتُ : وهذا أيضا موضوع آخر يجرّنا للحديث عن القضاء والقدر ، وقد سبق لنا أن تحدّثنا فيه وبقي كلٌ منّا على رأيه ، وإنّي لأعجب يا سيدي لماذا كلّما تحدثتُ مع عالم من علماء أهل السنّة وأفحمته بالحجّة سرعان ما يتهرّب من الموضوع إلى موضوع آخر لا علاقة له بالبحث الذي نحن

____________

1- سورة الأنبياء ، الآية : 23 .


الصفحة 66

بصدده .

قال : وأنا باق على رأيي لا أغيّره .

ودّعته وانصرفتُ . بقيتُ أفكّر مليَّا لماذا لا أجدُ واحدا من علمائنا يكمل معي هذا المشوار ويوقف الباب على رجله ، كما يقول المثل الشائع عندنا .

فالبعض يبدأ الحديث ، وعندما يجد نفسه عاجزا عن إقامة الدّليل على أقواله يتملّص بقوله : {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ}(1) والبعض يقول : ما لنا ولإثارة الفتن والأحقاد ، فالمهم أنّ السنّة والشيعة يؤمنون بإله واحد ورسول واحد وهذا يكفي ، والبعض يقول بإيجاز : يا أخي اتّق اللّه في الصحابة ، فهل يبقى مع هؤلاء مجال للبحث العلمي وإنارة السبيل ، والرجوع للحق

الذي ليس بعده إلاّ الضّلال ؟ وأين هؤلاء من أسلوب القرآن الذي يدعو الناس لإقامة الدّليل : {قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}(2) مع العلم بأنهم لو يتوقّفون عن طعنهم وتهجمهم على الشيعة لما ألجأونا للجدال معهم حتّى بالتي هي أحسن(3) .

____________

1- سورة البقرة ، الآية : 134 .

2- سورة البقرة ، الآية : 111 .

3- مع الصادقين ، الدكتور التيجاني : 58 .


الصفحة 67

المناظرة السابعة

مناظرة
الدكتور التيجاني مع أحد العلماء
في الاجتهاد والبحث لمعرفة الحق


يقول الدكتور التيجاني: قلت لأحد علمائنا : إذا كان معاوية قتل الأبرياء ، وهتك الأعراض ، وتحكمون بأنّه اجتهد وأخطأ وله أجر واحد . وإذا كان يزيد قتل أبناء الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وأباح المدينة(1) لجيشه وتحكمون بأنّه اجتهد وأخطأ وله

____________

1- راجع : شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 3/259 ، الأخبار الطوال ، الدينوري : 265 ، تهذيب التهذيب ، ابن حجر : 11/316 ، البداية والنهاية ، ابن كثير : 8/241 و243 و255 .

قال ابن جر في الإصابة : 6/232 : قد افحش مسلم القول والفعل بأهل المدينة وأسرف في قتل الكبير والصغير حتّى سموه مسرفاً ، وأباح المدينة ثلاثة أيام لذلك ، والعسكر ينهبون ويقتلون ويفجرون ...الخ .

وروى ابن عساكر في تاريخ دمشق : 58/108 عن مغيرة ، قال : أنهب مسرف بن عقبة المدينة ثلاثة أيام ، فزعم المغيرة أنه اُفتض منها ألف عذراء .

وقال السيوطي في تأريخ الخلفاء : 195 : وفيه : قتل فيها خلق من الصحابه ومن غيرهم ، وافتض فيها ألف عذراء ، فإنا لله وإنا إليه راجعون ، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : من أخاف أهل المدينة أخافه الله ، وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين .

وقال ابن حبان في كتاب الثقات : 2/313 ـ 314 : وقد بعث يزيد بن معاوية مسلم بن عقبة المزني إلى المدينة .. فقتل بالمدينة خلفاً من أولاد المهاجرين والأنصار ، واستباح المدينة ثلاثة أيام نهباً وقتلا ، فسميت هذه الوقعة وقعة الحرة .


الصفحة 68

أجر واحد ، حتى قال بعضكم : " قُتل الحسين بسيف جدّه "(1) لتبرير فعل يزيد . فلماذا لا أجتهد أنا في البحث ؟ وهو ما يجرّني للشك في الصحابة وتعرية البعض منهم ، وهذا لا يقاس بالنسبة للقتل الذي فعله معاوية وابنه يزيد في العترة الطاهرة(عليهم السلام) ، فإن أصبت فلي أجران وإن أخطأت فلي أجر واحد ، على أنّ انتقاصي لبعض الصحابة لا أريد منه السبّ والشتم واللّعن ، وإنّما أريد الوصول إلى الحقيقة لمعرفة الفرقة الناجية من بين الفرق الضّالة ، وهذا واجبي وواجب كل مسلم ، واللّه سبحانه يعلم السرائر وما تخفي الصدور .

أجابني العالم قائلاً : يا بني لقد أُغلق باب الاجتهاد من زمان .

فقلت : ومن أغلقه ؟

قال : الأئمة الأربعة .

فقلت متحرّرا : الحمد للّه إذ لم يكن اللّه هو الذي أغلقه ولا رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم)ولا الخلفاء الراشدون الذين " أمرنا بالاقتداء بهم " فليس علىّ حرج إذا اجتهدت كما اجتهدوا .

فقال : لا يمكنك الإجتهاد إلاّ إذا عرفت سبعة عشر علماً ، منها علم التفسير واللّغة والنحو والصرف والبلاغة والأحاديث والتاريخ وغير ذلك .

وقاطعته قائلاً : أنا لن أجتهد لأبيّن للناس أحكام القرآن والسنّة ، أو لأكون صاحب مذهب في الإسلام ، كلا ، ولكن لأعرف مَنْ على الحق ومَنْ على الباطل ، ولمعرفة إن كان الإمام علىّ (عليه السلام) على الحق ، أو معاوية مثلاً ، ولا يتطلّب

____________

1- راجع : فيض القدير ، المناوي : 1/265 و5/313 ، العواصم من القواصم ، ابن العربي : 232 .


الصفحة 69

ذلك الإحاطة بسبعة عشر علما ؟! ويكفي أن أدرس حياة كل منهما وما فعلاه حتى أتبيّن الحقيقة .

قال : وما يهمّك أن تعرف ذلك : {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}(1) .

قلت : أتقرأ " ولا تسألون " بفتح التّأ أم بضمّها ؟

قال : تُسألون ، بالضمّ .

قلت : الحمد للّه ، لو كانت بالفتح لامتنع البحث ، وما دامت بالضم فمعناها أنّ اللّه سبحانه سوف لن يحاسبنا عمّا فعلوا ، وذلك كقوله تعالى : {كُلُّ نَفْس بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ}(2) ، و{وَأَن لَّيْسَ لِلاِْنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى}(3) .

وقد حثّنا القرآن الكريم على استطلاع أخبار الأمم السابقة ولنستخلص منها العبرة ، وقد حكى اللّه لنا عن فرعون وهامان ونمرود وقارون وعن الأنبياء السابقين وشعوبهم ، لا للتسلية ولكن ليعرفنا الحق من الباطل .

أمّا قولك : " وما يهمني من هذا البحث " ؟

فأجيب عليه بقولي : يهمني :

أولاً : لكي أعرف ولىَّ اللّه فأواليه ، وأعرف عدوَّ اللّه فأعاديه ، وهذا ما طلبه مني القرآن ، بل أوجبه علىَّ .

ثانيا : يهمّني أن أعرف كيف أعبد اللّه وأتقرّب إليه بالفرائض التي افترضها وكما يريدها هو جلّ وعلا ، لا كما يريدها مالك أو أبو حنيفة أو غيرهم من

____________

1- سورة البقرة ، الآية : 134 .

2- سورة المدثر ، الآية : 38 .

3- سورة النجم ، الآية : 39 .


الصفحة 70

المجتهدين لأنّي وجدت مالكا يقول بكراهة البسملة في الصّلاة(1) بينما يقول أبو حنيفة بوجوبها(2) ، ويقول غيره ببطلان الصلاة بدونها !

وبما أنّ الصلاة هي عمود الدّين إنْ قُبِلت قُبل ما سواها وإن رُدّت ردّ ما سواها ، فلا أريد أن تكون صلاتي باطلة ، كما أنّ الشيعة يقولون بمسح الرجلين في الوضوء ويقول السنّة بغسلهما ! بينما نقرأ في القرآن {وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ}(3) وهي صريحة في المسح ، فيكف تريد يا سيدي أن يقبل المسلم العاقل قول هذا ويردّ قول ذاك بدون بحث ودليل ؟

الإختلاف بين المذاهب الأربعة

قال : بإمكانك أن تأخذ من كلّ مذهب ما يعجبك لأنها مذاهب إسلامية ، وكلّهم من رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) ملتمس .

قلت : أخاف أن أكون ممن قال اللّه فيهم : {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْم وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ}(4) . يا سيدي أنا لا أعتقد بأنّ المذاهب كلّها على حق ما دام الواحد منهم يبيح الشيء ويحرّمه الآخر ، فلا يمكن أن يكون الشيء ، حراما وحلالاً في آن واحد ، والرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يتناقض في أحكامه لأنّه " وحي من القرآن " ، {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً}(5) . وبما أنّ

____________

1- الفقه على المذاهب الأربعة ، الجزيري : 1/257 .

2- نفس المصدر السابق : 1/257 .

3- سورة المائدة ، الآية : 6 .

4- سورة الجاثية ، الآية : 23 .

5- سورة النساء ، الآية : 82 .


الصفحة 71

المذاهب الأربعة فيها اختلاف كثير فليست من عند اللّه ، ولا من عند رسوله ، لأنّ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يناقض القرآن .

الصحابة في ميزان البحث والتحقيق

ولما رأى الشيخ العالم كلامي منطقيّا وحجتي مقبولة قال : أنصحك لوجه اللّه تعالى مهما شككت فلا تشك في الخلفاء الراشدين ، فهم أعمدة الإسلام الأربعة إذا هدّمت عمودا منها سقط البناء !!

قلت : أستغفر اللّه يا سيدي فأين رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) إذن إذا كان هؤلاء هم أعمدة الإسلام ؟

أجاب: رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) هو ذاك البناء ! هو الإسلام كلّه .

ابتسمت من هذا التحليل وقلت : أستغفر اللّه مرة أخرى يا سيدي الشيخ ! فأنت تقول من حيث لا تشعر : بأنّ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يكن ليستقيم إلاّ بهؤلاء الأربعة بينما يقول اللّه تعالى : {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً}(1) . فقد أرسل محمدا بالرسالة ولم يشركه فيها أحدا من هؤلاء الأربعة ولا من غيرهم ، وقد قال اللّه تعالى في هذا الصّدد : {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولا مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ}(2) .

قال : هذا ما تعلّمناه نحن من مشايخنا وأئمتنا ، ولم نكن نحن في جيلنا

____________

1- سورة الفتح ، الآية : 28 .

2- سورة البقرة ، الآية : 151 .


الصفحة 72

نناقش ، ولا نجادل العلماء مثلكم اليوم الجيل الجديد ! أصبحتم تشكّون في كل شيء ، وتشكّكون في الدين ! وهذه من علامات الساعة ، فقد قال (صلى الله عليه وآله وسلم) : لن تقوم الساعة إلاّ على شرار الخلق(1) .

فقلت : يا سيدي لماذا هذا التهويل ، أعوذ باللّه أن أشكّ في الدين أو أشكك فيه ، فقد آمنت باللّه وحده لا شريك له ، وملائكته وكتبه ورسله ، وآمنت بأنّ سيدنا محمدا عبده ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو أفضل الأنبياء والمرسلين ، وخاتمهم وأنا من المسلمين ، فكيف تتّهمني بهذا ؟

قال : أتهمك بأكثر من هذا ! لأنّك تشكك في سيدنا أبي بكر وسيدنا عمر وقد قال (صلى الله عليه وآله وسلم) : لو وزن إيمان أمّتي بإيمان أبي بكر لرجح إيمان أبي بكر(2) .

وقال في حقّ سيدنا عمر : عرضت علىّ أمتي وهي ترتدي قمصاً لم تبلغ الثدي ، وعرض علىّ عمر وهو يجرّ قميصه ، قالوا : ما أوّلته يا رسول اللّه ؟ قال : الدين(3) .

وتأتي أنت اليوم في القرن الرابع عشر لتشكك في عدالة الصحابة وبالخصوص أبي بكر وعمر! ألم تعلم بأنّ أهل العراق هم أهل الشقاق ، هم أهل الكفر والنفاق !!

ماذا أقول لهذا العالم المدّعي العلم الذي أخذته العزّة بالإثم ، فتحوّل من الجدال بالتي هي أحسن إلى التهريج والافتراء ، وبثّ الإشاعات أمام مجموعة من الناس المعجبين به ، والذين احمرّت أعينهم وانتفخت أوداجهم ، ولاحظت

____________

1- صحيح مسلم : 6/54 ، المستدرك ، الحاكم : 4/456 .

2- تذكرة الموضوعات ، الفتني : 93 ، كشف الخفاء ، العجلوني : 2/165 ، ح2130 .

3- مسند أحمد بن حنبل : 3/86 ، صحيح البخاري : 1/11 ، تهذيب الكمال ، المزي : 21/325 .


الصفحة 73

في وجوههم الشر .

فما كان منّي إلاّ أن أسرعت إلى البيت وأتيتهم بكتاب الموطأ للإمام مالك وصحيح البخاري ، وقلت : يا سيدي إنّ الذي بعثني على هذا الشك هو رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) نفسه ، وفتحت كتاب الموطأ وفيه روى مالك أنّ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لشهداء أحد : هؤلاء أشهد عليهم ، فقال أبو بكر الصديق : ألسنا يا رسول اللّه إخوانهم أسلمنا كما أسلموا ، وجاهدنا كما جاهدوا ، فقال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) : بلى ولكن لا أدري ما تُحدثون بعدي! فبكى أبو بكر ثم بكى ثم قال : إنّنا لكائنون بعدك(1) .

ثم فتحت صحيح البخاري وفيه : دخل عمر بن الخطاب على حفصة وعندها أسماء بنت عميس فقال ـ حين رآها ـ : من هذه ؟ قالت : أسماء بنت عميس ، قال عمر : الحبشية هذه ، البحرية هذه ، قالت أسماء : نعم ، قال : سبقناكم بالهجرة فنحن أحقّ برسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) منكم ، فغضبت وقالت : كلا واللّه ، كنتم مع رسول اللّه يطعم جائعكم ، ويعظ جاهلكم ، وكنّا في دار أو في أرض البعداء البغضاء بالحبشة ، وذلك في اللّه وفي رسوله ، وأيم اللّه لا أطعم طعاما ، ولا أشرب شرابا حتى أذكر رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) ونحن كنّا نؤذى ونخاف ، وسأذكر ذلك للنبي أسأله واللّه لا أكذب ولا أزيغ ولا أزيد عليه !

فلمّا جاء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قالت : يا نبي اللّه ، عمر قال : كذا وكذا .

قال : فما قلت له . قالت : كذا وكذا .

قال : ليس بأحقّ بي منكم ، وله ولأصحابه هجرة واحدة ، ولكم أنتم أهل

____________

1- كتاب الموطأ ، مالك : 2/461 ـ 462 ح32 ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 15/38 .


الصفحة 74

السفينة هجرتان ، قالت : فلقد رأيت أبا موسى وأصحاب السفينة يأتونني أرسالاً يسألونني عن هذا الحديث ، ما من الدنيا شيء هم به أفرح ولا أعظم ما في أنفسهم ممّا قال لهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)(1) .

وبعد ما قرأ الشيخ العالم والحاضرون معه الأحاديث تغيّرت وجوههم وبدأوا ينظرون بعضهم إلى بعض ، ينتظرون ردّ العالم الذي صُدم ، فما كان منه إلاّ أن رفع حاجبيه علامة التعجّب وقال : {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً}(2) .

فقلت : إذا كان رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) هو أوّل من شكّ في أبي بكر ولم يشهد عليه لأنّه لا يدري ماذا سوف يحدث من بعده ، وإذا كان رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يقرّ بتفضيل عمر بن الخطّاب على أسماء بنت عميس بل فضّلها عليه ، فمن حقّي أن أشك وأن لا أفضّل أحدا حتى أتبيّن وأعرف الحقيقة ، ومن المعلوم أنّ هذين الحديثين يناقضان كل الأحاديث الواردة في فضل أبي بكر وعمر ويبطلانها، لأنّهما أقرب من أحاديث الفضائل المزعومة .

قال الحاضرون : وكيف ذلك ؟

قلت : إنّ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يشهد على أبي بكر ، وقال له إنّني لا أدري ماذا تحدثون بعدي ! فهذا معقول جداً ، وقد قرّر ذلك القرآن الكريم ، والتاريخ يشهد أنّهم بدّلوا بعده ، ولذلك بكى أبو بكر ، وقد بدّل وأغضب فاطمة الزهراء (عليها السلام)بنت الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وقد بدّل حتى ندم قبل وفاته(3) وتمنى أن لا يكون بشرا .

____________

1- صحيح البخاري : 5/80 ، صحيح مسلم : 8/172 ـ 173 ، السنن الكبرى ، النسائي : 5/104 .

2- سورة طه ، الآية : 114 .

3- روى اليعقوبي وغيره أن أبا بكر قال عند موته : وليتني لم افتش بيت فاطمة (عليها السلام) بنت رسول (صلى الله عليه وآله وسلم)وأدخله الرجال ، ولو كان أغلق عليَّ الحرب ..

راجع : تاريخ اليعقوبي : 2/137 ، المعجم الكبير ، الطبراني : 1/62 ح43 ، تاريخ الطبري : 2/619 ، تأريخ دمشق ، ابن عساكر : 30/418 ، مروج الذهب ، المسعودي : 2/301 ـ 302 ، الإمامة والسياسة ، ابن قتيبة : 36 ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 2/47 ، مجمع الزوائد ، الهيثمي : 5/203 .


الصفحة 75

أمّا الحديث الذي يقول : لو وزن إيمان أمتي بإيمان أبي بكر لرجح إيمان أبي بكر ، فهو باطل وغير معقول ، ولا يمكن أن يكون رجل قضى أربعين سنة من عمره يشرك باللّه ، ويعبد الأصنام أرجح إيمانا من أمّة محمّد بأسرها ، وفيها أولياء اللّه الصالحين والشهداء ، والأئمة الذين قضوا أعمارهم كلّها جهادا في سبيل اللّه ، ثم أين أبو بكر من هذا الحديث ؟ لو كان صحيحا لما كان في آخر حياته يتمنى أن لا يكون بشرا .

ولو كان إيمانه يفوق إيمان الأمة ما كانت سيدة النساء فاطمة بنت الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ، تغضب عليه وتدعو اللّه عليه في كل صلاه تصلّيها(1) .

ولم يرد العالم بشي ، ولكنّ بعض الجالسين قالوا : لقد بعث واللّه هذا الحديث الشك فينا ؟!

عند ذلك تكلم العالم ليقول لي : أهذا ما تريده ؟ لقد شككت هؤلاء في دينهم !!

وكفاني أحدهم الردّ عليه ، إذ قال : كلا ، إنّ الحق معه ، نحن لم نقرأ في حياتنا كتابا كاملاً ، واتّبعناكم واقتدينا بكم في ثقة عمياء بدون نقاش ، وقد تبيّن لنا الآن أنّ ما يقوله الحاج صحيح ، فمن واجبنا أن نقرأ ونبحث !! ووافقه على

____________

1- الإمامة والسياسة ، ابن قتيبة : 1/31 ، السقيفة وفدك ، الجوهري : 104 ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 16/214 ، أعلام النساء ، كحالة : 4/123 ـ 124 .


الصفحة 76

رأيه بعض الحاضرين ، وكان ذلك انتصارا للحق والحقيقة ، ولم يكن انتصارا بالقوة والقهر ولكنّه انتصار العقل والحجّة والبرهان {قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}(1) .

ذلك ما دفعني وشجّعني على الدخول في البحث ، وفتح الباب على مصراعيه فدخلته باسم اللّه وباللّه وعلى ملّة رسول اللّه ، راجيا منه سبحانه وتعالى التوفيق والهداية فهو الذي وعد بهداية كلّ باحث عن الحقّ وهو لا يخلف وعده(2) .

____________

1- سورة البقرة ، الآية : 111 .

2- كتاب ثم اهتديت ، الدكتور التيجاني : 149 .


الصفحة 77

المناظرة الثامنة

مناظرة
الدكتور التيجاني مع السيد الخوئي (قدس سره) في الإفتراء
المنسوب إلى الشيعة أن جبرئيل أعطى
الرسالة النبي (صلى الله عليه وآله) بدل علي (عليه السلام)


يقول الدكتور التيجاني في لقائه مع السيد الخوئي (قدس سره) : ودخل السيد الخوئي ومعه كوكبة من العلماء عليهم هيبة ووقار، وقام الصبيان وقمت معهم، وتقدّموا من "السيد" يقبّلون يده، وبقيت مستمّراً في مكاني، ما إن جلس "السيد" حتى جلس الجميع وبدأ يحيّيهم بقوله : "مسّاكم الله بالخير" يقولها لكل واحد منهم ، فيجيبه بالمثل حتى وصل دوري فأجبت كما سمعت، بعدها أشار عليَّ صديقي الذي تكلّم مع "السيد" همساً، بان أدنو من "السيد" وأجلسني على يمينه وبعد التحية قال لي صديقي : احكِ للسيد ماذا تسمعون عن الشيعة في تونس .

فقلت : يا أخي ، كفانا من الحكايات التي نسمعها من هنا وهناك، والمهم هو أن أعرف بنفسي ماذا يقول الشيعة، وعندي بعض الأسئلة أريد الجواب عنها بصراحة.

فألحّ عليّ صديق وأصرّ على أن أروي "للسيد" ما هو اعتقادنا في الشيعة،


الصفحة 78

قلت : الشيعة عندنا هم أشدّ على الإسلام من اليهود والنصارى ، لأنّ هؤلاء يعبدون الله ويؤمنون برسالة موسى (عليه السلام) ، بينما نسمع عن الشيعة أنّهم يعبدون عليّاً ويقدّسونه، ومنهم فرقة يعبدون الله ولكنهم ينزلون عليّاً بمنزلة رسول الله ، ورويت قصّة جبريل كيف أنّه خان الأمانة حسب ما يقولون ، وبدلا من أداء الرسالة إلى علي (عليه السلام) ، أدّاها إلى محمد (صلى الله عليه وآله) (1).

____________

1- هذه الفرية على ما يبدو إنها ظهرت من قبل أكثر من ألف سنة ، فقد نسبها إلينا كلٌ من ابن عبد ربه الأندلسي (ت 328 هـ ) في العقد الفريد : ج 2 ص 250 ، بلا تورع ولا تثبت فيما ينقل عن الشيعة الإمامية ، وأبو القاسم النيسابوري (ت 406 هـ ) في كتابه عقلاء المجانين ص 184 ح 322 بسنده عن بكار بن علي عن أبي سعيد الضبعي ، الذي يزعم أن الشيعة تقول : إن الله بعث جبرئيل إلى علي (عليه السلام)فغلط فأتى محمداً (صلى الله عليه وآله) !! وتكفي شهادة راوي الحديث ـ بكار بن علي ـ في المروي عنه ـ وهو أبو سعيد الضبعي ـ أنه قد خولط في عقله . هذا في نفس الكتاب المطبوع في بيروت نشر دار النفائس تحقيق الدكتور عمر الأسعد ، أما في الكتاب المطبوع في القاهرة نشر مكتبة إبن سينا تحقيق مصطفى عاشور ص 119 ـ 120 فقد حذفت منه شهادة الراوي في المروي عنه (إنه قد خولط في عقله) ولا أدري كيف حذفت منه ، أهو من أجل دفع شبهة الجنون عن الراوي لتزكيته لتثبيت التهمة ، أو لخطاء من الناسخ أو غيرهما الله العالم راجع تعلم ، كما ذكر هذه الفرية أيضاً ابن أبي الحديد في شرح النهج : ج 10 ص 13 إلا أنه لم ينسبها إلى فئة معينة ، قال : وادعوا فيه ـ أي الإمام علي (عليه السلام) ـ انه كان الرسول (صلى الله عليه وآله)ولكن الملك غلط فيه .

وبسبب هؤلاء غير المتثبتين الذين ألصقوا هذه الفرية على الشيعة الإمامية انطوت على أولئك الذي لا يتورعون عن بث الفرقة والخلاف في أوساط المسلمين ، وراحوا يبثونها ما وجدوا إليها من سبيل حتى عولَ عليها مَنْ لا تثبت عنده ، ولم يسأل نفسه عن مصدرها وحقيقتها ، فهل وجدت هذه الفرية في كتاب من كتب الشيعة مثبتة ، أو سمع أحداً منهم تفوه بها ولو كان شاذاً ، والعجب كل العجب من بعض الكتاب الذي يعيشون في عصر الثقافة والعلم ، أمثال الشرقاوي الذي انطوت عليه مثل هذه الأكذوبة التي لا أصل لها ، فقد ذكر في مقال كتبه عن (زيد الشهيد) نشرته جريدة الأهرام بتاريخ 4 / 8 / 1978 م ، ص 10 ، قال فيه : وفي العراق جماعات مختلفة متطرفة من شيعة آل بيته ، اضطرهم جور الحكام وظلمهم لآل البيت (عليهم السلام) إلى المبالغة والتطرف والتفوا حوله ، منهم جماعة تدعي أن الوصي كان سينزل على الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) ولكنه أخطأ . انتهى .

ولنا أن نحاسب الشرقاوي في ما كتبه ، فمن أين جاء بهذه المعلومة فهل سمع من هؤلاء الجماعة التي تزعم ذلك بنفسه أم تلقفها من الأبواق المأجورة ، ومن هؤلاء أيضاً عبد الرحمن الجزيري في كتابه الفقه على المذاهب الأربعة : ج 4 ص 75 ، في باب النكاح في مبحث الكفاءة ، حيث يقول في صدد استعراض من يختلف مع المسلمين بالدين ، قال :

المخالفون للمسلمين في العقيدة ثلاثة أنواع : الأول ، الذين لا كتاب لهم سماوي ، ولا شبهة كتاب ، إلى أن قال : ويُلحق بهؤلاء المرتدون الذين ينكرون المعلوم من الدين الإسلامي بالضرورة ، كالرافضة الذين يعتقدون أن جبرئيل غلط في الوحي ، فأوحى إلى محمد مع أن الله أمره بالإيحاء إلى علي (عليه السلام) ... إلى آخر كلامه الذي سوف يحاسب عليه في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم ، وبعد هذا كله هل تجد مسوغاً لأمثال هؤلاء الذين لا يتورعون عن الإفتراء على أمة بكاملها ، ولم يحاسبوا أنفسهم ، ولم يكلفوها عناء البحث والتحقيق والتثبت ؟ !


الصفحة 79

أطرق "السيد" رأسه هنيئة ، ثم نظر إليّ وقال : نحن نشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمداً رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وما عليُّ (عليه السلام) إلاّ عبد من عبيد الله ، والتفت إلى بقية الجالسين قائـلا ومشيراً إليّ : انظروا إلى هؤلاء الأبرياء كيف تغلّطهم الإشاعات الكاذبة، وهذا ليس بغريب فقد سمعت أكثر من ذلك من أشخاص آخرين، فلا حول ولا قوّة إلاّ بالله العلي العظيم، ثم التفت إليَّ وقال : هل قرأت القرآن ؟

قلت : حفظت نصفه ولم أتخطّ العاشرة من عمري.

قال : هل تعرف أنّ كلّ الفرق الإسلامية على اختلاف مذاهبها متفقة على القرآن الكريم، فالقرآن الموجود عندنا هو نفسه موجود عندكم.

قلت : نعم هذا أعرفه.

قال : إذاً ، ألم تقرأ قول الله سبحانه وتعالى : {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قِد خَلَت مِن قِبلِهِ الرُّسلُ}(1).

____________

1- سورة آل عمران ، الآية : 144 .


الصفحة 80

وقوله أيضاً : {مُّحَمّدٌ رَّسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلىَ الكُفَّارِ}(1) .

وقوله : {مَّا كَانَ مُحَمّدٌ أَبا أَحَد مِّن رجَالكُم وَلَكِن رّسُولَ اللهِوَخَاتَم النَّبِيِّينِ}(2)

قلت : بلى أعرف هذه الآيات

قال : فأين هو علي (عليه السلام) ؟ إذا كان قرآننا يقول بأنّ محمداً رسول الله (صلى الله عليه وآله)فمن أين جاءت هذه الفرية ؟ سكتُّ ولم أجد جواباً.

وأضاف يقول : وأمّا خيانة جبرئيل "حاشاه" فهذه أقبح من الأولى، لأنّ محمداً كان عمره أربعين سنة عندما أرسل الله سبحانه إليه جبرئيل (عليه السلام)، ولم يكن عليّ (عليه السلام) إلاّ صبياً صغيراً عمره ستّ أو سبع سنوات، فكيف يا ترى يخطىء جبرئيل ولا يفرّق بين محمد الرجل وعلي الصبي ؟.

ثم سكتّ طويلا ، بينما بقيت أفكّر في أقواله وأنا مطرق أحلّل وأتذّوق هذا الحديث المنطقي الذي نفذ إلى أعماقي وأزال غشاوة عن بصري ، وتساءلت في داخلي كيف لم نحلّل نحن بهذا المنطق .

أضاف "السيد الخوئي" يقول : وأزيدك بـأنّ الشيعة هي الفرقة الوحيدة من بين كل الفرق الإسلامية الأخرى التي تقول بعصمة الأنبياء والأئمة ، فإذا كان أئمتنا ـ سلام الله عليهم ـ معصومين عن الخطاء وهم بشر مثلنا، فكيف بجبرئيل وهو ملك مقرّب سمّاه ربّ العزّة بـ "الروح الأمين" .

قلت : فمن أين جاءت هذه الدعايات ؟ !

قال : من أعداء الإسلام ، الذين يريدون تفريق المسلمين وتمزيقهم

____________

1- سورة الفتح ، الآية : 29 .

2- سورة الأحزاب ، الآية : 40 .


الصفحة 81

وضرب بعضهم ببعض ، وإلاّ فالمسلمون إخوة سواء كانوا شيعة أم سنّة ، فهم يعبدون الله وحده لا يشركون به شيئاً وقرآنهم واحد ، ونبيّهم واحد ، وقبلتهم واحدة ، ولا يختلف الشيعة عن السنّة ، إلاّ في الأمور الفقهية ، كما يختلف أئمـة المذاهب السنّية أنفسهم في ما بينهم ، فمالك يخالف أبا حنيفة، وهذا يخالف الشافعي وهكذا...

قلت : إذاً كل ما يُحكى عنكم هو محض افتراء ؟

قال : أنت بحمد الله عاقل ، وتفهم الأمور وقد رأيت بلاد الشيعة وتجوّلت في أوساطهم فهل رأيت أوسمعت شيئاً من تلك الأكاذيب ؟

قلت : لا ، لم أسمع ولم أر إلاّ الخير(1).

____________

1- كتاب : ثم اهتديت ، للدكتور التيجاني : 55 ـ 57 .


الصفحة 82

المناظرة التاسعة

مناظرة
الدكتور التيجاني مع السيد الصدر (قدس سره) في حكم الشهادة
لأمير المؤمنين (عليه السلام) بالولاية والسجود على التربة
والبكاء على الحسين (عليه السلام)


يقول الدكتور التيجاني في لقاءه مع السيد الصدر (قدس سره) : سألت السيد الصدر عن الإمام علي (عليه السلام) ، لماذا يشهدون له في الأذان بأنه وليّ الله ؟ !

فأجاب قائلا : إنّ أمير المؤمنين عليّاً ـ سلام الله عليه ـ هو عبد من عبيد الله ، الذين اصطفاهم الله وشرّفهم ليواصلوا حمل أعباء الرسالة بعد أنبيائه ، وهؤلاء هم أوصياء الأنبياء، فلكل نبي وصي وعلي بن أبي طالب (عليه السلام) هو وصيّ محمد (صلى الله عليه وآله) ، ونحن نفضله على سائر الصحابة بما فضّله الله ورسوله (صلى الله عليه وآله) ولنا في ذلك أدلّة عقلية ونقليّة من القرآن والسنّة ، وهذه الأدلّة لا يمكن أن يتطرّق إليها الشكّ لأنّها متواترة وصحيحة من طرقنا وحتى من طرق أهل السنة والجماعة، وقد ألّف في ذلك علماؤنا العديد من الكتب .

ولمّا كان الحكم الأموي يقوم على طمس هذه الحقيقة ومحاربة أمير المؤمنين علي وأبنائه (عليهم السلام) وقتلهم، ووصل بهم الأمر إلى سبّه ولعنه على منابر


الصفحة 83

المسلمين ، وحمل الناس على ذلك بالقهر والقوة(1) .

فكانت شيعته واتباعه ـ رضي الله عنهم ـ يشهدون أنّه وليّ الله ، ولا يمكن للمسلم أن يسبّ وليّ الله ، وذلك تحدّياً منهم للسلطة الغاشمة حتى تكون العزّة لله ولرسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) وللمؤمنين، وحتى تكون حافزاً تأريخياً لكلّ المسلمين عبر الأجيال فيعرفون حقيقة علي (عليه السلام)وباطل أعدائه .

ودأب فقهاؤنا على الشهادة لعلي (عليه السلام) بالولاية في الأذان والإقامة استحباباً، لا بنيّة أنها جزء من الأذان أو الإقامة ، فإذا نوى المؤذّن أو المقيم أنّها جزء بطل أذانه وإقامته(2) .

____________

1- جاء في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : 11/44 قال : روى أبو الحسن المدايني في كتاب ( الأحداث ) قال : كتب معاوية نسخة واحدة إلى عماله بعد عام الجماعة أن برئت الذمة ممن روى شيئاً من فضل أبي تراب وأهل بيته ، فقامت الخطباء في كل كورة ، وعلى كل منبر يلعنون علياً (عليه السلام)ويبرأون منه ويقعون فيه وفي أهل بيته ، وكان أشد الناس بلاءً حينئذ أهل الكوفة لكثرة من بها من شيعة علي (عليه السلام) .. الخ .

قال عامر بن عبدالله بن الزبير لما سمع ابنا له يتنقص علياً (عليه السلام) : يا بني إياك والعودة إلى ذلك ، فإن بني مروان شتموه ستين سنة ، فلم يزده بذلك إلاّ رفعة ، وإن الدين لم يبن شيئاً فهدمته الدنيا ، وإن الدنيا لم تبنِ شيئاً إلاّ عادت على ما بنت فهدمته .

راجع : الجوهرة في نسب الإمام علي وآله(عليهم السلام) ، البري : 94 ـ 95 ، المحاسن والمساوئ ، البيهقي : 55 .

وجاء في رواية الثقفي : فإن بني أميه لعنوه على منابرهم ثمانين سنة ، فلم يزده الله بذلك إلاّ رفعة . شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 13/221 .

2- قال السيد الخوئي(قدس سره) في كتاب الصلاة من التقرير الشريف : 2/288 : لا شبهة في رجحان الشهادة الثالثة في نفسها بعد أن كانت الولاية من متممات الرسالة ، ومقومات الإيمان ، ومن كمال الدين بمقتضى قوله تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) بل من الخمس التي بني عليها الإسلام ، ولا سيما وقد أصبحت في هذه الأعصار من أجلى أنحاء الشعائر ، وأبرز رموز التشيع ، وشعائر مذهب الفرقة الناجية ، فهي إذن أمر مرغوب فيه شرعاً ، وراجح قطعاً في الأذان وغيره ، وإن كان الإتيان بها فيه بقصد الجزئية بدعة باطلة ، وتشريعاً محرماً حسبما عرفت .


الصفحة 84

والمستحبات في العبادات والمعاملات لا تحصى لكثرتها ، والمسلم يثاب على فعلها ولا يعاقب على تركها، وقد ورد على سبيل المثال أنه يذكر استحباباً بعد شهادة أن لا إله إلاّ الله وأن محمداً رسول الله، بأن يقول المسلم : وأشهد أن الجنّة حقّ ، والنار حقّ ، وأن الله يبعث من في القبور(1).

قلت : إنّ علماءنا علّمونا : أنّ أفضل الخلفاء على التحقيق سيدنا أبو بكر الصديق، ثم سيدنا عمر الفاروق ، ثم سيدنا عثمان، ثم سيدنا علي (عليه السلام)؟

سكت السيد قليلا ، ثمّ أجابني : لهم أن يقولوا ما يشاؤون، ولكن هيهات أن يثبتوا ذلك بالأدلّة الشرعيّة، ثم أن هذا القول يخالف صريح ما ورد في كتبهم الصحيحة المعتبرة، فقد جاء فيها ، أنّ أفضل الناس أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ولا وجود لعلي (عليه السلام) بل جعلوه من سوقة الناس ، وإنّما ذكره المتأخّرون استحباباً لذكر الخلفاء الراشدين(2) .

____________

1- جاء ذكر هذه الكلمات في روايات أهل البيت (عليهم السلام) بعد ذكر الشهادتين (بتفاوت) ـ على سبيل المثال ـ كما في التشهد والوصية والعتق ، راجع وسائل الشيعة : ج 4 ص 682 ، (ب 1 من أبواب أفعال الصلاة ح 11) ، وص 989 (ب3 من أبواب التشهد ح 2) ، و ج 13 ص 353 (ب3 من أحكام الوصايا ح 1) ، وج 16 ص 10 (ب6 من أبواب العتق ح 2) .

2- فانظر كيف جعلوا خليفة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) علياً أميرالمؤمنين (عليه السلام) واحداً كسائر الناس لا فضل له عليهم ، وهو الذي نصبه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عليهم خليفة وإماماً يوم غدير خم وقال : من كنت مولاه فعلي مولاه .. ، وقال في حقه : أنا مدينة العلم وعلي بابها .. وسد كل الأبواب الشارعة في المسجد إلاّ باب علي (عليه السلام) ، قال أحمد بن حنبل : ما جاء في أحد من الفضائل ما جاء في علي (عليه السلام) ، وقال النيسابوري : لم يرد في حق أحد من الصحابه بالأحاديث الحسان ما ورد في حق علي ( فيض القدير ، المناوي : 468 ) .

فمع كل هذه النصوص الدالة على إمامته وولايته عليهم ، غصبوه حقه في الخلافة ، وفضلوا غيره عليه ، وجعلوه واحداً من سائر الناس لا فضل له عليهم ، فإنا لله وانا إليه راجعون ، وإليك هنا كلام ابن عمر الصريح في ظلامة أميرالمؤمنين (عليه السلام) ، روى أبو علي الموصلي في مسنده : 9/454 ح 5602 ، وابن عساكر أيضاً في تأريخ دمشق : 39/166 عن ابن عمر قال : كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولا نعدل به أحداً ، ثم نقول : خير الناس أبو بكر ، ثم عمر ، ثم عثمان ثم لا نفاضل .

أقول : فأين علي بن أبي طالب صلوات الله وسلامه عليه ، فلم يذكروه بالفضل حتى بعد عثمان .. ؟! وفي رواية ابن عساكر بعد ذكر عثمان قال : ثم لم نبال من قدمنا أو أخرنا ؟! وهذا صريح في استقصاء أميرالمؤمنين (عليه السلام) وتجاهله وجحده حقه ، وإنكار فضله على سائر الخلق بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) .


الصفحة 85

السجود على التربة الحسينية

سألته بعد ذلك عن التربة التي يسجدون عليها والتي يسمّونها بـ "التربة الحسينية" .

أجاب قائلا : يجب أن يُعرف قبل كلّ شيء أننا نسجد على التراب، ولا نسجد للتراب، كما يتوهّم البعض الذين يشهّرون بالشيعة، فالسجود هو لله سبحانه وتعالى وحده، والثابت عندنا وعند أهل السنّة أيضاً أن أفضل السجود على الأرض أو ما أنبتت الأرض من غير المأكول، ولا يصحّ السجود على غير ذلك، وقد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يفترش التراب وقد اتخذ له خمرة من التراب والقش يسجد عليها ، وعلّم أصحابه فكانوا يسجدون على الأرض ، وعلى الحصى، ونهاهم أن يسجد أحدهم على طرف ثوبه، وهذا من المعلومات بالضرورة عندنا .

وقد اتّخذ الإمام زين العابدين وسيد الساجدين علي بن الحسين (عليهما السلام) تربة من قبر أبيه أبي عبدالله (عليه السلام) باعتبارها تربة زكية طاهرة(1) سالت عليها دماء سيد

____________

1- من الواضح عناية أهل البيت (عليهم السلام) بهذه التربة المقدّسة العظيمة كما حدّثوا أيضاً أصحابهم وشيعتهم بفضلها وفضل السجود عليها وإنها شفاء من كلّ داء ، راجع في ذلك : مصباح المتهجّد للشيخ الطوسي: 731 ـ 735 ، كامل الزيارات : 274 ـ 286 ب 91 ـ 95 ، بحار الأنوار: 46 / 79 ح 75 وج 82 ص 45 و ج 85 ص 144 ، و ج 101 ص 120 .


الصفحة 86

الشهداء، واستمر على ذلك شيعته إلى يوم الناس هذا، فنحن لا نقول بأنّ السجود لا يصحّ إلاّ عليها، بل نقول بأنّ السجود يصحّ على أي تربة أو حجرة طاهرة ، كما يصحّ على الحصير والسجاد المصنوع من سعف النخيل وما شابه ذلك .

البكاء واللطم على الإمام الحسين (عليه السلام)

قلت : على ذكر سيدنا الحسين (عليه السلام) لماذا يبكي الشيعة ويلطمون ويضربون أنفسهم حتى تسيل الدماء ؟ ! وهذا محرّم في الإسلام ، فقد قال (صلى الله عليه وآله): "ليس منّا من لطم الخدود وشقّ الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية"(1) .

أجاب السيد قائلا : الحديث صحيح لا شكّ فيه ، ولكنّه لا ينطبق على مأتم أبي عبدالله (عليه السلام) ، فالذي ينادي بثأر الحسين ، ويمشي على درب الحسين ، دعوته ليست دعوى جاهلية، ثم إنّ الشيعة بشر فيهم العالم وفيهم الجاهل ولديهم عواطف، فإذا كانت عواطفهم تطغى عليهم في ذكرى استشهاد أبي عبدالله (عليه السلام)وما جرى عليه وعلى أهله وأصحابه من قتل وهتك وسبي، فهم مأجورون لأنّ نواياهم كلّها في سبيل الله، والله سبحانه وتعالى يعطي العباد على قدر نواياهم .

وقد قرأت منذ أسبوع التقارير الرسميّة للحكومة المصرية بمناسبة موت جمال عبد الناصر، تقول هذه التقارير الرسميّة بأنّه سجّل أكثر من ثماني حالات انتحارية قتل أصحابها أنفسهم عند سماع النبأ ، فمنهم من رمى نفسه من أعلى العمارة ، ومنهم من ألقى بنفسه تحت القطار وغير ذلك، وأمّا المجروحون

____________

1- صحيح البخاري : 2/82 ، صحيح مسلم : 1/70 ، مسند أحمد بن حنبل : 1/386 .


الصفحة 87

والمصابون فكثيرون، وهذه أمثلة أذكرها للعواطف التي تطغي على أصحابها .

وإذا كان الناس ـ وهم مسلمون بلا شك ـ يقتلون أنفسهم من أجل موت جمال عبد الناصر وقد مات موتاً طبيعياً، فليس من حقّنا ـ بناءً على مثل هذا ـ أن نحكم على أهل السنّة بأنّهم مخطئون ؟!

وليس لإخواننا من أهل السنّة أن يحكموا على إخوانهم من الشيعة بأنّهم مخطئون في بكائهم على سيّد الشهداء (عليه السلام) ، وقد عاشوا محنة الحسين (عليه السلام)وما زالوا يعيشونها حتى اليوم، وقد بكى رسول الله (صلى الله عليه وآله)نفسه على ابنه الحسين (عليه السلام)وبكى جبريل لبكائه.

قلت : ولماذا يزخرف الشيعة قبور أوليائهم بالذهب والفضّة ، وهو محرّم في الإسلام ؟ أجاب السيد الصدر : ليس ذلك منحصراً بالشيعة، ولا هو حرام فها هي مساجد إخواننا من أهل السنة سواء في العراق أو في مصر أو في تركيا أو غيرها من البلاد الإسلامية مزخرفة بالذهب والفضة ، وكذلك مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)في المدينة المنورة ، وبيت الله الحرام في مكّة المكرّمة ، الذي يُكسى في كل عام بحلّة ذهبية جديدة يصرف فيها الملايين ، فليس ذلك منحصراً بالشيعة.

تعظيم قبور الصالحين

قلت : إنّ بعض العلماء يقولون : إنّ التمسح بالقبور ، ودعوة الصالحين ، والتبرّك بهم، شرك بالله ، فما هو رأيكم ؟

أجاب السيد محمد باقر الصدر : إذا كان التمسّح بالقبور ، ودعوة أصحابها بنيّة أنّهم يضرّون وينفعون ، فهذا شرك، لا شكّ فيه : وإنّما المسلمون موحِّدون


الصفحة 88

ويعلمون أنّ الله وحده هو الضارّ والنافع، وإنّما يدعون الأولياء والأئمة (عليهم السلام)ليكونوا وسيلتهم إليه سبحانه وهذا ليس بشرك، والمسلمون سنّة وشيعة متّفقون على ذلك من زمن الرسول (صلى الله عليه وآله) إلى هذا اليوم ....

وإنّ السيّد شرف الدين من علماء الشيعة لمّا حجّ بيت الله الحرام ... كان من جملة العلماء المدعوين إلى قصر الملك لتهنئته بعيد الأضحى كما جرت العادة هناك ، ولمّا وصل الدور إليه وصافح الملك قدّم إليه هديّة وكانت مصحفاً ملفوفاً في جلد، فأخذه الملك وقبّله ووضعه على جبهته تعظيماً له وتشريفاً.

فقال له السيد شرف الدين عندئذ : أيّها الملك لماذا تقبّل الجلد وتعظّمه وهو جلد ماعز ؟

أجاب الملك، أنا قصدت القرآن الكريم الذي بداخله ولم أقصد تعظيم الجلد !

فقال السيد شرف الدين عند ذلك : أحسنت أيها الملك، فكذلك نفعل نحن عندما نقبّل شبّاك الحجرة النبويّة أو بابها ، فنحن نعلم أنّه حديد لا يضرّ ولا ينفع، ولكنّنا نقصد ما وراء الحديد وما وراء الأخشاب ، نحن نقصد بذلك تعظيم رسول الله (صلى الله عليه وآله)، كما قصدت أنت القرآن بتقبيلك جلد الماعز الذي يغلّفه .

فكبّر الحاضرون إعجاباً له وقالوا : صدقت ، واضطر الملك وقتها إلى السماح للحجّاج أن يتبركوا بآثار الرسول (صلى الله عليه وآله) .

وسألته عن الطرق الصوفيّة فأجابني بإيجاز : بأن فيها ما هو إيجابي وفيها ما هو سلبي، فالإيجابي منها تربية النفس وحملها على شظف العيش ، والزهد في ملذّات الدنيا الفانية، والسموّ بها إلى عالم الأرواح الزكية، أمّا السلبي منها، فهو الإنزواء والهروب من واقع الحياة ، وحصر ذكر الله في الأعداد اللفظية وغير ذلك،


الصفحة 89

والإسلام ـ كما هو معلوم ـ يقرّ الإيجابيات ويطرح السلبيات ، ويحق لنا أن نقول بأنّ مباديء الإسلام وتعاليمه كلّها إيجابية(1).

____________

1- كتاب : ثم اهتديت ، الدكتور التيجاني : 65 ـ 69 .

الصفحة 90

المناظرة العاشرة

مناظرة
الدكتور التيجاني مع السيد الصدر (قدس سره)
في حكم الجمع بين الصلاتين


قال الدكتور التيجاني في معرض حديثه عن مسألة جواز الجمع بين الصلاتين(1) : وأنا أتذكّر بأنّ أوّل صلاة جمعت فيها بين الظهر والعصر كانت

____________

1- مسألة جواز الجمع بين الصلاتين من المسائل التي قام الدليل عليها في كتب الحديث عند السنة ، ومع ذلك لم يعملوا بها ، فقد رووا أن النبي (صلى الله عليه وآله) جمع بين الظهر والعصر ، والمغرب والعشاء ، من غير سفر ولا خوف ولا مطر ، ومع ذلك قد شُنّع على الشيعة الإمامية في مسألة الجمع إذ عملوا بسنة النبي (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته ، أضف إلى ذلك ما ثبت عن بعض الصحابة في جواز ذلك كما في كتب الصحاح ، مع أن المذاهب الإسلامية يرون جواز الجمع بين الظهر والعصر في عرفة ويسمى جمع تقديم ، وبين المغرب والعشاء في مزدلفة ويُسمى جمع تأخير ، وإنما الخلاف هو في مسألة الجمع بدون عذر السفر وغيره من سائر الأعذار .

فأما المالكية ، عندهم أن أسباب الجمع هي السفر والمرض والمطر والطين مع الظلمة في آخر الشهر ، ووجود الحاج بعرفة أو مزدلفة .

وأمّا الشافعية ، قالوا : بجواز الجمع بين الصلاتين جمع تقديم أو تأخير للمسافر مسافة القصر ، ويجوز جمعها جمع تقديم فقط بسبب نزول المطر .

وأما الحنفيّة ، قالوا : لا يجوز الجمع بين صلاتين في وقت واحد لا في السفر ولا في الحضر بأي عذر من الأعذار إلاّ في حالتين .

الأولى : يجوز جمع الظهر والعصر في وقت الظهر جمع تقديم بشروط أربعة ، منها أن يكون ذلك في يوم عرفة .

الثانية : يجوز جمع المغرب والعشاء في وقت العشاء جمع تأخير بشرطين : أن يكون ذلك بالمزدلفة ، وأن يكون محرماً بالحج ، وكل صلاتين لا يؤذن لهما إلا أذان واحد ، وان كان لكل منهما إقامة واحدة .

وأمّا الحنابلة ، قالوا بجواز الجمع المذكور تقديماً وتأخيراً فانه مباح ولكن تركه أفضل ، وإباحة الجمع عندهم لا بد أن يكون بأحد الأعذار التالية كأن يكون المصلي مسافراً أو مريضاً تلحقه مشقة بترك الجمع ، أو امرأة مرضعة أو مستحاضة وللعاجز عن الطهارة بالماء أو التيمم لكل صلاة ، وللعاجز عن معرفة الوقت كالأعمى والساكن تحت الأرض ، ولمن خاف على نفسه أو ماله أو عرضه ، ولمن خاف ضرر يلحقه بتركه في معيشته ، وفي ذلك سعة للعمال الذين يستحيل عليهم ترك أعمالهم . راجع : كتاب الفقه على المذاهب الأربعة للجزيري : 1/483 ـ 487 .


الصفحة 91

بإمامة الشهيد السيد محمد باقر الصدر ـ عليه رضوان الله ـ إذ كنتُ أنا في النجف أفرّق بين الظهر والعصر ، حتّى كان ذلك اليوم السعيد الذي خرجتُ فيه مع السيد محمد باقر الصدر من بيته إلى المسجد الذي يؤمّ فيه مُقلّديه الذين احترموني وتركوا لي مكاناً خلفه بالضّبط ، ولّما انتهت صلاة الظهر وأقيمت صلاة العصر ، حدّثتني نفسي بالانسحاب ، ولكن بقيتُ لسببين أوّلهما هيبةُ السيد الصّدر وخشوعه في الصلاة حتى تمنّيتُ أن تطول ، وثانيهما وجودي في ذلك المكان ، وأنا أقرب المصلّين إليه ، وأحسستُ بقوّة قاهرة تشدّني إليه .

ولّما فرغنا من أداء فريضة العصر وانهال عليه النّاس يسألونه بقيتُ خلفَه أسمع الأسئلة والإجابة عليها إلا ما كان خفيّاً، ثم أخذني معه إلى بيته للغذاء وهناك وجدتُ نفسي ضيف الشرّف، واغتنمتُ فرصة ذلك المجلس وسألته عن الجمع بين الصلاتين ؟

ـ سيدي ! أيمكن للمسلم أن يجمع بين الفريضتين في حالة الضرورة ؟


الصفحة 92

قال : يمكن له أن يجمع بين الفريضتين في جميع الحالات وبدون ضرورة .

قلتُ : وما هي حجّتكم؟

قال : لأن رسول الله(صلى الله عليه وآله) جمع بين الفريضتين في المدينة في غير سفر ولا خوف ولا مطر ولا ضرورة، وإنها فقط لدفع الحرج عنّا، وهذا بحمد الله ثابت عندنا من طريق الأئمة الأطهار (عليهم السلام)(1) وثابت أيضاً عندكم .

ـ استغربتُ كيف يكون ثابتاً عندنا ولم أسمع به قبل ذلك اليوم ، ولا رأيتُ أحداً من أهل السنّة والجماعة يعمل به ، بل بالعكس يقولون ببطلان الصلاة إذا وقعت حتى دقيقة قبل الأذان ، فكيف بمن يصلّيها قبل ساعات مع الظهر، أو يصلّي صلاة العشاء مع المغرب ، فهذا يبدو عندنا مُنكراً وباطلا !!

وفهِمَ السيد محمد باقر الصّدر حيرتي واستغرابي ، وهمس إلى بعض الحاضرين فقام مسرعاً وجاءه بكتابين عرفتُ بأنّهما صحيح البخاري وصحيح مسلم، وكلّف السيد الصدر ذلك الطالب بأن يطلعني على الأحاديث التي تتعلّق بالجمع بين الفريضتين ، وقرأتُ بنفسي في صحيح البخاري(2) كيف جمع النبي(صلى الله عليه وآله)فريضة الظهر والعصر وكذلك فريضة المغرب والعشاء ، كما قرأت في صحيح مسلم(3) باباً كاملا في الجمع بين الصلاتين في الحضر في غير خوف ؟ ولا مطر ولا سفر .

ولم أخفِ تعجّبي ودهشتي ، وإن كان الشكّ داخلني بأنّ البخاري ومسلم

____________

1- راجع : وسائل الشيعة للحر العاملي : 3/160 ، (ب 32 من أبواب المواقيت) .

2- صحيح البخاري : 1/137 و2/39 .

3- صحيح مسلم : 2/151 ـ 152 (ب 6 الجمع بين الصلاتين في الحضر) ، سنن الترمذي : 1/121 ح187 .


الصفحة 93

اللذين عندهم قد يكونان محرفين ، وأخفيتُ في نفسي أن أراجع هذين الكتابين في تونس .

وسألني السيد محمد باقر الصدر عن رأيي بعد هذا الدّليل ؟

قلت : أنتم على الحق، وأنتُم صادقون في ما تقولون، وبودّي أن أسألكم سؤالا آخر .

قال : تفضّل .

قلت : هل يجوز الجمع بين الصلوات الأربع كما يفعل كثيرٌ من الناس عندنا لما يرجعوا في الليل يصلّون الظهر والعصر والمغرب والعشاء قضاءً ؟

قال : هذا لا يجوز .

قلتُ : إنّك قلتَ لي فيما سبق . بأن رسول الله (صلى الله عليه وآله) فرّق وجَمع ، وبذلك فهمنا مواقيت الصلاة التي ارتضاها الله سبحانه .

قال : إنّ لفريضتي الظهر والعصر وقتاً مشتركاً ، ويبتدىء من زوال الشمس إلى الغروب، ولفريضتي المغرب والعشاء أيضاً وقتٌ مشترك ، ويبتدىء من غروب الشمس إلى منتصف الليل ، ولفريضة الصبح وقتٌ واحدٌ يبتدىء من طلوع الفجر إلى شروق الشمس ، فمن خالف هذه المواقيت يكون خالف الآية الكريمة {إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتٌ عَلىَ المؤُمِنِينَ كِتَاباً مَّوقُوتاً}(1) فلا يمكن لنا مثلا أن نصلّي الصبح قبل الفجر ، ولا بعد شروق الشمس ، كما لا يمكن لنا أن نصلّي فريضتي الظهر والعصر قبل الزوال أو بعد الغروب ، كما لا يجوز لنا أن نصلّي فريضتي المغرب والعشاء قبل الغروب ، ولا بعد منتصف الليل .

____________

1- سورة النساء ، الآية : 103 .


الصفحة 94

وشكرتُ السيد محمد باقر الصدر، وإن كنتُ اقتنعتُ بكلّ أقواله ، غير أنّي لم أجمع بين الفريضتين بعد مغادرته ، إلاّ عندما رجعتُ إلى تونس وانهمكتُ في البحث واستبصرتُ.

الجمع بين الصلاتين في صحاح السنة

هذه قصّتي مع الشهيد الصدر (رحمه الله) في خصوص الجمع بين الفريضتين أرويها ليتبيّن إخواني من أهل السنّة والجماعة أولا، كيف تكون أخلاق العلماء الذين تواضعوا حتّى كانوا بحق ورثة الأنبياء في العلم والأخلاق .

وثانياً : كيف نجهلُ ما في صحاحنا ، ونُشنّعُ على غيرنا بأمور نعتقدُ نحن بصحّتها، وقد وردت في صحاحنا :

فقد أخرج الإمام أحمد بن حنبل في مسنده عن ابن عباس قال : صلّى رسول الله (صلى الله عليه وآله) في المدينة مقيماً غير مسافر سبعاً وثمانياً(1) .

وأخرج الإمام مالك في الموطأ عن ابن عباس قال : صلّى رسول الله (صلى الله عليه وآله)الظهر والعصر جميعاً ، والمغرب والعشاءَ جميعاً ، في غير خوف ولا سفر(2) .

وأخرج الإمام مسلم في صحيحه في باب الجمع بين الصلاتين في الحضر ، قال : عن ابن عباس قال : صلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) الظهر والعصر جميعاً ، والمغرب والعشاء جميعاً ، في غير خوف ولا سفر(3) .

كما أخرج عن ابن عباس أيضاً قال : جمع رسول الله (صلى الله عليه وآله) بين الظُهر

____________

1- مسند أحمد بن حنبل : 1/221 .

2- موطأ الإمام مالك : 1/144 ح 4 .

3- صحيح مسلم : 2/151 (باب الجمع بين الصلاتين في الحضر) .


الصفحة 95

والعصر ، والمغرب والعشاء ، بالمدينة في غير خوف ولا مطر ، قال : قلتُ لابن عباس : لم فعلَ ذلك؟ قال : كي لا يحرجَ أُمّتَهُ(1) .

ومّما يدلّك أخي القارىء أن هذه السنة النّبوية كانت مشهورة لدى الصحابة ويعملون بها، ما رواه مسلم أيضاً في صحيحه في نفس الباب قال : خطبنا ابن عباس يوماً بعد العصر حتّى غَرُبت الشمس وبدت النجوم ، وجعل النّاس يقولون : الصّلاة الصّلاة، قال : فجاءه رجل من بني تميم لا يفتر ولا ينثني : الصلاة الصلاة، فقال ابن عباس : أتُعلّمني بالسّنة لاَ أمّ لك ! ثم قال : رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) جمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء(2) .

وفي رواية أخرى قال ابن عباس للرجل : لا اُم لك ! أتعلّمنا بالصّلاة ؟ وكنّا نجمعُ بين الصّلاتين على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله)(3) .

وأخرج الإمام البخاري في صحيحه في باب وقت المغرب قال : حدّثنا آدم ، قال : حدّثنا شعبة ، قال : حدثنا عمرو بن دينار ، قال : سمعتُ جابر بن زيد عن ابن عبّاس قال : صلّى النبي (صلى الله عليه وآله) سبعاً جميعاً وثمانياً جميعاً (4).

كما أخرج البخاري في صحيحه في باب وقت العصر ، عن سهل بن حُنيف قال : سمعتُ أبا أمامة يقول : صلّينا مع عمر بن عبد العزيز الظهر ، ثم خرجنا حتّى دخلنا على أنس بن مالك فوجدناه يصلّي العصر ، فقلتُ : يا عمّ ، ما هذه الصلاة التي صلّيت ؟ قال : العصْرُ وهذه صلاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) التي كنّا نصلّي معه(5) .

____________

1- صحيح مسلم : 2/152 .

2- صحيح مسلم : 2/152 ـ 153 .

3- نفس المصدر : 2/153 .

4- صحيح البخاري : 1/140 (باب وقت المغرب) ، مسند أحمد بن حنبل : 1/285 .

5- صحيح البخاري 1/138 ، صحيح مسلم : 2/110 (باب وقتُ العصر).


الصفحة 96

تشنيع البعض على الشيعة في الجمع بين الصلاتين

ومع وضوح هذه الأحاديث فإنك لا تزال تجد من يشنع بذلك على الشيعة ، وقد حَدث ذلك مرة في تونس ، فقد قام الإمام عندنا في مدينة قفصة ليشنع علينا ويُشهّر بنا وسط المصلّين قائلا : أرأيتم هذا الدّين الذي جاؤوا به ، إنهم بعد صلاة الظهر يقومون ويصلّون العصر ، إنه دين جديد ليس هو دين محمد رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، هؤلاء يخالفون القرآن الذي يقول : {إنَّ الصلاةَ كانتْ عَلى المؤمنينَ كِتاباً مَوقُوتاً}(1) وما ترك شيئاً إلاّ وشتم به المستبصرين .

وجاءني أحد المستبصرين ، وهو شاب على درجة كبيرة من الثقافة ، وحكى لي ما قاله الإمام بألم ومرارة ، فأعطيته صحيح البخاري وصحيح مسلم وطلبتُ منه أن يطلعه على صحّة الجمع ، وهو من سنّة النبي (صلى الله عليه وآله) ، لأنني لا أريد الجدال معه ، فقد سبق لي أن جادلته بالتي هي أحسن فقابلني بالشتم والسبّ والتّهم الباطلة ، والمهم أن صديقي لم ينقطع من الصلاة خلفَه ، فبعد انتهاء الصلاة جلس الإمام كعادته للدّرس فتقدّم إليه صديقي بالسؤال عن الجمع بين الفريضتين ؟

فقال : إنها من بدع الشيعة .

فقال له صديقي : ولكنّها ثابتة في صحيح البخاري ومسلم .

فقال له : غير صحيح ، فأخرج له صحيح البخاري وصحيح مسلم وأعطاه فقرأ باب الجمع بين الصلاتين .

____________

1- سورة النساء ، الآية : 103 .