المناظرة الخامسة عشرة
مناظرة
ابن عباس مع عتاب بن الأعور
قال ابن شهر آشوب في أمر الخوارج واجتماعهم لقتال أميرالمؤمنين (عليه السلام) : وكانوا اثني عشر ألفاً من أهل الكوفة والبصرة وغيرهما ، ونادى مناديهم : إن أميرالمؤمنين شبث بن ربعي ، وأمير الصلاة عبدالله بن الكوَّاء ، والأمر شورى بعد الفتح ، والبيعة لله على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، واستعرضوا الناس ، وقتلوا عبد الله بن خباب بن الأرت ، وكان عامله (عليه السلام) على النهروان .
فقال أميرالمؤمنين (عليه السلام) : يا ابن عباس ! امض إلى هؤلاء القوم ، فانظر ما هم عليه ، ولماذا اجتمعوا ؟
فلمَّا وصل إليهم قالوا : ويلك يا ابن عباس ! أكفرت بربِّك كما كفر صاحبك عليُّ بن أبي طالب ؟ وخرج خطيبهم عتاب بن الأعور الثعلبي .
فقال ابن عباس : من بنى الإسلام ؟
فقال : الله ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) .
فقال : النبيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أحكم أموره ودخل بين حدوده أم لا ؟
قال : بلى .
قال : فالنبيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بقي في دار الإسلام أم ارتحل ؟
قال : بل ارتحل .
قال : فأمور الشرع ارتحلت معه أم بقيت بعده ؟
قال : بل بقيت .
قال : وهل قام أحد بعده بعمارة ما بناه ؟
قال : نعم ، الذرِّيَّة والصحابة .
قال : أفعمروها أو خربوها ؟
قال : بل عمروها .
قال : فالآن هي معمورة أم خراب ؟
قال : بل خراب .
قال : خربها ذرِّيَّته أم أمَّته ؟
قال : بل أمَّته .
قال : وأنت من الذرِّيَّة أو من الأمَّة ؟
قال : من الأمَّة .
قال : أنت من الأمَّة وخربت دار الإسلام ، فكيف ترجو الجنّة ؟
وجرى بينهم كلام كثير(1) .
ورواها ابن الأعثم الكوفي ـ أيضاً ـ أكمل من السابقة ، قال : فبينا عليٌّ ـ كرَّم الله وجهه ـ مقيم بالكوفة ينتظر انقضاء المدّة التي كانت بينه وبين معاوية ، ثمَّ يرجع إلى محاربة أهل الشام ، إذ تحرَّكت طائفة من خاصَّة أصحابه في أربعة
____________
1- مناقب آل أبي طالب ، ابن شهر آشوب : 2/369 ، بحار الأنوار ، المجلسي : 33/388 ـ 389 ح618 .
آلاف فارس ، وهم من النسَّاك العبَّاد أصحاب البرانس ، فخرجوا عن الكوفة ، وتحزَّبوا ، وخالفوا عليّاً ـ كرَّم الله وجهه ـ وقالوا : لا حكم إلاَّ لله ، ولا طاعة لمن عصى الله ، قال : وانحاز إليهم ما ينيف عن ثمانية آلاف رجل ممن يرى رأيهم .
قال : فصار القوم في اثني عشر ألفاً ، وساروا حتى نزلوا بحروراء ، وأمَّروا عليهم عبد الله بن الكوَّاء .
قال : فدعا عليٌّ (عليه السلام) بعبد الله بن عباس فأرسله إليهم ، وقال : يا ابن عباس ! امض إلى هؤلاء القوم ، فانظر ما هم عليه ، ولماذا اجتمعوا ؟
قال : فأقبل عليهم ابن عباس حتى إذا أشرف عليهم ونظروا إليه ناداه بعضهم ، وقال : ويلك يا ابن عباس ! أكفرت بربِّك كما كفر صاحبك عليُّ بن أبي طالب ؟
فقال ابن عباس : إني لا أستطيع أن أكلِّم كلَّكم ، ولكن انظروا أيّكم أعلم بما يأتي ويذر فليخرج إليَّ حتى أكلِّمه .
قال : فخرج إليه رجل منهم يقال له : عتاب بن الأعور الثعلبي حتى وقف قبالته ، وكأنَّ القرآن إنَّما كان ممثَّلا بين عينيه ، فجعل يقول ويحتجُّ ويتكلَّم بما يريد ، وابن عباس ساكت لا يكلِّمه بشيء ، حتى إذا فرغ من كلامه أقبل عليه ابن عباس ، فقال : إنّي أريد أن أضرب لك مثلا ، فإن كنت عاقلا فافهم .
فقال الخارجي : قل ما بدالك .
فقال له ابن عباس : خبرِّني عن دار الإسلام هذه ، هل تعلم لمن هي ؟ ومن بناها ؟
فقال الخارجي : نعم ، هي لله عزَّ وجلَّ ، وهو الذي بناها على أيدي أنبيائه (عليهم السلام) وأهل طاعته ، ثمَّ أمر من بعثه إليها من الأنبياء أن يأمروا الأمم أن لا
تعبدوا إلاَّ إيّاه ، فآمن قوم وكفر قوم ، وآخر من بعثه إليها من الأنبياء محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) .
فقال ابن عباس : صدقت ، ولكن خبِّرني عن محمّد حين بعث إلى دار الإسلام فبناها كما بناها غيره من الأنبياء ، هل أحكم عمارتها ، وبيَّن حدودها ، وأوقف الأمَّة على سبلها وعملها وشرايع أحكامها ومعالم دينها ؟
قال الخارجي : نعم ، قد فعل محمّد ذلك .
قال ابن عباس : فخبِّرني الآن عن محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) ، هل بقي فيها أو رحل عنها ؟
قال الخارجي : بل رحل عنها .
قال ابن عباس : فخبِّرني رحل عنها وهي كاملة العمارة بيِّنة الحدود ، أم رحل عنها وهي خربة لا عمران فيها ؟
قال الخارجي : بل رحل عنها وهي كاملة العمارة ، بيِّنة الحدود ، قائمة المنار .
قال ابن عباس : صدقت الآن ، فخبِّرني هل كان لمحمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) أحد يقوم بعمارة هذه الدار من بعده أم لا ؟
قال الخارجي : بلى ، قد كان له صحابة ، وأهل بيت ، ووصيٌّ ، وذرِّيَّة يقومون بعمارة هذه الدار من بعده .
قال ابن عباس : ففعلوا أم لم يفعلوا ؟
قال الخارجي : بلى ، قد فعلوا ، وعمروا هذه الدار من بعده .
قال ابن عباس : فخبِّرني الآن عن هذه الدار من بعده ، هل هي اليوم على ما تركها محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) من كمال عمارتها ، وقوام حدودها ، أم هي خربة عاطلة الحدود ؟
قال الخارجي : بل هي عاطلة الحدود ، خربة .
قال ابن عباس : أفذرِّيَّته وليت هذه الخراب أم أمَّته ؟
قال : بل أمَّته .
قال ابن عباس : أفأنت من الأمَّة أو من الذرِّيَّة ؟
قال : أنا من الأمَّة .
قال ابن عباس : يا عتاب ! فخبِّرني الآن عنك ، كيف ترجو النجاة من النار وأنت من أمَّة قد أخربت دار الله ودار رسوله (عليه السلام) ، وعطَّلت حدودها ؟
فقال الخارجي : إنّا لله وإنّا إليه راجعون ! ويحك يا ابن عباس ! احتلت والله حتى أوقعتني في أمر عظيم ، وألزمتني الحجّة حتى جعلتني ممن أخرب دار الله ، ولكن ويحك يا ابن عباس ! فكيف الحيلة في التخليص مما أنا فيه ؟
قال ابن عباس : الحيلة في ذلك أن تسعى في عمارة ما أخربته الأمَّة من دار الإسلام .
قال : فدلَّني على السعي في ذلك .
قال ابن عباس : إن أوَّل ما يجب عليك في ذلك أن تعلم من سعى في خراب هذه الدار فتعاديه ، وتعلم من يريد عمارتها فتواليه .
قال : صدقت يا ابن عباس ! والله ما أعرف أحداً في هذا الوقت يحبُّ عمارة دار الإسلام غير ابن عمِّك عليِّ بن أبي طالب (عليه السلام) لو لا أنه حكَّم عبدالله بن قيس في حقٍّ هو له .
قال ابن عباس : ويحك يا عتاب ! إنَّا وجدنا الحكومة في كتاب الله عزَّ وجلَّ ، إنه قال تعالى : {فَابْعَثُواْ حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاَحاً يُوَفِّقِ
اللّهُ بَيْنَهُمَا}(1) ، وقال تعالى : {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْل مِّنكُمْ}(2) .
قال : فصاحت الخوارج من كل ناحية ، وقالوا : فكأن عمرو بن العاص عندك من العدول ؟ وأنت تعلم أنه كان في الجاهليَّة رأساً ، وفي الإسلام ذنباً ، وهو الأبتر ابن الأبتر ، ممن قاتل محمّداً (صلى الله عليه وآله وسلم) وفتن أمَّته من بعده .
قال : فقال ابن عباس : يا هؤلاء ! إن عمرو بن العاص لم يكن حكماً ، أفتحتجُّون به علينا ؟ إنما كان حكماً لمعاوية ، وقد أراد أميرالمؤمنين علي (عليه السلام) أن يبعثني أنا فأكون له حكماً ، فأبيتم عليه ، وقلتم : قد رضينا بأبي موسى الأشعري ، وقد كان أبو موسى لعمري رضيّاً في نفسه وصحبته وإسلامه وسابقته ، غير أنه خدع فقال ما قال ، وليس يلزمنا من خديعة عمرو بن العاص لأبي موسى ، فاتقوا ربَّكم ، وارجعوا إلى ما كنتم عليه من طاعة أميرالمؤمنين (عليه السلام) ، فإنّه وإن كان قاعداً عن طلب حقِّه فإنّما ينتظر انقضاء المدة ، ثمَّ يعود إلى محاربة القوم ، وليس علي (عليه السلام) ممن يقعد عن حقٍّ جعله الله له .
قال : فصاحت الخوارج ، وقالوا : هيهات يا ابن عباس ! نحن لا نتولَّى عليّاً بعد هذا اليوم أبداً ، فارجع إليه وقل له : فليخرج إلينا بنفسه حتى نحتجَّ عليه ونسمع كلامه ..(3) .
____________
1- سورة النساء ، الآية : 35 . 2- سورة المائدة ، الآية : 95 . 3- كتاب الفتوح ، ابن الأعثم الكوفي : 4/89 ـ 95 .
المناظرة السادسة عشرة
مناظرة
ابن عباس مع عائشة في دفن الإمام الحسن (عليه السلام)
عند جدِّه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ومنع مروان بن الحكم من دفنه
قال القرطبي : لمَّا مات الحسن (عليه السلام) أرادوا أن يدفنوه في بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فأبت ذلك عائشة ، وركبت بغلة ، وجمعت إليها الناس ، فقال لها ابن عباس : كأنكِ أردتِ أن يقال : يوم البغلة كما قيل : يوم الجمل ؟
قالت : رحمك الله ، ذاك يوم نسي .
قال : لا يوم أذكر منه على الدهر(1) .
وقال اليعقوبي : لمَّا حضرته (عليه السلام) الوفاة قال لأخيه الحسين (عليه السلام) : يا أخي ! إن هذه آخر ثلاث مرار سقيت فيها السمَّ ، ولم أسقه مثل مرَّتي هذه ، وأنا ميِّت من يومي ، فإذا أنا متُّ فادفنّي مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فما أحدٌ أولى بقربه منّي ، إلاَّ أن تمنع من ذلك فلا تسفك فيه محجمة دم .
ثمَّ أخرج نعشه يراد به قبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فركب مروان بن الحكم ،
____________
1- بهجة المجالس وأنس المجالس ، القرطبي : 1/100 .
وسعيد بن العاص ، فمنعا من ذلك ، حتى كادت تقع فتنة .
وقيل : إن عائشة ركبت بغلة شهباء ، وقالت : بيتي لا آذن فيه لأحد ، فأتاها القاسم بن محمّد بن أبي بكر ، فقال لها : يا عمَّة ! ما غسلنا رؤوسنا من يوم الجمل الأحمر ، أتريدين أن يقال : يوم البغلة الشهباء ؟ فرجعت .
واجتمع مع الحسين بن علي (عليهما السلام) جماعة وخلق من الناس ، فقالوا له : دعنا وآل مروان ، فوالله ما هم عندنا إلاَّ كأكلة رأس .
فقال : إن أخي أوصاني أن لا أريق فيه محجمة دم(1) .
وروى أبو الفرج الإصفهاني ، عن عمير بن إسحاق قال : كنت مع الحسن والحسين (عليهما السلام) في الدار ، فدخل الحسن المخرج ، ثمَّ خرج فقال : لقد سقيت السمَّ مراراً ، ما سقيته مثل هذه المرَّة ، ولقد لفظت قطعة من كبدي فجعلت أقلِّبها بعود معي ، فقال له الحسين (عليه السلام) : من سقاكه ؟ فقال : وما تريد منه ؟ أتريد أن تقتله ؟ إن يكن هو هو فالله أشدُّ نقمة منك ، وإن لم يكن هو فما أحبُّ أن يؤخذ بي بريءٌ .
ودفن الحسن (عليه السلام) في جنب قبر فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، في البقيع ، في ظلّة بني نبيه ، وقد كان أوصى أن يدفن مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فمنع مروان بن الحكم من ذلك ، وركبت بنو أميَّة في السلاح ، وجعل مروان يقول : يا رُبَّ هيجا هي خير من دعة ، أيدفن عثمان في أقصى البقيع ويدفن الحسن (عليه السلام) في بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ؟ والله لا يكون ذلك أبداً وأنا أحمل السيف ، فكادت الفتنة تقع .
وأبى الحسين (عليه السلام) أن يدفنه إلاَّ مع النبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فقال له عبد الله بن جعفر : عزمت عليك بحقّي ألا تكلَّم بكلمة ، فمضى به إلى البقيع ، وانصرف مروان بن
____________
1- تأريخ اليعقوبي : 2/225 .
الحكم .
وقال علي بن طاهر بن زيد : لمَّا أرادوا دفنه ركبت عائشة بغلا ، واستنفرت بني أميَّة ; مروان بن الحكم ، ومن كان هناك منهم ومن حشمهم ، وهو القائل :
فيوماً على بغل | ويوماً على جمل(1) |
وروى الشيخ الطوسي عليه الرحمة ، عن ابن عباس ما جاء في وصيَّة الإمام الحسن بن علي (عليهما السلام) لأخيه الحسين (عليه السلام) ، ومما جاء فيها : فإنّي أوصيك ـ يا حسين ـ بمن خلَّفت من أهلي وولدي وأهل بيتك ، أن تصفح عن مسيئهم ، وتقبل من محسنهم ، وتكون لهم خلفاً ووالداً ، وأن تدفنني مع جدّي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فإني أحقُّ به وببيته ممن أدخل بيته بغير إذنه ، ولا كتاب جاءهم من بعده ، قال الله تعالى فيما أنزله على نبيِّه (صلى الله عليه وآله وسلم) في كتابه : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ}(2) ، فوالله ما أذن لهم في الدخول عليه في حياته بغير إذنه ، ولا جاءهم الإذن في ذلك من بعد وفاته ، ونحن مأذون لنا في التصرُّف فيما ورثناه من بعده ، فإن أبت عليك الامرأة فأنشدك بالقرابة التي قرَّب الله عزَّوجلَّ منك ، والرحم الماسّة من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن لا تهريق فيَّ محجمة(3) من دم حتى نلقى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فنختصم إليه ، ونخبره بما كان من الناس إلينا بعده . ثم قبض (عليه السلام) .
قال ابن عباس : فدعاني الحسين (عليه السلام) وعبد الله بن جعفر وعلي بن عبدالله بن العباس ، فقال : اغسلوا ابن عمِّكم ، فغسلناه وحنّطناه وألبسناه أكفانه ، ثمَّ خرجنا به حتى صلَّينا عليه في المسجد ، وإن الحسين (عليه السلام) أمر أن يفتح البيت ،
____________
1- مقاتل الطالبيين ، أبو الفرج الإصفهاني : 48 ـ 49 . 2- سورة الأحزاب ، الآية : 53 . 3- المحجمة : أداة الحجم ، والقارورة التي يجمع فيها دم الحجامة .
فحال دون ذلك مروان بن الحكم ، وآل أبي سفيان ، ومن حضر هناك من ولد عثمان بن عفان ، وقالوا : أيدفن أميرالمؤمنين عثمان الشهيد القتيل ظلماً بالبقيع بشرِّ مكان ، ويدفن الحسن (عليه السلام) مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟! والله لا يكون ذلك أبداً حتى تكسر السيوف بيننا ، وتنقصف الرماح ، وينفد النبل .
فقال الحسين (عليه السلام) : أما والله الذي حرَّم مكة ، لَلْحسن بنُ عليٍّ بنُ فاطمة أحقُّ برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وبيته ممن أدخل بيته بغير إذنه ، وهو والله أحقُّ به من حمَّال الخطايا ، مسيِّر أبي ذر(رحمه الله) ، الفاعل بعمَّار ما فعل ، وبعبد الله ما صنع ، الحامي الحمى ، المؤوي لطريد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، لكنَّكم صرتم بعده الأمراء ، وبايعكم على ذلك الأعداء وأبناء الأعداء .
قال : فحملناه ، فأتينا به قبر أمِّه فاطمة (عليها السلام) فدفنّاه إلى جنبها .
قال ابن عباس : وكنت أول من انصرف ، فسمعت اللغط ، وخفت أن يعجل الحسين (عليه السلام) على من قد أقبل ، ورأيت شخصاً علمت الشرَّ فيه ، فأقبلت مبادراً ، فإذا أنا بعائشة في أربعين راكباً على بغل مرحَّل ، تقدمهم وتأمرهم بالقتال ، فلمَّا رأتني قالت : إليَّ إليَّ يابن عباس ! لقد اجترأتم عليَّ في الدنيا ، تؤذونني مرَّة بعد أخرى ، تريدون أن تدخلوا بيتي من لا أهوى ولا أحبُّ .
فقلت : واسوأتاه ! يوم على بغل ، ويوم على جمل ، تريدين أن تطفئي فيه نور الله ، وتقاتلي أولياء الله ، وتحولي بين رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وبين حبيبه أن يدفن معه ، ارجعي فقد كفى الله ( تعالى ) المؤنة ، ودفن الحسن (عليه السلام) إلى جنب أمِّه ، فلم يزدد من الله ( تعالى ) إلاَّ قرباً ، وما ازددتم منه والله إلاَّ بعداً ، يا سوأتاه ! انصرفي فقد رأيت ما سرَّك .
قال : فقطَّبت في وجهي ، ونادت بأعلى صوتها : أما نسيتم الجمل يابن
عباس ؟ إنكم لذوو أحقاد .
فقلت : أما والله ما نسيه أهل السماء ، فكيف ينساه أهل الأرض ؟! فانصرفت وهي تقول :
فألقت عصاها فاستقرَّت بها النوى | كما قرَّعيناً بالإياب المسافر(1) |
وجاء في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : 16/13 ـ 14 ، قال : روى المدائني ، عن يحيى بن زكريا ، عن هشام بن عروة ، قال : قال الحسن (عليه السلام) عند وفاته : ادفنوني عند قبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلاَّ أن تخافوا أن يكون في ذلك شرٌّ ، فلمَّا أرادوا دفنه قال مروان بن الحكم : لا يدفن عثمان في حشّ كوكب(2) ويدفن الحسن ها هنا ، فاجتمع بنو هاشم وبنو أميَّة ، وأعان هؤلاء قوم ، وهؤلاء قوم ، وجاءوا بالسلاح ، فقال أبو هريرة لمروان : أتمنع الحسن (عليه السلام) أن يدفن في هذا الموضع ، وقد سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول : الحسن والحسين سيِّدا شباب أهل الجنّة ؟! قال مروان : دعنا منك ، لقد ضاع حديث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذ كان لا يحفظه غيرك وغير أبي سعيد الخدري ! وإنّما أسلمت أيام خيبر ..
وروى ابن عساكر ، عن محمّد بن الضحاك الحرامي قال : لمَّا بلغ مروان ابن الحكم أنهم قد أجمعوا أن يدفنوا الحسن بن علي (عليه السلام) مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) جاء إلى سعيد بن العاص ـ وهو عامل المدينة ـ فذكر ذلك له ، فقال : ما أنت صانع في أمرهم ؟
فقال : لست منهم في شيء ، ولست حائلا بينهم وبين ذلك .
____________
1- الأمالي ، الشيخ الطوسي : 160 ، بحار الأنوار ، المجلسي : 44/151 ح22 . 2- قال في الهامش : حش كوكب ـ بفتح أوَّله وتشديد ثانيه ـ موضع عند بقيع الغرقد ، اشتراه عثمان ، وزاده في البقيع ، ولمَّا قتل ألقي فيه .
قال : فخلِّني وإيَّاهم .
فقال : أنت وذاك .
فجمع لهم مروان مَنْ كان هناك من بني أميّة وحشمهم ومواليهم ، وبلغ ذلك حسيناً ، فجاء هو ومن معه في السلاح ليدفن حسناً في بيت النبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وأقبل مروان في أصحابه وهو يقول : يا ربَّ هيجا هي خير من دعة ، أيدفن عثمان بالبقيع ، ويدفن حسن في بيت النبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ؟ والله لا يكون ذلك أبداً وأنا أحمل السيف .
فلمَّا صلوا على حسن (عليه السلام) خشي عبدالله بن جعفر أن يقع في ذلك ملحمة عظيمة ، فأخذ بمقدَّم السرير ، ثمَّ مضى نحو البقيع ..(1) .
____________
1- تاريخ مدينة دمشق ، ابن عساكر : 13/290 ـ 291 .
المناظرة السابعة عشرة
مناظرة
رجل من بني سعد مع طلحة والزبير في خروج عائشة
روى الطبري ، قال : فخرج غلام شاب من بني سعد إلى طلحة والزبير ، فقال : أمَّا أنت ـ يا زبير ـ فحواري رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وأمَّا أنت ـ يا طلحة ـ فوقيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بيدك ، وأرى أمَّكما معكما ، فهل جئتما بنسائكما ؟
قالا : لا .
قال : فما أنا منكما في شيء ، واعتزل . وقال السعدي في ذلك :
صُنْتُم حَلاَئِلَكم وَقُدْتُم أُمَّكم | هذا لَعَمْرُك قلَّةُ الإنصافِ |
أُمِرَتْ بجرِّ ذُيُولِها في بَيْتِها | فَهَوَتْ تشقُّ البيدَ بالإِيجافِ |
غرضاً يُقَاتِلُ دونها أبناؤُها | بالنَّبْلِ وَالْخِطيِّ والأسيافِ |
هُتِكَتْ بطَلْحَةَ والزبيرِ سُتُورُها | هذا المخبِّرُ عَنْهُمُ والكافي(1) |
وذكر نصر بن مزاحم عن القاسم بن محمّد ، قال : أقبل جارية بن قدامة السعدي فقال : يا أمَّ المؤمنين ! والله لقتل عثمان أهون من خروجك من بيتك على
____________
1- تاريخ الطبري : 3/482 .
هذا الجمل الملعون ، عرضة للسلاح ، إنّه قد كان لك من الله ستر وحرمة ، فهتكت سترك ، وأبحت حرمتك ، إنّه من رأى قتالك فإنّه يرى قتلك ، إن كنت أتيتينا طائعة فارجعي إلى منزلك ، وإن كنت أتيتينا مستكرهة ، فاستعيني بالناس(1) .
____________
1- تاريخ الطبري 3/482 ، الإمامة والسياسة : 1/88 ، وفيه : فاستعتبي الله ، بدل : فاستعيني بالناس .
المناظرة الثامنة عشرة
مناظرة
رجل مع عبد الملك بن مروان
من كتاب أعلام الدين للديلمي : قال رجل لعبد الملك بن مروان : أناظرك وأنا آمن ؟
قال : نعم .
فقال له : أخبرني عن هذا الأمر الذي صار إليك ، أبنصٍّ من الله ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) ؟
قال : لا .
قال : اجتمعت الأمّة فتراضوا بك ؟
فقال : لا .
قال : فكانت لك بيعة في أعناقهم فوفوا بها ؟
قال : لا .
قال : فاختارك أهل الشورى ؟
قال : لا .
قال : أفليس قد قهرتهم على أمرهم ، واستأثرت بفيئهم دونهم ؟
قال : بلى .
قال : فبأيِّ شيء سمِّيت أميرالمؤمنين ، ولم يؤمِّرك الله ولا رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم)ولا المسلمون ؟
قال له : اخرج عن بلادي وإلاَّ قتلتك .
قال : ليس هذا جواب أهل العدل والإنصاف ، ثمَّ خرج عنه(1) .
____________
1- بحار الأنوار ، المجلسي : 46/335 ح23 .
المناظرة التاسعة عشرة
مناظرة
الأعمش مع أبي حنيفة
عن شريك بن عبدالله القاضي ، قال : حضرت الأعمش في علّته التي قبض فيها ، فبينا أنا عنده إذ دخل عليه ابن شبرمة وابن أبي ليلى وأبو حنيفة ، فسألوه عن حاله ، فذكر ضعفاً شديداً ، وذكر ما يتخوَّف من خطيئاته ، وأدركته رقّة فبكى ، فأقبل عليه أبو حنيفة ، فقال : يا أبا محمّد ! اتق الله ، وانظر لنفسك ، فإنك في آخر يوم من أيام الدنيا ، وأول يوم من أيام الآخرة ، وقد كنت تحدِّث في علي بن أبي طالب (عليه السلام) بأحاديث ، لو رجعت عنها كان خيراً لك .
قال الأعمش : مثل ماذا ، يا نعمان ؟
قال : مثل حديث عباية : أنا قسيم النار .
قال : أو لمثلي تقول ]هذا[ يا يهودي ؟ أقعدوني ، سنِّدوني ، أقعدوني ، حدَّثني ـ والذي إليه مصيري ـ موسى بن طريف ـ ولم أر أسديّاً كان خيراً منه ـ قال : سمعت عباية بن ربعي إمام الحي ، قال : سمعت علياً أميرالمؤمنين (عليه السلام)يقول : أنا قسيم النار ، أقول : هذا وليّي دعيه ، وهذا عدوّي خذيه .
وحدَّثني أبو المتوكل الناجي ، في إمرة الحجاج ، وكان يشتم علياً (عليه السلام)
شتماً مقذعاً ـ يعني الحجاج ( لعنه الله ) ـ عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : إذا كان يوم القيامة يأمر الله عزَّوجلَّ فأقعد أنا وعلي على الصراط ، ويقال لنا : أدخلا الجنة من آمن بي وأحبَّكما ، وأدخلا النار من كفر بي وأبغضكما .
قال أبو سعيد : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : ما آمن بالله من لم يؤمن بي ، ولم يؤمن بي من لم يتولَّ ـ أو قال : لم يحبَّ عليّاً ، وتلا {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّار عَنِيد}(1) .
قال : فجعل أبو حنيفة إزاره على رأسه ، وقال : قوموا بنا ، لا يجيئنا أبو محمّد بأطمَّ من هذا .
قال الحسن بن سعيد : قال لي شريك بن عبدالله : فما أمسى ـ يعني الأعمش ـ حتى فارق الدنيا(رحمه الله)(2) .
____________
1- سورة ق ، الآية : 24 . 2- الأمالى ، الطوسي : 628 ـ 629 ح7 ، بحار الأنوار ، المجلسي : 47/412 ـ 413 ح19 .
المناظرة العشرون
مناظرة
أبي الحسن علي بن ميثم (رحمه الله) مع أبي الهذيل العلاف
قال الشريف المرتضى عليه الرحمة : أخبرني الشيخ أدام الله عزَّه قال : سأل أبو الهذيل العلاف أبا الحسن علي بن ميثم(رحمه الله)عند علي بن رياح ، فقال له : ما الدليل على أن عليّاً (عليه السلام) كان أولى بالإمامة من أبي بكر ؟
فقال له : الدليل على ذلك إجماع أهل القبلة على أن علياً (عليه السلام) كان عند وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مؤمناً عالماً كافياً ، ولم يجمعوا بذلك على أبي بكر .
فقال له أبو الهذيل : ومن لم يجمع عليه عافاك الله ؟
قال له أبو الحسن : أنا وأسلافي من قبل وأصحابي الآن .
فقال له أبو الهذيل : فأنت وأصحابك ضلاَّل تائهون .
قال له أبو الحسن : ليس جواب هذا الكلام إلاَّ السباب ثمَّ اللطام(1) .
____________
1- الفصول المختارة ، المفيد : 86 .
المناظرة الحادية والعشرون
مناظرة
هشام بن الحكم مع حفص بن سالم في الخلافة بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
اجتمع هشام بن الحكم وحفص بن سالم(1) في مجلس ، فقال هشام
____________
1- الظاهر ـ والله العالم ـ أنه حفص بن سالم مولى ابن هبيرة الذي هو أحد المعتزلة ، وقد ذكره الكليني عليه الرحمة في الذين جاؤوا لمناظرة الإمام الصادق (عليه السلام) ، فقد روى عن عبد الكريم بن عتبة الهاشمي ، قال : كنت قاعداً عند أبي عبد الله (عليه السلام) بمكة إذ دخل عليه أناس من المعتزلة فيهم عمرو بن عبيد ، وواصل بن عطاء ، وحفص بن سالم مولى ابن هبيرة ، وناس من رؤسائهم .. ، الخ ، وأغلب الظنّ أنه من البصرة ، وقد روى عنه عمرو بن عبيد ، والذي يدلّ على ذلك أنه جاء في إسناد محمّد بن سليمان الكوفي في كتاب مناقب أميرالمؤمنين (عليه السلام) ، وجاء السند هكذا : عن إبراهيم بن أبي يحيى ، عن عمرو بن عبيد ، عن حفص بن سالم البصري . هذا ولم أجد له ترجمة في كتب الرجال بهذا الاسم في هذه العجالة . وقد جاء في كتب العامة حفص بن سلم أبو مقاتل السمرقندي ، وهو يروي عن سفيان الثوري ، كما في الكفاية في علم الرواية للخطيب البغدادي ، وذكره سبط ابن العجمي باسم حفص بن سالم وليس سلم . وقد جاء بهذا الإسم في مصادرنا أيضاً وهو : حفص بن سالم الكوفي أبو ولاد ، ولكنه مختلف عنه ; إذ هو من أصحاب الإمام الصادق (عليه السلام) ، كما في معجم رجال الحديث للسيد الخوئي عليه الرحمة وغيره . راجع : معجم رجال الحديث ، السيد الخوئي : 7/137 رقم : 3768 و145 رقم : 3786 ، تهذيب المقال ، السيّد محمّد علي الأبطحي : 5/159 ، الكفاية في علم الرواية ، الخطيب البغدادي : 310 ، الكشف الحثيث ، سبط ابن العجمي : 101 ، مناقب أميرالمؤمنين (عليه السلام) ، محمّد بن سليمان الكوفي : 1/154 . رقم : 88 .
لحفص : أخبرني هل يجوز أن يخرج الحقّ من الأمّة حتى يكون الحق موجوداً في غير الأمّة ؟
قال حفص : لا يجوز ذلك .
فقال هشام : أو ليس انما اختلفت الأمّة في علي (عليه السلام) وأبي بكر ، والخلافة كانت لأحدهما ـ لا محالة ـ بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ؟
قال حفص : بلى .
قال هشام : أفليس قد سقط العباس بقرابته ، ومعاذ بن جبل بعلمه ؟
قال حفص : بلى .
قال هشام : وقد سقط الناس كلّهم بعد هذين ؟
قال : نعم .
قال : فلا يحتاج إذن إلى النظر في أمرهم ، وانّما النظر في أبي بكر وعلي (عليه السلام) أيّهما يستحقّ الخلافة ممّن لا يستحقّها إذا كان الأمر بالاختيار على ما زعمتم ؟
قال : نعم .
قال هشام : أفليس قد رويتم أن النبيَّ (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : عليٌّ أقضاكم(1) .
____________
1- راجع : تاريخ مدينة دمشق ، ابن عساكر : 42/16 ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 1/18 و7/219 ، فيض القدير ، المناوي : 1/285 ، تفسير القرطبي : 15/162 ، الجوهرة في نسب الإمام علي وآله ، البري : 71 ، جواهر المطالب في مناقب الإمام علي (عليه السلام) ، ابن الدمشقي : 1/76 ، تاريخ ابن خلدون ، ابن خلدون : 1/197 . وعن عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة ، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مرسلا .. وأقضاهم علي . ( فتح الباري ، ابن حجر : 8/127 ) . وعن ابن عباس قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) علىٌّ أقضى أمتي بكتاب الله ، فمن أحبَّني فليحبَّه ، فان العبد لا ينال ولا يتي إلاَّ بحبِّ علي (عليه السلام) . ( تاريخ مدينة دمشق ، ابن عساكر : 42/241 ) . وروي عن أنس أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : أقضى أمتي علي . قال الطبري : أخرجه البغوي في المصابيح في الحسان . ( ذخائر العقبى ، أحمد بن عبدالله الطبري : 83 ، فتح الباري ، ابن حجر : 8/127 ) . وقد اعترف الصحابة وغيرهم بأن أميرالمؤمنين (عليه السلام) أقضى الأمة . فقد روى أحمد بن حنبل في مسنده : 5/113 : عن عمر بن الخطاب قال : علي أقضانا ، وروى أحمد بن عبدالله الطبري في ذخائر العقبى : 83 : عن عمر قال : أقضانا علي . قال : أخرجه الحافظ السلفي . وعن ابن عبّاس قال : إذا حدَّثنا ثقة عن عليٍّ بفتيا لا نعدوها . وعن أبي إسحاق أن عبدالله كان يقول : أقضى أهل المدينة علي بن أبي طالب . ( الطبقات الكبرى ، محمّد بن سعد : 2/338 ـ 339 ) . وعن النعمان بن ثابت القاضي قال : حدَّثنا شريح القاضي ، قال : حدَّثنا علي بن أبي طالب (عليه السلام) ـ وكان أقضى الأمة ـ قال : لمَّا أنفذني النبيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى اليمن قال : يا علي ! الناس رجلان ، فعاقل يصلح للعفو ، وجاهل يصلح للعقوبة . ( تاريخ مدينة دمشق ، ابن عساكر : 20/236 ) . وروى البيهقي ، عن محمّد بن سليمان ، عن رقبة قال : خرج يزيد بن أبي مسلم من عند الحجاج ، فقال : لقد قضى الأمير بقضيّة ، فقال له الشعبي : وما هي ؟ فقال : قال : ما كان للرجل فهو للرجل ، وما كان للنساء فهو للمرأة ، فقال الشعبي : قضاء رجل من أهل بدر ، قال : ومن ؟ قال : لا أخبرك ، قال : من هو ؟ عليَّ عهد الله وميثاقه أن لا أخبره ، قال : هو علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، قال : فدخل على الحجاج فأخبره ، فقال الحجاج : صدق ويحك إنَّا لم ننقم على عليٍّ قضاءه ، قد علمنا أن عليّاً كان أقضاهم . ( السنن الكبرى ، البيهقي : 10/269 ، تاريخ مدينة دمشق ، ابن عساكر : 65/388 ) . وحدَّث أبو عبدالله الزبيري عن بعض العلماء أنَّه قال في منزلة الشافعي في العلماء : ومنزلة الشافعي في العلماء كمنزلة علي (عليه السلام) في الصحابة ; فإنه كان أعلمهم وأفضلهم وأقضاهم ، وقد قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : أقضاكم علي . تاريخ مدينة دمشق ، ابن عساكر : 15/300 ) .
ورويتم أن النبيَّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وجَّهه إلى اليمن قاضياً ، قال : يا رسول الله ! تبعثني ولا بصر لي بالقضاء ؟ فضرب بيده على صدره ، ثمَّ قال : اللهم اهدِ قلبه ، واشرح
صدره ، فقال عليّ (عليه السلام) : فما شككت في قضاء بعدها(1) .
ورويتم أنه قال : كنت إذا سألت أعطيت ، وإذا سكت ابتدأت(2) وبين الجوانح علم جمٌّ(3) ، وعلَّمني رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ألف باب من العلم ، كل باب يفتح ألف باب(4) ، ولقد علمت المنايا والبلايا وفصل الخطاب(5) ، وقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : أنا مدينة العلم وعليٌّ بابها(6) ، مع اتفاق المختلفين أنه كان أعلم أصحاب رسول
____________
1- سنن ابن ماجة : 2/774 ح2310 ، المصنَّف ، ابن أبي شيبة الكوفي : 7/495 ح5 ، السنن الكبرى ، النسائي : 5/116 ح8419 ، الطبقات الكبرى ، ابن سعد : 2/337 ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 1/18 ، تاريخ بغداد ، الخطيب البغدادي : 12/439 ، رقم : 6916 ، تاريخ دمشق ، ابن عساكر : 42/389 ، وغيرها الكثير . 2- المصنَّف ، ابن أبي شيبة الكوفي : 7/495 ح6 ، السنن الكبرى ، النسائي : 5/142 ح8505 و8506 ، المعجم الكبير ، الطبراني : 6/213 ، الطبقات الكبرى ، ابن سعد : 2/346 . 3- المحتضر ، الحسن بن سليمان الحلي : 88 . 4- تاريخ دمشق ، ابن عساكر : 42/385 ، فتح الملك العلي ، أحمد بن الصديق المغربي : 48 ، سير أعلام النبلاء ، الذهبي : 8/24 ، نظم درر السمطين ، الزرندي : 113 ، كنز العمال ، المتقي الهندي : 13/114 ـ 115 ح36372 ، ينابيع المودّة ، القندوزي الحنفي : 1/222 ح 43 . 5- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) ، الصدوق : 1/224 ح7 ، الخصال ، الصدوق : 414 ـ 415 ح4 ، وعن الأصبغ بن نباته قال : سمعت أميرالمؤمنين (عليه السلام) يقول : إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) علّمني ألف باب ، وكل باب منها يفتح ألف باب ، فذلك ألف ألف باب ، حتى علمت ما كان وما يكون إلى يوم القيامة ، وعلمت علم المنايا والبلايا وفصل الخطاب . ينابيع المودة ، القندوزي : 1/231 ح70 . ومن كلام لعمار بن ياسر رضوان الله تعالى عليه في حق أميرالمؤمنين (عليه السلام) قال : يا أيها الناس ! إنكم والله إن اتّبعتموه وأطعتموه لم يضلَّ بكم عن منهاج نبيِّكم قيد شعرة ، وكيف يكون ذلك وقد استودعه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) المنايا والوصايا وفصل الخطاب ، على منهاج هارون بن عمران ; إذ قال له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلاَّ أنَّه لا نبيَّ بعدي ، فضلا خصَّه الله به إكراماً منه لنبيِّه (صلى الله عليه وآله وسلم) ، حيث أعطاه الله ما لم يعطه أحداً من خلقه . كنز العمال ، المتقي الهندي : 16/185 ـ 186 . 6- روى الحاكم النيسابوري في المستدرك : 3/126 ـ 127 بالإسناد عن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : أنا مدينة العلم وعليٌّ بابها ، فمن أراد المدينة فليأت الباب . قال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد . وراجع : المعجم الكبير ، الطبراني : 11/55 ، الفايق في غريب الحديث ، جار الله الزمخشري : 2/16 ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 7/219 و9/165 ، شواهد التنزيل ، الحاكم الحسكاني : 1/104 ح118 ، تاريخ بغداد ، الخطيب البغدادي : 5/110 و7/182 ، تاريخ مدينة دمشق ، ابن عساكر : 42/378 ، أسد الغابة ، ابن الأثير : 4/22 ، تهذيب الكمال ، المزي : 18/77 و79 ، تذكرة الحفاظ ، الذهبي : 4/1231 ، البداية والنهاية ، ابن كثير : 7/398 ، المستصفى ، الغزالي : 170 ، الجامع الصغير ، السيوطي : 1/415 ح2705 ، كنز العمال ، المتقي الهندي : 13/148 ، فيض القدير ، المناوي : 1/49 ، مجمع الزوائد ، الهيثمي : 7/235 و9/114 ، ذخائر العقبى ، أحمد بن عبدالله الطبري : 77 ، وقد ألَّف أحمد بن الصديق المغربي ( المتوفَّى 1380 ) كتاباً كاملا في هذا الحديث وطرقه ، وحكم بصحّته ، وسمَّاه : فتح الملك العلي بصحّة حديث باب مدينة العلم علي (عليه السلام) .
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى صار المأخوذ قوله في عامّة أحكامهم ؟
قال حفص : بلى ، ولا ننكر فضل علي (عليه السلام) وبصره بالقضاء ، وبما حكى عن نفسه من العلم وما ظهر منه ، وأنّهم كلَّهم قد سألوه واحتاجوا إليه ، ولم يسأل هو أحداً منهم ، ولا احتاج إليه .
قال هشام : فإذا أقررت بذلك فهل تعلمون أن الله تعالى قال في كتابه :{قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الاَْلْبَابِ}(1) وقال : {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَات}(2) وقال :{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء}(3) ؟
قال حفص : كذلك قال الله .
قال هشام :{أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ
____________
1- سورة الزمر ، الآية : 9 . 2- سورة المجادلة ، الآية : 11 . 3- سورة فاطر ، الآية : 28 .
كَيْفَ تَحْكُمُونَ}(1) فإذا أخبر الله أنَّه قد رفع علياً على أبي بكر درجات ، فلم صار أبو بكر أولى بها منه ؟ ولم قدَّمتم أبا بكر عليه بعدما قد بيَّن الله في كتابه ما بيَّن ؟
قال حفص : لأن أهل الفضل والعلم قدَّموه .
فقال هشام : فقد نفى الله عنهم ما أثبتَّه أنت لهم .
قال حفص : من أين قلت ؟
قال : ذلك لقول الله عزَّوجلَّ : {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الاَْلْبَابِ} وأولو الألباب أهل العقل والفضل ، فلو كانوا كذلك لتفكَّروا وقدَّموا علياً (عليه السلام) ، فسكت حفص(2) .
هشام بن الحكم وروح النقد
كان هشام أحد المدافعين عن التشيع بيده ولسانه وقلبه ، وبكلِّ ما أوتيه من قوّة ، وكان مهاباً عند الخصم ، وقد عرف بينهم بحجّته القويّة ، وكان سريع البديهة ، حاضر الجواب ، وكان معظَّماً عند الإمام الصادق (عليه السلام) .
جاء في الكافي للكليني : 1/172 : عن يونس بن يعقوب قال : ورد هشام بن الحكم ، وهو أوّل ما اختطَّت لحيته ، وليس فينا إلاَّ من هو أكبر سنّاً منه ، قال : فوسَّع له أبو عبدالله (عليه السلام) وقال : ناصرنا بقلبه ولسانه ويده .
قال الشيخ عبدالله نعمة في كتابه ( هشام بن الحكم )(3) : الاتّجاهات الغالبة عليه : كان هشام خصب الذهن ، مركَّز التفكير ، لا يضطرب في آرائه ، يفكِّر بتصميم ، ويقول بتصميم ، ويرسم الخطوط لتعزيز مذهبه الذي اختاره ، ولا يدع
____________
1- سورة يونس ، الآية : 35 . 2- الدرّ النظيم في مناقب الأئمة اللهاميم ، ابن حاتم الشامي : 285 ـ 286 . 3- هشام بن الحكم ، الشيخ عبدالله نعمة : 107 ـ 109 .
فرصة سانحة إلاَّ ويتّخذ منها وسيلة لتأييد رأيه وتقرير نزعته ، في طريق واضح لا يلتوي عليه ، وتتحكَّم في تفكيره اتجاهات كثيرة ، يلتقي بها كلُّ من درس آراءه ، تلك الاتجاهات التي لا تزايله في جميع مواقفه ، قد انصهرت فيها شخصيته ، واستحالت في طبيعتها ، وأبرزها : روح النقد .
ويشيع في تفكيره روح النقد لآراء مخالفيه ، وقد يأتي ذلك في كلمة قصيرة سانحة ، فمن ذلك قوله ـ وقد سئل عن معاوية ، أشهد بدراً ؟ فقال : نعم ، من ذلك الجانب(1) وهي كلمة قصيرة تفيض بالنقد اللاذع الهادىء ، يقولها بغير تكلّف ، وتتداعى فيها الأفكار ، فتعود بنا إلى ماضي معاوية يوم كان يحارب في صفوف المشركين ضدَّ الإسلام والمسلمين .
ومثال آخر : أنّ صديقه عبدالله بن يزيد الأباضي خطب منه ابنته فاطمة ، فقال له : تعلم ما بيننا من مودّة ودوام الشركة ، وقد أحببت أن تنكحني ابنتك فاطمة ، فقال هشام : إنّها مؤمنة ، فأمسك الأباضي ولم يعاوده في شيء .
ويقصد بقوله : ( مؤمنة ) ما يترتَّب على ذلك من عدم جواز تزويجها للمشركين ، المفضي إلى حكمه على الخوارج ـ ومنهم صديقه عبدالله بن يزيد ـ بالإشراك .
ومثال ثالث : أنه كان يقول : ما رأيت مثل مخالفينا ، عمدوا إلى من ولاَّه الله من سمائه فعزلوه ، وإلى من عزله الله من سمائه فولّوه ، ويذكر قصّة مبلغ سورة برائة ، ومرد أبي بكر ، وإيراد علي (عليه السلام) بعد نزول جبرئيل قائلا لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)عن الله تعالى : إنه لا يؤدّيها عنك إلاَّ أنت أو رجل منك ، فردَّ أبا بكر ، وأنفذ
____________
1- الفهرست ، الشيخ الطوسي : 259 .
علياً (عليه السلام)(1) وهي لفتة ذهن حديد ، ذات طابع مركَّز ، قد فسحت له درب النقد مسايرة لهذه النزعة المتأصِّلة فيه .
ومثال رابع : سئل هشام بن الحكم ـ وهو في مجلس مناظرة عند بني أمية ـ : كم عمرك يا غلام ؟ فقال : إن عمري كعمر أسامة بن زيد الذي أمَّره النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)على مشائخ الصحابة .
ومثال خامس : سأله سليمان بن حريز فقال : يا هشام بن الحكم ! أخبرني عن قول علي لأبي بكر : يا خليفة رسول الله ، أكان صادقاً أم كاذباً ؟ فقال هشام : وما الدليل على أنّه قاله ؟ ثمَّ قال : وإن كان قاله فهو كقول إبراهيم : {إِنِّي سَقِيمٌ}(2)وكقوله : {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ}(3) وكقول يوسف : {أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ}(4)(5) .
____________
1- فهرست ابن النديم البغدادي : 224 . 2- سورة الصافات ، الآية 89 . 3- سورة الأنبياء ، الآية : 63 . 4- سورة يوسف ، الآية : 70 . 5- مناقب آل أبي طالب ، ابن شهر آشوب : 1/235 .