الصفحة 161

قال : هذا ما يقوله الشيعة .

قلت : اتّق الله في الشيعة فإنهم لا يقولون إلاّ قول الله ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وهذا الذي تنكره أنت ذكره صحاح السنّه .

قال : ما رأيت عند علماء السنّة وفي صحاحهم هذا أبدأ .

قلت لصاحب البيت : هل لك أن تأتينا بصحيح مسلم ؟ فأحضره فناولته لأبي لبن ليقرأ في فضائل أهل البيت (عليهم السلام) أن عائشة هي التي روت رواية الكساء ونزول الآية في هؤلاء الخمسة المذكورين(1) ، فلمّا قرأ ذلك في صحيح مسلم تغيّر لونه وتلعثم في الكلام .

وظهر عجزه قلت : أعرفت لماذا نحن نخصّ هؤلاء بنزول الآية ، لأن عائشة التي تريدون إلصاقها بالآية لا توافقكم هي نفسها على ذلك ، وكذلك أم سلمة من نساء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قالت : أردت الدّخول معهم تحت الكساء فمنعني رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقال : أنت إلى خير(2) .

وقام الأخ رشيد الجزائري وقال متوجّها إلى أبي لبن وهو يضحك : أنا من

____________

1- صحيح مسلم : 7/130 ، المستدرك ، الحاكم النيسابوري : 147 ، وقال : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه .

وعن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نزلت هذه الآية في خمسة (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) في وفي علي وفاطمة وحسن وحسين .

تاريخ دمشق ، ابن عساكر : 13/206 ، مجمع الزوائد ، الهيثمي : 9/167 ، نظم درر المسطين ، الزرندي : 238 ، جامع البيان ، ابن جرير الطبري : 22/9 ح21727 ، الدر المنثور ، السيوطي : 5/198 ، تفسير ابن كثير : 3/494 .

2- راجع : المعجم الكبير ، الطبراني : 3/52 ـ 53 ح 2662 ، تاريخ دمشق ، ابن عساكر : 14/139 ، سير أعلام النبلاء ، الذهبي : 346 ـ 347 .


الصفحة 162

اليوم سأسميك أبا لهب ، لأنك تترك قول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وتتبع قول العلماء الذين علّموك . .

وانتهت الجلسة على أحسن ما يرام وازداد المستبصرون بذلك فرحا وابتهاجا .

وما خرجت من السوّيد حتى انقلبت الرّابطة إلى شبه حسينيّة .

واستقدموا بعد ذلك شيخا معمّما من قم المقدّسة ، وأسسوا مسجداً للشيعة هناك يديره جماعة المستبصرين بمعيّة مجموعة من العراقيّين على رأسهم السيد أبو حيدر الذي ساهم بكل جهوده وأمواله في إنجاح المشروع(1) .

____________

1- كتاب فسيروا في الأرض ، الدكتور التيجاني : 291 ـ 295 .


الصفحة 163

المناظرة الحادية والعشرون

مناظرة
الدكتور التيجاني مع شرف الدين المصري
إمام الرابطة في السويد
في حديث أن عمر جذب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من قميصه


قال الدكتور التيجاني : وجاء اليوم الموعود واستقبلني الأخوة بالمطار في العاصمة السوّيدية ستوكهولم ، ونزلت ضيفا عند الأخ الشّطي رئيس الرّابطة وفي يومين وخلال محاضرتين انقسمت الرّابطة إلى قسمين وتشيّع أغلبهم بإعانة الإخوة الذين عرفتهم خلال المؤتمر ، وكان أشدّ النّاس حماسا للتشيّع الأخ محمود الطّاهري والأخ الجزائري رشيد بدرة ، ولكن إمام الرّابطة شرف الدين المصري ومعاونه حسين التونسي بقيا معادين ومعاندين .

وبدأ الإمام يحسّ بالعزلة شيئاً فشيئا فلجأ إلى المواجهة والهجوم العنيف على الشيعة وقال فيما قال : أنا أعرف أن علماء الشيعة كذّابين ومنافقين ، وأن أعظم كتاب عندهم هو كتاب المراجعات الذي يفتخر به الدكتور التيجاني نفسه ، هذا الكتاب كلّه كذب ونفاق .

استفزّني كلامه الذي قاله بمحضر أكثر من عشرين رجلا فقلت : اتّق الله فأنت إمام الجماعة والمفروض أن الإمام يكون مثال الصدّق والأمانة ، ولا يقول


الصفحة 164

بما لا يعلم ، فكيف لو طالبتك بالدليل على ادّعائك .

قال : عندي دليل على ما أقول وأنا لا أتكلم إلاّ بما أعلم .

استغربت منه هذه الجرأة وتحدّيته أمام الحاضرين قائلا : إن هذا الكتاب هو بالفعل من أعظم الكتب التي أثّرت فيّ شخصيّاً ، وقد تتبّعته بالبحث فوجدته ينقل بدقّة ، أعني مؤلّفه وهو السيد شرف الدين الموسوي ينقل بدقّة وأمانة فلا يزيد ولا ينقص ، فأنا أتحدّاك أمام الحاضرين إن جئتني بكذبة واحدة في كتابه فسوف ألعنه أمام الجميع وألعن الشيعة معه .

قال : أتشهدون عليه يا جماعة ؟

قالوا : لقد حكم على نفسه بنفسه .

قلت : وهو كذلك .

قال : موعدنا الليلة وسآتيكم بالدليل القاطع ، إن شاء الله .

قال الأخ الجزائري : السهرة الليلة في بيتي فأنتم كلّكم مدعوّون للعشاء عندي ، وبعد العشاء نبحث في الموضوع ، وكان الاتّفاق على ذلك .

بقي الأخ محمود الطاهري متخوّفاً ويحذّرني من الإمام على أنه مثقّف ، ومطّلع على أمور كثيرة ، وأغلب النّاس يثقون بعلمه فلو انتصر عليك ، لا قدّر الله فستكون ردّة لكلّ من تشيّعوا ، فهدّأت من روعه وطمأنته بأن شرف الدين الشيعي أعلم من شرف الدين السنّي .

وكان اللقاء ، الإمام المصري يتبعه معاونه حسين التونسي ويحمل حقيبته ، وبعد تناول العشاء وقضاء فريضة الصّلاة ، افتتح صاحب البيت الأخ رشيد بدرة الجلسة بكلمة وجيزة دعا فيها الحاضرين ، وكانوا يزيدون على الثلاثين رجلا ، ونساءهم في الغرفة المجاورة ، دعاهم كلّهم لاحترام المجالس العلميّة ولزوم


الصفحة 165

الصمت ، وقال : كلّنا نستمع للدكتور التيجاني والإمام شرف الدّين ، فلسنا هنا للخصام ولا للملاكمة ، وإنما نحن نريد الوصول إلى الحقيقة ، وهذه الحقيقة قد تكون مع التيجاني وقد تكون من شرف الدين ، فنحن يجب أن نكون مع الحقّ لا مع الأشخاص .

أخرج الإمام شرف الدين المصري من حقيبته كتاب النصّ والاجتهاد ، ثم أخرج معه صحيح البخاري وفتح كتاب النص والاجتهاد وأعطاني إيّاه ، وطلب مني قراءة الصفحة المسطرة ، وقرأتها وأنا أعرفها فهي تتعلّق باجتهاد عمر بن الخطّاب عندما جذب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من قميصه وهو يصلّي على عبد الله ابن أبي المنافق وقال له : إن الله نهاك أن تصلي على المنافقين(1) .

قلت : وماذا فيها فالقضيّة معروفة ولا ينكرها أيّ باحث .

قال : نعم أنا لا أجادل في القضيّة ، وإنما في العالم الشيعي الذي يكذب ويقلّب الحقائق .

قلت : وكيف ذلك ، ما وجدت في القصّة كذبا ولا تقليباً للحقيقة أعدت القراءة ، خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يصلّى على عبدالله بن أبي ، فجاء عمر فجذبه من قميصه .

قال : قف هنا واقرأ التعليق الذي كتبته أنا ، فقرأت على الحاشية وقد سطّر كلمة فجذبه بسطرين ، قوله : انظروا إلى هذا الكذّاب الدجّال الذي يحرّف الكلام عن مواضعه ، ثم أولغ سباً وشتماً في المؤلّف وفي الشيعة عامّة .

فقلت مستغرباً : ما فهمت حتى الآن قصدك ، وأين الكذب والتحريف أنا ما

____________

1- صحيح البخاري : 7/36 ، سنن النسائي : 4/36 ـ 37 .


الصفحة 166

رأيته .

قال : إنه هنا يستشهد بالبخاري وها هو البخاري أمامنا ، خذ اقرأ بنفسك ما ذكره البخاري ، وناولني كتاب البخاري فقرأت : فجاء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ليصلّي عليه ، فمسكه عمر(1) .

قلت : ما هو الفرق بين هذا وذاك المهمّ أن عمر منع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من الصلاة وأنا لا أرى فرقا بين جذبه أو مسكه .

فصاح قائلا : وهذه مصيبتك ، أنت جاهل باللّغة العربيّة ، ولا تفرّق بين جذبه ومسكه ، فلفظ مسكه تعني اللين واللّطف ، وجذبه تعني الشدّة والعنف ، وسيّدنا عمر كما يقول البخاري : مسك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) برفق ولطف ، وليس كما يقول عالم الشيعة : جذبه ، وهو يوحي بتحريفه ، هذا على أن سيّدنا عمر كان يستعمل الشدّة والعنف مع حضرة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) .

ونظرت حولي إلى الحاضرين وقد انتكست رؤوسهم ، وأوجست في نفسي خيفة أمام شرف الدين الذي أخذ يصول ويجول بنخوة الانتصار عليّ أمام الجموع الحاضرة ، لأني تحديته أمامهم إن جاءني بكذبة واحدة فسألعن الشيعة وعلى رأسهم صاحب المراجعات ، وها هي الكذبة واضحة في نظر الحاضرين لأن شرف الدين الموسوي أبدل كلمة مسكه بكلمة جذبه ، وهذه خيانة علميّة .

وفجأة جاءني الجواب وقرأت من جديد ما كتبه شرف الدين قائلا : وإليك منه ما أخرجه البخاري في كتاب اللباس من صحيحه ، وراجعت كتاب البخاري الذي جاء به الإمام معه فوجدته يستدلّ بغير الكتاب الذي ذكره شرف الدين

____________

1- راجع : صحيح البخاري : 2/100 ، وجاء في ص206 : فقام عمر فأخذ بثوب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) .. الخ .


الصفحة 167

الموسوي ، عند ذلك ، فهمت وقلت لشرف الدين المصري : لا تتسرّع بفرحة الانتصار ، وأنا أتّهمك أنت الآن بالدّس ، فلماذا لم تأت بالجزء المذكور ، والذي فيه كتاب اللباس ، فإن كنت تعلم فتلك مصيبة ، وإن كنت لا تعلم فالمصيبة أعظم .

قال صائحا يسأل الحاضرين : أهناك كتاب آخر للبخاري غير هذا ؟

قلت : لا ، أنا أقصد لماذا لم تأت بالأجزاء كلّها وجئت بهذا الجزء فقط ؟ لأني أعرف أن البخاري ينقل الحادثة في عدّة أبواب من صحيحه ، ويتصرّف في الحديث فيغيّر هو معانيه حفاظاً على كرامة الصّحابة ، ولو كان ذلك على حساب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) .

فتهلّل وجه صاحب البيت رشيد بدرة وقال : أنا عندي صحيح البخاري هنا بكل أجزائه .

انهزام شرف الدين المصري وانتكاسته

فقلت : هلم به إلينا ، وفي لحظة جاء الكتاب وأخرجت كتاب اللباس الذي استدلّ به شرف الدين الموسوي وإذا فيه : فجاء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ليصلّي عليه فجذبه عمر ، فصاح رشيد بدرة : الله أكبر وتهلل الحاضرون كلّهم ، وانتكس الإمام المصري لأنه أصيب بذهول وتبيّن لي أنه ما كان يعرف بوجود هذا الحديث ، ولكنّه لمجرّد ما فتح البخاري ووجد كلمة مسكه عوضاً عن جذبه ظنّ المسكين أنه اكتشف زيف الشيعة وأكاذيبهم فطأطأ برأسه إلى الأرض ، ولم يزد شيئاً رغم الكلمات النابية التي وجّهها إليه الأخ رشيد بدرة الذي قال له فيها : يا شرف الدين كنّا نظنّك عالما متبحّرا فإذا بك فارغ ، وتتّهم العلماء الأجلاء بالكذب والدّجل ، وتسبّ وتشتم أناساً أبرياء أفضوا أمرهم إلى الله .

فقام معاونه حسين التونسي لينقذ الموقف ، ويخرج زميله من الورطة التي


الصفحة 168

وقع فيها ، فقال موجّها كلامه إليّ : إن إمامك الذي تدعو إليه عنده شذوذ فهو يجيز نكاح المرأة من دبرها ، استغربت منه هذا القول ، وهو الذي لم يتكلّم أبداً ، وكان يمتاز بالسّكوت والاستماع .

قلت : أي إمام دعوتك إليه ؟

قال : الإمام الخميني .

التفت للحاضرين وسألتهم : هل كلّمتكم منذ قدمت إليكم عن الإمام الخميني ؟

قالوا : ما سمعنا منك إلاّ الكلام عن أئمّة أهل البيت(عليهم السلام) ولم نسمعك أبدأ تتكلّم عن الإمام الخميني .

قلت له : لماذا تتّهمني بشيء لم يقع أبدأ هذا أولا ، أمّا ثانياً فلماذا تنكر على الإمام الخميني ، وتتّهمه بالشّذوذ في مسألة فقهيّة اختلف فيها الصّحابة أنفسهم بين مانع ومكره ومجيز ، وإذا استنكرت ذلك على الإمام الخميني ، الذي قال : بالكراهة ، لماذا لم تستنكره على البخاري الذي قال بجوازه قبل ألف عام .

فقال : حاشى البخاري من هذه السّفاسف .

قلت : البخاري بين أيدينا ، وفي لحظة وجيزة أخرجت له وللحاضرين قول البخاري عن عبدالله بن عمر في تفسير قوله تعالى : {نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ}(1) قال يأتيها في ...(2) واستفظع الكلمة فلم يكتبها(3) .

____________

1- سورة البقرة ، الآية : 223 .

2- صحيح البخاري : 5/160 .

3- جاء في كتاب جامع البيان لابن جرير الطبري : 2/535 : بإسناده عن نافع قال : كنت أمسك على ابن عمر المصحف ، اذتلا هذه الآية : (نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) فقال : أن يأتيها في دبرها . وعن نافع أيضاً عن ابن عمر أن هذه الآية نزلت في إتيان النساء في أدبارهن .


الصفحة 169

فلمّا قرأ الأخ رشيد بدرة هذا الحديث غضب وقال للتّونسي : أنت أيضاً تريد طمس الحقيقة ونصرة الباطل ، غداً خذ أدباشك ، وارجع من حيث أتيت ، فأنا لا أكفلك أبداً ، وانتهى كل شيء بيننا .

وتبيّن لي أن التّونسي جيء به من باريس ليؤمّ المصلّين في غياب الإمام المصري الذي يتغيّب شهورا عندما يسافر إلى مصر ، ووعد الأخ رشيد بدرة أن يزوّجه من سوّيدية ، ويحضرّ له أوراق الإقامة والمعاملات القانونيّة .

وحاولت إقناع الأخ الجزائري بإتمام ما وعده به فرفض قائلا : أنا لا أعين الباطل ، ولا أكون للظّالمين ناصرا ، وقد تبيّن لي أن هؤلاء فارغين ونحن كنّا غافلين(1) .

____________

1- كتاب فسيروا في الأرض ، الدكتور التيجاني : 287 ـ 291 .


الصفحة 170

المناظرة الثانية والعشرون

مناظرة
الدكتور التيجاني مع بعض السلفيين
في مشروعية التوسّل والاستشفاع بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)


قال الدكتور التيجاني : أعلمني صديقي الأستاذ التونسي بأنّ صديقه السعودي سيأتي في الغد لإجراء محاورة علمية معي ، وقال : بأنه استدعى لذلك مجموعة من الأساتذة ليشاركوا في الحوار ليستفيد الجميع ، وقال : بأنّه هيأ الغداء ، فاليوم هو يوم عطلة الأسبوع ، وعندنا الوقت الكافي ، وكم نحن مشتاقون لمثل هذه المجالس ، ثم أضاف : ونحن نريدك منتصراً فلا تخجّلنا ، لأنّ هذا السعودي " ما كِلْنَا بقرعة "(1) .

وفي الساعة الموعودة توافد على البيت الأساتذة ومعهم العالم الوهّابي ، وكان مجموعهم سبعة ، أضف إليهم صاحب البيت ، وشخصي الحقير ، فصار المجلس يضمّ تسعة أشخاص .

____________

1- جاء في الهامش : هو تعبير شائع عند العامة في تونس ومعناه يتكلم وحده ولا يترك لنا فرصة للكلام .


الصفحة 171

الحاجة إلى التوسل بالأنبياء والأولياء

بعد أكل سريع ودردشة أثناء الأكل ، قد لا يخلو منها مجلس بدأنا الحوار ، وكان موضوعه المطروح التوسّل والوساطة بين العبد وربّه .

كنت من القائلين بالتوسّل إليه سبحانه وتعالى بأنبيائه ورسله وأوليائه الصّالحين ، وأن الإنسان قد يحجب دعاءه كثرة الذنوب والإنشغال بالدنيا فيستشفع إلى الله سبحانه بأوليائه وأحبابه .

قال : هذا شرك ، وأن الله لا يغفر أن يشرك به ..

قلت : وما دليلك على أنه شركٌ بالله ؟

قال : {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً}(1) ، هذه آية صريحة في تحريم الدعاء لغير الله ، فمن دعا غير الله فقد جعل له شريكاً ينفع ويضرّ ، والنّافع والضّار هو الله وحده .

إستحسن بعض الحاضرين كلامه وأراد تأييده فاستوقفه صاحب البيت قائلا : مهلا ، مهلا ، لقد دعوتكم لا للجدال ولا للمباراة ، وإنّما دعوتكم للإستماع لهذين العالمين ، فهذا التونسي عرفته من قديم ولكنّي فوجئت بأنه شيعي يتبع أهل البيت ،(عليهم السلام) وهذا صديقنا السعودي ، وكلّكم تعرفونه وتعرفون عقيدته ، فما علينا إلاّ الاستماع إليهما ، وإلى ما يدليان به من حجج إلى أن يفرغا من بحثهما ويستوفيا ما عندهما ، بعد ذلك نفسح المجال للنقاش ليشارك فيه كل من أراد .

____________

1- سورة الجن ، الآية : 18 .


الصفحة 172

توسل الصحابة بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)

شكرناه على هذا الأسلوب وهذا اللطف ، وواصلنا الحديث فقلت : أنا أوافقك على أنّ الله سبحانه هو وحده النّافع والضارّ ولا أحد غيره ، ولا يخالفك أحدٌ من المسلمين في ذلك ، إنّما اختلافنا في التوسّل ، فالذي يتوسّل برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مثلا يعرف أنّ محمّداً لا ينفع ولا يضرّ ، ولكنّ دعاءه مستجاب عند الله ، فإذا سأل محمّدٌ ربّه قائلا : اللهم ارحم هذا العبد ، أو اغفر لهذا العبد ، أو اغني هذا العبد ، فإنّ الله سبحانه يستجيبُ له ، والرّوايات الصحيحة الواردة في هذا المعنى كثيرة جداً ، منها : أنّ أحد الصحابة كان أعمى فجاء إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)وطلب منه أن يدعو الله له ليفتح بصره ، فأمره الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بأن يتوضّأ ويصلّي لله ركعتين ، ثم يقول : اللهم إني أتوسّل إليك بحبيبك محمّد إلاّ ما فتحت بصري ففتح الله بصرهُ(1) .

____________

1- روى الترمذي في السنن : 5/229 ح3649 بالإسناد عن عثمان بن حنيف : أن رجلا ضرير البصر أتى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال : ادع الله أن يعافيني ، قال : إن شئت دعوت ، وإن شئت صبرت فهو خير لك ، قال : فادعه ، قال : فأمره أن يتوضأ فيحسن وضؤه ويدعوه بهذا الدعاء : اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمّد نبي الرحمة ، إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه لتقضي لي ، اللهم فشفعه في . قال : هذا حديث حسن صحيح .

ورواه ابن ماجة في السنن : 1/441 ح1385 وقال : قال أبو إسحاق : هذا حديث صحيح ، ومسند أحمد بن حنبل : 4/138 ، السنن الكبرى ، النسائي : 6/169 ح10494 ـ 10496 ، أسد الغابة ، ابن الأثير : 3/371 ، تأريخ دمشق ، ابن عساكر : 6/24 ، المستدرك ، الحاكم النيسابوري : 1/313 ، وقال : هذا صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ، ورواه أيضاً في ص519 .

ورواه في ص526 وجاء في الحديث بعد الدعاء : فدعا بهذا الدعاء فقام وقد أبصر ، ورواه أيضاً ثانية في نفس الصفحة وجاء في آخره : قال عثمان : فو الله ما تفرقنا ولا طال بنا الحديث حتى دخل الرجل وكأنه لم يكن به ضر قط ، ثم قال الحاكم : هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه .


الصفحة 173

وكذلك ثعلبة ذلك الصحابي الفقير المعدوم الذي جاء للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وطلب منه أن يسأل الله له الغنى لأنه يحبّ أن يتصدّق ، ويكون من المحسنين ، وسأل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ربّهُ فاستجاب له ، وأغنى ثعلبة ، فأصبح من الأغنياء حتّى ضاقت بأنعامه أرجاء المدينة فلم يعد يحضر الصّلاة ، ومنع إعطاء الزكاة . والقصة معروفة ومشهورة عند النّاس كافة(1) .

كذلك كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يوماً يصف لأصحابه نعيم الجنّة ، وما أعدّه الله سبحانه لسكّانها ، فقام عكاشة فقال : يا رسول الله أدعو الله أن يجعلني منهم ، فقال رسول الله : اللهمّ اجعله منهم ، فقام آخر فقال : وأنا يا رسول الله ، فقال : لقد سبقك بها عكاشة(2) .

ففي الرّوايات الثلاثة دليل قاطع على أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) جعل نفسه واسطة بين الله والعباد .

الاحتجاج بالآيات الشريفة على مشروعية التوسل

قاطعني الوهابيّ بقوله : أنا أستدل عليه بالقرآن الكريم ، وهو يستدل عليَّ بالأحاديث الضعيفة التي لا تسمن ولا تغني من جوع .

____________

1- أسباب النزول ، الواحدي : 170 ـ 172 ، تفسير القرطبي : 8/209 ، الدر المنثور ، السيوطي : 260 ـ 261 ، تفسير ابن كثير : 2/388 ، في تفسير قوله تعالى : (وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ) سورة التوبة ، الآية : 75 ، أسد الغاية ، ابن الأثير : 1/237 .

2- مسند أحمد بن حنبل : 1/420 ، صحيح البخاري : 7/40 ، صحيح مسلم : 1/136 ، المستدرك ، الحاكم : 3/228 .


الصفحة 174

قلت : القرآن الكريم يقول : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ}(1) .

قال : الوسيلة هي العمل الصالح !

قلت : آيات العمل الصالح كثيرة ومحكمة ففيها يقول سبحانه : {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}(2) ولكن في هذه الآية قال : {وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ}وفي آية أخرى قال : {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ}(3) .

وهاتان الآيتان تفيدان البحث عن وسيلة يتوسل بها إليه سبحانه ، وذلك مع التقوى والعمل الصالح ألم تر أن الله قال : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ}(4) فقدّم الإيمان والتقوى على ابتغاء الوسيلة ؟

قال : أكثر العلماء يفسّرون الوسيلة بالعمل الصالح .

قلت : دعنا من التفسير وأقوال العلماء ، ما رأيك لو أثبت لك الوساطة من القرآن نفسه ؟

قال : مستحيل إلاّ أن يكون قرآن لا نعرفه !

قلت : أعرف ماذا تقصد ، سامحك الله ، ولكنّي سوف أثبت ذلك من القرآن الذي نعرفه جميعاً ، ثم قرأتُ {قَالُواْ يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ * قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّيَ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}(5) فلماذا لم يقل سيدنا يعقوب نبي الله

____________

1- سورة المائدة ، الآية 35 .

2- سورة البقرة ، الآية : 25 .

3- سورة الإسراء ، الآية : 57 .

4- سورة المائدة ، الآية : 278 .

5- سورة يوسف ، الآية : 97 و 98 .


الصفحة 175

(عليه السلام) لأولاده : استغفروا الله وحدكم ، ولا تجعلوني وسيطاً بينكم وبين خالقكم ، بل أقرّهم على تلك الوساطة فقال : ( سوف أستغفر لكم ربّي ) فجعل نفسه بذلك وسيلة إلى الله لأولاده ؟!

أحسّ الوهّابي بحرج لدفع هذه الآيات البيّنات التي لا مجال للتشكيك فيها ، ولا لتأويلها فقال : ما لنا وليعقوب (عليه السلام) وهو من بني إسرائيل ، وقد نُسخت شريعته بشريعة الإسلام .

قلت : سأعطيك الدليل من شريعة الإسلام ، من شريعة نبي الإسلام محمّد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) .

قال : نستمع إليك .

فقلت : {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّاباً رَّحِيماً}(1) .

فلماذا يأمرهم الله بالمجيء إلى الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ليستغفروا عنده ، ثم يستغفر لهم الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فهذا دليل قاطع على أنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) هو واسطتهم إلى الله ولا يغفر الله لهم إلاّ به .

اعتراف السلفي بالتوسل في حياة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)

فقال الحاضرون : هذا دليل ما بعده دليل ، وأحسّ الوهابيّ بالهزيمة فاستطرد يقول : ذاك صحيح عندما كان حيّاً ، ولكن الرّجال مات منذ أربعة عشر قرناً .

____________

1- سورة النساء ، الآية : 64 .


الصفحة 176

قلت مستغرباً : كيف تقول عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) رجّال مات ؟! رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حيّ وليس بميّت .

فضحك من قولي مستهزءاً قائلا : القرآن قال له : {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ}(1) .

قلت : والقرآن نفسه يقول : {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}(2) وقال : {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ}(3) .

قال : هذه الآيات تتكلّم عن الشهداء الذين يقتلون في سبيل الله ، ولا علاقة لها بمحمّد .

قلت : سبحان الله ، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله ، أأنت تنزل بمرتبة النبي محمّد حبيب الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى درجة هي أقل من رتبة الشهيد ، وكأنّك تريد أن تقول بأن أحمد بن حنبل مات شهيداً ، فهو حيّ عند ربّه يرزق ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ميّتٌ كسائر الأموات ؟!

قال : هذا ما يقوله القرآن الكريم .

قلت : الحمد لله أن كشف لنا عن هويّتكم ، وعرّفنا على حقيقتكم بألسنتكم ، وقد حاولتم جهودكم طمس آثار الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ووصل الأمر بكم أن حاولتم إعفاء قبره ، كما أعفيتم البيت الذي ولد فيه .

وهنا تدخَّل صاحب البيت ليقول لي : لا نخرج عن دائرة القرآن والسنّة

____________

1- سورة الزمر ، الآية : 30 .

2- سورة آل عمران ، الآية : 169 .

3- سورة البقرة ، الآية : 154 .


الصفحة 177

وهذا ما اتفقنا عليه .

اعتذرت وقلت : المهمّ أنّ صاحبنا اعترف بالوسيلة في حياة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)ونفاها بعد وفاته .

فقال الحاضرون جميعاً : وهو كذلك ، وسألوه من جديد : أنت وافقت بأنّ الوساطة كانت جائزة في حياة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ؟

أجاب : كانت جائزة في حياته وهي غير جائزة الآن بعد وفاته (صلى الله عليه وآله وسلم) .

فقلت : الحمد لله ، لأول مرّة تعترف الوهابيّة بالوسيلة وهذا فتح كبير .

واسمحوا لي بأن أضيف أنّ الوسيلة جائزة حتى بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) .

قال الوهّابي : والله لا يجوز ، ذلك من الشرك .

فقلت : مهلا ، ولا تتسرّع وتقسم فتندم على ذلك .

قال : هات الدليل من القرآن .

قلت : أنت تطلب المستحيل لأنّ نزول الوحي انقطع بوفاة محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فلا بد من الإستدلال من كتب الحديث .

فقال : نحن لا نقبل الحديث إلاّ إذا كان صحيحاً ، أمّا ما يقوله الشيعة فلا نعتبره شيئاً .

توسل عمر بن الخطاب بالعباس عم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)

قلتُ : هل تثق في صحيح البخاري ، وهو أصح الكتب عندكم بعد كتاب الله ؟

قال مستغرباً : البخاري يقول بجواز الوسيلة ؟!

قلتُ : نعم يقول بذلك ، ولكن مع الأسف لا تقرأون ما في صحاحكم ،


الصفحة 178

ورغم ذلك تعاندون تعصّباً لأرائكم فقد أخرج البخاري في صحيحه أنّ عمر بن الخطاب كان إذا قحطوا استسقى بالعبّاس بن عبد المطّلب فقال : اللهمّ إنّا كنّا نتوسّل إليك بنبيّنا (صلى الله عليه وآله وسلم) فتسقينا وإنّا نتوسّل إليك بعمّ نبيّنا فاسقنا ، قال : فيسقون "(1) .

ثم قلت له : هذا عمر بن الخطّاب وهو عندكم أعظم الصّحابة ولا شك عندك في إخلاصه ، وقوة إيمانه ، وحسن عقيدته ، فإنكم تقولون : لو كان نبي بعد محمّد لكان عمر بن الخطاب(2) ، وأنت الآن بين أمرين لا ثالث لهما ، إمّا أن تعترف بأنّ التوسل هو من صميم الدين الإسلامي ، وقول عمر بن الخطّاب : إنّا كنا نتوسل إليك بنبيّنا ، وإنا نتوسل إليك بعمّ نبيّنا ، هو إقرارٌ بالتوسّل في حياة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وبعد حياة النبيّ ، وإمّا أن تقول : بأنّ عمر بن الخطاب مشرك ، لأنه جعل العبّاس بن عبد المطلب وسيلته إلى الله ، والعبّاس كما هو معلوم ليس بنبيّ ولا إمام ، وليس هو من أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرّجس وطهّرهم تطهيراً .

أضف إلى ذلك أنّ البخاري وهو إمام المحدّثين عندكم الذي أخرج هذه القصة معترفاً بصحّتها ، ثم أضاف بقوله : كانوا إذا قحطوا استسقوا بالعبّاس

____________

1- صحيح البخاري : 2/16 ، 4/209 ، السنن الكبرى ، البيهقي : 3/352 ، المعجم الكبير ، الطبراني : 1/72 ح84 ، الطبقات الكبرى ، ابن سعد 4/28 ـ 29 ، تاريخ دمشق ، ابن عساكر : 26/355 ، ذخائر العقبى ، الطبري : 198 ـ 199 .

2- راجع : مسند أحمد بن حنبل : 4/154 ، المعجم الكبير ، الطبراني : 17/180 ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 12/178 ، تذكرة الموضوعات ، الفتني ، 94 ، فيض القدير ، المناوي : 5/414 ح7469 ، كشف الخفاء ، العجلوني : 2/154 ح2094 .


الصفحة 179

فيسقون ، ويعني بذلك أن الله يستجيب لهم .

فالبخاري والمحدّثين من الصحابة الذين رووا هذا وكل أهل السنة والجماعة الذين يعتقدون صحة البخاري كلّهم عندكم مشركون ؟!

قال الوهّابي : لو صحّ هذا الحديث فهو حجّة عليك .

قلت : وكيف يكون حجّةً عليَّ ؟!

قال : لأن سيدنا عمر لم يتوسّل بالنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) لأنه ميّتٌ ، وتوسل بالعباس لأنه حيّ .

قلت : إنّ عمل وقول عمر بن الخطّاب ليس عندي بحجة ، ولا أقيم له وزناً ، وإنّما استعرضت هذه الرواية للإستدلال بها على موضوع البحث ، وهو إنكارك وإنكار كل علمائكم التوسّل ، واعتباره شركاً بالله .

وإني أتساءل لماذا لم يتوسّل عمر بن الخطاب أثناء القحط بعلي بن أبي طالب (عليه السلام) الذي هو من محمّد كمنزلة هارون من موسى ، ولم يقل أحدٌ من المسلمين بأنّ العبّاس أفضل من عليّ ، ولكن هذا موضوع آخر لا يهمّنا في هذا البحث ، ونكتفي بالقول : بأنكم الآن تعترفون بالوسيلة بالأحياء ، فهذا بالنسبة إليَّ انتصارٌ كبير أحمد الله عليه أن جعل حجتنا هي البالغة ، وجعل حجتكم هي الباطلة(1) .

____________

1- كل الحلول عند آل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ، الدكتور التيجاني : 229 ـ 237 .


الصفحة 180

المناظرة الثالثة والعشرون

مناظرة
الدكتور التيجاني مع بعض السلفيّة
في مشروعيّة زيارة القبور


قال الدكتور التيجاني : والأحاديث في هذا الباب كثيرة جدّاً ملأت كتب الصحاح عند أهل السنّة وعند الشيعة(1) .

ولكن الوهابيّة تنكرها ولا تقيم لها وزناً وقد قال لي بعضهم عندما حاججتهم بهذه الأحاديث فقال : أنَّها نسخت .

فقلت : بالعكس التحريم هو المنسوخ ، لأن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : كنت نهيتكم عن زيارة القبور ، الآن فزوروها فإنها تذكّركم بالموت(2) .

قال : هذا الحديث يعني به الرّجال دون النساء .

قلت : قد ثبت في التأريخ وعند المحققين من أهل السنّة بأنّ فاطمة الزهراء سلام الله عليها كانت في كل يوم تزور قبر أبيها فتبكي وتقول :

____________

1- يعني الأحاديث المصرحة بجواز زيارة القبور .

2- مسند أحمد بن حنبل : 1/145 ، صحيح مسلم : 3/65 ، سنن ابن ماجة : 1/501 ح1571 ، سنن الترمذي : 2/259 ح1060 ، المستدرك ، الحاكم : 1/374 ـ 376 ، المعجم الكبير ، الطبراني : 5/82 ح4648 .


الصفحة 181


صُبَّت عليّ مصائبٌ لو أنها صُبّت على الأيام صرن لياليا(1)

والمعروف بأن عليّاً (عليه السلام) بنى لها بيتاً يسمى بيت الأحزان فكانت تقضي جلّ أوقاتها في البقيع(2) .

قال : وعلى فرض صحة الرّواية فهي تخص فاطمة (عليها السلام) وحدها .

إنّه التعصّب الأعمى مع الأسف ، وإلاّ كيف يتصوّر مسلمٌ أن يمنع الله ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) المرأة المسلمة من زيارة قبر أبيها ، أو قبر أخيها ، أو قبر ولدها ، أو قبر أمّها ، أو قبر زوجها ، فتترحّم عليهم وتستغفر لهم ، وتسيل عليهم دموع الرّحمة ، وتتذكر هي الأخرى الموت والآخرة ، كما يتذكر الرّجل ، إنّه ظلمٌ للمرأة المسلمة المسكينة ، ولا يرضاه الله ، ولا يرضاه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، ولا يرضاه أهل العقول السليمة(3) .

____________

1- مناقب آل أبي طالب ، ابن شهر آشوب : 1/208 ، نظم درر السمطين ، الزرندي : 181 ، أعلام النبلاء ، الذهبي : 2/134 .

2- بحار الأنوار ، المجلسي : 43/177 ـ 178 .

3- كل الحلول عند آل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ، الدكتور التيجاني : 266 ـ 267 .


الصفحة 182

المناظرة الرابعة والعشرون

مناظرة
الدكتور أسعد القاسم الفلسطيني مع دكتور أردني
في حديث ( الخلفاء إثنا عشر )


يقول الدكتور أسعد القاسم(1) : من الحوادث أذكر منها مناقشتي لدكتور معروف في كليَّة الشريعة بالجامعة الأردنية ، لا داعي لذكر اسمه ، حيث زار مانيلا قبل عشر سنوات ، وألقى محاضرة للطلبة العرب ، تعرَّض فيها لأحوال المسلمين عموماً ، وكان مما قاله : أن معركة المسلمين مع الشيعة معركة عقيدة .

وبعد انتهاء المحاضرة طلبت مناقشته فيما قال ، فكان همُّه معرفة إن كنت شيعيّاً أم سنّياً ، وعندما حاصرته بالأدلّة القويّة حاول في البداية تبريرها بقوله : ومن منّا لا يحب أهل البيت(عليهم السلام) .

____________

1- هو : الدكتور أسعد وحيد القاسم ، من مواليد فلسطين 1965 م ، حاصل على بكالوريوس في الهندسة المدنيَّة ، وما جستير في إدارة الإنشاءات ، ودكتوراة في الإدارة العامة ، دفعه اطّلاعه على بعض كتب السلفيّة التي تهاجم مذهب أهل البيت(عليهم السلام)إلى قراءة كتاب المراجعات وكتباً أخرى ، ثمَّ تحقَّق مما جاء فيها من صحاح السنة ، وهو الأمر الذي قاده إلى إعلان تشيُّعه بعد بحث مستفيض طال سنتين ، له كتاب : تحليل نظم الإدارة العامة في الإسلام ، وهي رسالة الدكتوراة ، وكتاب : حقيقة الشيعة الاثني عشرية ، وكتاب : أزمة الخلافة والإمامة وآثارها المعاصرة . عن كتاب : المتحوِّلون : 485 .


الصفحة 183

وعندما واجهته بالأحاديث التي توجب اتبّاعهم بالعمل ، وليس بمجرِّد الادّعاء حاول أن ينهي النقاش ، وعندما ذكرت له الأحاديث الدالّة على عدد الأئمة الاثني عشر(عليهم السلام) ، وسألته : من هم هؤلاء الأئمَّة أو الأمراء كما ذكر البخاري ؟ كان جوابه :

هذا الحديث من عقلك ، وليس له وجود عندنا ، ثمَّ سحب نفسه من المناقشة تاركاً الطلبة يهزّوا رؤوسهم استغراباً .

وكان لهذه الحادثة الأثر الكبير في تحفيزي للمزيد من البحث ما دامت المسألة على هذه الدرجة من الخطورة(1) .

السبب الذي دعاني إلى التشيع

ويقول الدكتور أسعد في بيان السبب الذي دعاه إلى التشيُّع : إن الدافع كان واحداً ليس له ثاني ، وهو رؤيتي ـ بما لا يقبل الشك ، والدليل والبرهان القاطع ـ وجوب اتّباع أهل البيت(عليهم السلام)الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهَّرهم تطهيراً ، فماذا بعد التمعُّن بقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) في خطبة حجة الوداع : إني تارك فيكم الثقلين ما إن تمسَّكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً : كتاب الله وعترتي أهل بيتي(2) .

فهذا القول المعروف بحديث الثقلين يرسم المنهاج بإطاره العام ، ثمَّ يخصّص بقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) : من كنت مولاه فهذا عليٌّ مولاه ، اللهم والِ من والاه وعادِ من عاداه(3) ، وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) : أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلاَّ أنه لا نبيَّ

____________

1- المتحولون ، الشيخ هشام آل قطيط : 483 ـ 484 .

2- تقدَّمت تخريجاته .

3- روى أحمد بن حنبل في مسنده : 4/281 : عن البراء بن عازب قال : كنّا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)في سفر ، فنزلنا بغدير خمٍّ ، فنودي فينا : الصلاة جامعة ، وكسح لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تحت شجرتين ، فصلَّى الظهر ، وأخذ بيد علي (عليه السلام) فقال : ألستم تعلمون أني أولى بالمؤمنين من أنفسهم ؟ قالوا : بلى ، قال : ألستم تعلمون أني أولى بكل مؤمن من نفسه ؟ قالوا : بلى ، قال : فأخذ بيد علي ، فقال : من كنت مولاه فعليٌّ مولاه ، اللهم والِ من والاه ، وعادِ من عاداه . قال : فلقيه عمر بعد ذلك فقال له : هنيئاً يا ابن أبي طالب ! أصبحت وأمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة .

ورواه أيضاً الحاكم النيسابوري في المستدرك : 3/109 عن زيد بن أرقم مثله ، وقال : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه بطوله .

وروى أحمد بن حنبل أيضاً في مسنده : 1/118 عن سعيد بن وهب ، وعن زيد بن يثيع قالا : نشد علي (عليه السلام) الناس في الرحبة : من سمع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول يوم غدير خم إلاَّ قام ، قال : فقام من قبل سعيد ستة ، ومن قبل زيد ستة ، فشهدوا أنهم سمعوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول لعلي (عليه السلام) يوم غدير خم : أليس الله أولى بالمؤمنين ؟ قالوا : بلى ، قال : اللهم من كنت مولاه فعليٌّ مولاه ، اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه .

وهذا الحديث من المتواترات ، وقد ذكرته جلَّ المصادر ، ونذكر منها مايلي :

فضائل الصحابة ، أحمد بن حنبل : 15 ، المصنّف ، ابن أبي شيبة الكوفي : 7/499 ح28 و503 ح55 ، السنن الكبرى ، النسائي : 5/45 ح8148 و134 ح8478 ، مسند أبي يعلى الموصلي : 1/429 ، صحيح ابن حبان : 15/376 ، المعجم الكبير ، الطبراني : 2/357 ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 2/289 ، مجمع الزوائد ، الهيثمي : 1/9 ، ذخائر العقبى ، أحمد بن عبدالله الطبري : 67 .


الصفحة 184

بعدي(1) ، وغير ذلك الكثير من التوجيهات النبوّيّة التي تضع النقاط على الحروف ، فكلمة " بعدي " توضح أن علياً (عليه السلام) كان وصيّاً للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) كما كان هارون ليكون خليفة له وإماماً على الأمة بعده .

وهناك العديد من الروايات الموثَّقة أيضاً في الصحاح ، تشير إلى أن عدد الأئمة(عليهم السلام)اثنا عشر ، وكان علماء أهل السنة على مرّ التأريخ مازالوا في حيرة أمام هذا الرقم الصعب دون أن يجدوا له تفسيراً(2) .

____________

1- تقدَّمت تخريجاته .

2- المتحوِّلون ، الشيخ هشام آل قطيط : 472 ـ 473 .


الصفحة 185

المناظرة الخامسة والعشرون

مناظرة
السيّد حسين الرجا السوري مع بعض علماء العامّة
في أن الخليفة عمر شهر سيفه بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
وقال إنَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يمت


قال السيِّد حسين الرجا(1) : أبلغني ذات يوم أحد المحبّين الغيارى أنّه يعتزم عقد لقاء بيني وبين أحد العلماء ، فقلت له : ياليت ، فإن وضح الحق وشفيت نفسي لك الأجر والثواب ، وإنني خائف من زلّة القدم ، ولكنني أطلب منك أن يحضر ندوة الحوار بعض المثقَّفين ; لأنهم أقدر على الفهم فيحكموا لي أو عليَّ .

وبعد أيام أبلغني بأنَّه عيَّن العالم والزمان والمكان ، فذهبنا في الوقت المحدَّد ، ووجدنا الشيخ بالانتظار ، وقد حضر أحد المثقَّفين ، وكان عدد الحضور سبعة رجال ، وما أن استقرَّ بنا المجلس إلاَّ ونطق أحدهم قائلا : شيخنا ! هذا السيِّد الذي كلَّمناك بشأنه ، وعندها بدأنا الكلام ، وإليك عزيزي القارئ نصَّ الحوار بكامله .

أشاح الشيخ بوجهه ناظراً إلى وجهي فقال : {هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ

____________

1- من منطقة دير الزور حطلة ، ومؤلِّف كتاب : دفاع من وحي الشريعة ضمن دائرة السنة والشيعة .


الصفحة 186

صَادِقِينَ}(1) .

فقلت له : شيخنا ! أصحيح أن عمر بن الخطاب دخل على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)فوجده ميِّتاً مسجَّى ببردته ، فأغلق الباب عليه ، وشهر سيفه ، يهدِّد الناس ، ويمنعهم من القول بأن محمّداً قد مات ، ويقول : من قال إن محمّداً قد مات ضربته بسيفي هذا ، محمّد لم يمت ، إنما ذهب إلى ميقات ربِّه كموسى بن عمران ، وسيرجع بعد أربعين يوماً ، فيقطع أيدي رجال وأرجلهم ؟(2)

فقال : نعم ، هذا الحديث صحيح لا غبار عليه .

فقلت له : شيخنا ! هل الله قال : إن محمَّداً لم يمت ؟

قال : لا .

____________

1- سورة البقرة ، الآية : 111 .

2- جاء في صحيح البخاري : 4/193 : قال عمر : والله ما مات رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وليبعثنَّه الله ، فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم .

وفي رواية تاريخ اليعقوبي : 2/114 : قال : وخرج عمر فقال : والله ما مات رسول الله ولا يموت ، وإنما تغيَّب كما غاب موسى بن عمران أربعين ليلة ، ثمَّ يعود ، والله ليقطعن أيدي قوم وأرجلهم ، وقال أبو بكر : بل قد نعاه الله إلينا فقال : (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ) فقال عمر : والله لكأني ما قرأتها .

وفي رواية الآحاد والمثاني للضحاك : 3/13 ، قال : ثمَّ إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قبض ، فقال عمر : والله لا أسمع أحداً يذكر أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قبض إلاَّ ضربته بسيفي هذا .

وراجع أيضاً : السنن الكبرى ، النسائي : 4/263 ، أسد الغابة ، ابن الأثير : 2/248 ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 2/40 .

وفي شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : 1/178 : لمَّا مات رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وشاع بين الناس موته ، طاف عمر على الناس قائلا : إنه لم يمت ، ولكنه غاب عنّا كما غاب موسى عن قومه ، وليرجعن فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم ، يزعمون أنه مات ، فجعل لا يمرُّ بأحد يقول إنه مات إلا ويخبطه ويتوعَّده ، حتى جاء أبو بكر ، فقال : أيُّها الناس ! من كان يعبد محمّداً فإن محمّداً قد مات ، ومن كان يعبد ربَّ محمّد ، فإنه حيٌّ لم يمت .. إلخ .


الصفحة 187

قلت : فهل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : إني لم أمت ؟

قال : لا .

قلت : فهل جبرئيل نزل على عمر فقال له : إن محمَّداً لم يمت ؟

قال : لا .

قلت : أما كان عمر يقرأ قول الله : {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ}(1) معنى ذلك أن عمر تكلَّم بما لا يتطابق مع الواقع ، بل تكلَّم ضدَّ الله ورسوله وجبرئيل والقرآن .

ثمَّ سكتُّ قليلا أنتظر الجواب ، ووجه الشيخ يتغيَّر ، وقبل أن يتكلَّم قلت : اللّهم إلاَّ أن يقال : إن عمر كان يهجر ، وحتى هذا الاعتذار ساقط من الحسبان ; لأن الرجل عندما يهجر يختلُّ كلامه لفظاً ومعنى ; لأنه فاقد الشعور ، لا يدرك ما يقول ، وعلى عكس ما يقوله عمر ، حيث تكلَّم بكلام فصيح ، فلا ركّة في المعنى ،ولا هجر في القول .

ثمَّ سكتُّ قليلا أنتظر الجواب ، وإذا بالشيخ ينظر إلى الساعة في يده قائلا : عندي موعد ، يا الله ، فنهض قائماً فتفرَّقنا بلا عودة .

ثمَّ التقيت بالرجل المثقَّف ، فقلت له : بماذا حكمت ؟

فقال : إذا كان دليل الشيعة هكذا ، وعلماء السنة هكذا ، فعلى هذا الأساس اعتبرني شيعيّاً ، وبعد مدّة استبصر ذلك المثقَّف ، والحمد لله(2) .

____________

1- سورة الزمر ، الآية : 30 .

2- دفاع من وحي الشريعة ، السيد حسين الرجا : 26 ـ 28 ، المتحولون ، الشيخ هشام آل قطيط : 365 ـ 366 .


الصفحة 188

المناظرة السادسة والعشرون

مناظرة
السيّد حسين الرجا مع بعض مشايخ السنّة
في صحّة مذهب الشيعة من كتب السنّة وأنهم على حق


قال السيِّد حسين الرجا : اصطحبني ذات ليلة أحد المحبّين إلى بيت أحد المشايخ لغرض الاستشفاء ، فاستقبلنا ورحَّب بنا ، فقبَّلت يده ، ولمَّا استقرَّ بنا المجلس قال الشيخ : يا حاج حسين ! أصحيح ما سمعناه عنك ؟

فقلت له : نعم شيخنا .

فقال : تكلَّم لنا كيف استحوذ عليك الشيعة بأعظم مصيبة ، هي المصيبة في الدين ؟

فقلت له : شيخنا ! لقد قرأت بعض كتبهم العقيديّة والجدليّة والتأريخيّة وسيرة الصحابة وغيرها ، فوجدتهم يثبتون صحّة مذهبهم من كتب أهل السنة ، وبالأخصّ صحيحي مسلم والبخاري وسائر الكتب الستة . وكذلك يثبتون غلط مذاهب أهل السنة من كتبهم .

ولقد راجعت الكثير فوجدته كما يقولون ، وكلَّما يزداد شكّي في التسنُّن يزداد يقيني في التشيُّع ، وفي مثل هذه القضايا تزلُّ الأقدام ، فخفت على نفسي من زلَّة القدم ، وأصبحت مريضاً ولا علاج لي إلاَّ عند العلماء ، وإلاَّ فمرضي لا


الصفحة 189

ترجى براءته .

فأطرق الشيخ دقيقة صمت ، ثمَّ نظر إليَّ نظر العالم المتمكِّن والمتحدّي ، فقال : يا حاج حسين ! لا يمكن أن الصحابة يغلطون أو يزلّون ، وإذا الصحابة يغلطون أو يزلّون ، أو يأثمون ويجرمون ، أو يتعاطون المعاصي فأنا أشرط عمامتي وأضعها في بيت الماء ـ يعني يمزِّقها ويضعها في المرحاض .

ولمَّا أنهى الشيخ كلامه أطرقت رأسي ، ولم أردَّ جواباً ، وشرع ذهني يتجوَّل بين ثلاثة محاور ، تارة في مكتبة الشيخ التي تضمُّ صحيحي مسلم والبخاري ، وتارة في عمامته التي أصيغت على طراز أبدع ما تصاغ به العمائم ، وثالثة أفكِّر في المرحاض الذي لا يبعد كثيراً عن مجلس الحوار ، فأخذني صراع داخلي ، فتارة تحمل عليَّ نفسي فأكاد أن أقول للشيخ : آتني بمجلَّد كذا ورقم كذا وباب كذا وكذا في مسلم والبخاري ، وتارة أحمل عليها فأسكتها ، فو الله ما منعني عن ردّ التحدّي إلاَّ شيمي وأخلاقي ، ولأن الردَّ خطير .

وبعد الحوار الذي هو أقرب إلى كونه صبياني تفرَّقنا ، ولمَّا دخلت بيتي وأخذت مضجعي أدركتني بركة الشيخ ، فاستفدت كثيراً ، غير أنها من نوع سلبي ونتيجة عكسيَّة ، حيث قرَّرت أن لا أموت إلاَّ شيعيّاً على طريق محمَّد (صلى الله عليه وآله وسلم) .

وعلمت أن الشيخ مأسور الفكر والدراسة ، وأدركت أن كثيراً ما يوجد في العالم الإسلامي من عالم بلا علم ، وعمامة بلا معمَّم ، وأيقنت أن طلب العلم للعلم هو غيره عن طلب العلم للوظيفة والاكتساب(1) .

____________

1- دفاع من وحي الشريعة ، السيد حسين الرجا : 28 : 30 ، المتحوِّلون ، الشيخ هشام آل قطيط : 366 ـ 367 .


الصفحة 190

المناظرة السابعة والعشرون

مناظرة
الكاتب الأستاذ إدريس الحسني المغربي
مع بعضهم في معاوية والحجّاج


قال الأستاذ إدريس الحسيني(1) : جاءني يوماً أحد أصدقائي الطلبة ، يسألني عن معاوية وقتاله لعلي (عليه السلام) في صفين ، وقبل أن أباشر في الجواب نطق أحد الحاضرين قائلا : اللعنة عليه ، فخزرت فيه ، ثم قلت : أعوذ بالله ، لماذا تلعنه ؟

قال : لأنه قاتل علياً (عليه السلام)(2) .

____________

1- هو : الأستاذ الكاتب والصحافي السيّد إدريس بن محمّد بن أحمد العشاقي المغربي الحسيني الإسماعيلي ، من نسل إسماعيل ابن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) ، من مواليد نكسة 1967 ، بمدينة مولاي إدريس ، ويحضر حالياً بحوث الخارج في الحوزة العلميّة في منطقة السيِّدة زينب (عليها السلام)في الشام ، وله عدة مؤلَّفات منها : كتاب لقد شيَّعني الحسين (عليه السلام) ، وكتاب الخلافة المغتصبة ، وله كتاب رد على أحمد الكاتب ( المتحوِّلون : 265 ـ 266 ) .

2- قال ابن أبي الحديد : وكان معاوية على أسّ الدهر مبغضاً لعلي (عليه السلام) ، شديد الانحراف عنه ، وكيف لا يبغضه ، وقد قتل أخاه حنظلة يوم بدر ، وخاله الوليد بن عتبة ، وشرك عمَّه في جدِّه وهو عتبة ، أو في عمِّه وهو شيبة ، على اختلاف الرواية ، وقتل من نبي عمِّه عبد شمس نفراً كثيراً من أعيانهم وأماثلهم ، ثمَّ جاءت الطامة الكبرى واقعة عثمان ، فنسبها كلها إليه بشبهة إمساكه عنه ، وانضواء كثير من قتلته إليه (عليه السلام) ، فتأكَّدت البغضة ، وثارت الأحقاد ، وتذكرت تلك الترات الأولى ، حتى أفضى الأمر إلى ما أفضى إليه .

وقد كان معاوية مع عظم قدر علي (عليه السلام) في النفوس ، واعتراف العرب بشجاعته ، وأنه البطل الذي لا يقام له يتهدَّده ـ وعثمان بعد حيٌّ ـ بالحرب والمنابذة ، ويراسله من الشام رسائل خشنة .

إلى أن قال : ومعاوية مطعون في دينه عند شيوخنا ، يرمى بالزندقة ، وقد ذكرنا في نقض السفيانية على شيخنا أبي عثمان الجاحظ ما رواه أصحابنا في كتبهم الكلاميّة عنه من الإلحاد والتعرُّض لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وما تظاهر به من الجبر والإرجاء ، ولو لم يكن شيءٌ من ذلك لكان في محاربته الإمام (عليه السلام) ما يكفي في فساد حاله ، لا سيما على قواعد أصحابنا ، وكونهم بالكبيرة الواحدة يقطعون على المصير إلى النار والخلود فيها ، إن لم تكفِّرها التوبة . شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد 1/338 ـ 340 .


الصفحة 191

قلت له : ومع ذلك ، فإن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول : لا تسبّوا أصحابي .

وبهذه الكلمة البائسة الغبيّة المصحوبة بتماوج كاريكاتوري يختزل وقاراً مصطنعاً .. استطعت أن أسكت صديقنا(1) .

قال إدريس الحسيني في موضع آخر : وذات مرَّة قلت لأحد المشائخ الكبار : عجباً ! لست أدري كيف يقبل المسلمون بأمثال الحجاج بن يوسف الثقفي ، ذلك السفاح ، ما وقَّر عالماً ولا عاميّاً ؟(2)

فقال شيخنا الموقَّر : أعوذ بالله ، نحن السنة والجماعة نعتقد في إيمانه وإسلامه ، وقد قال فيه العلماء خيراً رغم كل ذلك ، فهو من الصالحين ، لأنه شكل القرآن ؟(3) .

ويقول السيد إدريس الحسيني في كتابه القيِّم ( لقد شيَّعني الحسين (عليه السلام) )

في سبب تشيُّعه وأخذه بمذهب أهل البيت(عليهم السلام) : ما إن خلصت من قراءة مذبحة

____________

1- كتاب لقد شيعني الحسين (عليه السلام) ، الكاتب والصحفي إدريس الحسيني : 46 .

2- راجع جملة من أخبار الحجاج في التأريخ وموبقاته بعد هذه المناظرة .

3- كتاب لقد شيَّعني الحسين (عليه السلام) ، الكاتب إدريس الحسيني : 49 .


الصفحة 192

كربلاء بتفاصيلها المأساويّة حتى قامت كربلاء في نفسي وفكري ، ومن هنا بدأت نقطة الثورة ; الثورة على كل مفاهيمي ومسلَّماتي الموروثة ; ثورة الحسيني (عليه السلام) داخل روحي وعقلي ، إلى أن يقول : فكربلاء مدخلي إلى التأريخ ، إلى الحقيقة ، إلى الإسلام ، فكيف لا أجذب إليها جذبة صوفي رقيق القلب ، أو جذبة أديب مرهف الشعور ؟! وتلك هي المحطة التي أردت أن أنهي بها كلامي عن مجمل معاناة آل البيت(عليهم السلام) ، وظروف الجريمة التأريخية ضدَّ نسل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) .

والسؤال الذي يفرض نفسه هنا هو : من قتل الحسين (عليه السلام) ؟ أو بتعبير أدقّ من قتل من ؟ نحن لا نشك في أن مقتل الحسين (عليه السلام) هو نتيجة وضع يمتدُّ بجذوره إلى السقيفة ، إلى أخطر قرار صدر بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وكان ضحيَّته الأولى : آل البيت(عليهم السلام) ، ونلاحظ من خلال حركة التاريخ الإسلامي أن محاولة تهميش آل البيت ، وقمع رموزهم بدأ منذ السقيفة ، ورأيي لو جازف الإمام علي وفاطمة الزهراء (عليهما السلام) لكان فعلا أحرقوا عليهم الدار ، ولكان شيء أشبه بعاشوراء وكربلاء الحسين (عليه السلام)(1) .

والجدير بالذكر هنا هو ما أنشده القاضي أبو بكر بن أبي قريعة ( المتوفَّى 367 ) في هذا المعنى ، حيث يقول :


يَا مَنْ يُسَائِلُ دائباً عن كلِّ مُعضِلَة سخيفه


لاَ تَكْشِفَنَّ مُغَطَّأً فَلَرَبَّما كَشَّفْتَ جِيْفَه


وَلَرُبَّ مَستُور بَدَا كالطبلِ مِنْ تَحْتِ القطيفه

____________

1- نفس المصدر : 315 و317 .