الصفحة 128

المناظرة التاسعة والعشرون

مناظرة

الشيخ المفيد مع شيخ من المعتزلة

في المأثور عن الأئمة (عليهم السلام) وخلاف العامة لهم

قال الشريف المرتضى (رضي الله عنه) : ومن حكايات الشيخ ـ أيَّده الله ـ قال : حضرت مجمعاً لقوم من الرؤساء ، وكان فيهم شيخ من أهل الري ، معتزليّ ، يعظِّمونه لمحل سلفه ، وتعلُّقه بالدولة ، فسئلت عن شيء من الفقه ، فأفتيت فيه على المأثور عن الأئمة(عليهم السلام) .

فقال ذلك الشيخ : هذه الفتيا تخالف الإجماع .

فقلت له : عافاك الله ، من تعني بالإجماع ؟

فقال : الفقهاء المعروفين بالفتيا في الحلال والحرام من فقهاء الأمصار .

فقلت : هذا ـ أيضاً ـ مجمل من القول ، فهل تدخل آل محمّد(عليهم السلام) في جملة هؤلاء الفقهاء ، أم تخرجهم من الإجماع ؟

فقال : بل أجعلهم في صدر الفقهاء ، ولو صحَّ عنهم ما تروونه لما خالفناه .

فقلت له : هذا مذهب لا أعرفه لك ، ولا لمن أو مأت إليه ممن جعلتهم الفقهاء ; لأن القوم بأجمعهم يرون الخلاف على أميرالمؤمنين علي بن أبي


الصفحة 129

طالب (عليه السلام) ـ وهو سيِّد أهل البيت(عليهم السلام) ـ في كثير ممَّا قد صحَّ عنه من الأحكام ، فكيف تستوحشون من خلاف ذرّيّته ، وتوجبون على أنفسكم قبول قولهم على كل حال ؟

فقال : معاذ الله ! ما نذهب إلى هذا ، ولا يذهب إليه أحد من الفقهاء ، وهذه شناعة منك على القوم بحضرة هؤلاء الرؤساء .

فقلت له : لم أحكِ إلاَّ ما أقيم عليه البرهان ، ولا ذكرت إلاَّ معروفاً لا يمكن أحداً من أهل العلم دفعي عنه لما هو عليه من الاشتهار ، لكنك أنت تريد أن تتجمَّل بضدّ مذهبك على هؤلاء الرؤساء .

ثمَّ أقبلت على القوم ، فقلت : لا خلاف عند شيوخ هذا الرجل وأئمّته وفقهائه وسادته أن أميرالمؤمنين (عليه السلام) قد يجوز عليه الخطأ في شيء يصيب فيه عمرو بن العاص ، زيادة على ما حكيت عنه من المقال !

فاستعظم القوم ذلك ، وأظهروا البراءة من معتقده ، وأنكره هو ، وزاد في الإنكار .

فقلت له : أليس من مذهبك ومذهب هؤلاء الفقهاء أن علياً (عليه السلام) لم يكن معصوماً كعصمة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ؟

قال : بلى .

قلت : فلم لا يجوز عليه الخطأ في شيء من الأحكام ؟ فسكت .

ثمَّ قلت له : أليس عندكم أن أميرالمؤمنين (عليه السلام) قد كان يجتهد رأيه في كثير من الأحكام ، وأن عمرو بن العاص وأبا موسى الأشعري والمغيرة بن شعبة كانوا من أهل الاجتهاد ؟

قال : بلى .


الصفحة 130

قلت له : فما الذي يمنع من إصابة هؤلاء القوم ما يذهب على أميرالمؤمنين (عليه السلام) من جهة الاجتهاد ، مع ارتفاع العصمة عنه ، وكون هؤلاء القوم من أهل الاجتهاد ؟

فقال : ليس يمنع من ذلك مانع .

قلت له : فقد أقررت بما أنكرت الآن ، ومع هذا أفليس من أصلك أن كل أحد بعد النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) يؤخذ من قوله ويترك إلاَّ ما انعقد عليه الإجماع ؟ قال : بلى .

قلت له : أفليس هذا يسوِّغكم الخلاف على أميرالمؤمنين (عليه السلام) في كثير من أحكامه التي لم يقع عليها الإجماع ؟

وبعد ، فليست لي حاجة إلى هذا التعسّف ، ولا أنا مفتقر فيما حكيت إلى هذا الاستدلال ; لأنه لا أحد من الفقهاء إلاَّ وقد خالف أميرالمؤمنين (عليه السلام) في بعض أحكامه ، ورغب عنها إلى غيرها ، وليس فيهم أحد وافقه في جميع ما حكم به من الحلال والحرام ، وإني لأعجب من إنكارك ما ذكرت وصاحبك الشافعي يخالف أميرالمؤمنين (عليه السلام) في الميراث والمكاتب ، ويذهب إلى قول زيد فيهما !

ويروي عنه (عليه السلام) أنه كان لا يرى الوضوء من مسّ الذكر ، ويقول هو : إن الوضوء منه واجب ، وإن علياً (عليه السلام) خالف الحكم فيه بضرب من الرأي !

وحكى الربيع عنه في كتابه المشهور عنه أنه قال : لا بأس بصلاة الجمعة والعيدين خلف كل أمين وغير مأمون ومتغلِّب ، صلَّى عليٌّ (عليه السلام) بالناس وعثمان محصور ، فجعل الدلالة على جواز الصلاة خلف المتغلِّب على أمر الأمّة صلاة الناس خلف علي (عليه السلام) في زمن حصر عثمان ، فصرح بأن علياً كان متغلِّباً ، ولا خلاف أن المتغلِّب على أمر الأمَّة فاسق ضالّ ، وقال : لا بأس بالصلاة خلف الخوارج ، لأنهم متأوِّلون ، وإن كانوا فاسقين .

فمن يكون هذا مذهبه ومقالة إمامه وفقيهه ، يزعم معه أنه لو صحَّ له عن


الصفحة 131

أميرالمؤمنين (عليه السلام) شيء أو عن ذرّيّته لدان به ! لو لا أن الذاهب إلى هذا يريد التلبيس .

وليس في فقهاء الأمصار ـ سوى الشافعي ـ إلاَّ وقد شارك الشافعي في الطعن على أميرالمؤمنين (عليه السلام) ، وتزييف كثير من قوله ، والردّ عليه في أحكامه ، حتى إنهم يصرِّحون بأن الذي يذكره أميرالمؤمنين (عليه السلام) في الأحكام معتبر ، فإن أسنده إلى النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) قبلوه منه على ظاهر العدالة ، كما يقبلون من أبي موسى الأشعري وأبي هريرة والمغيرة بن شعبة ما يسندونه إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، بل كما يقبلون من حمَّال في السوق على ظاهر العدالة ما يرويه مسنداً إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) .

فأمَّا ما قال أميرالمؤمنين (عليه السلام) من غير إسناد إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)كان موقوفاً على سيرهم ونظرهم واجتهادهم ، فإن وضح لهم صوابه فيه قالوا به من حيث النظر ، لا من حيث حكمه به وقوله ، وإن عثروا على خطأ فيه اجتنبوه وردّوه عليه وعلى من اتّبعه فيه ، فزعموا أن آراءهم هي المعيار على قوله (عليه السلام) ، وهذا مالا يذهب إليه من وجد في صدره جزأً من مودّته (عليه السلام) ، وحقّه الواجب له ، وتعظيمه الذي فرضه الله تعالى ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، بل لا يذهب إلى هذا القول إلاَّ من ردَّ على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله : علي مع الحق والحق مع علي يدور معه حيثما دار(1) .

____________

1- روى الخطيب البغدادي عن أبي ثابت مولى أبي ذر ، قال : دخلت على أم سلمة فرأيتها تبكي وتذكر علياً ، وقالت : سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول : علي مع الحق والحق مع علي ، ولن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض يوم القيامة . ( تاريخ بغداد ، الخطيب البغدادي : 14/322 ، رقم : 7643 ، تاريخ مدينة دمشق ، ابن عساكر : 42/449 ) .

وعن سعد بن أبي وقاص قال : سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول : علي مع الحق والحق معه .

( مناقب أميرالمؤمنين (عليه السلام) ، الكوفي : 1/422 ، مجمع الزوائد ، الهيثمي : 7/235 ) .

وجاء في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : 2/297 ، عن تلامذة الشيخ أبي القاسم البلخي ـ وقد أيَّدهم ـ قالوا جميعاً : قد ثبت عنه في الأخبار الصحيحة أنه قال : علي مع الحق ، والحق مع علي ، يدور حيثما دار .

وجاء في كتاب الإمامة والسياسة لابن قتيبة الدينوري : 1/98 ، قال : وأتى محمّد ابن أبي بكر ، فدخل على أخته عائشة ، قال لها : أما سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول : علي مع الحق ، والحق مع علي ؟ ثمَّ خرجت تقاتلينه بدم عثمان ... إلخ .

وروى ابن عساكر في تأريخ مدينة دمشق : 42/449 ، بالإسناد عن أم سلمة قالت : والله إن علياً على الحق قبل اليوم وبعد اليوم ، عهداً معهوداً وقضاء مقضياً وراجع ـ أيضاً ـ شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 18/72 ، ينابيع المودة لذوي القربى ، القندوزي : 1/173 .


الصفحة 132

وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) : أنا مدينة العلم وعلي بابها(1) وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) : علي أقضاكم(2) ، وقول أميرالمؤمنين (عليه السلام) : ضرب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يده على صدري وقال : اللهم اهد قلبه ، وثبِّت لسانه ، فما شككت في قضاء بين اثنين(3) .

فلمَّا ورد عليه هذا الكلام تحيَّر ، وقال : هذه شناعات على الفقهاء ، والقوم لهم حجج على ما حكيت عنهم .

فقال له بعض الحاضرين : نحن نبرأ إلى الله من هذا المقال وكل دائن به .

وقال له آخر : إن كان مع القوم حجج على ما حكاه الشيخ فهي حجج على إبطال ما ادّعيت أولا من ضدّ هذه الحكاية ، ونحن نعيذك بالله أن تذهب إلى هذا القول ! فإن كل شيء تظنّه حجّة عليه فهو كالحجّة في إبطال نبوة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فسكت مستحيياً ممّا جرى ، وتفرَّق الجمع(4) .

____________

1- تقدَّمت تخريجاته .

2- تقدَّمت تخريجاته .

3- تقدَّمت تخريجاته .

4- الفصول المختارة ، المفيد : 132 ـ 135 ، بحار الأنوار ، المجلسي : 10/443 ـ 445 ح15 .


الصفحة 133

المناظرة الثلاثون

مناظرة

الشيخ المفيد (رحمه الله) مع بعض المعتزلة في فقه أهل البيت (عليهم السلام)

قال الشيخ أدام الله عزَّه : قال لي يوماً بعض المعتزلة : لو كان ما تدّعونه من هذا الفقه الذي تضيفونه إلى جعفر بن محمّد وأبيه وابنه(عليهم السلام) حقاً ، وأنتم صادقون في الحكاية عنهم ، لوجب أن يقع لنا ـ معشر مخالفيكم ـ العلم الضروريّ بصحّة ذلك حتى لا نشكَّ فيه ، كما وقع لكم صحّة الحكاية عن أبي حنيفة ومالك والشافعي وداود وغيرهم من فقهاء الأمصار برواية أصحابهم عنهم ، فلمّا لم نعلم صحّة ما تدّعونه ، مع سماعنا لأخباركم وطول مجالستنا لكم دلَّ على أنكم متخرِّصون في ذلك !

وبعد فما بال كل من عددنا من فقهاء الأمصار قد استفاض عنهم القول في الفتيا استفاضة منعت من الريب في مذاهبهم ، وأنتم أئمّتكم أعظم قدراً من هؤلاء ، وأجلُّ خطراً ، لاسيما مع ما تعتقدون فيهم : من العصمة ، وعلوّ المنزلة ، والفضل على جميع البريّة ، والبينونة من الخلق بالمعجزة ، وما اختصّوا به من خلافة الرسول عليه وآله السلام ، وفرض الطاعة على الجنّ والإنس ؟ وإن هذا لشيء عجيب !


الصفحة 134

قال الشيخ أدام الله عزَّه : فقلت له : إن الجواب عن هذا السؤال قريب جدّاً ، غير أني أقلبه عليك ، فلا يمكنك الانفصال منه إلاَّ بإخراج من ذكرت من جملة أهل العلم ، ونفي المعرفة عنهم ، وإسقاط مقال من زعمت أنهم كانوا من أصحاب الفتيا ، والعلم الضروريّ حاصل لكل من سمع الأخبار بضدّ ذلك وخلافه ، وأنهم(عليهم السلام)كانوا من أجلّة أهل الفتيا .

وذلك : أننا وإن كنا كاذبين على قولك ، فلابدّ لهؤلاء القوم(عليهم السلام)من مقال في الفتيا يتضمَّن بعض ما حكيناه عنهم ، فما بالنا معشر الشيعة ، بل ما بالكم ـ معشر الناصبة ـ لا تعلمون مذاهبهم على الحقيقة بالضرورة ، كما تعلمون مذاهب أهل الحجاز والعراق ومن ذكرت من فقهاء الأمصار ؟

فإن زعمت أنك تعلم لهم في الفتيا مذهباً بخلاف ما نحكيه عنهم علم اضطرار ـ مع تديُّننا بكذبك في ذلك ـ لم نجد فرقاً بيننا وبينك إذا ادّعينا أننا نعلم صحّة ما نحكيه عنهم بالاضطرار ، وأنك وأصحابك تعلمون ذلك ، ولكنكم تكابرون العيان ، وهذا مالا فصل فيه .

فقال : إنما لم نعلم مذهبهم باضطرار لأنّه مبثوث في مذاهب الفقهاء إذا كانوا(عليهم السلام)يختارون ما اختاروا من قول الصحابة والتابعين ، فتفرَّق مجموع أخبارهم في مذاهب الفقهاء .

فقلت له : فإن هذا بعينه موجود في مذهب مالك وأبي حنيفة والشافعي ومن عددت ; لأن هؤلاء تخيَّروا من أقوال الصحابة والتابعين ، فكان يجب أن لا نعلم مذاهبهم باضطرار ، على أنك إن قنعت بهذا الاعتلال فإنّا نعتمد عليه في جوابك ، فنقول : إننا إنما تعرَّينا من علم الاضطرار بمذاهبهم(عليهم السلام)لأن الفقهاء تقسَّموا مذاهبهم المنصوصة عندنا ، فدانوا بها على سبيل الاختيار ; لأن قولهم


الصفحة 135

متفرِّق في مقال الفقهاء ، فلذلك لم يقع العلم به باضطرار .

فقال : فهب أن الأمر كما وصفت ، ما بالنا لا نعلم ما رويتم عنهم من خلاف جميع الفقهاء علم اضطرار ؟

فقلت له : ليس شيء مما تومىء إليه إلاَّ وقد قاله صحابيّ أو تابعي ، وإن اتّفق من ذكرت من فقهاء الأمصار على خلافه الآن ، فلمَا قدَّمنا مما رضيته من الاعتلال لم يحصل علم الاضطرار ، مع أنك تقول ـ لا محالة ـ بأن قولهم(عليهم السلام)في هذه الأبواب بخلاف ما عليه غيرهم فيها ، وهو ما أجمع عليه عندك فقهاء الأمصار من الصحابة والتابعين بإحسان ، فما بالنا لا نعلم ذلك من مقالهم علم اضطرار ؟ وليس هو مما تحدَّثته مذاهب الفقهاء ، ولا اختلف فيه عندك من أهل الإسلام أحد ، فبأيِّ شيء تعلَّقت في ذلك تعلَّقنا به في إسقاط سؤالك ، والله الموفّق للصواب .

فلم يأت بشيء تجب حكايته ، والحمد لله .

قال السيِّد رضي الله عنه ، مؤلِّف الفصول المختارة : وقلت للشيخ عقيب هذه الحكاية لي : إن حمل هؤلاء القوم أنفسهم على أن يقولوا : إن جعفر بن محمّد ، وأباه محمّد بن علي ، وابنه موسى بن جعفر(عليهم السلام)لم يكونوا من أهل الفتيا ، لكنهم كانوا من أهل الزهد والصلاح ؟

قال : يقال لهم : هب أنا سامحناكم في هذه المكابرة ، وجوَّزناها لكم ، أليس من قولكم وقول كل مسلم وذمّيٍّ وعدوٍّ لعلي بن أبي طالب (عليه السلام) ووليٍّ له : أن أميرالمؤمنين (عليه السلام) كان من أهل الفتيا ؟

فلابد من أن يقولوا : بلى .

فيقال لهم : فما بالنا لا نعلم جميع مذاهبه في الفتيا كما نعلم جميع مذاهب من عددتموه من فقهاء الأمصار ، بل من الصحابة كزيد وابن مسعود وعمر بن


الصفحة 136

الخطاب ؟

إن قالوا : إنكم تعلمون ذلك باضطرار .

قلنا لهم : وذلك هو ما تحكونه أنتم عنه ، أو ما نحكيه نحن مما يوافق حكايتنا عن ذرّيّته(عليهم السلام) ؟

فإن قالوا : هو ما نحكيه دونكم .

قلنا لهم : ونحن ـ على أصلكم ـ في إنكار ذلك مكابرون .

وإن قالوا : نعم .

قلنا لهم : بل العلم حاصل لكم بما نحكيه عنه خاصّة ، وأنتم في إنكار ذلك مكابرون ، وهذا ما لا فصل فيه .

وهو أيضاً يسقط اعتلالهم في عدم العلم الضروريّ بمذاهب الذرّيّة لما ذكروه من تقسيم الفقهاء لها ; لأن أميرالمؤمنين (عليه السلام) قد سبق الفقهاء الذين أشاروا إليهم ، وكان مذهب علي (عليه السلام) متفرِّداً .

فإن اعتلّوا بأنه كان منقسماً في قول الصحابة فهم أنفسهم ينكرون ذلك ; لروايتهم عنه الخلاف ، مع أنه يجب أن لا يعرف مذهب عمر وابن مسعود ، لأنهما كانا منقسمين في مذاهب الصحابة ، وهذا فاسد من القول بيِّن الاضمحلال .

قال الشيخ أدام الله عزَّه : وهذا كلام صحيح ، ويؤيِّده علمنا بمذاهب المختارين من المعتزلة والزيدية والخوارج ، مع انبثاثها في أقوال الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار .

وقال الشيخ أدام الله حراسته : وقد ذكرت الجواب عمَّا تقدم من السؤال في هذا الباب ، في كتابي المعروف بتقرير الأحكام ، ووجوده هناك يغني عن تكراره هاهنا ، إذ هو في موضعه مستقصى عن البيان(1) .

____________

1- الفصول المختارة ، المفيد : 201 ـ 204 ، بحار الأنوار ، المجلسي : 10/446 ـ 448 ح16 .


الصفحة 137

المناظرة الحادية والثلاثون

مناظرة

الشيخ المفيد مع أبي علي بن شاذان

في حديث الأنبياء يورِّثون أم لا

قال السيوطي في تنوير الحوالك في شرح موطأ مالك في البحث عن أن الأنبياء(عليهم السلام)يورِّثون أم لا ؟ : قال الباجي : أخبرني القاضي أبو جعفر السماني أن أبا علي بن شاذان ـ وكان من أهل العلم بهذا الشأن إلاَّ أنه لم يكن قرأ عربيّة ـ فناظر يوماً في هذه المسألة أبا عبدالله بن المعلِّم ـ وكان إمام الإماميّة ، وكان مع ذلك من أهل العلم بالعربيَّة ـ فاستدل ابن شاذان على أن الأنبياء لا يورِّثون بحديث : إنّا معاشر الأنبياء لا نورِّث ، ما تركناه صدقة(1) .

فقال له ابن المعلِّم : أمَّا ما ذكرت من هذا الحديث فإنّما هو صدقة نصب على الحال ، فيقتضي ذلك : أن ما تركه النبيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) على وجه الصدقة لا يورث عنه ، ونحن لا نمنع هذا ، وإنّما نمنع ذلك فيما تركه على غير هذا الوجه ..(2) .

____________

1- قال الشهرستاني في الملل والنحل : 1/31 فيما وقع من الخلاف بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : الخلاف السادس : في أمر فدك والتوارث عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ودعوى فاطمة (عليها السلام) وراثة تارة ، وتمليكاً أخرى ، حتى دفعت عن ذلك بالرواية المشهورة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : نحن معاشر الأنبياء لا نورِّث ما تركناه صدقة .

2- تنوير الحوالك : 715 ، مواقف الشيعة ، الأحمدي الميانجي : 1/42 .


الصفحة 138

المناظرة الثانية والثلاثون

مناظرة

الشريف المرتضى مع علماء الجمهور في الإمامة

قال ابن أبي جمهور الأحسائي عليه الرحمة : وقد اتّفق للمرتضى عليه الرحمة مع علماء الجمهور في الإمامة ، فأوردوا عليه أخباراً موضوعة في فضائل الشيخين ، فقال : هي مكذوبة بها على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) .

فقالوا : لا يقدر ولا يتجَّرى أحد على الكذب عليه .

فأجابهم بأنه روي عنه هذا الحديث ـ أعني قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) : ( ستكثر عليَّ الكذّابة )(1) ـ فهذا الحديث إمّا مكذوب عليه أو هو صحيح عنه ، ويلزم المطلوب على كلا التقديرين ، فأفحموا به عن الجواب(2) .

____________

1- الكافي ، الكليني : 1/62 ح1 ، تحف العقول ، ابن شعبة الحراني : 193 .

2- عوالي اللئالي ، ابن أبي جمهور الأحسائي : 1/187 .


الصفحة 139

المناظرة الثالثة والثلاثون

مناظرة

إسماعيل بن علي الفقيه مع بعض الحنابلة

قال ابن أبي الحديد : حدَّثني يحيى بن سعيد بن علي الحنبلي ، المعروف بابن عالية ، من ساكني قطفتا(1) ، بالجانب الغربيِّ من بغداد ، وأحد الشهود المعدَّلين بها ، قال : كنت حاضراً الفخر إسماعيل بن علي الحنبلي ، الفقيه المعروف بغلام ابن المنى ، وكان الفخر إسماعيل بن علي هذا مقدَّم الحنابلة ببغداد في الفقه والخلاف ، ويشتغل بشيء في علم المنطق ، وكان حلو العبارة ، وقد رأيته أنا ، وحضرت عنده ، وسمعت كلامه ، وتوفِّي سنة عشر وستمائة .

قال ابن عالية : ونحن عنده نتحدَّث ، إذ دخل شخص من الحنابلة ، قد كان له دين على بعض أهل الكوفة ، فانحدر إليه يطالبه به ، واتّفق أن حضرت زيارة يوم الغدير والحنبلي المذكور بالكوفة ، وهذه الزيارة هي اليوم الثامن عشر من ذي الحجّة ، ويجتمع بمشهد أميرالمؤمنين (عليه السلام) من الخلائق جموع عظيمة ،

____________

1- قطفتا ـ بالفتح ثمَّ الضمِّ ، والفاء ساكنة ، وتاء مثنّاة ، والقصر ـ محلّة كبيرة ذات أسواق ، بالجانب الغربيِّ من بغداد ، بينها وبين دجلة أقلّ من ميل . مراصد الاطلاع ، البجاوي : 3/1107 .


الصفحة 140

تتجاوز حدَّ الإحصاء .

قال ابن عالية : فجعل الشيخ الفخر يسائل ذلك الشخص : ما فعلت ؟ ما رأيت ؟ هل وصل مالك إليك ؟ هل بقي لك منه بقيّة عند غريمك ؟ وذلك يجاوبه ، حتى قال له : يا سيِّدي ! لو شاهدت يوم الزيارة يوم الغدير ، وما يجري عند قبر علي بن أبي طالب (عليه السلام) من الفضائح والأقوال الشنيعة ، وسبِّ الصحابة جهاراً بأصوات مرتفعة من غير مراقبة ولا خيفة !

فقال إسماعيل : أيُّ ذنب لهم ؟ والله ما جرَّأهم على ذلك ، ولا فتح لهم هذا الباب إلاَّ صاحب ذلك القبر !

فقال ذلك الشخص : ومن صاحب القبر ؟

قال : عليُّ بن أبي طالب !

قال : يا سيِّدي ! هو الذي سنَّ لهم ذلك ، وعلَّمهم إيّاه ، وطرقهم إليه ؟!

قال : نعم والله .

قال : يا سيدي ! فإن كان محقّاً فمالنا أن نتولّى فلاناً وفلاناً ؟! وإن كان مبطلا فمالنا نتولاّه ؟! ينبغي أن نبرأ إمَّا منه أو منهما .

قال ابن عالية : فقام إسماعيل مسرعاً ، فلبس نعليه ، وقال : لعن الله إسماعيل الفاعل إن كان يعرف جواب هذه المسألة ، ودخل دار حرمه ، وقمنا نحن وانصرفنا(1) .

____________

1- شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 9/307 ـ 308 .


الصفحة 141

المناظرة الرابعة والثلاثون

مناظرة

الأمير أبي الفوارس مع الوزير يحيى بن هبيرة

في إيمان أبي طالب (عليه السلام)

عن سلار بن حبيش البغدادي ، عن الأمير أبي الفوارس الشاعر قال : حضرت مجلس الوزير يحيى بن هبيرة ومعي يومئذ جماعة من الأماثل وأهل العلم ، وكان في جملتهم الشيخ أبو محمّد بن الخشّاب اللغوي ، والشيخ أبو الفرج ابن الجوزي وغيرهم ، فجرى حديث شعر أبي طالب ابن عبد المطلب ، فقال الوزير : ما أحسن شعره لو كان صدر عن إيمان !

فقلت : والله لأجيبن الجواب قربة إلى الله ، فقلت : يا مولانا ! ومن أين لك أنّه لم يصدر عن إيمان ؟

فقال : لو كان صادراً عن إيمان لكان أظهره ولم يخفه .

فقلت : لو كان أظهره لم يكن للنبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ناصر .

قال : فسكت ولم يحر جواباً ، وكانت لي عليه رسوم فقطعها ، وكانت لي فيه مدائح في مسودات فغسلتها جميعاً(1) .

____________

1- بحار الأنوار ، المجلسي : 35/134 ح79 .


الصفحة 142

المناظرة الخامسة والثلاثون

مناظرة

إمرأة مع ابن الجوزي

قال ابن الجوزي يوماً على المنبر : سلوني قبل أن تفقدوني ، فسألته امرأة عمَّا روي أن عليّاً (عليه السلام) سار في ليلة إلى سلمان فجهَّزه ورجع .

فقال : روي ذلك .

قالت : وعثمان تمَّ ثلاثة أيام منبوذاً في المزابل ، وعليُّ (عليه السلام) حاضر ؟

قال : نعم .

قالت : فقد لزم الخطأ لأحدهما .

فقال : إن كنت خرجت من بيتك بغير إذن بعلك فعليك لعنة الله ، وإلاَّ فعليه .

فقالت : خرجت عائشة إلى حرب عليٍّ بإذن النبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أولا ؟(1)

فانقطع ولم يحر جواباً(2) .

____________

1- روى الموفّق الخوارزمي في المناقب : 176 ـ 177 ح214 بالإسناد عن شهر بن حوشب قال : كنت عند أم سلمة رضي الله عنها ، فسلَّم رجل ، فقيل : من أنت ؟ قال : أنا أبو ثابت مولى أبي ذر ، قالت : مرحباً بأبي ثابت ، ادخل ، فدخل فرحَّبت به ، فقالت : أين طار قلبك حين طارت القلوب مطايرها ؟ قال : مع علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، قالت : وفِّقت ، والذي نفس أم سلمة بيده لسمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)يقول : علي مع القرآن والقرآن مع علي ، لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض ، ولقد بعثت ابني عمر ، وابن أخي عبدالله ـ أبي أميَّة ـ وأمرتهما أن يقاتلا مع علي من قاتله ، ولو لا أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أمرنا أن نقرَّ في حجالنا أو في بيوتنا ، لخرجت حتى أقف في صفِّ عليٍّ(عليه السلام) .

2- الصراط المستقيم ، علي بن يونس العاملي : 1/218 ، بحار الأنوار ، المجلسي : 29/647 .


الصفحة 143

المناظرة السادسة والثلاثون

مناظرة

رجل مع قاضي بغداد في تصدُّق أميرالمؤمنين (عليه السلام) بالخاتم

قال السيِّد نعمة الله الجزائري عليه الرحمة : حكى لي بعض إخواني ، قال : كنت جالساً في بعض الأيَّام عند قاضي بغداد الحنفي ، فسمعنا سائلا يقرأ قصيدة التصدُّق بالخاتم ، فقال لي : اسمع هؤلاء الروافض كيف نظموا القصائد في مدح علي بن أبي طالب (عليه السلام) على تصدُّقه بخاتم ما تبلغ قيمته أربعة دراهم ، وأبو بكر الصدّيق تصدَّق بجميع ماله ، ولم يذكره أحد في نظم ولا نثر .

فقلت له : أصلح الله القاضي ، ليس للروافض ذنب في هذا المعنى ، إن كان شيءٌ فهو من عالم الملكوت ، لأنه أنزل في ذلك الخاتم قرآناً يتلى إلى يوم القيامة(1) ، ولم ينزل في شأن أبي بكر آية ولا سورة مع تصدُّقه بالمال الجزيل(2) .

____________

1- روى ابن عساكر بالإسناد عن علي (عليه السلام) قال : نزلت هذه الآية على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ) : فدخل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)المسجد ، والناس يصلّون بين راكع وقائم يصلّي ، فإذا سائل ، فقال : يا سائل ! هل أعطاك أحد شيئاً ؟ فقال : لا إلاَّ هذاك الراكع ـ لعلي ـ أعطاني خاتمه . تاريخ مدينة دمشق ، ابن عساكر : 42/356 ـ 357 .

وروى الحاكم الحسكاني بالإسناد عن ابن عباس في قوله تعالى : (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ) قال : نزلت في علي بن أبي طالب (عليه السلام) . شواهد التنزيل ، الحاكم الحسكاني : 1/209 ح216 .

وراجع ـ أيضاً ـ من المصادر : أسباب النزول ، الواحدي : 133 ، المناقب ، الموفّق الخوارزمي : 264 ح246 و266 ح248 ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 13/277 ، وراه أيضاً الحافظ أبو نعيم الإصبهاني في كتابه : ما نزل من القرآن في علي (عليه السلام) ، زاد المسير ، ابن الجوزي : 2/292 ، تفسير القرطبي : 6/221 ، تفسير ابن كثير : 2/74 ، الدرّ المنثور ، السيوطي : 2/294 ، نظم درر المسطين ، الزرندي : 86 ـ 88 .

وقال شرف الدين الحسيني عليه الرحمة في تأويل الآيات : 1/153 ح11 : ونقل ابن طاووس : أن محمّد بن العباس روى حكاية نزول الآية الكريمة ، والولاية العظيمة من تسعين طريقاً ، بأسانيد متّصلة ، كلّها من رجال المخالفين لأهل البيت(عليهم السلام) ، ثم عدَّد الرواة وسمَّاهم .

ومما اشتهر ـ أيضاً ـ في هذه المنقبة الشريفة ما أنشده حسان بن ثابت ، قال :


أبا حسن تفديك نفسي ومهجتي وكل بطيء في الهدى ومسارع

أيذهب مدحي والمحبر ضائعا وما المدح في جنب الإله بضائع

فأنت الذي أعطيت إذ كنت راكعاً فدتك نفوس القوم يا خير راكع

فأنزل فيك الله خير ولاية فبيَّنها في محكمات الشرائع

المناقب ، الموفّق الخوارزمي : 265 ، شواهد التنزيل ، الحاكم الحسكاني : 1/236 ، نظم درر السمطين ، الزرندي الحنفي : 88 .

2- ويروى ـ أيضاً ـ أن عمر تصدَّق بأربعين خاتماً رجاء أن ينزل فيه شيءٌ فلم ينزل ، وروي أن عمر بن الخطاب قال : والله لقد تصدَّقت بأربعين خاتماً وأنا راكع ، لينزل فيَّ ما نزل في علي بن أبي طالب (عليه السلام)فما نزل . الأمالي ، الصدوق : 186 ، مناقب آل أبي طالب ، ابن شهر آشوب : 2/209 .

وفي رواية أخرى عن عمر أنه قال : أخرجت من مالي صدقة يتصدَّق بها عنّي وأنا راكع أربعاً وعشرين مرّة على أن ينزل فيَّ ما نزل في علي (عليه السلام) فما نزل . تأويل الآيات ، شرف الدين الحسيني : 1/153 .


الصفحة 144

فحرَّك يده وقال : يا أخي ! خطر هذا في بالي أيضاً ، ولكن كيف الحيلة ؟!(1)

____________

1- زهر الربيع ، الجزائري : 28 ـ 29 .


الصفحة 145

المناظرة السابعة والثلاثون

مناظرة

السيِّد الفندرسكي مع سلطان الهند في شتم معاوية

حكي : أن الأمير فندرسكي في أثناء سياحته وصل إلى الهند ، فطلب السلطان منه لقاءه ، فامتنع السيِّد لكون السلطان سنّياً ، وبعد الإصرار قبله بشرط عدم مذاكرات مذهبيّة ، ولكن بعد اللقاء قال السلطان : وإن كان شرط اللقاء عدم البحث في المذهب ولكنّي أسألكم سؤالا واحداً في سبّ معاوية لأيِّ جهة هو ؟

قال السيِّد : لو فرضنا أنّك كنت في الحرب بين علي (عليه السلام) ومعاوية موجوداً ، بأمر أيِّهما كنت ممتثلا ؟

قال السلطان : كنت أطيع أمر علي (عليه السلام) ; لكونه خليفة بالإجماع ، وكون مخالفته كفراً .

قال السيِّد : لو أمرك عليٌّ (عليه السلام) بمبارزة معاوية ، تطيعه أو تعصيه ؟

قال السلطان : لقد كنت أطيعه ; لكون خلافه كفراً .

قال السيِّد : فحينئذ لو سلَّ معاوية سيفه وأراد قتلك ، هل كنت تقتله ، أو تهرب من الجهاد ، أو كنت تقتل نفسك ؟

قال السلطان : كنت أقتله قطعاً .

قال السيِّد : تعدُّ قتله طاعة أو معصية ؟


الصفحة 146

قال السلطان : أعدُّه طاعة ; لكونه طاعة لعليٍّ (عليه السلام) .

قال السيِّد : فمن كنت تقتله وتستبيح دمه تسألني عن سبِّه أنه يجوز أو لا يجوز ؟!(1) .

____________

1- روضة المؤمنين : 125 ، زهر الربيع ، الجزائري : 323 ، مواقف الشيعة ، الأحمدي : 3/247 ـ 248 .


الصفحة 147

المناظرة الثامنة والثلاثون

مناظرة

مع شيخ من أهل الشام جاء لمناظرة

العلامة الحلي (رحمه الله) في الفرقة الناجية

جاء في كتاب التحفة الشاهية(1) : أنَّه ـ بعد أن ذاع صيت اجتهاد شيخ الطائفة الإمامية في زمانه ، ووجههم ورئيسهم في ذلك الزمان ، وهو جمال الملّة والدين ، الحسن بن المطهَّر الحلي ، روَّح الله روحه ، وأسكنه بحبوحة جنَّاته ـ أنه قدم أحد المشائخ ، وكان ساكناً بأرض الشام ، فحينما سمع بأن العلامة على مذهب الأئمّة الاثني عشر(عليهم السلام) ، وأن الأحاديث والأخبار الشريفة تدل على أحقّيّتهم ، وأنهم على سنَّة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سافر من بلده إلى الحلّة قاصداً مناظرة العلاّمة ـ عليه الرحمة ـ وإفحامه .

وحينما وصل خبر وصوله إلى الحلّة خرج اثنان من تلامذة العلامة لاستقباله ، وليمتحنوا قدرته على مناظرة العلامة ، ومدى معرفته بالعلوم ليخبروا

____________

1- قد تفضل علينا بهذه المناظرة وترجمها إلى العربية صديقنا فضيلة العلامة المحقق الشيخ محمّد رضا الأنصاري جزاه الله خير الجزاء .


الصفحة 148

العلامة بذلك .

وحينما التقوا بالشيخ الشامي سألوه عن الحديث المرويّ المشهور : ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة ، كلّهم في النار إلاَّ واحدة(1) ، وأنه هل ثبت صحّة هذا الحديث عنده أم لا ؟

فقال : نعم .

____________

1- روى الخزاز القمّي عليه الرحمة في كفاية الأثر : 155 ، عن يحيى البكا ، عن علي (عليه السلام) قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة ، منها فرقة ناجية ، والباقون هالكة ، والناجية الذين يتمسَّكون بولايتكم ، ويقتبسون من علمكم ، ولا يعملون برأيهم ، فأولئك ما علهيم من سبيل ، فسألت عن الأئمة ، فقال : عدد نقباء بني إسرائيل .

وجاء في مسند أحمد بن حنبل : 3/120 ، عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : إن بني إسرائيل قد افترقت على ثنتين وسبعين فرقة ، وأنتم تفترقون على مثلها ، كلّها في النار إلاَّ فرقة . وجاء في ص 145 عن أنس أيضاً مثله ، وفيه : فتهلك إحدى وسبعين ، وتخلص فرقة ..

وفي سنن ابن ماجة : 2/1322 ح3992 : عن عوف بن مالك ، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والذي نفس محمّد بيده لتفترقن أمتي على ثلاث وسبعين فرقة ، واحدة في الجنّة ، وثنتان وسبعون في النار .

وراجع أيضاً : المستدرك ، الحاكم : 1/129 ، المصنّف ، عبدالرزاق : 10/156 ح18674 و18657 ، المعجم الصغير ، الطبراني : 1/256 .

وروى البيهقي في السنن : 10/208 ، عن أبي هريرة ، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) .. وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة . قال : قال أبو سلميان الخطابي : قوله : وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة ، فيه دلالة على أن هذه الفرق كلّها غير خارجين من الدين ; إذ أن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) جعلهم كلّهم من أمته .

أقول : هذا الكلام غير صحيح وذلك لأنّه : أولا تنافيه الروايتان السابقتان المرويَّتان عن أنس وعوف بن مالك ; إذ هما صريحتان في كون سائر الفرق هالكة وأنها في النار إلاَّ واحدة ، ومعه كيف يصحّ عدّ سائر الفرق غير خارجة من الدين ؟ وأيُّ خروج أعظم ممَّا يؤول إلى الهلاك وإلى النار ؟

وثانياً : كون الشخص من أمّة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يعطيه أماناً من عدم الخروج من الدين ومن الهلاك ومن النار ; إلا إذا كان من أهل الفرقة الناجية ـ بشرطها وشروطها ـ فكون الشخص من الأمة يعني أنه من أهل الإسلام له ما للمسلمين وعليه ما عليهم وأنه محقون الدم والمال والعرض .. الخ .


الصفحة 149

فسألوه : هل أن الأئمة الاثني عشر(عليهم السلام) الذين يعتقد فيهم الشيعة العصمة والطهارة ، وأنهم أئمّة تجب طاعتهم داخلون في هذه الفرقة ، أم أنهم داخلون في الفرقة الهالكة ؟

فلم يلتفت إليهم الشيخ الشامي ، ولم يجبهم ، ثم قفل عائداً إلى الشام وتركهم .

ويقال : إنه حينما سألوه عن السبب في عدم إجابتهم قال لهم : لأني كنت عاجزاً عن إجابتهم شِقَّي السؤال ; لأنه لو أجبتهم بدخول هؤلاء في الفرقة الناجية فإنه يستلزم الاعتراف بنجاة الفرقة الإماميّة ، وأدخل نفسي في الفرقة الهالكة ، وإن لم أعترف بدخولهم ـ والعياذ بالله ـ في الفرقة الناجية فإني أدخل في زمرة الكفرة والمخلدين في النار(1) .

____________

1- التحفة الشاهية ، عبدالخالق قاضي زاده : 35 ـ 36 .