الصفحة 102

المناظرة الثانية والعشرون

مناظرة

مؤمن الطاق مع بعض الحروريّة بمحضر أبي حنيفة

وسفيان الثوري في الخليفة بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)


قال المرزباني الخراساني : وقيل : إن مؤمن الطاق(رحمه الله) دخل يوماً مسجد الكوفة وفيه جماعة من المرجئة(1) ، منهم : أبو حنيفة وسفيان ، ورجل من الحروريّة جيِّد المناظرة فيهم ، فلمَّا رآه أبو حنيفة قال للحروري : هذا رأس الشيعة وعالمها ، فهل لك في مناظرته ؟

فقال : إذا شئت ، فنهضا والجماعة ، وأتوا إليه وهو قائم يصلّي ، فلم يزالوا حتّى فرغ ، فسلَّموا عليه ، ثمَّ قال له أبو حنيفة : قد أتينا للمناظرة .

فقال : أضللتم دينكم فأنتم تطلبونه ، ولولا ذلك لقلَّت مناظرتكم فيه ، ولا شتغلتم بالعمل ، وإنّما يعمل المتّقون ، وقليله ينفع ، وإنه لقليل ، قال الله : {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}(2) .

____________

1- فرقة من الفرق الإسلامية ، وهي أصناف أربعة . دائرة المعارف 8/723 .

2- سورة المائدة ، الآية : 27 .


الصفحة 103

فقال الحروري : كلٌّ يدّعي الذي تدّعي ، لكن من إمامك ؟

قال : من نصبه الله ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم الغدير .

قال : ما اسمه ؟

قال : بيَّنت .

قال : فهو أبو بكر .

قال : ذاك المردود يوم سورة براءة ، وصاحبي المؤدّي عن الله وعن رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى أهل مكة .

قال : ذاك أبو بكر .

قال : دعوى أقم عليها بيِّنة .

قال : أنت المدّعي .

قال : كيف أكون أنا المدّعي وأنا المنكر لذلك ؟! أنت تقول : هو ذاك ، وأنا أقول : هو رجل قد اجتمعت عليه الأمّة ، وإنّه صاحب يوم الغدير ، فكيف يكون الإجماع دعوى ، بل أنت المدّعي أنّه أبو بكر .

قال الحروري : دعنا من هذا .

قال : هذه واحدة لم تخرج منها ، والحقُّ بيدي حتى تقيم البيِّنة .

قال الحروري : إن في أبي بكر أربع خصال بان بها من العالم بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، استحقَّ بها الإمامة .

قال : ما هي ؟

قال : الصدّيق ، وصاحبه في الغار ، والمتولّي للصلاة ، وضجيعه في القبر .

قال : أخبرني عن هذه المناقب بان بها من جميع العالم ؟

قال : نعم .


الصفحة 104

قال : فإنَّ هذه مثالب .

قال : بقولك ؟

قال : بل بإقرارك .

قال : فهات إذن .

قال : حتى يحضر من يحكم بيننا .

قالت الجماعة : نحن الحكَّام إذا ظهر الحقُّ .

قال : فالدليل على أنّها مثالب هو أن تدلَّ على من سمَّاه صدّيقاً .

قال : رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) .

قال : فما العلّة والمعنى الذي سمِّي به ... ؟

قال : لأنّه أوَّل المسلمين .

قال : هذا ما لم يقل به أحد ، على أنّه أوّل المسلمين ، إنّما الإجماع على أن أول المسلمين علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، وأوَّل من آمن ، فما تقولون أيُّها الحكام ؟

قالوا : أجل ، هو كما ذكرت .

قال الحروري : قد زعمتم أنه ما أشرك بالله قط .

قال : ليس(1) اتّباعه للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في وقت من الأوقات ـ وإن لم يكن مشركاً ـ حدثاً يستحقُّ به الإسلام ؟

قالت الجماعة : أجل .

فقال الحروري : أنا لا أقبل قول هؤلاء .

قال : فأنا أساعدك ، أمَّا ما ذكرت أنّه صدّيق : أليس زعمت أن الله

____________

1- الظاهر : أليس .


الصفحة 105

ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) سمَّياه صدّيقاً ، وأنّه ليس له في هذا الاسم مساوىء ؟

قال : نعم .

قال للجماعة : اشهدوا عليه ، متى وجدنا في أصحاب الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) من اسمه صدّيق سقطت حجّته عنّا .

قالوا : نعم .

قال : هل تعلم أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : ما أقلَّت الغبراء ولا أظلَّت الخضراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر(1) ؟

قال القوم : واحدة ، خصمت يا حروريّ .

قال الحروري : أنا لا أعرف هذه الرواية ، فظلمه القوم .

قال : يا حروريُّ ! فهل تعرف القرآن ؟

قال : نعم .

قال : فيلزمك ما فيه من الحجّة ؟

قال : نعم .

قال : فقد شارك صاحبك في هذا الاسم المؤمنون جميعاً ، قال الله تعالى : {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاء عِندَ رَبِّهِمْ}(2) .

قالت الجماعة : خصمت يا حروري .

قال : وأمَّا ما ذكرت من أنّه صاحبه في الغار فما رأيت الصاحب محموداً

____________

1- مسند أحمد بن حنبل : 5/197 ، سنن الترمذي : 5/334 ح3890 ، صحيح ابن حبان : 16/76 ، المصنّف ، ابن أبي شيبة : 7/526 ح3 ، الطبقات الكبرى ، ابن سعد : 4/228 ، تأريخ دمشق ، ابن عساكر : 21/413 ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 8/259 .

2- سورة الحديد ، الآية : 19 .


الصفحة 106

في القرآن ، قال الله تعالى : {قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَاب}(1) ، وقال : {وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُون}(2) ، وقال العالم لصاحبه ـ وهما في فضلهما ما هما ـ : {إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْء بَعْدَهَا فَلاَ تُصَاحِبْنِي}(3) .

قال الحروري : ما هذا مثل ذاك .

قال : أجل ، إن ذاك نبيٌّ معصوم ، وذا حكيم عليم قد علَّمه الله علماً ، ولم يعرفه موسى (عليه السلام) ثمَّ عرفه فأقرَّ له موسى ، واستيقن أنه ابن عمران ، ولكن لعلَّك صاحبك يستحقُّ المثل الأول ، وهو قوله : {فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ} .

فقالت الجماعة : أعلنت ـ أبا جعفر ـ بما في نفسك .

قال : ما قلت بأساً ، إنّما ذكرت الصحبة فأحببت أن لا يحتَّج بها للذي بيَّن الله في كتابه عن الصاحب .

قال الحروري : هذا صاحبه في الغار ، يلقى الأذى ويصبر على الخوف .

قال : هل كان صابراً ، وراجياً على ذلك ثواباً .

قال : نعم .

قال : أمَّا السكينة فقد نزلت على غيره ، وأمَّا الحزن فقد تعجَّله ، والأمر كما قال الله : {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا}(4) ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)لا ينهى عن طاعة ، وإنّما ينهى عن معصية ، فقد عصى الله في حزنه وهو مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، واكتسب ذنباً ، فهذا مما ينبغي لصاحبك أن يستغفر الله منه ، ولو كان ثبت في

____________

1- سورة الكهف ، الآية : 34 .

2- سورة التكوير ، الآية : 22 .

3- سورة الكهف ، الآية : 76 .

4- سورة التوبة ، الآية : 40 .


الصفحة 107

كينونته في الغار لقد كان الله أبان له ذلك فيه ، إنما كانت السكينة للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)بصريح القول ، وبقوله : ( وأيَّده ) فهل تقول بأنه شارك أيضاً ؟

قال : نعم .

قال : فهل أبان الله ذلك إذ كانت السكينة وكان المشارك فيها واحد ، كما أنزلت على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو في جماعة ، فخصَّت الرسول وعمَّتهم ، حيث قال : {فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ}(1) ، فأبانها له كما أبانها لهؤلاء ، وإنما قال الله تعالى : {وَأَيَّدَهُ} .

قال الحروري : قوموا ، قد أخرجه عن الإيمان .

قال : أنا لم أخرجه ، ولكنَّك أنت أخرجته .

قال : أنت تقول : أنا أخرجته ؟

قال : يا حروري ! أخرجته ، وهذا كتابنا ينطق .

قالت الجماعة : اثنين يا حروري .

قال أبو جعفر : وأمَّا الصلاة فلعمري إنكم تقولون : ما استتمَّها حتى خرج النبيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وأخرجه ، وتقدَّم فصلَّى بالناس ، فإن كان قدَّمه للصلاة وعددتم ذلك له فضلا ، فقد كان خروجه إلى الصلاة وإخراجه من المحراب له نقصاً ، ولعمري لقد كان فضلا لو كان هو الذي أمره بالصلاة وتركه على حاله ولم يخرجه منها .

قال الحروري : فلم يخرجه ، بل صلَّى بالناس .

قال : فهل كان النبيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أم أمامه ؟

قال : بل أمامه ، ولكن كان هو المكبِّر خلفه .

____________

1- سورة الفتح ، الآية : 26 .


الصفحة 108

قال : فمن كان إمام الناس في تلك الحال ؟

قال : رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إمام لأبي بكر وللناس جميعاً .

قال : فإنّما منزلة أبي بكر بمنزلة الصفِّ الأول على سائر الصفوف ، مع أن هذه دعوى لم تدعم ، ثمَّ ـ أيضاً ـ ما المعنى الذي أوقف أبا بكر في ذلك الموقف ؟

قال : يرفع صوته بالتكبير ليسمع الناس .

قال : لا تفعل تقع في صاحبك ، وتكذب على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) .

قالت الجماعة : وكيف ذلك ؟

قال : لأن الله تعالى يقول : {لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ}(1) ، وقال : {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ}(2) ، نهى أن ترفع الأصوات فوق صوته ، وأمره أن يرفع صوته فقد نهى عنه ، ووعد من غضَّ صوته مغفرة وأجراً عظيماً ، فهل تجيز لصاحبك فعل ذلك ؟

قال الحروري : ليس هذا من ذاك ، إنّما أوقف أبا بكر ليسمع الناس التكبير .

قال : هذه حدود مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) معروفة الطول والعرض ، فهل نحتاج إلى مسمع ، وأيضاً فإن النبيَّ (صلى الله عليه وآله وسلم) كان في حال ضعفه أقوى من قويِّهم في حال شبابه .

قالت الجماعة : هذه ثلاثة يا حروري .

قال : وأمَّا ما زعمت أنه ضجيعه في قبره فخبِّرني أين قبره ؟

____________

1- سورة الحجرات ، الآية : 2 .

2- سورة الحجرات ، الآية : 3 .


الصفحة 109

قال : في بيته .

قال : لعلّه في بيت عمر .

قال : بل في بيته (صلى الله عليه وآله وسلم) .

قال له : أوليس قد قال الله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ}(1) ، فهل استأذناه فأذن لهما ؟ ثمَّ الخاص والعام يعلم أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سدَّ أبوابهما في حال حياته حتى إن أحدهما قال : اترك لي كوَّة أو خوخة أنظر إليك منها ، قال : لا ، ولا مثل الإصبع(2) ، فأخرجهما وسدَّ أبوابهما(3) ، فأقم أنت البيِّنة على أنه أذن لهما .

قال الحروري : ذلك بفرض من الله .

قال له : بأيِّ وصيٍّ أو بأيِّ حجّة ؟

____________

1- سورة الأحزاب ، الآية : 53 .

2- راجع : مناقب آل أبي طالب ، ابن شهر آشوب : 2/38 ، الطبقات الكبرى ، ابن سعد : 2/228 .

3- قال العلاّمة الأميني عليه الرحمة في الغدير : 3/213 في أحاديث سدّ الأبواب إلاَّ باب علي (عليه السلام) : إن مقتضى هذه الأحاديث أنّه لم يبق بعد قصة سدِّ الأبواب باب يفتح إلى المسجد سوى باب الرسول العظيم (صلى الله عليه وآله وسلم) وابن عمِّه ، وحديث خوخة أبي بكر يصرِّح بأنه كانت هناك أبواب شارعة ، وسيوافيك البعد الشاسع بين القصتين ، وما ذكروه من الجمع بحمل الباب في قصة أميرالمؤمنين (عليه السلام) على الحقيقة ، وفي قصة أبي بكر بالتجوّز بإطلاقه على الخوخة ، وقولهم : ( كأنّهم لمَّا أمروا بسدِّ الأبواب سدُّوها ، وأحدثوا خوخاً يستقربون الدخول إلى المسجد منها ، فأمروا بعد ذلك بسدِّها ) تبرُّعىٌّ لا شاهد له ، بل يكذِّبه أن ذلك ما كان يتسنَّى لهم نصب عين النبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وقد أمرهم بسدِّ الأبواب لئلاّ يدخلوا المسجد منها ، ولا يكون لهم ممرٌّ به ، فكيف يمكنهم إحداث ما هو بمنزلة الباب في الغاية المبغوضة للشارع ، ولذلك لم يترك لعمّيه : حمزة والعباس ممرّاً يدخلان منه وحدهما ويخرجان منه ، ولم يترك لمن أراد كوَّة يشرف بها على المسجد ، فالحكم الواحد لا يختلف باختلاف أسماء الموضوع مع وحدة الغاية ، وإرادة الخوخة من الباب لا تبيح المحظور ولا تغيِّر الموضوع .


الصفحة 110

قال : بما لا يدفع ، وهو ميراث ابنتيهما من البيت .

قال له : قد استحقّا ثمناً من بين تسع حشايا كنَّ لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فقد ظلمت صاحبك وهو يجحد فاطمة (عليها السلام) ميراثها ، وأنت تزعم أن ميراث النساء قد أوجبه لا بنتيهما ، وأسقط الكثير من ميراث فاطمة (عليها السلام) ، وإن أحببت أجبتك إلى ما ادّعيت من الميراث ، فنظرنا هل يصير لا بنتيهما على قدر الحصّة من الحصص التسع فعلنا .

فقال أبو حنيفة والثوري : قم ويلك ! كم تزري عليهما وتلزمهما الحجّة ؟ إذا كان هكذا من أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يورِّث ، وقد احتمل لك أبو جعفر الحجّة ، وطلبت المقاسمة ، والله ما يصير لهما قدر ذراعين في البيت .

فالتفت أبو جعفر إلى الجماعة ، وقال : قد أبصرتم وسمعتم ، مع أنّي لم أذكر أشياء أخر ادّخرتها ، ثمَّ التفت إلى الحروري وقال : إذا كنّا نعلم أن حرمة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو ميِّت كحرمته وهو حيٌّ ، وقد أمر الله أن تغضَّ الأصوات عنده ، وأثاب فاعل ذلك ومعتمده ، فمن جعل لأبي بكر وعمر أن يضرب بالمعاول عنده ليدفنهما ؟

فانقطع ، وكأنما أخرس لسانه ، فالتفت إليه الجماعة وقالوا : يا أبا جعفر ! أنت الذي لا يقوم لك مناظر ، ولا تؤخذ عليك حجّة ، وقاموا وعليهم الخزية ، وسمَّوه من ذلك الوقت : شيطان الطاق ، رضي الله عنه ورحمه(1) .

____________

1- مختصر أخبار شعراء الشيعة ، المرزباني الخراساني : 90 ـ 95 .


الصفحة 111

المناظرة الثالثة والعشرون

مناظرة

مؤمن الطاق مع أبي حنيفة في حديث ردِّ الشمس


قال أحمد بن الصّديق المغربي : محمّد بن علي بن النعمان ، وهو الذي وقعت له مناظرة مع أبي حنيفة ; إذ قال له كالمنكر عليه : عمَّن رويت حديث ردِّ الشمس لعلي (عليه السلام) ؟

فقال : عمَّن رويت أنت عنه يا سارية الجبل ، فأفحمه(1) .

____________

1- فتح الملك العلي ، أحمد بن الصديق المغربي : 144 ، لسان الميزان ، ابن حجر : 5/300 ـ 301 رقم : 1017 .


الصفحة 112

المناظرة الرابعة والعشرون

مناظرة

مؤمن الطاق مع أبي حنيفة في حلّيّة المتعة


روى الشيخ الكليني عليه الرحمة عن علي رفعه ، قال : سأل أبو حنيفة أبا جعفر محمّد بن النعمان صاحب الطاق ، فقال له : يا أبا جعفر ! ما تقول في المتعة ؟ أتزعم أنها حلال ؟

قال : نعم .

قال : فما منعك أن تأمر نساءك أن يستمتعن ، ويكتسبن عليك ؟

فقال له أبو جعفر : ليس كل الصناعات يرغب فيها ، وإن كانت حلالا ، وللناس أقدار ومراتب ، يرفعون أقدارهم ، ولكن ما تقول ـ يا أبا حنيفة ـ في النبيذ ؟ أتزعم أنه حلال ؟

قال : نعم .

قال : فما يمنعك أن تقعد نساءك في الحوانيت نبَّاذات فيكسبن عليك ؟

فقال أبو حنيفة : واحدة بواحدة ، وسهمك أنفذ .

ثمَّ قال له : يا أبا جعفر ! إن الآية التي في {سَأَلَ سَائِلٌ} تنطق بتحريم المتعة ، والرواية عن النبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) قد جاءت بنسخها .


الصفحة 113

فقال له أبو جعفر : يا أبا حنيفة ! إن سورة {سَأَلَ سَائِلٌ}مكّية ، وآية المتعة مدنيّة ، وروايتك شاذّة رديَّة .

فقال له أبو حنيفة : وآية الميراث ـ أيضاً ـ تنطق بنسخ المتعة .

فقال أبو جعفر : قد ثبت النكاح بغير ميراث .

قال أبو حنيفة : ممن أين قلت ذاك ؟

فقال أبو جعفر : لو أن رجلا من المسلمين تزوَّج امرأة من أهل الكتاب ، ثمَّ توفِّي عنها ما تقول فيها ؟

قال : لا ترث منه .

قال : فقد ثبت النكاح بغير ميراث ، ثمَّ افترقا(1) .

وقيل : إنه دخل على أبي حنيفة يوماً ، فقال له أبو حنيفة : بلغني عنكم ـ معشر الشيعة ـ شيء .

فقال : فما هو ؟

قال : بلغني أن الميِّت منكم إذا مات كسرتم يده اليسرى لكي يعطى كتابه بيمينه .

فقال : مكذوب علينا يا نعمان ، ولكنّي بلغني عنكم ـ معشر المرجئة ـ أن الميِّت منكم إذا مات قمعتم في دبره قمعاً ، فصببتم فيه جرّة من ماء لكي لا يعطش يوم القيامة .

فقال أبو حنيفة : مكذوب علينا وعليكم(2) .

____________

1- الكافي ، الكليني : 5/450 ح8 ، بحار الأنوار ، المجلسي : 47/411 ـ ح17 .

2- اختيار معرفة الرجال ، الطوسي : 2/430 ـ 431 ، ح332 ، بحار الأنوار ، المجلسي : 47/406 ـ 407 ح10 .


الصفحة 114

المناظرة الخامسة والعشرون

مناظرة

عمرو بن أذينة مع القاضي عبدالرحمن بن أبي ليلى

في وجوب اتّباع أمير المؤمنين (عليه السلام)


عن عمرو بن أذينة ـ وكان من أصحاب أبي عبدالله جعفر بن محمّد صلوات الله عليه ـ أنّه قال : دخلت يوماً على عبدالرحمن بن أبي ليلى بالكوفة وهو قاض ، فقلت : أردت ـ أصلحك الله ـ أن أسألك عن مسائل ، ـ وكنت حديث السنّ ـ فقال : سل ـ يا بن أخي ـ عمّا شئت .

قلت : أخبرني عنكم معاشر القضاة ، ترد عليكم القضيّة في المال والفرج والدم ، فتقضي أنت فيها برأيك ، ثمَّ ترد تلك القضيّة بعينها على قاضي مكة ، فيقضي فيها بخلاف قضيّتك ، ثمَّ ترد على قاضي البصرة ، وقاضي اليمن ، وقاضي المدينة ، فيقضون فيها بخلاف ذلك ، ثمَّ تجتمعون عند خليفتكم الذي استقضاكم ، فتخبرونه باختلاف قضاياكم ، فيصوِّب رأي كلِّ واحد منكم ، وإلهكم واحد ، ونبيُّكم واحد ، ودينكم واحد ، أفأمركم الله عزَّ وجلَّ بالاختلاف فأطعتموه ؟ أم نهاكم عنه فعصيتموه ؟ أم كنتم شركاء الله في حكمه فلكم أن تقولوا ، وعليه أن يرضى ؟ أم أنزل الله ديناً ناقصاً فاستعان بكم في إتمامه ؟ أم أنزله الله تامّاً فقصَّر


الصفحة 115

رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن أدائه ؟ أم ماذا تقولون ؟

فقال : من أين أنت يا فتى ؟

قلت : من أهل البصرة .

قال : من أيِّها ؟

قلت : من عبد القيس .

قال : من أيِّهم ؟

قلت : من بني أذينة .

قال : ما قرابتك من عبدالرحمن بن أذينة ؟

قلت : هو جدّي .

فرحَّب بي وقرَّبني ، وقال : أَي فتى ! لقد سألت فغلظت ، وانهمكت فتعوَّصت ، وسأخبرك إن شاء الله ، أما قولك في اختلاف القضايا فإنه ماورد علينا من أمر القضايا ممَّا له في كتاب الله أصل أو في سنَّة نبيِّه (صلى الله عليه وآله وسلم)فليس لنا أن نعدو الكتاب والسنة ، وأمَّا ما ورد علينا ممَّا ليس في كتاب الله ولا في سنَّة نبيِّه ، فإنا نأخذ فيه برأينا .

قلت : ما صنعت شيئاً ; لأن الله عزَّ وجلَّ يقول : {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْء}(1) وقال فيه : {تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْء}(2) أرأيت لو أن رجلا عمل بما أمر الله به ، وانتهى عمَّا نهى الله عنه ، أبقي لله شيء يعذّبه عليه إن لم يفعله ، أو يثيبه عليه إن فعله ؟

قال : وكيف يثيبه على ما لم يأمره به ، أو يعاقبه على ما لم ينهه عنه ؟

____________

1- سورة الأنعام ، الآية : 38 .

2- سورة النحل ، الآية : 89 .


الصفحة 116

قلت : وكيف يرد عليك من الأحكام ما ليس له في كتاب الله أثر ، ولا في سنَّة نبيِّه (صلى الله عليه وآله وسلم) خبر ؟

قال : أخبرك ـ يابن أخي ـ حديثاً حدَّثَنَاه بعض أصحابنا ، يرفع الحديث إلى عمر بن الخطاب ، أنه قضى قضيَّة بين رجلين ، فقال له أدنى القوم إليه مجلساً : أصبت يا أميرالمؤمنين ، فعلاه عمر بالدرّة وقال : ثكلتك أمُّك ، والله ما يدري عمر أصاب أم أخطأ ، إنما هو رأي اجتهدته ، فلا تزكّونا في وجوهنا .

قلت : أفلا أحدِّثك حديثاً ؟

قال : وما هو ؟

قلت : أخبرني أبي ، عن أبي القاسم العبدي ، عن أبان ، عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) أنه قال : القضاة ثلاثة ، هالكان وناج ، فأمَّا الهالكان فجائر جار متعمِّداً ، ومجتهد أخطأ ، والناجي من عمل بما أمر الله به .. فهذا نقض حديثك يا عمّ .

قال : أجل والله يابن أخي ، فتقول أنت : إن كل شيء في كتاب الله عزَّ وجلَّ ؟

قلت : الله قال ذلك ، وما من حلال ولا حرام ، ولا أمر ولا نهي إلاّ وهو في كتاب الله عزَّ وجلَّ ، عرف ذلك من عرفه ، وجهله من جهله ، ولقد أخبرنا الله فيه بما لا نحتاج إليه ، فكيف بما نحتاج إليه ؟!

قال : كيف قلت ؟

قلت : قوله : {فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا}(1) .

قال : فعند من يوجد علم ذلك ؟

____________

1- سورة الكهف ، الآية : 42 .


الصفحة 117

قلت : عند من عرفت .

قال : وددت لو أني عرفته ، فأغسل قدميه وآخذ عنه وأتعلَّم منه .

قلت : أناشدك الله ، هل تعلم رجلا كان إذا سأل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) شيئاً أعطاه ، وإذا سكت عنه ابتدأه ؟

قال : نعم ، ذلك علي بن أبي طالب صلوات الله عليه .

قلت : فهل علمت أن علياً سأل أحداً بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن حلال أو حرام ؟

قال : لا .

قلت : هل علمت أنهم كانوا يحتاجون إليه ويأخذون عنه ؟

قال : نعم .

قلت : فذلك عنده .

قال : فقد مضى ، فأين لنا به ؟

قلت : تسأل في ولده ، فإن ذلك العلم عندهم .

قال : وكيف لي بهم ؟

قلت : أرأيت قوماً كانوا بمفازة من الأرض ومعهم أدلاّء ، فوثبوا علهيم فقتلوا بعضهم ، وجافوا بعضهم(1) ، فهرب واستتر من بقي لخوفهم ، فلم يجدوا من يدلّهم ، فتاهوا في تلك المفازة حتى هلكوا ، ما تقول فيهم ؟

قال : إلى النار ، واصفرَّ وجهه ، وكانت في يده سفر جلة ، فضرب بها الأرض فتهشَّمت ، وضرب بين يديه وقال : إنّا لله وإنّا إليه راجعون(2) .

____________

1- جافوا : أخافوا .

2- دعائم الإسلام ، القاضي النعمان المغربي : 1/92 ـ 95 .


الصفحة 118

المناظرة السادسة والعشرون

مناظرة

شريك مع المهدي العباسي في إمامة أميرالمؤمنين (عليه السلام)


دخل شريك على المهدي ، فقال له : ما ينبغي أن تقلَّد الحكم بين المسلمين ؟

قال : ولم ؟

قال : لخلافك على الجماعة ، وقولك بالإمامة .

قال : أمَّا قولك : " بخلافك على الجماعة " فعن الجماعة أخذت ديني ، فكيف أخالفهم وهم أصل ديني ؟!

وأمَّا قولك : " وقولك بالإمامة " فما أعرف إلاَّ كتاب الله وسنَّة رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) .

وأمَّا قولك : مثلك ما يقلَّد الحكم بين المسلمين ، فهذا شيء أنتم فعلتموه ، فإن كان خطأ فاستغفروا الله منه ، وإن كان صواباً فأمسكوا عليه .

قال : ما تقول في علي بن أبي طالب ؟

قال : ما قال جدّك العباس وعبدالله .

قال : وما قالا فيه ؟


الصفحة 119

قال : فأمَّا العباس ، فمات وعلي عنده أفضل الصحابة ، وقد كان يرى كبراء المهاجرين يسألونه عمَّا ينزل من النوازل ، وما احتاج هو إلى أحد حتى لحق بالله .

وأمَّا عبدالله ، فانه كان يضرب بين يديه بسيفين ، وكان في حروبه رأساً متَّبعاً ، وقائداً مطاعاً ، فلو كانت إمامته على جور كان أول من يقعد عنها أبوك ، لعلمه بدين الله ، وفقهه في أحكام الله .

فسكت المهدي وأطرق ، ولم يمض بعد هذا المجلس إلاَّ قليل حتى عزل شريك(1) .

____________

1- تأريخ بغداد ، الخطيب البغدادي : 9/291 ـ 292 .


الصفحة 120

المناظرة السابعة والعشرون

مناظرة

سعد بن عبدالله القمي مع بعض النواصب


روى الشيخ الصدوق عليه الرحمة بالإسناد عن أحمد بن مسرور ، عن سعد بن عبد الله القمي قال : كنت امرءاً لهجاً بجمع الكتب المشتملة على غوامض العلوم ودقائقها ، كلفاً باستظهار ما يصحُّ لي من حقائقها ، مغرماً بحفظ مشتبهها ومستغلقها ، شحيحاً على ما أظفر به من معضلاتها ومشكلاتها ، متعصِّباً لمذهب الإماميّة ، راغباً عن الأمن والسلامة في انتظار التنازع والتخاصم والتعدّي إلى التباغض والتشاتم ، معيباً للفرق ذوي الخلاف ، كاشفاً عن مثالب أئمَّتهم ، هتّاكاً لحجب قادتهم ، إلى أن بليت بأشِّد النواصب منازعة ، وأطولهم مخاصمة ، وأكثرهم جدلا ، وأشنعهم سؤالا ، وأثبتهم على الباطل قدماً .

فقال ذات يوم ـ وأنا أناظره ـ : تبّاً لك ولأصحابك يا سعد ، إنكم ـ معاشر الرافضة ـ تقصدون على المهاجرين والأنصار بالطعن عليهما ، وتجحدون من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولايتهما وإمامتهما ، هذا الصدّيق الذي فاق جميع الصحابة بشرف سابقته ، أما علمتم أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ما أخرجه مع نفسه إلى الغار إلاَّ علماً منه أن الخلافة له من بعده ، وأنّه هو المقلَّد لأمر التأويل ، والملقى إليه أزمّة


الصفحة 121

الأمّة ، وعليه المعوِّل في شعب الصدع ، ولمِّ الشعث ، وسدِّ الخلل ، وإقامة الحدود ، وتسريب الجيوش(1) لفتح بلاد الشرك ؟ وكما أشفق على نبوَّته أشفق على خلافته ; إذ ليس من حكم الاستتار والتواري أن يروم الهارب من الشرِّ مساعدة إلى مكان يستخفي فيه ، ولمَّا رأينا النبيَّ (صلى الله عليه وآله وسلم) متوجِّهاً إلى الانجحار ، ولم تكن الحال توجب استدعاء المساعدة من أحد استبان لنا قصد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بأبي بكر للغار للعلّة التي شرحناها ، وإنّما أبات علياً (عليه السلام) على فراشه لمَّا لم يكن يكترث به ، ولم يحفل به(2) لاستثقاله ، ولعلمه بأنه إن قتل لم يتعذَّر عليه نصب غيره مكانه للخطوب التي كان يصلح لها .

قال سعد : فأوردت عليه أجوبة شتّى ، فما زال يعقب كل واحد منها بالنقض والردِّ عليَّ ، ثمَّ قال : يا سعد ! ودونكها أخرى بمثلها تخطم(3) أنوف الروافض ، ألستم تزعمون أن الصدّيق المبرَّأ من دنس الشكوك ، والفاروق المحامي عن بيضة الإسلام كانا يسرَّان النفاق ، واستدللتم بليلة العقبة ؟ أخبرني عن الصدّيق والفاروق أسلما طوعاً أو كرهاً ؟

قال سعد : فاحتلت لدفع هذه المسألة عنّي خوفاً من الإلزام ، وحذراً من أنّي إن أقررت له بطوعهما للإسلام احتجَّ بأن بدء النفاق ونشأه في القلب لا يكون إلاَّ عند هبوب روائح القهر والغلبة ، وإظهار البأس الشديد في حمل المرء على من ليس ينقاد إليه قلبه ، نحو قول الله تعالى : {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ

____________

1- تسريب الجيوش : بعثها قطعة قطعة .

2- لم أكترث له أي ما أبالي ، وما حفله وما حفل به أي ما بالى به ولا اهتمَّ له .

3- خطمه : أي ضرب أنفه .


الصفحة 122

وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا}(1) .

وإن قلت : أسلما كرهاً كان يقصدني بالطعن ; إذ لم تكن ثمَّة سيوف منتضاة(2) كانت تريهما البأس .

قال سعد : فصدرت عنه مزورَّاً(3) قد انتفخت أحشائي من الغضب ، وتقطَّع كبدي من الكرب ، وكنت قد اتخذت طوماراً ، وأثبتُّ فيه نيِّفاً وأربعين مسألة من صعاب المسائل لم أجد لها مجيباً ، على أن أسال عنها خبير أهل بلدي ; أحمد بن إسحاق ، صاحب مولانا أبي محمّد (عليه السلام)(4) فارتحلت خلفه ، وقد كان خرج قاصداً نحو مولانا بسر من رأى ، فلحقته في بعض المنازل ، فلمَّا تصافحنا قال : بخير لحاقك بي ، قلت : الشوق ثمَّ العادة في الأسئلة .

قال : قد تكافينا على هذه الخطّة الواحدة ، فقد برَّح بي القرم(5) إلى لقاء مولانا أبي محمّد (عليه السلام) وأنا أريد أن أسأله عن معاضل في التأويل ، ومشاكل في التنزيل فدونكها الصحبة المباركة ، فإنها تقف بك على ضفّة بحر لا تنقضي عجائبه ، ولا تفنى غرائبه ، وهو إمامنا .

فوردنا سر من رأى فانتهينا منها إلى باب سيِّدنا ، فاستأذنّا فخرج علينا الإذن بالدخول عليه ، وساق الحديث في عرض أسئلته على الإمام (عليه السلام) وجواباته له ، إلى أن قال : ثمَّ قال مولانا(عليه السلام) : يا سعد ! وحين ادّعى خصمك أن رسول

____________

1- سورة المؤمن ، الآية : 84 .

2- انتضى السف : سلَّه .

3- الإزورار عن الشيء : العدول عنه .

4- يعني الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) .

5- المراد بها هنا : شدّة الشوق .


الصفحة 123

الله (صلى الله عليه وآله وسلم)ما أخرج مع نفسه مختار هذه الأمَّة إلى الغار إلاَّ علماً منه أن الخلافة له من بعده ، وأنّه هو المقلَّد أمور التأويل ، والملقى إليه أزمَّة الأمّة ، وعليه المعوَّل في لمِّ الشعث ، وسدِّ الخلل ، وإقامة الحدود ، وتسريب الجيوش لفتح بلاد الكفر ، فكما أشفق على نبوَّته أشفق على خلافته ; إذ لم يكن من حكم الاستتار والتواري أن يروم الهارب من الشرِّ مساعدة من غيره إلى مكان يستخفي فيه ، وإنما أبات عليّاً (عليه السلام) على فراشه لمَّا لم يكن يكترث له ، ولم يحفل به لا ستثقاله إياه ، وعلمه أنه إن قتل لم يتعذَّر عليه نصب غيره مكانه للخطوب التي كان يصلح لها .

فهلا نقضت عليه دعواه بقولك : أليس قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : الخلافة بعدي ثلاثون سنة(1) ، فجعل هذه موقوفة على أعمار الأربعة الذين هم الخلفاء الراشدون في مذهبكم ؟

فكان لا يجد بدّاً من قوله لك : بلى .

قلت : فكيف تقول حينئذ : أليس كما علم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)أن الخلافة من بعده لأبي بكر علم أنها من بعد أبي بكر لعمر ، ومن بعد عمر لعثمان ، ومن بعد عثمان لعلي (عليه السلام) ؟

فكان أيضاً لا يجد بدّاً من قوله لك : نعم .

ثمَّ كنت تقول له : فكان الواجب على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)أن يخرجهم جميعاً ( على الترتيب ) إلى الغار ويشفق عليهم كما أشفق على أبي بكر ، ولا يستخفَّ

____________

1- صحيح ابن حبان : 15/392 ، الثقات ، ابن حبان : 2/304 ، المعجم الكبير ، الطبراني : 1/89 ح136 ، فتح الباري ، ابن حجر : 8/61 .


الصفحة 124

بقدر هؤلاء الثلاثة بتركه إيَّاهم ، وتخصيصه أبا بكر وإخراجه مع نفسه دونهم .

ولمَّا قال : أخبرني عن الصدِّيق والفاروق أسلما طوعاً أو كرهاً ؟ لم لم تقل له : بل أسلما طمعاً ، وذلك بأنهما كانا يجالسان اليهود ويستخبرانهم عمَّا كانوا يجدون في التوراة ، وفي سائر الكتب المتقدِّمة الناطقة بالملاحم من حال إلى حال من قصة محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن عواقب أمره ، فكانت اليهود تذكر أن محمّداً يسلَّط على العرب كما كان بختنصَّر سلِّط على بني إسرائيل ، ولا بدَّ له من الظفر بالعرب كما ظفر بختنصَّر ببني إسرائيل .. الخ(1) .

____________

1- كمال الدين وتمام النعمة ، الصدوق : 454 ـ 463 ح21 ، دلائل الإمامة ، الطبري ( الشيعي ) : 515 .


الصفحة 125

المناظرة الثامنة والعشرون

مناظرة

الشيخ المفيد (رحمه الله) مع القاضي عبد الجبار في حديث الغدير(1)


قال القاضي في المجالس نقلا عن مصابيح القلوب : بينما القاضي عبد الجبّار ذات يوم في مجلسه في بغداد ـ ومجلسه مملوء من علماء الفريقين ـ إذ حضر الشيخ وجلس في صفِّ النعال ، ثمَّ قال للقاضي : إن لي سؤالا ، فإن أجزت بحضور هؤلاء الأئمة .

فقال له القاضي : سل .

فقال : ما تقول في هذا الخبر الذي ترويه طائفة من الشيعة : من كنت مولاه فعليٌّ مولاه(2) ، أهو مسلَّم صحيح عن النبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم الغدير ؟

____________

1- قد تقدَّمت في الجزء الثالث : 301 ، المناظرة الحادية والخمسون ، مناظرة الشيخ المفيد مع الرمّاني ، وهي شبيهة بهذه المناظرة ، وهذه أكمل منها .

2- وهذا الحديث قاله المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم الغدير ، وهو يعدُّ من المتواترات جدّاً ، فقد روته جلُّ كتب الحديث والسنن والتأريخ عند جمهور المسلمين ، ونذكر منها على سبيل المثال : فضائل الصحابة ، أحمد بن حنبل : 14 ، مسند أحمد بن حنبل : 1/84 ، سنن ابن ماجة : 1/45 ، سنن الترمذي : 5/297 ، المستدرك ، الحاكم النيسابوري : 3/109 ، المصنّف ، عبد الرزاق الصنعاني : 11/225 ، المصنّف ، ابن أبي شيبة الكوفي : 7/495 ح9 ، السنن الكبرى ، النسائي : 5/45 ، صحيح ابن حبان : 15/376 ، المعجم الكبير ، الطبراني : 4/17 ، مجمع الزوائد ، الهيثمي : 7/17 .


الصفحة 126

فقال : نعم خبر صحيح .

فقال الشيخ : ما المراد بلفظ المولى في الخبر ؟

فقال : هو بمعنى أولى .

فقال الشيخ : فما هذا الخلاف والخصومة بين الشيعة والسنّة ؟

فقال الشيخ : أيُّها الأخ ! هذه رواية ، وخلافة أبي بكر دراية ، والعادل لا يعادل الرواية بالدراية .

فقال الشيخ : ما تقول في قول النبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) لعليٍّ (عليه السلام) : حربك حربي ، وسلمك سلمي ؟(1)

قال القاضي : الحديث صحيح .

فقال : ما تقول في أصحاب الجمل ؟

فقال القاضي : أيُّها الأخ ! إنهم تابوا .

فقال الشيخ : أيُّها القاضي ! الحرب دراية ، والتوبة رواية ، وأنت قرَّرت في حديث الغدير أن الرواية لا تعارض الدراية .

فبهت الشيخ القاضي ، ولم يحر جواباً ، ووضع رأسه ساعة ، ثمَّ رفع رأسه وقال : من أنت ؟

فقال : خادمك محمّد بن محمّد بن النعمان الحارثي .

فقام القاضي من مقامه ، وأخذ بيد الشيخ وأجلسه في مسنده ، وقال : أنت المفيد حقّاً ! فتغيَّرت وجوه علماء المجلس .

____________

1- المناقب ، الخوارزمي : 129 ح143 ، مناقب أميرالمؤمنين (عليه السلام) ، الكوفي : 1/250 ح167 ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 2/297 ، ينابيع المودة ، القندوزي الحنفي : 1/200 .


الصفحة 127

فلمَّا أبصر القاضي ذلك منهم قال : أيُّها الفضلاء ! إن هذا الرجل ألزمني ، وأنا عجزت عن جوابه ، فإن كان أحد منكم عنده جواب عمّا ذكر فليذكر ، ليقوم الرجل ويرجع مكانه الأول .

فلمَّا انفصل المجلس شاعت القصّة ، واتّصلت بعضد الدولة ، فأرسل إلى الشيخ فأحضره ، وسأله عمّا جرى فحكى له ذلك ، فخلع عليه خلعة سنيّة ، وأخذ له بفرس محلَّى بالزينة ، وأمر له بوظيفة تجري عليه(1) .

____________

1- خاتمة المستدرك ، الميرزا النوري : 3/236 ، مستدرك سفينة البحار ، النمازي : 8/349 ـ 350 .