المناظرة الأُولى
مناظرة
أميرالمؤمنين (عليه السلام) مع أبي بكر في الخلافة
واحتجاجه عليه بثلاث وأربعين خصلة
روى الشيخ الصدوق عليه الرحمة عن جعفر بن محمّد ، عن أبيه ، عن جدِّه(عليهم السلام) قال : لمَّا كان من أمر أبي بكر وبيعة الناس له وفعلهم بعلي بن أبي طالب (عليه السلام) ما كان لم يزل أبو بكر يظهر له الانبساط ، ويرى منه انقباضاً ، فكبر ذلك على أبي بكر فأحبَّ لقاءه ، واستخراج ما عنده ، والمعذرة إليه لما اجتمع الناس عليه وتقليدهم إيَّاه أمر الأمَّة ، وقلَّة رغبته في ذلك وزهده فيه ، أتاه في وقت غفلة ، وطلب منه الخلوة ، وقال له : والله يا أبا الحسن ! ما كان هذا الأمر مواطاة منّي ، ولا رغبة فيما وقعت فيه ، ولا حرصاً عليه ، ولا ثقة بنفسي فيما تحتاج إليه الأُمَّة ، ولا قوَّة لي لمال ، ولا كثرة العشيرة ، ولا ابتزاز له دون غيري ، فمالك تضمر عليَّ ما لم أستحقَّه منك ، وتظهر لي الكراهة فيما صرت إليه ، وتنظر إليَّ بعين السأمة منّي ؟
قال : فقال له (عليه السلام) : فما حملك عليه إذا لم ترغب فيه ، ولا حرصت عليه ، ولا وثقت بنفسك في القيام به ، وبما يحتاج منك فيه ؟
فقال أبو بكر : حديث سمعته من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : إن الله لا يجمع أمّتي على ضلال(1) ، ولمّا رأيت اجتماعهم اتّبعت حديث النبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وأحلت أن يكون اجتماعهم على خلاف الهدى ، وأعطيتهم قود الإجابة ، ولو علمت أن أحداً يتخلَّف لا متنعت .
قال : فقال علي (عليه السلام) : أمَّا ما ذكرت من حديث النبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) : إن الله لا يجمع أمّتي على ضلال ; أفكنتُ من الأمَّة أو لم أكن ؟
قال : بلى .
قال : وكذلك العصابة الممتنعة عليك من سلمان وعمَّار وأبي ذر والمقداد وابن عبادة ومن معه من الأنصار ؟
قال : كلٌّ من الأمَّة .
فقال عليٌّ (عليه السلام) : فكيف تحتجُّ بحديث النبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمثال هؤلاء قد تخلَّفوا عنك ، وليس للأُمَّة فيهم طعن ، ولا في صحبة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ونصيحته منهم تقصير .
قال : ما علمت بتخلُّفهم إلاَّ من بعد إبرام الأمر ، وخفت إن دفعت عنّي الأمر أن يتفاقم إلى أن يرجع الناس مرتدّين عن الدين ، وكان ممارستكم إلى أن أجبتم
____________
1- أحكام القرآن ، الجصاص : 2/37 ، المعجم الكبير ، الطبراني : 2/280 ، الجامع الصغير ، السيوطي : 278 ح1818 ، كشف الخفاء ، العجلوني : 2/350 ح2999 ، قال الشيخ علي بن يونس العاملي عليه الرحمة في هذا الخبر في كتابه القيِّم الصراط المستقيم : 1/113 ـ 114 : هذا الخبر إن نقله بعض الأمّة فلا حجّة في نقله ، وإن نقله كلهم لزم إثبات الشيء بنفسه ; إذ لا يعلم حينئذ صحّة إجماعهم إلاَّ من إجماعهم ، ولو سلِّم صدوره عن النبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) فالوجه فيه أن الإمام المعصوم من جملة الأمَّة ، فلهذا لا تجتمع على ضلال ; لأنه إن دخل في أقوالهم فالحقُّ في قوله ، فلهذا قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : عليٌّ يدور مع الحق والحق معه ، وإن خرج فلا إجماع .
أهون مؤونة على الدين ، وأبقى له من ضرب الناس بعضهم ببعض ، فيرجعوا كفّاراً ، وعلمت أنك لست بدوني في الإبقاء عليهم وعلى أديانهم .
قال عليٌّ (عليه السلام) : أجل ، ولكن أخبرني عن الذي يستحقُّ هذا الأمر بم يستحقُّه ؟
فقال أبو بكر : بالنصيحة ، والوفاء ، ودفع المداهنة والمحاباة ، وحسن السيرة ، وإظهار العدل ، والعلم بالكتاب والسنّة وفصل الخطاب ، مع الزهد في الدنيا وقلّة الرغبة فيها ، وإنصاف المظلوم من الظالم القريب والبعيد .. ثمَّ سكت .
فقال علي (عليه السلام) : أنشدك بالله يا أبا بكر ! أفي نفسك تجد هذه الخصال ، أوفيَّ ؟
قال : بل فيك يا أبا الحسن .
قال : أنشدك بالله ، أنا المجيب لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل ذكران المسلمين ، أم أنت ؟
قال : بل أنت .
قال : فأنشدك بالله ، أنا الأذان لأهل الموسم ولجميع الأمّة بسورة براءة ، أم أنت ؟
قال : بل أنت .
قال : فأنشدك بالله ، أنا وقيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بنفسي يوم الغار ، أم أنت ؟
قال : بل أنت .
قال : أنشدك بالله ، إليَّ الولاية من الله مع ولاية رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في آية زكاة الخاتم ، أم لك ؟
قال : بل لك .
قال : أنشدك بالله ، أنا المولى لك ولكل مسلم بحديث النبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم الغدير ، أم أنت ؟
قال : بل أنت .
قال : أنشدك بالله ، ألي الوزارة من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والمثل من هارون من موسى ، أم لك ؟
قال : بل لك .
قال : فأنشدك بالله ، أبي برز رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وبأهل بيتي وولدي في مباهلة المشركين من النصارى ، أم بك وبأهلك وولدك ؟
قال : بكم .
قال : فأنشدك بالله ، إليَّ ولأهلي وولدي آية التطهير من الرجس(1) ، أم لك ولأهل بيتك ؟
قال : بل لك ولأهل بيتك .
قال : فأنشدك بالله ، أنا صاحب دعوة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهلي وولدي يوم الكساء : اللهم هؤلاء أهلي إليك لا إلى النار ، أم أنت ؟
قال : بل أنت وأهلك وولدك .
قال : فأنشدك بالله ، أنا صاحب الآية : {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً}(2) ، أم أنت ؟
قال : بل أنت .
قال : فأنشدك بالله ، أنت الفتى الذي نودي من السماء : لا سيف إلاَّ ذو
____________
1- وهي قوله تعالى : (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) الآية 33 من سورة الأحزاب . 2- سورة الإنسان ، الآية : 7 .
الفقار ولا فتى إلاَّ علي ، أم أنا ؟
قال : بل أنت .
قال : فأنشدك بالله ، أنت الذي ردَّت له الشمس لوقت صلاته فصلاَّها ثم توارت ، أم أنا ؟
قال : بل أنت .
قال : فأنشدك بالله ، أنت الذي حباك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) برايته يوم خيبر ففتح الله له ، أم أنا ؟
قال : بل أنت .
قال : فأنشدك بالله ، أنت الذي نفَّست عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كربته وعن المسلمين بقتل عمرو بن عبد ود ، أم أنا ؟
قال : بل أنت .
إلى أن قال : فلم يزل (عليه السلام) يعدُّ عليه مناقبه التي جعل الله عزَّ وجلَّ له دونه ودون غيره ويقول له أبو بكر : بل أنت .
قال : فبهذا وشبهه يستحقُّ القيام بأمور أمَّة محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فقال له علي (عليه السلام) : فما الذي غرَّك عن الله وعن رسوله وعن دينه ، وأنت خلوٌ ممّا يحتاج إليه أهل دينه ؟
قال : فبكى أبو بكر وقال : صدقت يا أبا الحسن ، أنظرني يومي هذا ، فأدبِّر ما أنا فيه وما سمعت منك .
قال : فقال له علي (عليه السلام) : لك ذلك يا أبا بكر ، فرجع من عنده ، وخلا بنفسه يومه ، ولم يأذن لأحد إلى الليل ، وعمر يتردَّد في الناس لما بلغه من خلوته بعلي (عليه السلام).. إلخ(1) .
____________
1- الخصال ، الصدوق : 548 ـ 553 ح30 ، بحار الأنوار ، المجلسي : 29/3 .
المناظرة الثانية
مناظرة
الإمام الباقر (عليه السلام) مع هشام بن عبد الملك
عن عمارة بن زيد الواقدي ، قال : حجَّ هشام بن عبد الملك بن مروان سنة من السنين ، وكان قد حجَّ في تلك السنة محمّد بن علي الباقر وابنه جعفر (عليهما السلام) ، فقال جعفر في بعض كلامه : الحمد لله الذي بعث محمّداً بالحقِّ نبيّاً ، وأكرمنا به ، فنحن صفوة الله على خلقه ، وخيرته من عباده ، فالسعيد من اتّبعنا ، والشقيُّ من عادانا وخالفنا ، ومن الناس من يقول إنه يتولاّنا وهو يوالي أعداءنا ومن يليهم من جلسائهم وأصحابهم ، فهو لم يسمع كلام ربِّنا ولم يعمل به .
قال أبو عبدالله جعفر بن محمّد (عليه السلام) : فأخبر مسيلمة أخاه بما سمع ، فلم يعرض لنا حتى انصرف إلى دمشق ، وانصرفنا إلى المدينة ، فأنفذ بريداً إلى عامل المدينة بإشخاص أبي وإشخاصي معه ، فأشخصنا ، فلمَّا وردنا دمشق حجبنا ثلاثة أيام ، ثمَّ أذن لنا في اليوم الرابع ، فدخلنا وإذا هو قد قعد على سرير الملك ، وجنده وخاصّته وقوف على أرجلهم سماطين متسلِّحين ، وقد نصب
البرجاس(1) حذاءه ، وأشياخ قومه يرمون .
فلمَّا دخل أبي وأنا خلفه ما زال يستدنينا منه حتى حاذيناه ، وجلسنا قليلا ، فقال لأبي : يا أبا جعفر ! لو رميت مع أشياخ قومك الغرض ، وإنّما أراد أن يهتك بأبي ، ظنّاً منه أنه يقصر ويخطئ ولا يصيب إذا رمى ، فيشتفي منه بذلك ، فقال له : إنّي قد كبرت عن الرمي ، فإن رأيت أن تعفيني .
فقال : وحقِّ من أعزنا بدينه ونبيِّه محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) لا أعفيك ، ثمَّ أومأ إلى شيخ من بني أميَّة أن أعطه قوسك .
فتناول أبي عند ذلك قوس الشيخ ، ثمَّ تناول منه سهماً فوضعه في كبد القوس ، ثمَّ انتزع ورمى وسط الغرض فنصبه فيه ، ثمَّ رمى فيه الثانية فشقَّ فوق سهمه إلى نصله ، ثمَّ تابع الرمي حتى شقَّ تسعة أسهم بعضها في جوف بعض ، وهشام يضطرب في مجلسه ، فلم يتمالك أن قال : أجدت يا أبا جعفر ، وأنت أرمى العرب والعجم ، كلاَّ ، زعمت أنك قد كبرت عن الرمي ، ثمَّ أدركته ندامة على ما قال .
وكان هشام لا يكنّي أحداً قبل أبي ولا بعده في خلافته ، فهمَّ به ، وأطرق إطراقة يرتأي فيه رأياً ، وأبي واقف بحذائه مواجهاً له ، وأنا وراء أبي ، فلمَّا طال وقوفنا بين يديه غضب أبي فهمَّ به ، وكان أبي إذا غضب نظر إلى السماء نظر غضبان ، يتبيَّن للناظر الغضب في وجهه ، فلمَّا نظر هشام ذلك من أبي قال له : يا محمّد ! اصعد ، فصعد أبي إلى سريره وأنا أتبعه .
فلمَّا دنا من هشام قام إليه فاعتنقه وأقعده عن يمينه ، ثمَّ اعتنقني وأقعدني
____________
1- البرجاس : غرض في الهواء يرمى به .
عن يمين أبي ، ثمَّ أقبل على أبي بوجهه فقال له : يا محمّد ! لا تزال العرب والعجم تسودها قريش ما دام فيهم مثلك ، ولله درُّك ، من علَّمك هذا الرمي ؟ وفي كم تعلَّمته ؟
فقال له أبي : قد علمت أن أهل المدينة يتعاطونه ، فتعاطيته أيام حداثتي ، ثمَّ تركته ، فلمَّا أراد أميرالمؤمنين منّي ذلك عدت إليه .
فقال له : ما رأيت مثل هذا الرمي قط مذ عقلت ، وما ظننت أن في الأرض أحداً يرمي مثل هذا الرمي ، أين رمي جعفر من رميك ؟
فقال : إنّا نحن نتوارث الكمال والتمام اللذين أنزلهما الله على نبيِّه (صلى الله عليه وآله وسلم) في قوله : {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً}(1) ، والأرض لا تخلو ممن يكمل هذه الأمور التي يقصر عنها غيرنا .
قال : فلمَّا سمع ذلك من أبي انقلبت عينه اليمنى فاحولّت ، واحمرَّ وجهه ، وكان ذلك علامة غضبه إذا غضب ، ثمَّ أطرق هنيئة ، ثمَّ رفع رأسه فقال لأبي : ألسنا بنو عبد مناف نسبنا ونسبكم واحد ؟
فقال أبي : نحن كذلك ، ولكنَّ الله ـ جلَّ ثناؤه ـ اختصّنا من مكنون سرِّه وخالص علمه ، بما لم يختص أحداً به غيرنا .
فقال : أليس الله ـ جلَّ ثناؤه ـ بعث محمّداً (صلى الله عليه وآله وسلم) من شجرة عبد مناف إلى الناس كافّة ، أبيضها وأسودها وأحمرها ، من أين ورثتم ما ليس لغيركم ؟ ورسول الله مبعوث إلى الناس كافّة ، وذلك قول الله تبارك وتعالى : {وَلِلّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}(2) إلى آخر الآية ، فمن أين ورثتم هذا العلم وليس بعد محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) نبيٌّ
____________
1- سورة المائدة ، الآية : 3 . 2- سورة آل عمران ، الآية : 180 .
ولا أنتم أنبياء ؟
فقال : من قوله تعالى لنبيِّه (صلى الله عليه وآله وسلم) : {لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ}(1) فالذي أبداه فهو للناس كافّة ، والذي لم يحرِّك به لسانه أمر الله تعالى أن يخصَّنا به من دون غيرنا ، فلذلك كان يناجي أخاه عليّاً من دون أصحابه ، وأنزل الله بذلك قرآناً في قوله تعالى : {وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ}(2) ، فقال رسول الله لأصحابه : سألت الله تعالى أن يجعلها أذنك يا علي(3) ، فلذلك قال علي بن أبي طالب ـ صلوات الله عليه ـ بالكوفة : علَّمني رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ألف باب من العلم يفتح من كل باب ألف باب(4) ، خصَّه به رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من مكنون علمه ما خصَّه الله به ، فصار إلينا ، وتوارثناه من دون قومنا .
فقال له هشام : إن عليّاً كان يدّعي علم الغيب ، والله لم يطلع على غيبه أحداً ، فمن أين ادّعى ذلك ؟
فقال أبي : إن الله ـ جلَّ ذكره ـ أنزل على نبيِّه كتاباً بيَّن فيه ما كان وما يكون إلى يوم القيامة ، في قوله : {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْء وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ}(5) ، وفي قوله : {كُلَّ شَيْء أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَام مُبِين}(6) ، وفي
____________
1- سورة القيامة ، الآية : 16 . 2- سورة الحاقة ، الآية : 12 . 3- مناقب أميرالمؤمنين (عليه السلام) ، الكوفي : 1/142 ح79 ، شواهد التنزيل ، الحاكم الحسكاني : 2/361 ح 1007 ، تأريخ دمشق ، ابن عساكر : 38/349 ، خصائص الوحي المبين ، ابن البطريق : 171 ح123 ، كنز العمال ، المتقي الهندي : 13/177 ح36526 ، تفسسير القرطبي : 18/264 ، فتح القدير ، الشوكاني : 5/282 . 4- الكافي ، الكليني : 8/147 ح123 ، الخصال ، الصدوق : 572 ح1 ، تأريخ مدينة دمشق ، ابن عساكر : 42/385 ، ينابيع المودّة ، القندوزي الحنفي : 1/219 ح35 . 5- سورة النحل ، الآية : 89 . 6- سورة يس ، الآية : 12 .
قوله : {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْء}(1) ، وفي قوله : {وَمَا مِنْ غَائِبَة فِي السَّمَاء وَالاَْرْضِ إِلاَّ فِي كِتَاب مُّبِين}(2) وأوحى الله تعالى إلى نبيِّه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن لا يبقي في غيبه وسرِّه ومكنون علمه شيئاً إلاَّ يناجي به عليّاً ، فأمره أن يؤلِّف القرآن من بعده ، ويتولَّى غسله وتكفينه وتحنيطه من دون قومه ، وقال لأصحابه : حرام على أصحابي وأهلي أن ينظروا إلى عورتي غير أخي علي ، فإنّه منّي وأنا منه ، له مالي ، وعليه ما عليَّ ، وهو قاضي ديني ومنجز موعدي .
ثمَّ قال لأصحابه : علي بن أبي طالب يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله(3) ، ولم يكن عند أحد تأويل القرآن بكماله وتمامه إلاَّ عند علي (عليه السلام) ، ولذلك قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لأصحابه : أقضاكم علي(4) ; أي هو قاضيكم ، وقال عمر بن الخطاب : لو لا عليٌّ لهلك عمر(5) ، أفيشهد له عمر ويجحد غيره ؟!
فأطرق هشام طويلا ، ثمَّ رفع رأسه فقال : سل حاجتك .
فقال : خلَّفت أهلي وعيالي مستوحشين لخروجي .
فقال : قد آمن الله وحشتهم برجوعك إليهم ، ولا تقم أكثر من يومك ..(6) .
____________
1- سورة ، الأنعام ، الآية : 38 . 2- سورة ، النمل ، الآية : 75 . 3- مسند أحمد بن حنبل : 3/33 ، السنن الكبرى ، النسائي : 5/154 ، صحيح ابن حبان : 15/385 ، المستدرك ، الحاكم : 3/122 ـ 123 ، تأريخ دمشق ، ابن عساكر ، 42/451 ، مجمع الزوائد ، الهيثمي : 5/186 ، ذخائر العقبى ، أحمد بن عبدالله الطبري : 76 . 4- راجع : تاريخ مدينة دمشق ، ابن عساكر : 42/16 ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 1/18 و7/219 . وسوف يأتي المزيد من التخريجات في مناظرة هشام بن الحكم مع حفص بن سالم . 5- تأويل مختلف الحديث ، ابن قتيبة : 152 ، المناقب ، الخوارزمي : 81 ح 65 ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 1/18 ، 141 ، نظم درر السمطين ، الزرندي : 130 ، فتح الملك العلي ، المغربي : 71 ، ينابيع المودّة ، القندوزي : 1/216 ح28 . 6- دلائل الإمامة ، محمّد بن جرير الطبري ( الشيعي ) : 233 ـ 237 ح26 .
المناظرة الثالثة
مناظرة
الإمام الباقر (عليه السلام) مع عمر بن عبد العزيز في الخلافة
قال إبراهيم بن محمّد ، كاتب بغداد ، المشهور بابن أبي عون : قال عمر بن عبد العزيز : قد كلَّمت سائر الناس ، وأحبُّ أن أكلِّم الشيعة ، فشخص إليه أبو جعفر محمّد بن علي (عليهما السلام) ومعه زرارة بن أعين صاحبهم ، فقال له محمّد (عليه السلام) : أخبرني عن مقعدك الذي أقعدته ، أبإرث من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ؟
قال : لا .
قال : أفبوصيَّة منه ؟
قال لا .
قال : فبإجماع المسلمين أنه لا أحد أولى بها منك ؟
قال : لا .
قال : فلمَّا نهض أبو جعفر (عليه السلام) قال له زرارة : ما تقول فيه ؟
قال : هو خير ممن كان قبله ، وإن ...(1) صاحب الترك خير منه(2) .
____________
1- كلمة غير مفهومة . 2- الأجوبة المسكتة ، إبراهيم بن محمّد كاتب بغداد المعروف بابن أبي عون الأنباري : 24 ـ 25 ، مخطوط ، رقم : 430 في مكتبة المرعشي النجفي (قدس سره) .
المناظرة الرابعة
مناظرة
الإمام الباقر (عليه السلام) مع الحروري(1)
قال العلاّمة المجلسي عليه الرحمة : وجدت في بعض مؤلَّفات قدماء أصحابنا في الأخبار ما هذا لفظه : مناظرة الحروري والباقر (عليه السلام) .
قال الحروري : إن في أبي بكر أربع خصال استحقَّ بها الإمامة .
قال الباقر (عليه السلام) : ما هنَّ ؟
قال : فإنّه أوَّل الصدّيقين ولا نعرفه حتى يقال : الصدّيق ، والثانية : صاحب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في الغار ، والثالثة : المتولّي أمر الصلاة ، والرابعة : ضجيعه في قبره .
قال أبو جعفر (عليه السلام) : أخبرني عن هذه الخصال ، هنَّ لصاحبك بان بها من الناس أجمعين ؟
قال : نعم .
____________
1- وسوف تأتي أيضاً مناظرة مؤمن الطاق مع الحروري ، وفيها مضامين شبيهة جدّاً بما في هذه المناظرة .
قال أبو جعفر (عليه السلام) : ويحك ! هذه الخصال تظنُّ أنَّهنَّ مناقب لصاحبك وهي(1) مثالب له .
أمَّا قوله : كان صدّيقاً ، فاسألوه من سمَّاه بهذا الاسم ؟
قال الحروري : الله ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) .
قال أبو جعفر (عليه السلام) : اسأل الفقهاء هل أجمعوا على هذا من رواياتهم أن أبا بكر أول من آمن برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ؟
قالت الجماعة : اللهمَّ لا ، وقد روينا أن ذلك علي بن أبي طالب (عليه السلام) .
قال الحروري : أو ليس قد زعمتم أن علي بن أبي طالب لم يشرك بالله في وقت من الأوقات ؟ فإن كان ما رويتم حقّاً فأحرى أن يستحقَّ هذا الاسم .
قالت الجماعة : أجل .
قال أبو جعفر (عليه السلام) : يا حروري ! إن كان سُمِّي صاحبك صدّيقاً بهذه الخصلة فقد استحقَّها غيره قبله ، فيكون المخصوص بهذا الاسم دون أبي بكر ; إذ كان أوَّل المؤمنين من جاء بالصدق وهو رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)(2) ، وكان عليٌّ (عليه السلام) هو المصدِّق .
فانقطع الحروري .
قال أبو جعفر (عليه السلام) : وأمَّا ما ذكرت أنه صاحب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)في الغار فذلك رذيلة لا فضيلة من وجوه :
الأول : أنّا لا نجد له في الآية مدحاً أكثر من خروجه معه وصحبته له ، وقد أخبر الله في كتابه أن الصحبة قد يكون للكافر مع المؤمن ، حيث يقول :{قَالَ لَهُ
____________
1- في نسخة : وهن . 2- في نسخة : ومن جاء بالصدق هو رسول (صلى الله عليه وآله وسلم) .
صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ}(1) ، وقوله : {أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّة}(2) ، ولا مدح له في صحبته ; إذ لم يدفع عنه ضيماً ، ولم يحارب عنه عدوّاً .
الثاني : قوله تعالى : {لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا}(3) ، وذلك يدلُّ على قلقه وضرعه ، وقلَّة صبره ، وخوفه على نفسه ، وعدم وثوقه بما وعده الله ورسوله من السلامة والظفر ، ولم يرض بمساواته للنبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى نهاه عن حاله .
ثم إني أسألك عن حزنه هل كان رضاً لله تعالى أو سخطاً له ؟ فإن قلت : إنّه رضاً لله تعالى خصمت ; لأن النبيَّ (صلى الله عليه وآله وسلم) لا ينهى عن شيء لله فيه رضاً ، وإن قلت : إنّه سخط فما فضل من نهاه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن سخط الله ؟ وذلك أنّه إن كان أصاب في حزنه فقد أخطأ من نهاه ، وحاشا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يكون قد أخطأ ، فلم يبق إلاَّ أن حزنه كان خطأ ، فنهاه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن خطأه .
الثالث : قوله تعالى : {إِنَّ اللّهَ مَعَنَا} تعريف لجاهل لم يعرف حقيقة ما يهم فيه(4) ، ولو لم يعرف النبيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) فساد اعتقاده لم يحسن منه القول : {إِنَّ اللّهَ مَعَنَا} ، وأيضاً فإن الله تعالى مع الخلق كلِّهم ، حيث خلقهم ورزقهم ، وهم في علمه كما قال الله تعالى : {مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاَثَة إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَة إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ}(5) ، فلا فضل لصاحبك في هذا الوجه .
____________
1- سورة الكهف ، الآية : 37 . 2- سورة سبأ ، الآية : 46 . 3- سورة التوبة ، الآية : 40 . 4- في نسخة : ما هم فيه . 5- سورة المجادلة ، الآية : 7 .
والرابع : قوله تعالى : {فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُود لَّمْ تَرَوْهَا}(1)فيمن نزلت ؟
قال : على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) .
قال له أبو جعفر (عليه السلام) : فهل شاركه أبو بكر في السكينة ؟
قال الحروري : نعم .
قال له أبو جعفر (عليه السلام) : كذبت ; لأنه لو كان شريكاً فيها لقال تعالى : عليهما ، فلمَّا قال : ( عليه ) دلَّ على اختصاصها بالنبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) لما خصَّه بالتأييد بالملائكة ; لأن التأييد بالملائكة لا يكون لغير النبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بالإجماع ، ولو كان أبو بكر ممن يستحقُّ المشاركة هنا لأشركه الله فيها كما أشرك فيها المؤمنين يوم حنين ، حيث يقول : {ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ}(2)ممن يستحقُّ المشاركة ; لأنه لم يصبر مع النبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) غير تسعة نفر : علي (عليه السلام) ، وستّة من بني هاشم ، وأبو دجانة الأنصاري ، وأيمن بن أم أيمن ، فبان بهذا أن أبا بكر لم يكن من المؤمنين ، ولو كان مؤمناً لأشركه مع النبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) في السكينة هنا ، كما أشرك فيها المؤمنين يوم حنين .
فقال الحروري : قوما(3) فقد أخرجه من الإيمان .
فقال أبو جعفر (عليه السلام) : ما أنا قلته ، وإنّما قاله الله تعالى في محكم كتابه .
قالت الجماعة : خصمت يا حروري .
____________
1- سورة التوبة ، الآية : 40 . 2- سورة التوبة ، الآية : 25 ـ 26 . 3- جاء في الهامش : لعلّ الصحيح : ( قوموا ) كما في نسخة ، والخطاب للحروري وجماعة الفقهاء الذين كانوا معه .
قال أبو جعفر (عليه السلام) : وأمَّا قولك في الصلاة بالناس فإن أبا بكر قد خرج تحت يد أسامة بن زيد بأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بإجماع الأمَّة ، وكان أسامة قد عسكر على أميال من المدينة ، فكيف يتقدَّر أن يأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) رجلا قد أخرجه تحت يد أسامة ، وجعل أسامة أميراً عليه أن يصلّي بالناس بالمدينة ؟! ولم يأمر النبيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بردِّ ذلك الجيش ، بل كان يقول : نفِّذوا جيش أسامة ، لعن الله من تأخَّر عنه(1) .
ثمَّ أنتم تقولون : إن أبا بكر لمَّا تقدَّم بالناس ، وكبَّر ، وسمع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)التكبير خرج مسرعاً يتهادى(2) بين عليٍّ والفضل بن العباس ، وهو معصَّب الرأس ، ورجلاه يخطّان الأرض من الضعف قبل أن يركع بهم أبو بكر ، حتى جاء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ونحَّاه عن المحراب ، فلو كان النبيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم)أمره بالصلاة لم يخرج إليه مسرعاً على ضعفه ذلك ، أن لا يتمَّ له ركوع ولا سجود ، فيكون ذلك حجّة له ، فدلَّ على أنه لم يكن أمره .
والحديث الصحيح أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في حال مرضه كان إذا حضر وقت الصلاة أتاه بلال ، فيقول : الصلاة يا رسول الله ، فإن قدر على الصلاة بنفسه تحامل وخرج ، وإلاّ أمر علياً (عليه السلام) يصلّي بالناس .
قال أبو جعفر (عليه السلام) : الرابعة زعمت أنه ضجيعه في قبره ؟
____________
1- شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 6/52 ، وقال الشهرستاني في الملل والنحل : 1/29 : الخلاف الثاني في مرضه (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال : جهِّزوا جيش أسامة ، لعن الله من تخلَّف عنه ، فقال قوم : يجب علينا امتثال أمره ، وأسامة برز من المدينة ، وقال قوم : قد اشتدَّ مرض النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فلا تسع قلوبنا مفارقته والحال هذه . 2- أي مشى وهو يعتمد عليهما في مشيته .
قال : نعم .
قال أبو جعفر (عليه السلام) : وأين قبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ؟
قال الحروري : في بيته .
قال أبو جعفر (عليه السلام) : أو ليس قال الله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ}(1) ، فهل استأذنه في ذلك ؟
قال الحروري : نعم .
قال أبو جعفر (عليه السلام) : كذبت ; لأن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سدَّ بابه عن المسجد وباب صاحبه عمر ، فقال عمر : يا رسول الله ! اترك لي كوّة أنظرك منها ، قال له : ( ولا مثل قلامة ظفر ) فأخرجهما وسدَّ أبوابهما ، فأقم البيِّنة على أنَّه أذن لهما في ذلك ، فقال أبو جعفر (عليه السلام) : بأيِّ وحي وبأيِّ نص ؟
قال : بما لا يدفع ; بميراث ابنتيهما .
قال أبو جعفر (عليه السلام) : أصبت ، أصبت يا حروري ! استحقّا بذلك تسعاً من ثمن ، وهو جزء من اثنين وسبعين جزءاً ; لأن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مات عن ابنته فاطمة (عليها السلام) وعن تسع نسوة ، وأنتم رويتم أن الأنبياء لا تورِّث .
فانقطع الحروري(2) .
____________
1- سورة الأحزاب ، الآية : 53 . 2- بحار الأوار ، المجلسي : 27/321 ـ 325 ح4 .
المناظرة الخامسة
مناظرة
الإمام الصادق (عليه السلام) مع أبي حنيفة في أربعين مسألة
قال الحسن بن زياد الفقيه : سمعت أبا حنيفة وسئل : من أفقه من رأيت ؟ فقال : ما رأيت أحداً أفقه من جعفر (عليه السلام) ، لمَّا أقدمه المنصور الحيرة بعث إليَّ فقال : يا أبا حنيفة ! إن الناس قد فتنوا بجعفر بن محمّد ، فهيِّىء لنا من مسائلك الصعاب ، فهيَّأت له أربعين مسألة ، ثمَّ بعث إليَّ المنصور فأتيته ، فدخلت وجعفر جالس عن يمينه ، فلمَّا بصرت بهما دخلني لجعفر من الهيبة ما لم يدخلني للمنصور ، ثمَّ التفت إلى جعفر فقال : يا أبا عبدالله ! أتعرف هذا ؟
قال (عليه السلام) : نعم ، هذا أبو حنيفة ، ثمَّ أتبعها : قد أتانا ، ثمَّ قال : يا أبا حنيفة ! هات من مسائلك فاسأل أبا عبدالله ، فابتدأت أسأله ، فكان يقول في المسألة : أنتم تقولون فيها كذا وكذا ، وأهل المدينة يقولون كذا وكذا ، ونحن ـ يريد أهل البيت(عليهم السلام)ـ نقول كذا وكذا ، فربَّما تابعنا ، وربما تابع أهل المدينة ، وربما خالفنا معاً ، حتى أتيت على أربعين مسألة ، ما أخرم فيها مسألة .
ثمَّ يقول أبو حنيفة : أليس قد روينا أن أعلم الناس أعلم الناس
بالاختلاف(1) .
وفي جامع مسانيد أبي حنيفة أنه قال : فجعلت أسأله ويجيب الإجابة الحسنة ويفحم حتى أجاب عن أربعين مسألة ، فرأيته أعلم الناس باختلاف الفقهاء ، فلذلك أحكم أنه أفقه من رأيت(2) .
قال أبو حنيفة : ما رأيت أفقه من جعفر بن محمّد (عليه السلام) ، وكان يقول : سلوني قبل أن تفقدوني ; فإنه لا يحدِّثكم بعدي بمثل حديثي(3) .
____________
1- تأريخ الإسلام ، الذهبي : 9/89 ـ 90 ( حوادث سنة 141 ـ 160 هـ ) ، سير أعلام النبلاء ، الذهبي : 6/257 ـ 258 ، تهذيب الكمال ، المزي : 5/79 ـ 80 . 2- جامع مسانيد أبي حنيفة ، الخوارزمي : 1/222 . 3- عيون التواريخ ، محمّد بن شاكر بن أحمد الشافعي : 6/30 ، تهذيب الكمال ، المزي : 5/79 لكنَّه روى المقالة عن صالح ، بن أبي الأسود ، وكذلك في تذكرة الحفاظ ، الذهبي : 1/166 ، سير أعلام النبلاء ، الذهبي : 6/257 .
المناظرة السادسة
مناظرة
الإمام الصادق (عليه السلام) مع عمرو بن عبيد في الخلافة وشؤونها
روى الكليني بإسناده عن عبد الكريم بن عتبة الهاشمي قال : كنت قاعداً عند أبي عبدالله (عليه السلام) بمكة إذ دخل عليه أناس من المعتزلة فيهم عمرو بن عبيد ، وواصل بن عطاء ، وحفص بن سالم مولى ابن هبيرة ، وناس من رؤسائهم ، وذلك حدثان قتل الوليد ، واختلاف أهل الشام بينهم ، فتكلَّموا وأكثروا ، وخطبوا فأطالوا .
فقال لهم أبو عبد الله (عليه السلام) : إنكم قد أكثرتم عليَّ ، فأسندوا أمركم إلى رجل منكم ، وليتكلَّم بحججكم ويوجز .
فأسندوا أمرهم إلى عمرو بن عبيد ، فتكلَّم فأبلغ وأطال ، فكان فيما قال أن قال : قد قتل أهل الشام خليفتهم ، وضرب الله عزَّوجلَّ بعضهم ببعض ، وشتَّت الله أمرهم ، فنظرنا فوجدنا رجلا له دين وعقل ، ومروّة وموضع ، ومعدن للخلافة ، وهو محمّد بن عبدالله بن الحسن ، فأردنا أن نجتمع عليه فنبايعه ، ثمَّ نظهر معه ، فمن كان بايعنا فهو منّا وكنَّا منه . ومن اعتزلنا كففنا عنه ، ومن نصب لنا جاهدناه ، ونصبنا له على بغيه وردِّه إلى الحقّ وأهله ، وقد أحببنا أن نعرض ذلك عليك
فتدخل معنا ، فإنّه لا غنى بنا عن مثلك لموضعك وكثرة شيعتك .
فلمَّا فرغ قال أبو عبد الله (عليه السلام) : أكلُّكم على مثل ما قال عمرو ؟
قالوا : نعم .
فحمد الله وأثنى عليه ، وصلَّى على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، ثمَّ قال : إنما نسخط إذا عصي الله ، فأمَّا إذا أطيع رضينا ، أخبرني ـ يا عمرو ـ لو أن الأمَّة قلدتك أمرها ، وولَّتك بغير قتال ولا مؤونة ، وقيل لك : ولِّها من شئت ، من كنت تولِّيها ؟
قال : كنت أجعلها شورى بين المسلمين .
قال : بين المسلمين كلِّهم ؟
قال : نعم .
قال : بين فقهائهم وخيارهم ؟
قال : نعم .
قال : قريش وغيرهم ؟
قال : نعم .
قال : والعرب والعجم ؟
قال : نعم .
قال : أخبرني ـ يا عمرو ـ أتتولَّى أبا بكر وعمر أو تتبرَّأ منهما ؟
قال : أتولاَّهما .
فقال : فقد خالفتهما ، ما تقولون أنتم ؟ تتولَّونهما أو تتبرَّؤون منهما ؟
قالوا : نتولاَّهما .
قال : يا عمرو ! ان كنت رجلا تتبرَّأ منهما فإنه يجوز لك الخلاف علهيما ، وإن كنت تتولاَّهما فقد خالفتهما ، قد عهد عمر إلى أبي بكر فبايعه ولم يشاور فيه
أحداً ، ثمَّ ردها أبو بكر عليه ولم يشاور فيه أحداً ، ثمَّ جعلها عمر شورى بين ستة ، وأخرج منها جميع المهاجرين والأنصار غير أولئك الستة من قريش ، وأوصى فيهم شيئاً لا أراك ترضى به أنت ولا أصحابك ; إذ جعلتها شورى بين جميع المسلمين .
قال : وما صنع ؟
قال : أمر صهيباً أن يصلّي بالناس ثلاثة أيام ، وأن يشاور أولئك الستة ليس معهم أحد ، وابن عمر يشاورونه وليس له من الأمر شيء ، وأوصى من بحضرته من المهاجرين والأنصار ـ إن مضت ثلاثة أيام قبل أن يفرغوا أو يبايعوا رجلا ـ أن يضربوا أعناق أولئك الستة جميعاً ، فإن اجتمع أربعة قبل أن تمضي ثلاثة أيام وخالف اثنان أن يضربوا أعناق الإثنين ، أفترضون بهذا أنتم فيما تجعلون من الشورى في جماعة من المسلمين ؟
قالوا : لا .
ثمَّ قال : يا عمرو ! دع ذا ، أرأيت لو بايعت صاحبك الذي تدعوني إلى بيعته ، ثمَّ اجتمعت لكم الأمَّة فلم يختلف عليكم رجلان فيها ، فأفضتم إلى المشركين الذين لا يسلمون ولا يؤدّون الجزية ، أكان عندكم وعند صاحبكم من العلم ما تسيرون بسيرة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في المشركين في حروبه ؟
قال : نعم .
قال : فتصنع ماذا ؟
قال : ندعوهم إلى الإسلام ، فإن أبوا دعوناهم إلى الجزية .
قال : وإن كانوا مجوساً ليسوا بأهل الكتاب ؟
قال : سواء .
قال : وإن كانوا مشركي العرب وعبدة الأوثان ؟
قال : سواء .
قال : أخبرني عن القرآن تقرؤه ؟
قال : نعم .
قال : اقرأ : {قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَد وَهُمْ صَاغِرُونَ}(1) . فاستثناء الله عزَّوجلَّ واشتراطه من الذين أوتوا الكتاب ، فهم والذين لم يؤتوا الكتاب سواء ؟
قال : نعم .
قال : عمَّن أخذت ذا ؟
قال : سمعت الناس يقولون .
قال : فدع ذا ، فإن هم أبوا الجزية فقاتلتهم فظهرت عليهم كيف تصنع بالغنيمة ؟
قال : أخرج الخمس ، وأقسم أربعة أخماس بين من قاتل عليه .
قال : أخبرني عن الخمس ، من تعطيه ؟
قال : حيثما سمَّى الله ، قال : فقرأ : {وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْء فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ}(2) .
قال : الذي للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) من تعطيه ؟ ومن ذو القربى ؟
____________
1- سورة التوبة ، الآية : 29 . 2- سورة الأنفال ، الآية : 41 .
قال : قد اختلف فيه الفقهاء فقال بعضهم : قرابة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)وأهل بيته (عليهم السلام) ، وقال بعضهم : الخليفة ، وقال بعضهم : قرابة الذين قاتلوا عليه من المسلمين .
قال : فأيُّ ذلك تقول أنت ؟
قال : لا أدري .
قال : فأراك لا تدري ، فدع ذا . ثمَّ قال : أرأيت الأربعة أخماس تقسمها بين جميع من قاتل عليها ؟
قال : نعم .
قال : فقد خالفت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في سيرته ، بيني وبينك فقهاء أهل المدينة ومشيختهم ، فاسألهم فإنهم لا يختلفون ، ولا يتنازعون في أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنما صالح الأعراب على أن يدعهم في ديارهم ، ولا يهاجروا ، على إن دهمه(1) من عدوِّه دهم أن يستنفرهم فيقاتل بهم ، وليس لهم في الغنيمة نصيب ، وأنت تقول بين جميعهم ، فقد خالفت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في كل ما قلت في سيرته في المشركين ، ومع هذا ما تقول في الصدقة ؟ فقرأ عليه الآية : {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} إلى آخر الآية(2) .
قال : نعم ، فكيف تقسمها ؟
قال : أقسمها على ثمانية أجزاء ، فأعطي كل جزء من الثمانية جزءاً ، قال : وان كان صنف منهم عشرة آلاف ، وصنف منهم رجلا واحداً أو رجلين أو ثلاثة ، جعلت لهذا الواحد مثل ما جعلت للعشرة آلاف ؟
____________
1- دهمه : غشيه ، والدهم : العدد الكثير ، وجماعة الناس . 2- سورة التوبة ، الآية : 60 .
قال : نعم .
قال : وتجمع صدقات أهل الحضر وأهل البوادي ، فتجعلهم فيها سواء ؟
قال : نعم .
قال : فقد خالفت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في كل ما قلت في سيرته ، كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقسم صدقة أهل البوادي في أهل البوادي ، وصدقة أهل الحضر في أهل الحضر ، ولا يقسمه بينهم بالسويَّة ، وإنما يقسمه على قدر ما يحضره منهم وما يرى ، وليس عليه في ذلك شيء موقّت موظّف ، وإنما يصنع ذلك بما يرى على قدر من يحضره منهم ، فإن كان في نفسك مما قلت شيءٌ فالقِ فقهاء أهل المدينة ; فإنهم لا يختلفون في أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كذا كان يصنع .
ثمَّ أقبل على عمرو بن عبيد فقال له : اتق الله ، وأنتم ـ أيُّها الرهط ـ فاتقوا الله ، فإن أبي حدَّثني ـ وكان خير أهل الأرض ، وأعلمهم بكتاب الله عزَّوجلَّ وسنة نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : من ضرب الناس بسيفه ، ودعاهم إلى نفسه ، وفي المسلمين من هو أعلم منه فهو ضالّ متكلّف(1) .
____________
1- الكافي ، الكليني : 5/23 ـ 27 ح1 ، تهذيب الأحكام الطوسي : 6/148 ـ 151 ح7 ، الاحتجاج ، الطبرسي : 2/118 ـ 122 .