المناظرة التاسعة والثلاثون
مناظرة
الشيخ حسين بن عبدالصمد الجبعي العاملي
مع بعض فضلاء حلب(1)
قال الشيخ حسين بن عبد الصمد الجبعي العاملي عليه الرحمة : بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله على ما أنعم به فكفى ، والصلاة والسلام على عباده الذين اصطفى ، محمَّد النبيِّ الأُمّيِّ وأهل بيته ذوي الكرم والوفاء . أمَّا بعد :
فهذه صورة بحث وقع لهذا الفقير إلى رحمة ربه الغنيّ ، حسين بن
____________
1- قد ذكرنا في الجزء الأول من المناظرات في العقائد : ص481 مناظرة مع بعض فضلاء حلب ، ولم نعرف آنذاك صاحبها ، وهي مخطوطة من مكتبة المرعشي النجفي ، بقلم ناسخها : محمّد بن عبد الإله السلامي ، سنة خمس وتسعين وتسعمائة ، وقد قارنتها بهذه المناظرة التي هي للشيخ حسين بن عبد الصمد والتي وقعت سنة واحد وخمسين وتسعمائة ، فوجدت بينهما بعض الالتقاء في مواضيعهما ، وأقرب الظنّ أنها هي نفسها مع وجود بعض الفوارق ، ويحتمل أن الشيخ حسين بن عبدالصمد قد كتب هذه المناظرة بقلمه الشريف مرّتين ـ مع وجود الزيادة والنقيصة والإطناب والاختصار في بعض بحوثهما والله العالم . وهذه المناظرة أوسع وأكمل ، والأولى ـ أيضاً ـ تحتوي على بعض البحوث المهمّة التي لا توجد في الثانية ، وقد وجدنا هذه المناظرة مطبوعة بتحقيق شاكر شبع ، جزاه الله خيراً .
عبدالصمد الجبعي ، في حلب ، سنة إحدى وخمسين وتسعمائة ، أضافني بعض فضلاء حلب ، وكان ذكيّاً بحّاثاً ، ولي معه خصوصية وصداقة وكيدة بحيث لا أتّقيه ، وكان أبوه من أعيانها .
فقلت له : إنه يقبح بمثلي ومثلك ـ بعد أن صرف كل منّا عمره في تحصيل العلوم الإسلاميّة وتحقيق مقدماتها ـ أن يقلِّد في مذهبه الذي يلقى الله به ، والتقليد مذموم بنصّ القرآن ، وليس حجَّةً منجية ; لأن كل أحد يقلِّد سلفه ، فلو كان حجَّةً كان الكل ناجين ، وليس كذلك .
فقال : هلمَّ حتى نبحث .
البحث في اتباع المذاهب الأربعة
فقلت : هل عندكم نصٌّ من القرآن ، أو من الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) على وجوب اتّباع أبي حنيفة ؟
فقال : لا .
فقلت : هل أجمع أهل الإسلام على وجوب اتّباعه ؟
فقال : لا .
فقلت : فما سوَّغ لك تقليده ؟
فقال : إنّه مجتهد وأنا مقلِّد ، والمقلِّد فرضه أن يقلِّد مجتهداً من المجتهدين .
فقلت : فما تقول في جعفر بن محمّد الصادق (عليه السلام) ؟ هل كان مجتهداً من المجتهدين ؟
فقال : هو فوق الاجتهاد ، وفوق الوصف في العلم والتقى والنسب وعظم الشأن ، وقد عدَّ بعض علمائنا من تلاميذه نحو أربعمائة رجل ، كلّهم علماء فضلاء مجتهدون ، وأبو حنيفة أحدهم .
فقلت : قد اعترفت باجتهاده وتقواه ، وجواز تقليد المجتهد ، ونحن قد قلَّدناه ، فمن أين تعلم أنَّا على الضلالة وأنَّكم على الهداية ؟! مع أنّا نعتقد عصمته ، وأنّه لا يخطىء ، بل ما يحكم به هو حكم الله ، ولنا على ذلك أدلّة مدوَّنة ،وليس كأبي حنيفة يقول بالقياس والرأي والاستحسان ويجوز عليه الخطأ ، وبعد التنزُّل عن عصمته ، والاعتراف بأنه يقول بالاجتهاد كما تزعمون ، فلنا دلائل على وجوب اتّباعه ليس في أبي حنيفة واحد منها .
أحدها : إجماع كل أهل الإسلام ـ حتى الأشاعرة والمعتزلة ـ على غزارة علمه ، ووفور تقواه ، وعدالته ، وعظم شأنه ، بحيث إني إلى يومي هذا ـ مع كثرة ما رأيت من كتب أهل الملل ، والتواريخ والسير ، وكتب الجرح والتعديل ، ونحو ذلك ـ لم أرَقطّ طاعناً عليه بشيء من مخالفيه ، وأعداء شيعته ، مع كثرتهم ، وعظم شأنهم في الدنيا ; لأنهم كانوا ملوك الأرض ، والناس تحبُّ التقرُّب إليهم بالصدق والكذب ، ولم يقدر أحد أن يفتري عليه كذباً في الطعن ليتقرَّب به إلى ملوك عصره ، وما ذاك إلاَّ لعلمه أنه إن افترى كذباً كذَّبه كل من سمعه ، وهذه مزيَّة تميَّز هو وآباؤه وأبناؤه الستّة بها عن جميع الخلق .
فكيف يجوز ترك تقليد من أجمع الناس على علمه وعدالته وجواز تقليده ، ويقلَّد من وقع فيه الشك والطعن ؟! مع أن الجرح مقدَّم على التعديل كما تقرَّر في موضعه ، وهذا إمامكم الغزالي صنَّف كتاباً سمَّاه : المنخول ، موضوعه الطعن على أبي حنيفة ، وإثبات كفره بأدلّة يطول شرحها ، وصنَّف بعض فضلاء الشافعية كتاباً سمَّاه : النكت الشريفة في الردّ على أبي حنيفة ، رأيته في مصر ، ذكر فيه جميع ما ذكره الغزالي وزاد أشياء أخر .
ولا شبهة في وجوب تقليد المتّفق على علمه وعدالته ; لأن ظنّ الصواب
معه أغلب ، ولا يجوز العمل بالمرجوح مع وجود الراجح إجماعاً ، والجرح مقدَّم على التعديل كما تقرَّر .
ثانيها : أنَّه ـ عندنا ـ من أهل البيت المطهَّرين(عليهم السلام)بنصّ القرآن ، والتطهُّر هو : التنزُّه عن الآثام ، وعن كل قبيح ، كما نصَّ عليه ابن فارس في مجمل اللغة ، وهذا نفس العصمة التي يدّعيها الشيعة ، وأبو حنيفة ليس منهم إجماعاً ، ويتحتَّم تقليد المطهَّر بنصّ القرآن ، لتيقُّن النجاة معه .
قال : نحن لا نسلِّم أنه من أهل البيت(عليهم السلام) ; إذ قد صحَّ في أحاديثنا أنهم خمسة .
فقلت : سلَّمنا أنه ليس من الخمسة ، ولكن حكمه حكمهم في العصمة ، ووجوب الاتّباع لوجهين :
الأول : إن كل من قال بعصمة الخمسة قال بعصمته ، ومَنْ لا فلا ، وقد ثبتت عصمة الخمسة بنصّ القرآن ، فثبتت عصمته ; لأنه قد وقع الإجماع على أنّه لا فرق بينه وبينهم ، فالقول بعصمتهم دونه خلاف إجماع المسلمين .
الثاني : إنه اشتهر بين أهل النقل والسير أن جعفر الصادق وآباءه(عليهم السلام)لم يتردَّدوا إلى مجالس العلماء أصلا ، ولم ينقل أنهم تردَّدوا إلى مخالف ولا مؤالف ، مع كثرة المصنِّفين في الرجال ، وطرق النقل ، وتعداد الشيوخ والتلاميذ ، وإنّما ذكروا أنه أخذ العلم عن أبيه محمّد الباقر (عليه السلام) ، وهو أخذه عن أبيه زين العابدين (عليه السلام) ، وهو أخذه عن أبيه الحسين (عليه السلام) ، وهو من أهل البيت(عليهم السلام)إجماعاً .
وقد صحَّ عندنا أنهم(عليهم السلام)لم يكن قولهم بطريق الاجتهاد ، ولهذا لم يسأل أحد قط صغيراً ولا كبيراً عن مسألة فتوقَّف في جوابها ، أو احتاج إلى مراجعة ، وقد صرَّحوا(عليهم السلام)أن قول الواحد منهم كقول آبائهم ، وقول آبائهم كقول
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وثبت ذلك عندنا بالطرق الصحيحة المتّصلة بهم ، فقوله (عليه السلام)هو قول المطهرَّين بنصّ القرآن .
وثالثها : ما ثبت في صحاح أحاديثكم بالطرق الصحيحة المتكثِّرة ، المتّحدة المعنى ، المختلفة اللفظ ، من قوله (عليه السلام) : إنّي مخلِّف فيكم ما إن تمسَّكتم به لن تضلوا بعدي ، الثقلين : كتاب الله ، وعترتي أهل بيتي ، وإنهما لن يتفرَّقا حتى يردا عليَّ الحوض(1) .
وفي بعض الطرق : إني تارك فيكم خليفتين : كتاب الله وعترتي(2) ، فصرَّح (صلى الله عليه وآله وسلم) بأن المتمسِّك بكتاب الله وعترته لن يضلَّ ، ولم يتمسَّك بهما إلاَّ الشيعة كما لا يخفى ; لأن الباقين جعلوا عترته كباقي الناس ، وتمسَّكوا بغيرهم ، ولم يقل : مخلِّف فيكم كتاب الله وأبا حنيفة ، ولا الشافعي .
فكيف يجوز ترك التمسُّك بمن تتحقَّق النجاة بالتمسُّك به ، ويتمسَّك بمن لم تعلم النجاة معه ؟! إن هذا إلاَّ لمحض السفه والضلال ، وهذا يقتضي العلم بوجوب اتّباعهم ، وإن نوزع فيه فلا ريب في اقتضائه ظنَّ وجوب الاتّباع ، وذلك
____________
1- مسند أحمد بن حنبل : 4/367 ، فضائل الصحابة ، أحمد بن حنبل : 22 ، صحيح مسلم : 7/122 ـ 123 ، المستدرك ، الحاكم النيسابوري : 3/110 ، السنن الكبرى ، البيهقي : 2/148 و7/30 ، السنن الكبرى ، النسائي : 5/51 ، مسند أبي يعلى الموصلي : 2/297 ح48 و303 و54 ، والمعجم الكبير ، الطبراني : 5/154 ح4923 وص166 ، ذيل تاريخ بغداد ، ابن النجار البغدادي : 5/14 ، المناقب ، الموفق الخوارزمي : 200 ، ينابيع المودة ، القندوزي : 1/121 ح49 . 2- مسند أحمد بن حنبل : 5/181 ـ 182 ، المعجم الكبير ، الطبراني : 5/153 ـ 154 ح4921 و4922 ، كنز العمال ، المتقي الهندي : 1/172 ح872 و186 ح947 و384 ح1667 ، الدرّ المنثور ، السيوطي : 2/60 ، مجمع الزوائد ، الهيثمي : 1/170 ، وقال : رواه الطبراني في الكبير ورجاله موثقون ، وذكره أيضاً في : 9/162 ـ 163 وقال : رواه أحمد وإسناده جيّد .
كاف لوجوب العمل بالراجح ، واختيارهم(عليهم السلام) بهذه المرجِّحات على غيرهم من المجتهدين ، فلا يكون العدول عنهم إلاَّ اتّباعاً للهوى والتقليد المألوف .
فقال : أنا لا أشك في اجتهادهم ، وغزارة علمهم ، ونجاة مقلِّدهم ، ولكن مذهبهم لم ينقل ولم يشتهر ، كما نقلت المذاهب الأربعة .
فقلت : إن كان مرادك أن الحنفيّة والشافعيّة لم ينقلوه ، فمسلَّم ، ولكن لا يضرُّنا ; لأنَّا لم ننقل مذهبهما أيضاً ، والشافعيَّة لم ينقلوا مذهب أبي حنيفة ، وبالعكس ، وكذا باقي المذاهب ، وليس ذلك طعناً فيها عندكم .
وإن كان مرادك أنه لم ينقله أحد من المسلمين ، فهذه مكابرة محضة ; لأن شيعتهم ، وكثيراً من أهل السنة وباقي الطوائف قد نقلوا أقوالهم وآدابهم وعباداتهم ، واعتنى الشيعة بذلك أشدَّ الاعتناء ، وبحثوا عن تصحيح الناقلين وجرحهم وتعديلهم أشدَّ البحث ، وهذه صحاح أحاديثهم وكتب الجرح والتعديل عندهم مدوَّنة مشهورة بينهم ، لا يمكن إنكارها .
وعلماء الشيعة وإن كانوا أقلَّ من علماء السنة ، ولكن ليسوا أقلَّ من فرقة من فرق المذاهب الأربعة ، خصوصاً الحنابلة والمالكيّة ، فإن الشيعة أكثر منهم يقيناً ، ولم يزل ـ بحمد الله ـ علماء الشيعة في جميع الأعصار أعلم العلماء وأتقاهم ، وأحذقهم في فنون العلوم ، أمَّا في زمن الأئمّة الاثني عشر(عليهم السلام) فواضح أنه لم يساوهم أحد في علم ولا عمل ، حتى فاق تلاميذهم ، واشتهروا بغزارة العلم ، وقوّة الجدال ، كهشام بن الحكم ، وهشام بن سالم ، وجميل بن درّاج ، وزرارة بن أعين ، ومحمّد بن مسلم ، وأشباههم ممّن عرفهم مخالفوهم في المذهب ، وأثنوا عليهم بما لا مزيد عليه .
وأمَّا بعد زمان الأئمَّة فمنهم مثل ابن بابويه ، والشيخ الكليني ، والشيخ
المفيد ، والشيخ الطوسي ، والسيِّد المرتضى ، وأخيه ، وابني طاووس ، والخواجة نصير الدين الطوسي ، وميثم البحراني ، والشيخ أبي القاسم المحقِّق ، والشيخ جمال الدين ابن المطهَّر الحلي ، وولده فخر المحقِّقين ، وأشباههم من المشايخ المشاهير ، الذين قد ملأوا الخافقين بمصنَّفاتهم ومباحثهم ، ومن وقف عليها علم علوَّ شأنهم ، وبلوغهم مرتبة الاجتهاد وقوَّة الاستنباط ، وإنكار ذلك إمَّا لتعصُّب أو جهل .
فقد لزمك القول بصحّة مذهبنا ، وأرجحيَّة من قلَّدناه ، بل يلزم ذلك كل من وقف نفسه على جادّة الإنصاف ، ولا يلزمنا القول بصحّة مذهبك ; لأنّا قد شرطنا في المتَّبع العصمة ، فنكون نحن الفرقة الناجية إجماعاً ، وأنتم وإن لم تقولوا بصحّة مذهبنا ، ولكن يلزمكم ذلك بحسب قواعدكم ; للدليل المسلَّم المقدّمات عندكم ; إذ سبب نجاتكم أنكم قد قلَّدتم مجتهداً ، وهذا بعينه حاصل لنا باعترافكم ، مع ترجيحات فيمن اتّبعناه لا يمكنكم إنكارها .
البحث في عدالة الصحابة
فبهت ، ولم يجب بشيء .
ولكن عدل عن سوق البحث ، وقال : إني أسألكم عن سبِّكم أكابر الصحابة ، وأقربهم من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، الذين نصروه بأموالهم وأنفسهم ، حتى ظهر الدين بسيوفهم ، في حياته وبعد موته ، حتى فتحوا البلاد ، ونصروا دين الله بكل ما أمكنهم ، والفتوحات التي فتحها عمر لم يقع مثلها في زمن النبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم)كمصر والشام ، وبيت المقدس ، والروم والعراق وخراسان ، وعراق العجم ، وتوابع ذلك مما يطول شرحه ، ولا يمكن إنكاره ، كما لا يمكن إنكار قوَّته في الدين
وسطوته ، وشدّة بأسه ، وإني إذا نظرت في أدلّتكم وجدتها واضحة قويَّة ، وإذا رأيت من مذهبكم سبّ أكابر أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)وخواصّه ، الذين سبقوا في الإسلام ، وكانوا من المقرَّبين عنده حتى تزوَّج بناتهم ، وزوَّجهم بناته ، ومدحهم الله في كتابه بقوله : {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً}(1) إلى آخر الآية ، فإذا رأيت ذلك نفرت نفسي ، وجزمت بفساد مذهبكم .
فقلت له : ليس في مذهبنا وجوب سبِّهم ، وإنَّما يسبُّهم عوام الناس المتعصِّبون ، وأمَّا علماؤنا فلم يقل أحد بوجوب سبِّهم ، وهذه كتبهم موجودة ، وأقسمت له أيماناً مغلَّظة بأنّه لو عاش أحد ألف سنة وهو يتديَّن بمذهب أهل البيت(عليهم السلام)ويتولاَّهم ، ويتبرَّأ من أعدائهم ، ولم يسبَّ الصحابة قط ، لم يكن مخطئاً ، ولا في إيمانه قصور ، فتهلَّل وجهه ، وأنس بذلك ; لأنه صدَّقني فيه .
فقلت له : إذا ثبت عندك غزارة علم أهل البيت(عليهم السلام) ، واجتهادهم ، وعدالتهم ، وترجيحهم على غيرهم ، فهم أولى بالاتّباع ، فتابعهم .
فقال : أشهد على أني متابع لهم ، ولكني لا أسبُّ الصحابة .
فقلت : لا تسبَّ أحداً منهم ، ولكن إذا اعتقدت عظم شأن أهل البيت(عليهم السلام)عند الله ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) فما تقول فيمن عاداهم وآذاهم ؟
فقال : أنا بريء منهم .
فقلت : هذا يكفيني منك ، فأشهد الله ورسوله وملائكته أنه محبٌّ لهم ومتابع ، وبريء من أعدائهم ، وطلب منّي كتاباً في فقههم ، فدفعت إليه النافع ،
____________
1- سورة الفتح ، الآية : 29 .
وتفرَّفنا .
ثم رأيته بعد ذلك في غضب وتكدُّر من التشيُّع ، بواسطة ما رسخ في قلبه من عظم شأن الصحابة ، واعتقاده أن الشيعة تسبُّهم .
فقلت له في ليلة أخرى : إن عاهدت الله على الإنصاف ، وكتم الأمر عليَّ ، بيَّنت لك أمر السبِّ ، فعاهد الله على ذلك ما دمت حيّاً بأيمان مغلَّظة ، ونذور مؤكَّدة ، وسألته : ما تقول في الصحابة الذين قتلوا عثمان ؟
فقال : إن ذلك وقع باجتهادهم ، وإنهم غير مأثومين ، وقد صرَّح أصحابنا بذلك .
فقلت : وما تقول في عائشة وطلحة والزبير وأتباعهم ، الذين حاربوا عليّاً (عليه السلام) يوم الجمل ، وقتل في حربهم من الفريقين نحو ستة عشر ألفاً ؟ وما تقول في معاوية وأصحابه ، الذين حاربوا في صفّين ، وقتل من الفريقين ( نحو ) ستين ألفاً ؟
فقال : كالأول .
فقلت : هل جواز الاجتهاد مقرٌّ على فرقة من المسلمين دون فرقة ؟
قال : لا ، كل أحد له صلاحيَّة الاجتهاد .
فقلت : إذا جاز الاجتهاد في قتل أكابر الصحابة ، وقتل خلفاء المؤمنين ، وحرب أخي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وابن عمّه ، وزوج فاطمة سيِّدة نساء العالمين ، أعلم الخلق ، وأزهدهم ، وأقربهم من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، ووارث علمه ، الذي قام الإسلام بسيفه ، ومن أثنى عليه الله ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) بما لا يمكن إنكاره ، حتى جعله الله وليَّ الناس كافّة بقوله تعالى : {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ}(1) يعني
____________
1- سورة المائدة ، الآية : 55 .
عليّاً (عليه السلام) بالإجماع ، وقال النبيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) : من كنت مولاه فعليٌّ مولاه(1) ، أنا مدينة العلم وعلىٌّ بابها(2) ، اللَّهُمَّ أئتني بأحبِّ خلقك إليك(3) ، وأنت منّي بمنزلة هارون من موسى(4) ، وأشباه ذلك ممَّا يطول تعداده ، فلم لا يجوز الاجتهاد في سبِّ بعض الصحابة ؟!
فإنّا لا نسبُّ إلاَّ من علمنا أنه أظهر العداوة لأهل البيت(عليهم السلام) ، ونحبُّ المخلصين منهم ، الحافظين وصيَّة الله ورسوله فيهم ، كسلمان ، والمقداد وعمَّار ، وأبي ذر ، ونتقرَّب إلى الله بحبِّهم ، ونسكت عن المجهول حالهم ، هذا اعتقادنا
____________
1- سوف يأتي الحديث مع تخريجاته في مناظرة الدكتور أسعد القاسم الفلسطيني . 2- تقدَّمت تخريجاته . 3- روى النسائي ، عن أنس بن مالك أن النبيَّ (صلى الله عليه وآله وسلم) كان عنده طائر ، فقال : اللهم ائتني بأحبِّ خلقك إليك ، يأكل معي من هذا الطير ، فجاء أبو بكر فردَّه ، وجاء عمر فردَّه ، وجاء عليٌّ فأذن له . راجع : السنن الكبرى ، النسائي : 5/107 ح8398 ، خصائص أميرالمؤمنين (عليه السلام) ، النسائي : 51 ـ 52 ، مسند أبي يعلى الموصلي : 7/105 ح4052 ، أسد الغابة ، ابن الأثير : 4/30 . وروى الترمذي بالإسناد عن أنس بن مالك ، قال : كان عند النبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) طير فقال : اللهم ائتني بأحب خلقك إليك ، يأكل معي هذا الطير ، فجاء عليٌّ فأكل معه . راجع : سنن الترمذي : 5/300 ح3805 ، التاريخ الكبير ، البخاري : 1/358 ، رقم : 1132 ، تاريخ بغداد ، الخطيب البغدادي 3/390 ، رقم : 1531 ، مناقب أميرالمؤمنين (عليه السلام) ، الكوفي : 2/489 ح993 ، تاريخ مدينة دمشق ، ابن عساكر : 42/245 ، البداية والنهاية ، ابن كثير : 7/387 ، المناقب ، الموفق الخوارزمي : 107 ـ 108 ح114 ، المعجم الأوسط ، الطبراني : 2/206 ـ 207 ، المعجم الكبير ، الطبراني : 1/253 ح730 ، ذخائر العقبى ، أحمد بن عبدالله الطبري : 61 ، مجمع الزوائد ، الهيثمي : 9/126 ، وقال : رواه البزار والطبراني باختصار ، ورجال الطبراني رجال الصحيح غير فطر بن خليفة ، وهو ثقة ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 18/24 ، نظم درر السمطين ، الزرندي الحنفي : 101 ، كنز العمال ، المتقي الهندي : 13/166 ح36505 . 4- تقدَّمت تخريجاته .
فيهم .
وهذا معاوية قد سبَّ عليّاً وأهل بيته(عليهم السلام) ، واستمرَّ ذلك في زمن بني أميَّة ثمانين سنة ، ولم ينقص ذلك من قدره عندكم ، وكذلك الشيعة اجتهدوا في جواز سبِّ أعداء أهل البيت منهم ، ولو كانوا مخطئين فيهم غير مأثومين .
ومدح الله تعالى لهم في القرآن نقول به ; لأنهم ممدوحون بقول مطلق ; لأن فيهم أتقياء أبراراً ، وليس كلّهم كذلك جزماً ، وحديث الحوض يوضح ذلك(1) .
وأيضاً فيهم منافقون بنصّ القرآن ، فلا يمنع مدح الله لهم فسق بعضهم أو كفره ، واجتهادنا في جواز سبِّ ذلك البعض .
فقال كالمتعجِّب : أو يجوز الاجتهاد بغير دليل ؟!
فقلت : أدلّتهم في ذلك كثيرة واضحة .
فقال كالمستبعد : بيِّن لي منها واحداً .
فقلت : سأذكر لك ما لا يمكنك إنكاره ، وذلك أنه قد ثبت عندكم وعندنا أن النبيَّ (صلى الله عليه وآله وسلم) لمَّا جعل أسامة بن زيد أميراً ، وجهَّزه إلى الشام أمر الصحابة عموماً باتّباعه ، وخصَّص أبا بكر وعمر وأمرهما باتّباعه ، وقال : جهِّزوا جيش أسامة ، لعن الله من تأخَّر عن جيش أسامة(2) ، وقد تخلَّف الرجلان بإجماع المسلمين ، فكانا مشمولين بنصّ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ونصّ الله ; لأنه لم ينطق عن الهوى .
فقال : إنما تخلَّفا باجتهاد ، وشفقة على الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والمسلمين ، وقالا : كيف نمضي ونترك نبيَّنا مريضاً ، نسأل عنه الركبان ؟! ورأيا صلاح المسلمين في
____________
1- سوف يأتي قريباً . 2- السقيفة وفدك ، الجوهري : 77 ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 6/52 ، وراجع المصادر الأخرى في الجزء الثالث : 423 .
تخلُّفهما .
فقلت : هذا خطأ محض ، فإن الاجتهاد إنما يجوز في مسألة لا نصَّ فيها ، ولا يجوز مقابل النصّ بإجماع علماء الإسلام ، وقد قال الله تعالى : {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى}(1) فاجتهادهما هذا ردٌّ على الله وعلى رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وهل يتصوَّر مسلم أنهما أعلم بصلاح المسلمين من الله ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) ؟! ما هذا ( إلاَّ ) العمى عن الحقّ ، والتلبُّس بالشبهات .
فقال : أمهلني حتى أنظر .
فقلت : قد أمهلتك إلى يوم القيامة ، ثمَّ ذكرت له ـ بعد ذلك ـ حديث الحوض ، وهو ما رواه في الجمع بين الصحيحين للحميدي ، في الحديث الحادي والثلاثين بعد المائة ، من المتفق عليه من مسند أنس بن مالك ، قال : إن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : ليردن عليَّ الحوض رجال ممن صاحبني ، حتى إذا رأيتهم ورفعوا إليَّ رؤوسهم اختلجوا ، فأقولن : أي ربِّ ! أصحابي ! فيقال لي : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك(2) .
ورواه أيضاً في الجمع بين الصحيحين من مسند ابن عباس بلفظ آخر ، والمعنى متفق ، وفي آخره زيادة : إنهم لم يزالوا مرتدّين على أعقابهم منذ فارقتهم(3) .
____________
1- سورة النجم ، الآية : 3 ـ 4 . 2- مسند أبي يعلى الموصلي : 7/34 ـ 35 ح 3942 ، المصنّف ، ابن أبي شيبة : 7/415 ح35 ، مسند أحمد بن حنبل : 5/48 و50 ، تأريخ دمشق ، ابن عساكر : 36/8 ، فتح الباري ، ابن حجر : 11/333 ، كنز العمال ، المتقي الهندي 13/238 ـ 239 ح 36714 ، تفسير القرطبي : 6/377 . 3- مسند أحمد بن حنبل : 1/235 ، السنن الكبرى ، النسائي : 1/668 ـ 669 ح2214 ، المعجم الأوسط ، الطبراني : 3/186 .
ورواه أيضاً في الجمع بين الصحيحين من مسند سهل بن سعد ، في الحديث الثامن والعشرين من المتفق عليه ، وفي آخره زيادة : فأقول : سحقاً سحقاً لمن بدَّل بعدي(1) .
ورواه أيضاً في الحديث السابع والستين بعد المائتين من مسند أبي هريرة ،من عدّة طرق ، وفي آخره زيادة : فلا يخلص منهم إلاَّ همل(2) النعم(3) .
وقد روى مثل ذلك من مسند عائشة بعدّة طرق ، ومن مسند أسماء بنت أبي بكر بعدّة طرق ، ومن مسند أم سلمة بعدّة طرق ، ومن مسند سعيد بن المسيَّب بعدّة طرق .
وهذا ذمٌّ لهم على لسان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ، الثابت في صحاحكم ، قد بلغ حدَّ التواتر ، وهو عين ما ندّعيه من ميل كثير منهم إلى الملك والرئاسة والحياة الدنيا ، وبسبب ذلك أظهروا العداوة لأهل البيت(عليهم السلام) ، وجدّوا في أذاهم .
وقد سمعنا بسير الملوك الذين قتلوا أبناءهم ، والأبناء الذين قتلوا آباءهم حرصاً على الملك ، وأظهر من ذلك في القرآن ، فقد أخبر بوقوع أكبر الكبائر منهم ، وهي الفرار من الزحف ، قال الله تعالى : {وَيَوْمَ حُنَيْن إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ}(4) .
____________
1- صحيح البخاري : 8/87 ، صحيح مسلم : 7/66 ، مسند أحمد بن حنبل : 3/28 و5/333 . 2- قال ابن الأثير في مادة ( همل ) : في حديث الحوض : فلا يخلص منهم إلاَّ مثل همل النعم . الهمل : ضوالّ الإبل ، واحدها : هامل . أي إن الناجي منهم قليل في قلّة النعم الضالّة ( النهاية في غريب الحديث ، ابن الأثير : 5/274 ) . 3- صحيح البخاري : 7/208 ـ 209 ، فتح الباري ، ابن حجر : 11/333 ، كنز العمال ، المتقي الهندي : 11/132 ـ 133 ح30918 . 4- سورة التوبة ، الآية : 25 .
وقد كانوا أكثر من عشرة آلاف ، فلم يتخلف معه إلاَّ علي (عليه السلام) والعباس وجماعة أخرى ، والباقون سلَّموا نبيَّهم إلى القتل ، ولم يخشوا العار ولا النار ، ولم يستحيوا من الله ولا من رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وممَّا يشاهدانهما عياناً .
وقال الله تعالى : {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً}(1) فإذا كانوا يتركون الصلاة خلفه للتفرُّج على القافلة ، فكيف يستبعد ميلهم إلى الدنيا بعده ، واتّباعهم هوى أنفسهم في طلب الملك ؟ وقد أخبر النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بذلك في الأخبار المتقدّمة .
وذكرت له قول أبي بكر : إن لي شيطاناً يعتريني(2) ، وعزله عن براءة ، فلم يؤمن عليها ، وهي سورة واحدة ، وهزيمته وهزيمة عمر في خيبر وعدّة مواطن(3) .
____________
1- سورة الجمعة ، الآية : 11 . 2- المصنّف ، عبدالرزاق الصنعاني : 11/336 ح20701 ، الطبقات الكبرى ، ابن سعد : 3/212 ، المعيار والموازنة ، أبو جعفر الإسكافي : 61 ، تأريخ دمشق ، ابن عساكر : 30/303 ، البداية والنهاية ، ابن الأثير : 334 ، الإمامة والسياسة ، ابن قتيبة : 1/34 . 3- روى الحاكم النيسابوري بالإسناد عن أبي ليلى ، عن علي (عليه السلام) أنه قال : يا أبا ليلى ! أما كنت معنا بخيبر ؟ قال : بلى والله ، كنت معكم ، قال : فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعث أبا بكر إلى خيبر ، فسار بالناس وانهزم حتى رجع . قال : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه . وروى أيضاً بالإسناد عن جابر رضي الله عنه أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) دفع الراية يوم خيبر إلى عمر ، فانطلق فرجع يجبِّن أصحابه ويجبّنونه ، قال : هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه . ( المستدرك ، الحاكم النيسابوري : 3/37 ـ 38 ) . وروى ابن عساكر بالإسناد عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : بعث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أبا بكر إلى خيبر ، فهزم فرجع ، فبعث عمر فهزم ، فرجع يجبِّن أصحابه ويجبِّنه أصحابه ، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : لأدفعنَّ الراية إلى رجل يحبُّ الله ورسوله ، ويحبُّه الله ورسوله ، يفتح الله عليه ، فدعا علياً ، فقيل له : إنَّه أرمد ، قال : ادعوه ، فدعوه فجاءه ، فدفع إليه الراية ففتح الله عليه . ( تاريخ مدينة دمشق ، ابن عساكر : 42/96 ـ 97 ) .
ومنعه فاطمة (عليها السلام) إرثها بحديث تفرَّد بروايته ، مخالف للقرآن يجب ردُّه ، وقالت له (عليها السلام) : أترث أباك ولا أرث أبي ؟! أفي كتاب الله ذلك ؟!(1) .
ويلزم أن يكون النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) قد قصَّر في أنه لم ينذر إلاَّ أبا بكر ، ولم ينذر أهل البيت(عليهم السلام)وقد قال الله تعالى : {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الاَْقْرَبِينَ}(2) .
ومنها ( أنه غصب ) فدك التي أنحلها إيَّاها أبوها ، وشهد لها عليٌّ والحسنان(عليهم السلام)وأم أيمن ، وردّ شهادتهم ـ وهم مطهَّرون ـ تعصُّباً وعناداً ، أو جهلا بالأحكام ، فماتت مغضبة عليهما ، وأوصت ألا يصلّيا عليها ، وأن تدفن ليلا ، وقد قال أبوها (صلى الله عليه وآله وسلم) : فاطمة بضعة منّي ، من آذاها فقد آذاني ، ومن آذى رسول الله فقد آذى الله ، وقد قال الله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالاْخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُّهِيناً}(3) .
وذكرت له منع عمر من الكتاب الذي لا يضلُّ بعده ، وشتمه للنبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم)بقوله : دعوه ، فإن نبيَّكم يهجر(4) ، وهذا ردٌّ على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلى الله ، وهو كفر .
ومنع من المغالاة في المهور ، فنبَّهته امرأة ، فقال : كل الناس أفقه من عمر
____________
1- تاريخ اليعقوبي : 2/127 ، بلاغات النساء ، ابن طيفور : 14 ، جواهر المطالب ، ابن الدمشقي : 1/161 . 2- سورة الشعراء ، الآية : 214 . 3- سورة الأحزاب ، الآية : 57 . 4- راجع : صحيح البخاري : 4/31 و66 ، مسند أحمد بن حنبل : 1/222 ، صحيح مسلم : 5/75 ، المصنّف ، عبدالرزاق الصنعاني : 57 ح9992 .
حتى المخدَّرات ( في الحجال )(1) ، وقال : متعتان كانتا على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)وأنا أنهى عنهما ، وأعاقب عليهما(2) ، وهذا يقدح في إيمانه .
وأبدع في قيام نوافل رمضان جماعة ، واعترف بأنّهما بدعة(3) ، مع أن كل بدعة ضلالة .
وذكرت له أن عثمان ولَّى أمور المسلمين للفساق ، لمحض القرابة ، بعد أن
____________
1- السنن الكبرى ، البيهقي : 7/233 ، مجمع الزوائد ، الهيثمي : 4/283 ـ 284 ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 1/182 و12/208 ، كنز العمال ، المتقي الهندي : 16/536 ـ 537 ح45796 ، فيض القدير ، المناوي : 2/8 ، الدرّ المنثور ، السيوطي : 2/133 . 2- علل الدار قطني : 2/156 ح182 ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 1/182 ، مسند أحمد بن حنبل : 3/325 ، تاريخ بغداد ، البغدادي : 14/202 ، تاريخ دمشق . ابن عساكر : 64/71 ، تهذيب الكمال ، المزي : 31/214 ، تذكرة الحفاظ ، الذهبي : 1/366 ، كنز العمال ، المتقي الهندي : 16/521 ح45722 ، تفسير القرطبي 2/392 . 3- روى البخاري ، عن عبد الرحمن بن عبد القاري أنه قال : خرجت مع عمر بن الخطاب ليلة في رمضان إلى المسجد ، فإذا الناس أوزاع متفرِّقون ، يصلّي الرجل لنفسه ، ويصلّي الرجل فيصلّي بصلاته الرهط ، فقال عمر : إنّي أرى لو جمعت هؤلاء على قارىء واحد لكان أمثل ، ثمَّ عزم فجمعهم على أبي بن كعب ، ثمَّ خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلّون بصلاة قارئهم ، قال عمر : نعم البدعة . صحيح البخاري : 2/252 ، السنن الكبرى ، البيهقي : 2/493 ، المصنّف ، عبدالرزاق الصنعاني : 4/259 . وجاء في شرح النهج : أن عمر خرج في شهر رمضان ليلا ، فرأى المصابيح في المسجد ، فقال : ما هذا ؟ فقيل له : إن الناس قد اجتمعوا لصلاة التطوّع ، فقال : بدعة فنعمت البدعة ! فاعترف ـ كما ترى ـ بأنّها بدعة ، وقد شهد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أن كل بدعة ضلالة . وقد روي أن أميرالمؤمنين (عليه السلام) لمَّا اجتمعوا إليه بالكوفة فسألوه أن ينصب لهم إماماً يصلي بهم نافلة شهر رمضان ، زجرهم وعرَّفهم أن ذلك خلاف السنة فتركوه ، واجتمعوا لأنفسهم ، وقدَّموا بعضهم ، فبعث إليهم ابنه الحسن (عليه السلام) ، فدخل عليهم المسجد ومعه الدرّة ، فلمَّا رأوه تبادروا الأبواب ، وصاحوا : وا عمراه ! شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 12/283 .
نهاه الصحابة ، ولم يلاحظ الله في ذلك ، حتى أظهروا المناكير من القتل وشرب الخمر ، وضرب عبدالله بن مسعود حتى كسر بعض أضلاعه ، وضرب عمَّار بن ياسر حتى حدث به فتق(1) ، ونفى أبا ذر مع عظم شأنه ، وتقدُّمه في الإسلام ، ولا ذنب له سوى إنكاره على بعض منكراته .
وآوى طريد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المدينة بعد أن طرده رسول الله منها ، وسأل قبل ذلك أبا بكر وعمر في ردِّه فلم يقبلا ، فعند ذلك ثار عليه الناس فقتلوه ،وكان الصحابة والتابعون بين قاتل وراض ، ولم يحم عنه منهم أحد ، وترك ثلاثة أيام بغير دفن .
وقد شهد عمَّار بن ياسر ، وزيد بن أرقم ، وحذيفة بن اليمان ، وجماعة آخرون بكفره ، وقالوا : {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}(2) ، وكانوا يقولون علانية : قتلناه ـ بحمد الله ـ كافراً(3) .
ثمَّ بيَّنت له أن عمر قد فتح البلاد بسيوف الصحابة ، وإمداد أهل البيت(عليهم السلام)كما نقل ، ومع ذلك لا يدلّ على مدّاكم فيه ; لأن ذلك للزيادة في ملكه ، ونحن نجد الملوك يسفكون الدماء لفتح البلاد والزيادة في الملك ، وإن استوجب العقاب في الآخرة ، وما فعله عمر لزيادة ملكه وإظهار صيته ، وليس عليه في الآخرة منه لوم ، فأيُّ دليل على صلاح باطنه ؟!
وذكرت له أمثال ذلك مما يطول شرحه ، واتفق أهل النقل من الشيعة والسنة والمعتزلة على نقله وصحّته ، فلم يمكنهم إنكاره ، ولهذا تأوَّلوه بتكلُّفات
____________
1- راجع مصادره في الجزء الثالث من هذا الكتاب : 487 . 2- سورة المائدة ، الآية : 44 . 3- المعيار والموازنة ، أبو جعفر الإسكافي : 171 ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 3/47 .
تصغر عن النقل ، ويحكم بفسادها كل ذي عقل .
وكان يجيبني في المجلس عن بعضها بما ذكروه من التكلُّفات ، فأردُّه بأيسر وجه ، وقلت له : إن اتّباع الحقّ يحتاج إلى إنصاف ، وترك الهوى ، والتقليد المألوف ، وإلاَّ فمعاجز نبيِّنا (صلى الله عليه وآله وسلم) الدالّة على صدقه ، كالقرآن وانشقاق القمر لا تبقي لأحد شكاً ، والكفَّار لمَّا سلكوا التعصُّب والعناد والتقليد المألوف لهم ، نشزت أنفسهم عن قبول ذلك ، وقابلوه بالشبهات ، فبقوا على كفرهم ، فاعترف بذلك .
حديث الأئمة إثنى عشر
ودخلت إلى عنده يوماً ، فرأيت بين يديه كتباً منها صحيح البخاري ، فتذكَّرت الأحاديث التي فيه : إن الأئمة اثنا عشر ـ فأريته إيّاها ـ وذلك أنه روي في صحيح البخاري بطريقين :
أحدهما : إلى جابر بن سمرة قال : سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول : يكون بعدي اثنا عشر أميراً ، فقال كلمة لم أسمعها ، فقال أبي : إنه قال : كلُّهم من قريش(1) .
وثانيهما : إلى ابن عيينة قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : لا يزال أمر الناس ماضياً ما وليهم اثنا عشر رجلا ، ثمَّ تكلَّم بكلمة خفيت عليَّ ، فسألت أبي : ماذا قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ؟ فقال : قال : كلُّهم من قريش(2) .
____________
1- صحيح البخاري : 8/127 ، مسند أحمد بن حنبل : 5/90 و93 و95 ، صحيح ابن حبان : 15/44 ، مسند أبي داوود : 103 ـ 104 ، فتح الباري ، ابن حجر : 13/181 . 2- مسند أحمد بن حنبل : 5/97 ـ 98 و101 ، صحيح مسلم : 6/3 ، السنن الكبرى ، البيهقي : 6/254 ، المستدرك ، الحاكم النيسابوري : 3/617 ، المعجم الكبير ، الطبراني : 2/196 .
وروى بطريق آخر إلى ابن عمر ، قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي منهم اثنان(1) .
وذكرت له أن مسلماً روى في صحيحه هذا الحديث بلفظه ، وروى مسلم أيضاً في صحيحه الحديث الأول بطرق متعدِّدة ، وكان صحيح مسلم عنده فأتى به ، فأريته ذلك فيه ، وفي بعض طرقه : لا يزال هذا الدين عزيزاً(2) .
فقلت له : هذا عين ما تقوله الشيعة ، وشاهد بصحّة معتقدهم ، فلا يتمُّ إلاَّ على مذهبهم ، فيكونون هم الفرقة الناجية ; لأنهم هم المتمسِّكون بالخليفتين اللذين لن يفترقا حتى يردا الحوض ، القائلون بالاثني عشر خليفة ، الموادُّون أهل بيت نبيهم(عليهم السلام) ، الذين جعل الله ودَّهم أجر الرسالة بقوله تعالى : {قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}(3) فإن غير الشيعة لم يميِّزوهم ، بل قدَّموا غيرهم عليهم ، فلا يضرُّهم تلبيس المتلبِّسين بالشبهات ، ولا معاداة المعاندين .
ثمَّ باحثته في مسائل كلاميّة ، كالرؤية ، والقضاء والقدر ، وفي مسائل فرعيَّة كالمسح ، والمتعة ، وذلك بعد أن كان قد أذعن واستقرَّ الإيمان في قلبه ، وسبَّ أعداء أهل البيت عموماً ، لما تبيَّن له أحوالهم ، وما وقع منهم ، واتّضحت له حقيقة الحال ، وصار من خواصّ الشيعة .
ولله الحمد أولا وآخراً ، وظاهراً وباطناً ، وصلَّى الله على سيِّدنا محمّد وآله الطيِّبين الطاهرين إلى يوم الدين .
____________
1- صحيح البخاري : 8/105 ، فتح الباري ، ابن حجر : 6/390 ، شرح مسلم ، النووي : 12/200 . 2- صحيح مسلم : 6/4 ، سنن أبي داوود : 2/309 ح4280 ، مسند أحمد بن حنبل : 5/96 . 3- سورة الشورى ، الآية : 23 .
المناظرة الأربعون
مناظرة
الشيخ محمّد طاهر القمّي الشيرازي مع مفتي الحنفية
في عدم الدليل على وجوب اتّباع أحد المذاهب الأربعة
قال محمّد طاهر القمّي الشيرازي عليه الرحمة : حكاية لطيفة مناسبة ، قد اتّفق لي صحبة في مكة المشرفة مع بعض فضلاء أهل السنة ، وكان مفتي الحنفيّة ، وكان يتوهَّم أني علم مذهبه وعقيدته ، فجرى بيني وبينه مكالمات هذا مضمونها وحاصلها : قلت له : هل يرجى النجاة للشيعة ؟ وهم يقولون : ليس دليل يدلّ على عدم جواز اتّباع غير الأربعة ، ونحن نعمل بقول جعفر بن محمّد الصادق (عليه السلام) ؟
فأجاب : بأن جعفر بن محمّد كان من المجتهدين الكبار ، ويجوز اتّباعه ، ولكن ما يدّعي الشيعة من المسائل بأنه قول جعفر بن محمّد (عليه السلام) غير ثابت .
فقلت له : إن الشيعة يقولون : إنّا إذا سألنا الحنفيّة والشافعيّة والمالكيّة والحنبليّة ، وقلنا لهم : من أين عرفتم أن ما تعملون به قول هؤلاء المجتهدين ؟ قال كل واحد من هذه الطوائف الأربعة : إن مشايخنا نقلوا عن مشايخهم ، وهكذا إلى المجتهد الذي نعمل برأيه ، فثبت بالنقل المشهور مذهب المجتهد الذي نعمل
برأيه ، وهكذا نحن عملنا بالنقل المشهور عن مشايخنا طبقة عن طبقة أن ما نعمل به قول جعفر بن محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) .
فقال : إذا كان هذا فهم من أهل النجاة(1) .
____________
1- كتاب الأربعين ، محمّد طاهر القمي الشيرازي : 640 ـ 641 .
المناظرة الحادية والأربعون
مناظرة
رجل من عوام الشيعة مع بعض المتعصِّبين
قال العلاّمة الدربندي عليه الرحمة : حدَّثني علاّمة علماء العامة المفتي الأروسي ، قال : كنت مع جمع من عظماء العامة والمتنصِّبين المتعصِّبين منهم ، وكنّآ جالسين في مكان يكثر فيه عبور المسافرين والغرباء ، فمرَّ بنا رجل من أهل العجم ، وكان ممَّن لايملأ العيون لكونه وضيعاً ومن العوام ، فخاض طائفة من الجالسين في طعنه وإيذائه والاستهزاء به ، فقالوا : مالكم ـ أيَّها الأعاجم ، أيُّها الحمقاء ! ـ تفعلون في كل سنة في شهر المحرَّم فعل المجانين والأطفال ، تضربون صدوركم ، وتحثون التراب على صدوركم ، وتجزعون ، وترفعون أصواتكم في الصيحة والضجَّة ، وتقولون : واحسناه واحسيناه ، ونحو ذلك ؟
فقال : هذا الرجل : أتدرون سبب هذا وسره ؟
فقالوا : لا .
فقال : هذا مما يجب فعله علينا ; لأنّا إن تركنا ذلك وبقينا على هذا الترك مدّة مديدة لكنتم تقولون : إن يزيد لم يقتل ريحانة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقرّة عينه ، ولم يسبِ ـ بنات رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، بل إن قضيّة يوم الطفّ ليس لها أصل .
فقالوا : فلم ذا ؟
قال : إنّا قد جرَّبناكم وشاهدنا أمثال ذلك منكم مراراً .
فقالوا : فكيف ذا ؟
فقال : إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد جعل ابن عمِّه ووصيَّه وأميرالمؤمنين وسيِّد الوصيين إماماً وخليفة بأمر مؤكَّد من الله تعالى ، وكان ذلك بعد حجّة الوداع في مكان يسمَّى بخم ، وكان ذلك في محضر سبعين ألف رجل حاج في تلك السنة ، وقد وصل ذلك إليكم بطرق متكاثرة متظافرة خارجة عن الحدّ والإحصاء ، مذكورة في كتبكم ، فلمَّا رأيتمونا أنَّا لا نفعل ـ خوفاً وتقيَّة منكم ـ يوم الغدير ، الذي هو أعظم الأعياد سلكتم جادّة الاعتساف ، وخالفتم أمر الله تعالى ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأنكرتم قضيَّة الغدير من أصلها(1) .
____________
1- وفي يوم الغدير يقول الكميت :
وَيَوْمَ الدَّوْحِ دَوْحِ غَدِيرِ خُمٍّ أَبَانَ لَهُ الْوِلاَيَةَ لَوْ أُطِيْعَا
ولكنَّ الرِّجالَ تَبَايعوها | فكم لك مثلُها خَطباً منيعا |
وَلَمْ أر مِثْلَ ذاك اليومِ يوماً | وَلَمْ أَرَ مِثْلَهُ حقّاً أُضيعا |
وروي أن ابن الكميت رأى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في المنام ، فقال : أنشدني قصيدة أبيك ! فلمَّا وصل إلى هذا بكى بكاء شديداً ، وقال (صلى الله عليه وآله وسلم) : صدق أبوك رحمة الله ، اي ـ والله ـ لم أر مثله حقّاً أضيعا .
الصراط المستقيم ، علي بن يونس العاملي : 1/310 .
وفي كنز الفوائد للكراجكي : 154 قال هناد بن السري : رأيت أميرالمؤمنين (عليه السلام) في المنام ، فقال لي : يا هناد ! قلت : لبَّيك يا أميرالمؤمنين ، قال : أنشدني قول الكميت :
ويوم الدوح دوح غدير خم | أبان لنا الولاية لو أطيعا |
ولكن الرجال تبايعوها | فلم أر مثلها أمراً شنيعا |
قال : فأنشدته فقال : خذ إليك يا هناد ، فقلت : هات يا سيدي ، فقال :
ولم أر مثل ذاك اليوم يوماً | ولم أر مثله حقاً أضيعا |
ونجدِّد في كل سنة إقامة التعزية ، وذكر مصائب سيِّد الشهداء (عليه السلام) والنوح والجزع والبكاء عليه ، واللعن على قاتله ، وتسميتهم بأسمائهم لئلا تطمعوا في إنكار هذا الأمر البديهيِّ الضروريِّ ، الواصل شأنه إلى هذا المقام ..
قال : لمَّا سمعوا مقالته هذه ارتعدت فرائصهم ، وتغيَّرت ألوانهم ، واصفرَّت وجوههم ، وطأطأوا رؤوسهم إلى الأرض ، فارتطموا في الوحل .
ثمَّ قال : والله إن هذا كان في باب ذلك الرجل من ألطاف الله تعالى وإلهاماته بحسب المقام ; لأنه كان رجلا من عوام الناس ، غير مطّلع على اصطلاحات العلماء ، وكيفيّة معارضتهم ومباحثاتهم(1) .
قال الأستاذ عبدالمنعم حسن السوداني المستبصر : والمحاولات التي يبثُّها المغرضون اليوم حول البكاء على الحسين (عليه السلام) ما هي إلاَّ إحدى المحاولات لإسكات صوت الحقّ ، وإطفاء نور الله {وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}(2) .
ولو لم يفعل الشيعة ذلك لإحياء ذكرى كربلاء لحاولوا طمسها كما فعلوا بحادثة الغدير ، ولقالوا لنا اليوم إن الذي قتل لم يكن الحسين بن علي (عليه السلام) ، ويكفي فخراً لمجالس الحسين (عليه السلام) أنَّها ما فتئت تؤرق مضاجع الطغاة ، وتلهب في النفس المؤمنة روح الجهاد ، ويكفي قراءة خطبة واحدة من خطب الحسين (عليه السلام) ليسري مفعولها السحريُّ في الأرواح المؤمنة(3) .
____________
1- أسرار الشهادة ، الدربندي : 1/75 ـ 76 . 2- سورة التوبة ، الآية : 32 . 3- بنور فاطمة اهتديت ، عبدالمنعم حسن السوداني : 203 .
المناظرة الثانية والأربعون
مناظرة
الشيخ الكاظمي مع الآلوسي
قال العلاّمة الميانجي(رحمه الله) : نقل السيِّد المحقِّق العلامة الحاج السيِّد مهدي الروحاني : أن في بغداد انعقدت حفلة عرس حضرها كثير من الشيعة والسنة ، وحضرها العالم الكبير والمحقِّق التقيُّ الشيخ محمّد حسين الكاظمي ، ومن أهل السنة الشيخ محمود شكري الآلوسي ، فالتفت الآلوسي إلى الشيخ فقال : كان الماضون من العلماء يباحثون في مسائل دينيّة في المجالس فيستفيد منه الناس ، فهل لك أن تناظرني في بعض المسائل الشرعيَّة حتى يستفيد هؤلاء ؟
قال الشيخ : باختياركم .
قال الآلوسي : فهل في الأصول أو الفروع ؟
قال الشيخ : باختياركم .
قال : فإذن نبحث في الأصول ، ولكن في أيِّ أصل منها ؟ فهل نجعلها مناظرة ؟
قال الشيخ : باختياركم .
قال الآلوسي : لم لا يقول الشيعة بإمامة الشيخين ؟
قال الشيخ : للمدّعي أن يأتي بدليل ، فإنّا نسأل أهل السنة : لم اختاروا إمامة الشيخين ؟
قال الآلوسي : لأنَّ النبيَّ (صلى الله عليه وآله وسلم) نصبه للصلاة في أيام مرضه .
وهنا أخذ الشيخ يذكِّر الآلوسي بأن بعض الصحابة زعم أن النبيَّ (صلى الله عليه وآله وسلم) في مرضه كان يهجر ( وذلك لما قال لهم (صلى الله عليه وآله وسلم) : آتوني بدواة وكتف ... )(1) .
سكت الآلوسي وبهت وتحير ، وبان على وجهه الانكسار والعيُّ ، وفهمه الحاضرون ، وانكسر أهل السنّة الموجودون في المجلس ، وسرَّ وفرح الشيعة ، فأراد الآلوسي أن يجبر الانكسار بشيء ينسيه فقال : هلمّوا بالطعام ، فجاءوا بالطعام إليَّ وإليه ، فأراد الآلوسي جبران ما فات بالمزاح ، وأخذ يأكل من الطعام .
فقال الألوسي : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : من أكل وحده فشريكه شيطان .
فقال الشيخ : صدق رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فانكسر الآلوسي أيضاً ، وضحك الحاضرون .
وكان على رأس الأرز المطبوخ الموضوع أمام كل من الحاضرين دجاجة ، فأكل الآلوسي وأخذ من الأرز فانهارت الدجاجة إليه ، فقال : عرف الحقُّ أهله فتقدَّم ، فقال الشيخ : لا ، بل حفر الشيخ تحته فتهدَّم .
قال الأحمدي الميانجي(رحمه الله) : نقل السيِّد الروحاني هذا في منزلي في محلة خاك فرج ليلة الجمعة في شهر ربيع الأول من 1406 هـ ق(2) .
____________
1- والمعنى الذي يريد أن يوصله الشيخ للآلوسي ولأمثاله من السنة : أنهم ماداموا يسلِّمون بصدور هذه المقالة بمحضر النبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) في مرضه وقد زعموا : أنّه يهجر وفي رواية قالوا : غلب عليه الوجع كما في صحيح البخاري وغيره ، ولم نر أحداً منهم ردَّ هذه المزاعم الكاذبة أو أنكر على قائلها ، فكيف يأخذون ويحتجّون ـ والحال هذه ـ ويدّعون أنه في مرضه (صلى الله عليه وآله وسلم) قدم أبا بكر للصلاة ؟! فإن كان كلام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حجّة في حال المرض فقوله : آتوني بدواة وكتف لأكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً حجّة أيضاً ، فلماذا غضّوا الطرف عن هذه الوصيَّة ، وأخذوا بما يروونه من أنّه في المرض قدَّم أبا بكر للصلاة ؟ مع أن هذه الرواية غير ثابتة أيضاً وغير صحيحة . راجع : الجزء الثالث : 260 . 2- مواقف الشيعة ، الأحمدي الميانجي : 3/479 ـ 481 .