الصفحة 150

المناظرة التاسعة والثلاثون

مناظرة

الشيخ حسين بن عبدالصمد الجبعي العاملي

مع بعض فضلاء حلب(1)

قال الشيخ حسين بن عبد الصمد الجبعي العاملي عليه الرحمة : بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله على ما أنعم به فكفى ، والصلاة والسلام على عباده الذين اصطفى ، محمَّد النبيِّ الأُمّيِّ وأهل بيته ذوي الكرم والوفاء . أمَّا بعد :

فهذه صورة بحث وقع لهذا الفقير إلى رحمة ربه الغنيّ ، حسين بن

____________

1- قد ذكرنا في الجزء الأول من المناظرات في العقائد : ص481 مناظرة مع بعض فضلاء حلب ، ولم نعرف آنذاك صاحبها ، وهي مخطوطة من مكتبة المرعشي النجفي ، بقلم ناسخها : محمّد بن عبد الإله السلامي ، سنة خمس وتسعين وتسعمائة ، وقد قارنتها بهذه المناظرة التي هي للشيخ حسين بن عبد الصمد والتي وقعت سنة واحد وخمسين وتسعمائة ، فوجدت بينهما بعض الالتقاء في مواضيعهما ، وأقرب الظنّ أنها هي نفسها مع وجود بعض الفوارق ، ويحتمل أن الشيخ حسين بن عبدالصمد قد كتب هذه المناظرة بقلمه الشريف مرّتين ـ مع وجود الزيادة والنقيصة والإطناب والاختصار في بعض بحوثهما والله العالم .

وهذه المناظرة أوسع وأكمل ، والأولى ـ أيضاً ـ تحتوي على بعض البحوث المهمّة التي لا توجد في الثانية ، وقد وجدنا هذه المناظرة مطبوعة بتحقيق شاكر شبع ، جزاه الله خيراً .


الصفحة 151

عبدالصمد الجبعي ، في حلب ، سنة إحدى وخمسين وتسعمائة ، أضافني بعض فضلاء حلب ، وكان ذكيّاً بحّاثاً ، ولي معه خصوصية وصداقة وكيدة بحيث لا أتّقيه ، وكان أبوه من أعيانها .

فقلت له : إنه يقبح بمثلي ومثلك ـ بعد أن صرف كل منّا عمره في تحصيل العلوم الإسلاميّة وتحقيق مقدماتها ـ أن يقلِّد في مذهبه الذي يلقى الله به ، والتقليد مذموم بنصّ القرآن ، وليس حجَّةً منجية ; لأن كل أحد يقلِّد سلفه ، فلو كان حجَّةً كان الكل ناجين ، وليس كذلك .

فقال : هلمَّ حتى نبحث .

البحث في اتباع المذاهب الأربعة

فقلت : هل عندكم نصٌّ من القرآن ، أو من الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) على وجوب اتّباع أبي حنيفة ؟

فقال : لا .

فقلت : هل أجمع أهل الإسلام على وجوب اتّباعه ؟

فقال : لا .

فقلت : فما سوَّغ لك تقليده ؟

فقال : إنّه مجتهد وأنا مقلِّد ، والمقلِّد فرضه أن يقلِّد مجتهداً من المجتهدين .

فقلت : فما تقول في جعفر بن محمّد الصادق (عليه السلام) ؟ هل كان مجتهداً من المجتهدين ؟

فقال : هو فوق الاجتهاد ، وفوق الوصف في العلم والتقى والنسب وعظم الشأن ، وقد عدَّ بعض علمائنا من تلاميذه نحو أربعمائة رجل ، كلّهم علماء فضلاء مجتهدون ، وأبو حنيفة أحدهم .


الصفحة 152

فقلت : قد اعترفت باجتهاده وتقواه ، وجواز تقليد المجتهد ، ونحن قد قلَّدناه ، فمن أين تعلم أنَّا على الضلالة وأنَّكم على الهداية ؟! مع أنّا نعتقد عصمته ، وأنّه لا يخطىء ، بل ما يحكم به هو حكم الله ، ولنا على ذلك أدلّة مدوَّنة ،وليس كأبي حنيفة يقول بالقياس والرأي والاستحسان ويجوز عليه الخطأ ، وبعد التنزُّل عن عصمته ، والاعتراف بأنه يقول بالاجتهاد كما تزعمون ، فلنا دلائل على وجوب اتّباعه ليس في أبي حنيفة واحد منها .

أحدها : إجماع كل أهل الإسلام ـ حتى الأشاعرة والمعتزلة ـ على غزارة علمه ، ووفور تقواه ، وعدالته ، وعظم شأنه ، بحيث إني إلى يومي هذا ـ مع كثرة ما رأيت من كتب أهل الملل ، والتواريخ والسير ، وكتب الجرح والتعديل ، ونحو ذلك ـ لم أرَقطّ طاعناً عليه بشيء من مخالفيه ، وأعداء شيعته ، مع كثرتهم ، وعظم شأنهم في الدنيا ; لأنهم كانوا ملوك الأرض ، والناس تحبُّ التقرُّب إليهم بالصدق والكذب ، ولم يقدر أحد أن يفتري عليه كذباً في الطعن ليتقرَّب به إلى ملوك عصره ، وما ذاك إلاَّ لعلمه أنه إن افترى كذباً كذَّبه كل من سمعه ، وهذه مزيَّة تميَّز هو وآباؤه وأبناؤه الستّة بها عن جميع الخلق .

فكيف يجوز ترك تقليد من أجمع الناس على علمه وعدالته وجواز تقليده ، ويقلَّد من وقع فيه الشك والطعن ؟! مع أن الجرح مقدَّم على التعديل كما تقرَّر في موضعه ، وهذا إمامكم الغزالي صنَّف كتاباً سمَّاه : المنخول ، موضوعه الطعن على أبي حنيفة ، وإثبات كفره بأدلّة يطول شرحها ، وصنَّف بعض فضلاء الشافعية كتاباً سمَّاه : النكت الشريفة في الردّ على أبي حنيفة ، رأيته في مصر ، ذكر فيه جميع ما ذكره الغزالي وزاد أشياء أخر .

ولا شبهة في وجوب تقليد المتّفق على علمه وعدالته ; لأن ظنّ الصواب


الصفحة 153

معه أغلب ، ولا يجوز العمل بالمرجوح مع وجود الراجح إجماعاً ، والجرح مقدَّم على التعديل كما تقرَّر .

ثانيها : أنَّه ـ عندنا ـ من أهل البيت المطهَّرين(عليهم السلام)بنصّ القرآن ، والتطهُّر هو : التنزُّه عن الآثام ، وعن كل قبيح ، كما نصَّ عليه ابن فارس في مجمل اللغة ، وهذا نفس العصمة التي يدّعيها الشيعة ، وأبو حنيفة ليس منهم إجماعاً ، ويتحتَّم تقليد المطهَّر بنصّ القرآن ، لتيقُّن النجاة معه .

قال : نحن لا نسلِّم أنه من أهل البيت(عليهم السلام) ; إذ قد صحَّ في أحاديثنا أنهم خمسة .

فقلت : سلَّمنا أنه ليس من الخمسة ، ولكن حكمه حكمهم في العصمة ، ووجوب الاتّباع لوجهين :

الأول : إن كل من قال بعصمة الخمسة قال بعصمته ، ومَنْ لا فلا ، وقد ثبتت عصمة الخمسة بنصّ القرآن ، فثبتت عصمته ; لأنه قد وقع الإجماع على أنّه لا فرق بينه وبينهم ، فالقول بعصمتهم دونه خلاف إجماع المسلمين .

الثاني : إنه اشتهر بين أهل النقل والسير أن جعفر الصادق وآباءه(عليهم السلام)لم يتردَّدوا إلى مجالس العلماء أصلا ، ولم ينقل أنهم تردَّدوا إلى مخالف ولا مؤالف ، مع كثرة المصنِّفين في الرجال ، وطرق النقل ، وتعداد الشيوخ والتلاميذ ، وإنّما ذكروا أنه أخذ العلم عن أبيه محمّد الباقر (عليه السلام) ، وهو أخذه عن أبيه زين العابدين (عليه السلام) ، وهو أخذه عن أبيه الحسين (عليه السلام) ، وهو من أهل البيت(عليهم السلام)إجماعاً .

وقد صحَّ عندنا أنهم(عليهم السلام)لم يكن قولهم بطريق الاجتهاد ، ولهذا لم يسأل أحد قط صغيراً ولا كبيراً عن مسألة فتوقَّف في جوابها ، أو احتاج إلى مراجعة ، وقد صرَّحوا(عليهم السلام)أن قول الواحد منهم كقول آبائهم ، وقول آبائهم كقول


الصفحة 154

النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وثبت ذلك عندنا بالطرق الصحيحة المتّصلة بهم ، فقوله (عليه السلام)هو قول المطهرَّين بنصّ القرآن .

وثالثها : ما ثبت في صحاح أحاديثكم بالطرق الصحيحة المتكثِّرة ، المتّحدة المعنى ، المختلفة اللفظ ، من قوله (عليه السلام) : إنّي مخلِّف فيكم ما إن تمسَّكتم به لن تضلوا بعدي ، الثقلين : كتاب الله ، وعترتي أهل بيتي ، وإنهما لن يتفرَّقا حتى يردا عليَّ الحوض(1) .

وفي بعض الطرق : إني تارك فيكم خليفتين : كتاب الله وعترتي(2) ، فصرَّح (صلى الله عليه وآله وسلم) بأن المتمسِّك بكتاب الله وعترته لن يضلَّ ، ولم يتمسَّك بهما إلاَّ الشيعة كما لا يخفى ; لأن الباقين جعلوا عترته كباقي الناس ، وتمسَّكوا بغيرهم ، ولم يقل : مخلِّف فيكم كتاب الله وأبا حنيفة ، ولا الشافعي .

فكيف يجوز ترك التمسُّك بمن تتحقَّق النجاة بالتمسُّك به ، ويتمسَّك بمن لم تعلم النجاة معه ؟! إن هذا إلاَّ لمحض السفه والضلال ، وهذا يقتضي العلم بوجوب اتّباعهم ، وإن نوزع فيه فلا ريب في اقتضائه ظنَّ وجوب الاتّباع ، وذلك

____________

1- مسند أحمد بن حنبل : 4/367 ، فضائل الصحابة ، أحمد بن حنبل : 22 ، صحيح مسلم : 7/122 ـ 123 ، المستدرك ، الحاكم النيسابوري : 3/110 ، السنن الكبرى ، البيهقي : 2/148 و7/30 ، السنن الكبرى ، النسائي : 5/51 ، مسند أبي يعلى الموصلي : 2/297 ح48 و303 و54 ، والمعجم الكبير ، الطبراني : 5/154 ح4923 وص166 ، ذيل تاريخ بغداد ، ابن النجار البغدادي : 5/14 ، المناقب ، الموفق الخوارزمي : 200 ، ينابيع المودة ، القندوزي : 1/121 ح49 .

2- مسند أحمد بن حنبل : 5/181 ـ 182 ، المعجم الكبير ، الطبراني : 5/153 ـ 154 ح4921 و4922 ، كنز العمال ، المتقي الهندي : 1/172 ح872 و186 ح947 و384 ح1667 ، الدرّ المنثور ، السيوطي : 2/60 ، مجمع الزوائد ، الهيثمي : 1/170 ، وقال : رواه الطبراني في الكبير ورجاله موثقون ، وذكره أيضاً في : 9/162 ـ 163 وقال : رواه أحمد وإسناده جيّد .


الصفحة 155

كاف لوجوب العمل بالراجح ، واختيارهم(عليهم السلام) بهذه المرجِّحات على غيرهم من المجتهدين ، فلا يكون العدول عنهم إلاَّ اتّباعاً للهوى والتقليد المألوف .

فقال : أنا لا أشك في اجتهادهم ، وغزارة علمهم ، ونجاة مقلِّدهم ، ولكن مذهبهم لم ينقل ولم يشتهر ، كما نقلت المذاهب الأربعة .

فقلت : إن كان مرادك أن الحنفيّة والشافعيّة لم ينقلوه ، فمسلَّم ، ولكن لا يضرُّنا ; لأنَّا لم ننقل مذهبهما أيضاً ، والشافعيَّة لم ينقلوا مذهب أبي حنيفة ، وبالعكس ، وكذا باقي المذاهب ، وليس ذلك طعناً فيها عندكم .

وإن كان مرادك أنه لم ينقله أحد من المسلمين ، فهذه مكابرة محضة ; لأن شيعتهم ، وكثيراً من أهل السنة وباقي الطوائف قد نقلوا أقوالهم وآدابهم وعباداتهم ، واعتنى الشيعة بذلك أشدَّ الاعتناء ، وبحثوا عن تصحيح الناقلين وجرحهم وتعديلهم أشدَّ البحث ، وهذه صحاح أحاديثهم وكتب الجرح والتعديل عندهم مدوَّنة مشهورة بينهم ، لا يمكن إنكارها .

وعلماء الشيعة وإن كانوا أقلَّ من علماء السنة ، ولكن ليسوا أقلَّ من فرقة من فرق المذاهب الأربعة ، خصوصاً الحنابلة والمالكيّة ، فإن الشيعة أكثر منهم يقيناً ، ولم يزل ـ بحمد الله ـ علماء الشيعة في جميع الأعصار أعلم العلماء وأتقاهم ، وأحذقهم في فنون العلوم ، أمَّا في زمن الأئمّة الاثني عشر(عليهم السلام) فواضح أنه لم يساوهم أحد في علم ولا عمل ، حتى فاق تلاميذهم ، واشتهروا بغزارة العلم ، وقوّة الجدال ، كهشام بن الحكم ، وهشام بن سالم ، وجميل بن درّاج ، وزرارة بن أعين ، ومحمّد بن مسلم ، وأشباههم ممّن عرفهم مخالفوهم في المذهب ، وأثنوا عليهم بما لا مزيد عليه .

وأمَّا بعد زمان الأئمَّة فمنهم مثل ابن بابويه ، والشيخ الكليني ، والشيخ


الصفحة 156

المفيد ، والشيخ الطوسي ، والسيِّد المرتضى ، وأخيه ، وابني طاووس ، والخواجة نصير الدين الطوسي ، وميثم البحراني ، والشيخ أبي القاسم المحقِّق ، والشيخ جمال الدين ابن المطهَّر الحلي ، وولده فخر المحقِّقين ، وأشباههم من المشايخ المشاهير ، الذين قد ملأوا الخافقين بمصنَّفاتهم ومباحثهم ، ومن وقف عليها علم علوَّ شأنهم ، وبلوغهم مرتبة الاجتهاد وقوَّة الاستنباط ، وإنكار ذلك إمَّا لتعصُّب أو جهل .

فقد لزمك القول بصحّة مذهبنا ، وأرجحيَّة من قلَّدناه ، بل يلزم ذلك كل من وقف نفسه على جادّة الإنصاف ، ولا يلزمنا القول بصحّة مذهبك ; لأنّا قد شرطنا في المتَّبع العصمة ، فنكون نحن الفرقة الناجية إجماعاً ، وأنتم وإن لم تقولوا بصحّة مذهبنا ، ولكن يلزمكم ذلك بحسب قواعدكم ; للدليل المسلَّم المقدّمات عندكم ; إذ سبب نجاتكم أنكم قد قلَّدتم مجتهداً ، وهذا بعينه حاصل لنا باعترافكم ، مع ترجيحات فيمن اتّبعناه لا يمكنكم إنكارها .

البحث في عدالة الصحابة

فبهت ، ولم يجب بشيء .

ولكن عدل عن سوق البحث ، وقال : إني أسألكم عن سبِّكم أكابر الصحابة ، وأقربهم من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، الذين نصروه بأموالهم وأنفسهم ، حتى ظهر الدين بسيوفهم ، في حياته وبعد موته ، حتى فتحوا البلاد ، ونصروا دين الله بكل ما أمكنهم ، والفتوحات التي فتحها عمر لم يقع مثلها في زمن النبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم)كمصر والشام ، وبيت المقدس ، والروم والعراق وخراسان ، وعراق العجم ، وتوابع ذلك مما يطول شرحه ، ولا يمكن إنكاره ، كما لا يمكن إنكار قوَّته في الدين


الصفحة 157

وسطوته ، وشدّة بأسه ، وإني إذا نظرت في أدلّتكم وجدتها واضحة قويَّة ، وإذا رأيت من مذهبكم سبّ أكابر أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)وخواصّه ، الذين سبقوا في الإسلام ، وكانوا من المقرَّبين عنده حتى تزوَّج بناتهم ، وزوَّجهم بناته ، ومدحهم الله في كتابه بقوله : {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً}(1) إلى آخر الآية ، فإذا رأيت ذلك نفرت نفسي ، وجزمت بفساد مذهبكم .

فقلت له : ليس في مذهبنا وجوب سبِّهم ، وإنَّما يسبُّهم عوام الناس المتعصِّبون ، وأمَّا علماؤنا فلم يقل أحد بوجوب سبِّهم ، وهذه كتبهم موجودة ، وأقسمت له أيماناً مغلَّظة بأنّه لو عاش أحد ألف سنة وهو يتديَّن بمذهب أهل البيت(عليهم السلام)ويتولاَّهم ، ويتبرَّأ من أعدائهم ، ولم يسبَّ الصحابة قط ، لم يكن مخطئاً ، ولا في إيمانه قصور ، فتهلَّل وجهه ، وأنس بذلك ; لأنه صدَّقني فيه .

فقلت له : إذا ثبت عندك غزارة علم أهل البيت(عليهم السلام) ، واجتهادهم ، وعدالتهم ، وترجيحهم على غيرهم ، فهم أولى بالاتّباع ، فتابعهم .

فقال : أشهد على أني متابع لهم ، ولكني لا أسبُّ الصحابة .

فقلت : لا تسبَّ أحداً منهم ، ولكن إذا اعتقدت عظم شأن أهل البيت(عليهم السلام)عند الله ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) فما تقول فيمن عاداهم وآذاهم ؟

فقال : أنا بريء منهم .

فقلت : هذا يكفيني منك ، فأشهد الله ورسوله وملائكته أنه محبٌّ لهم ومتابع ، وبريء من أعدائهم ، وطلب منّي كتاباً في فقههم ، فدفعت إليه النافع ،

____________

1- سورة الفتح ، الآية : 29 .


الصفحة 158

وتفرَّفنا .

ثم رأيته بعد ذلك في غضب وتكدُّر من التشيُّع ، بواسطة ما رسخ في قلبه من عظم شأن الصحابة ، واعتقاده أن الشيعة تسبُّهم .

فقلت له في ليلة أخرى : إن عاهدت الله على الإنصاف ، وكتم الأمر عليَّ ، بيَّنت لك أمر السبِّ ، فعاهد الله على ذلك ما دمت حيّاً بأيمان مغلَّظة ، ونذور مؤكَّدة ، وسألته : ما تقول في الصحابة الذين قتلوا عثمان ؟

فقال : إن ذلك وقع باجتهادهم ، وإنهم غير مأثومين ، وقد صرَّح أصحابنا بذلك .

فقلت : وما تقول في عائشة وطلحة والزبير وأتباعهم ، الذين حاربوا عليّاً (عليه السلام) يوم الجمل ، وقتل في حربهم من الفريقين نحو ستة عشر ألفاً ؟ وما تقول في معاوية وأصحابه ، الذين حاربوا في صفّين ، وقتل من الفريقين ( نحو ) ستين ألفاً ؟

فقال : كالأول .

فقلت : هل جواز الاجتهاد مقرٌّ على فرقة من المسلمين دون فرقة ؟

قال : لا ، كل أحد له صلاحيَّة الاجتهاد .

فقلت : إذا جاز الاجتهاد في قتل أكابر الصحابة ، وقتل خلفاء المؤمنين ، وحرب أخي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وابن عمّه ، وزوج فاطمة سيِّدة نساء العالمين ، أعلم الخلق ، وأزهدهم ، وأقربهم من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، ووارث علمه ، الذي قام الإسلام بسيفه ، ومن أثنى عليه الله ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) بما لا يمكن إنكاره ، حتى جعله الله وليَّ الناس كافّة بقوله تعالى : {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ}(1) يعني

____________

1- سورة المائدة ، الآية : 55 .


الصفحة 159

عليّاً (عليه السلام) بالإجماع ، وقال النبيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) : من كنت مولاه فعليٌّ مولاه(1) ، أنا مدينة العلم وعلىٌّ بابها(2) ، اللَّهُمَّ أئتني بأحبِّ خلقك إليك(3) ، وأنت منّي بمنزلة هارون من موسى(4) ، وأشباه ذلك ممَّا يطول تعداده ، فلم لا يجوز الاجتهاد في سبِّ بعض الصحابة ؟!

فإنّا لا نسبُّ إلاَّ من علمنا أنه أظهر العداوة لأهل البيت(عليهم السلام) ، ونحبُّ المخلصين منهم ، الحافظين وصيَّة الله ورسوله فيهم ، كسلمان ، والمقداد وعمَّار ، وأبي ذر ، ونتقرَّب إلى الله بحبِّهم ، ونسكت عن المجهول حالهم ، هذا اعتقادنا

____________

1- سوف يأتي الحديث مع تخريجاته في مناظرة الدكتور أسعد القاسم الفلسطيني .

2- تقدَّمت تخريجاته .

3- روى النسائي ، عن أنس بن مالك أن النبيَّ (صلى الله عليه وآله وسلم) كان عنده طائر ، فقال : اللهم ائتني بأحبِّ خلقك إليك ، يأكل معي من هذا الطير ، فجاء أبو بكر فردَّه ، وجاء عمر فردَّه ، وجاء عليٌّ فأذن له .

راجع : السنن الكبرى ، النسائي : 5/107 ح8398 ، خصائص أميرالمؤمنين (عليه السلام) ، النسائي : 51 ـ 52 ، مسند أبي يعلى الموصلي : 7/105 ح4052 ، أسد الغابة ، ابن الأثير : 4/30 .

وروى الترمذي بالإسناد عن أنس بن مالك ، قال : كان عند النبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) طير فقال : اللهم ائتني بأحب خلقك إليك ، يأكل معي هذا الطير ، فجاء عليٌّ فأكل معه .

راجع : سنن الترمذي : 5/300 ح3805 ، التاريخ الكبير ، البخاري : 1/358 ، رقم : 1132 ، تاريخ بغداد ، الخطيب البغدادي 3/390 ، رقم : 1531 ، مناقب أميرالمؤمنين (عليه السلام) ، الكوفي : 2/489 ح993 ، تاريخ مدينة دمشق ، ابن عساكر : 42/245 ، البداية والنهاية ، ابن كثير : 7/387 ، المناقب ، الموفق الخوارزمي : 107 ـ 108 ح114 ، المعجم الأوسط ، الطبراني : 2/206 ـ 207 ، المعجم الكبير ، الطبراني : 1/253 ح730 ، ذخائر العقبى ، أحمد بن عبدالله الطبري : 61 ، مجمع الزوائد ، الهيثمي : 9/126 ، وقال : رواه البزار والطبراني باختصار ، ورجال الطبراني رجال الصحيح غير فطر بن خليفة ، وهو ثقة ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 18/24 ، نظم درر السمطين ، الزرندي الحنفي : 101 ، كنز العمال ، المتقي الهندي : 13/166 ح36505 .

4- تقدَّمت تخريجاته .


الصفحة 160

فيهم .

وهذا معاوية قد سبَّ عليّاً وأهل بيته(عليهم السلام) ، واستمرَّ ذلك في زمن بني أميَّة ثمانين سنة ، ولم ينقص ذلك من قدره عندكم ، وكذلك الشيعة اجتهدوا في جواز سبِّ أعداء أهل البيت منهم ، ولو كانوا مخطئين فيهم غير مأثومين .

ومدح الله تعالى لهم في القرآن نقول به ; لأنهم ممدوحون بقول مطلق ; لأن فيهم أتقياء أبراراً ، وليس كلّهم كذلك جزماً ، وحديث الحوض يوضح ذلك(1) .

وأيضاً فيهم منافقون بنصّ القرآن ، فلا يمنع مدح الله لهم فسق بعضهم أو كفره ، واجتهادنا في جواز سبِّ ذلك البعض .

فقال كالمتعجِّب : أو يجوز الاجتهاد بغير دليل ؟!

فقلت : أدلّتهم في ذلك كثيرة واضحة .

فقال كالمستبعد : بيِّن لي منها واحداً .

فقلت : سأذكر لك ما لا يمكنك إنكاره ، وذلك أنه قد ثبت عندكم وعندنا أن النبيَّ (صلى الله عليه وآله وسلم) لمَّا جعل أسامة بن زيد أميراً ، وجهَّزه إلى الشام أمر الصحابة عموماً باتّباعه ، وخصَّص أبا بكر وعمر وأمرهما باتّباعه ، وقال : جهِّزوا جيش أسامة ، لعن الله من تأخَّر عن جيش أسامة(2) ، وقد تخلَّف الرجلان بإجماع المسلمين ، فكانا مشمولين بنصّ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ونصّ الله ; لأنه لم ينطق عن الهوى .

فقال : إنما تخلَّفا باجتهاد ، وشفقة على الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والمسلمين ، وقالا : كيف نمضي ونترك نبيَّنا مريضاً ، نسأل عنه الركبان ؟! ورأيا صلاح المسلمين في

____________

1- سوف يأتي قريباً .

2- السقيفة وفدك ، الجوهري : 77 ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 6/52 ، وراجع المصادر الأخرى في الجزء الثالث : 423 .


الصفحة 161

تخلُّفهما .

فقلت : هذا خطأ محض ، فإن الاجتهاد إنما يجوز في مسألة لا نصَّ فيها ، ولا يجوز مقابل النصّ بإجماع علماء الإسلام ، وقد قال الله تعالى : {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى}(1) فاجتهادهما هذا ردٌّ على الله وعلى رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وهل يتصوَّر مسلم أنهما أعلم بصلاح المسلمين من الله ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) ؟! ما هذا ( إلاَّ ) العمى عن الحقّ ، والتلبُّس بالشبهات .

فقال : أمهلني حتى أنظر .

فقلت : قد أمهلتك إلى يوم القيامة ، ثمَّ ذكرت له ـ بعد ذلك ـ حديث الحوض ، وهو ما رواه في الجمع بين الصحيحين للحميدي ، في الحديث الحادي والثلاثين بعد المائة ، من المتفق عليه من مسند أنس بن مالك ، قال : إن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : ليردن عليَّ الحوض رجال ممن صاحبني ، حتى إذا رأيتهم ورفعوا إليَّ رؤوسهم اختلجوا ، فأقولن : أي ربِّ ! أصحابي ! فيقال لي : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك(2) .

ورواه أيضاً في الجمع بين الصحيحين من مسند ابن عباس بلفظ آخر ، والمعنى متفق ، وفي آخره زيادة : إنهم لم يزالوا مرتدّين على أعقابهم منذ فارقتهم(3) .

____________

1- سورة النجم ، الآية : 3 ـ 4 .

2- مسند أبي يعلى الموصلي : 7/34 ـ 35 ح 3942 ، المصنّف ، ابن أبي شيبة : 7/415 ح35 ، مسند أحمد بن حنبل : 5/48 و50 ، تأريخ دمشق ، ابن عساكر : 36/8 ، فتح الباري ، ابن حجر : 11/333 ، كنز العمال ، المتقي الهندي 13/238 ـ 239 ح 36714 ، تفسير القرطبي : 6/377 .

3- مسند أحمد بن حنبل : 1/235 ، السنن الكبرى ، النسائي : 1/668 ـ 669 ح2214 ، المعجم الأوسط ، الطبراني : 3/186 .


الصفحة 162

ورواه أيضاً في الجمع بين الصحيحين من مسند سهل بن سعد ، في الحديث الثامن والعشرين من المتفق عليه ، وفي آخره زيادة : فأقول : سحقاً سحقاً لمن بدَّل بعدي(1) .

ورواه أيضاً في الحديث السابع والستين بعد المائتين من مسند أبي هريرة ،من عدّة طرق ، وفي آخره زيادة : فلا يخلص منهم إلاَّ همل(2) النعم(3) .

وقد روى مثل ذلك من مسند عائشة بعدّة طرق ، ومن مسند أسماء بنت أبي بكر بعدّة طرق ، ومن مسند أم سلمة بعدّة طرق ، ومن مسند سعيد بن المسيَّب بعدّة طرق .

وهذا ذمٌّ لهم على لسان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ، الثابت في صحاحكم ، قد بلغ حدَّ التواتر ، وهو عين ما ندّعيه من ميل كثير منهم إلى الملك والرئاسة والحياة الدنيا ، وبسبب ذلك أظهروا العداوة لأهل البيت(عليهم السلام) ، وجدّوا في أذاهم .

وقد سمعنا بسير الملوك الذين قتلوا أبناءهم ، والأبناء الذين قتلوا آباءهم حرصاً على الملك ، وأظهر من ذلك في القرآن ، فقد أخبر بوقوع أكبر الكبائر منهم ، وهي الفرار من الزحف ، قال الله تعالى : {وَيَوْمَ حُنَيْن إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ}(4) .

____________

1- صحيح البخاري : 8/87 ، صحيح مسلم : 7/66 ، مسند أحمد بن حنبل : 3/28 و5/333 .

2- قال ابن الأثير في مادة ( همل ) : في حديث الحوض : فلا يخلص منهم إلاَّ مثل همل النعم . الهمل : ضوالّ الإبل ، واحدها : هامل . أي إن الناجي منهم قليل في قلّة النعم الضالّة ( النهاية في غريب الحديث ، ابن الأثير : 5/274 ) .

3- صحيح البخاري : 7/208 ـ 209 ، فتح الباري ، ابن حجر : 11/333 ، كنز العمال ، المتقي الهندي : 11/132 ـ 133 ح30918 .

4- سورة التوبة ، الآية : 25 .


الصفحة 163

وقد كانوا أكثر من عشرة آلاف ، فلم يتخلف معه إلاَّ علي (عليه السلام) والعباس وجماعة أخرى ، والباقون سلَّموا نبيَّهم إلى القتل ، ولم يخشوا العار ولا النار ، ولم يستحيوا من الله ولا من رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وممَّا يشاهدانهما عياناً .

وقال الله تعالى : {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً}(1) فإذا كانوا يتركون الصلاة خلفه للتفرُّج على القافلة ، فكيف يستبعد ميلهم إلى الدنيا بعده ، واتّباعهم هوى أنفسهم في طلب الملك ؟ وقد أخبر النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بذلك في الأخبار المتقدّمة .

وذكرت له قول أبي بكر : إن لي شيطاناً يعتريني(2) ، وعزله عن براءة ، فلم يؤمن عليها ، وهي سورة واحدة ، وهزيمته وهزيمة عمر في خيبر وعدّة مواطن(3) .

____________

1- سورة الجمعة ، الآية : 11 .

2- المصنّف ، عبدالرزاق الصنعاني : 11/336 ح20701 ، الطبقات الكبرى ، ابن سعد : 3/212 ، المعيار والموازنة ، أبو جعفر الإسكافي : 61 ، تأريخ دمشق ، ابن عساكر : 30/303 ، البداية والنهاية ، ابن الأثير : 334 ، الإمامة والسياسة ، ابن قتيبة : 1/34 .

3- روى الحاكم النيسابوري بالإسناد عن أبي ليلى ، عن علي (عليه السلام) أنه قال : يا أبا ليلى ! أما كنت معنا بخيبر ؟ قال : بلى والله ، كنت معكم ، قال : فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعث أبا بكر إلى خيبر ، فسار بالناس وانهزم حتى رجع . قال : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه .

وروى أيضاً بالإسناد عن جابر رضي الله عنه أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) دفع الراية يوم خيبر إلى عمر ، فانطلق فرجع يجبِّن أصحابه ويجبّنونه ، قال : هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه .

( المستدرك ، الحاكم النيسابوري : 3/37 ـ 38 ) .

وروى ابن عساكر بالإسناد عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : بعث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أبا بكر إلى خيبر ، فهزم فرجع ، فبعث عمر فهزم ، فرجع يجبِّن أصحابه ويجبِّنه أصحابه ، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : لأدفعنَّ الراية إلى رجل يحبُّ الله ورسوله ، ويحبُّه الله ورسوله ، يفتح الله عليه ، فدعا علياً ، فقيل له : إنَّه أرمد ، قال : ادعوه ، فدعوه فجاءه ، فدفع إليه الراية ففتح الله عليه .

( تاريخ مدينة دمشق ، ابن عساكر : 42/96 ـ 97 ) .


الصفحة 164

ومنعه فاطمة (عليها السلام) إرثها بحديث تفرَّد بروايته ، مخالف للقرآن يجب ردُّه ، وقالت له (عليها السلام) : أترث أباك ولا أرث أبي ؟! أفي كتاب الله ذلك ؟!(1) .

ويلزم أن يكون النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) قد قصَّر في أنه لم ينذر إلاَّ أبا بكر ، ولم ينذر أهل البيت(عليهم السلام)وقد قال الله تعالى : {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الاَْقْرَبِينَ}(2) .

ومنها ( أنه غصب ) فدك التي أنحلها إيَّاها أبوها ، وشهد لها عليٌّ والحسنان(عليهم السلام)وأم أيمن ، وردّ شهادتهم ـ وهم مطهَّرون ـ تعصُّباً وعناداً ، أو جهلا بالأحكام ، فماتت مغضبة عليهما ، وأوصت ألا يصلّيا عليها ، وأن تدفن ليلا ، وقد قال أبوها (صلى الله عليه وآله وسلم) : فاطمة بضعة منّي ، من آذاها فقد آذاني ، ومن آذى رسول الله فقد آذى الله ، وقد قال الله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالاْخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُّهِيناً}(3) .

وذكرت له منع عمر من الكتاب الذي لا يضلُّ بعده ، وشتمه للنبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم)بقوله : دعوه ، فإن نبيَّكم يهجر(4) ، وهذا ردٌّ على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلى الله ، وهو كفر .

ومنع من المغالاة في المهور ، فنبَّهته امرأة ، فقال : كل الناس أفقه من عمر

____________

1- تاريخ اليعقوبي : 2/127 ، بلاغات النساء ، ابن طيفور : 14 ، جواهر المطالب ، ابن الدمشقي : 1/161 .

2- سورة الشعراء ، الآية : 214 .

3- سورة الأحزاب ، الآية : 57 .

4- راجع : صحيح البخاري : 4/31 و66 ، مسند أحمد بن حنبل : 1/222 ، صحيح مسلم : 5/75 ، المصنّف ، عبدالرزاق الصنعاني : 57 ح9992 .


الصفحة 165

حتى المخدَّرات ( في الحجال )(1) ، وقال : متعتان كانتا على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)وأنا أنهى عنهما ، وأعاقب عليهما(2) ، وهذا يقدح في إيمانه .

وأبدع في قيام نوافل رمضان جماعة ، واعترف بأنّهما بدعة(3) ، مع أن كل بدعة ضلالة .

وذكرت له أن عثمان ولَّى أمور المسلمين للفساق ، لمحض القرابة ، بعد أن

____________

1- السنن الكبرى ، البيهقي : 7/233 ، مجمع الزوائد ، الهيثمي : 4/283 ـ 284 ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 1/182 و12/208 ، كنز العمال ، المتقي الهندي : 16/536 ـ 537 ح45796 ، فيض القدير ، المناوي : 2/8 ، الدرّ المنثور ، السيوطي : 2/133 .

2- علل الدار قطني : 2/156 ح182 ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 1/182 ، مسند أحمد بن حنبل : 3/325 ، تاريخ بغداد ، البغدادي : 14/202 ، تاريخ دمشق . ابن عساكر : 64/71 ، تهذيب الكمال ، المزي : 31/214 ، تذكرة الحفاظ ، الذهبي : 1/366 ، كنز العمال ، المتقي الهندي : 16/521 ح45722 ، تفسير القرطبي 2/392 .

3- روى البخاري ، عن عبد الرحمن بن عبد القاري أنه قال : خرجت مع عمر بن الخطاب ليلة في رمضان إلى المسجد ، فإذا الناس أوزاع متفرِّقون ، يصلّي الرجل لنفسه ، ويصلّي الرجل فيصلّي بصلاته الرهط ، فقال عمر : إنّي أرى لو جمعت هؤلاء على قارىء واحد لكان أمثل ، ثمَّ عزم فجمعهم على أبي بن كعب ، ثمَّ خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلّون بصلاة قارئهم ، قال عمر : نعم البدعة .

صحيح البخاري : 2/252 ، السنن الكبرى ، البيهقي : 2/493 ، المصنّف ، عبدالرزاق الصنعاني : 4/259 .

وجاء في شرح النهج : أن عمر خرج في شهر رمضان ليلا ، فرأى المصابيح في المسجد ، فقال : ما هذا ؟ فقيل له : إن الناس قد اجتمعوا لصلاة التطوّع ، فقال : بدعة فنعمت البدعة ! فاعترف ـ كما ترى ـ بأنّها بدعة ، وقد شهد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أن كل بدعة ضلالة . وقد روي أن أميرالمؤمنين (عليه السلام) لمَّا اجتمعوا إليه بالكوفة فسألوه أن ينصب لهم إماماً يصلي بهم نافلة شهر رمضان ، زجرهم وعرَّفهم أن ذلك خلاف السنة فتركوه ، واجتمعوا لأنفسهم ، وقدَّموا بعضهم ، فبعث إليهم ابنه الحسن (عليه السلام) ، فدخل عليهم المسجد ومعه الدرّة ، فلمَّا رأوه تبادروا الأبواب ، وصاحوا : وا عمراه ! شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 12/283 .


الصفحة 166

نهاه الصحابة ، ولم يلاحظ الله في ذلك ، حتى أظهروا المناكير من القتل وشرب الخمر ، وضرب عبدالله بن مسعود حتى كسر بعض أضلاعه ، وضرب عمَّار بن ياسر حتى حدث به فتق(1) ، ونفى أبا ذر مع عظم شأنه ، وتقدُّمه في الإسلام ، ولا ذنب له سوى إنكاره على بعض منكراته .

وآوى طريد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المدينة بعد أن طرده رسول الله منها ، وسأل قبل ذلك أبا بكر وعمر في ردِّه فلم يقبلا ، فعند ذلك ثار عليه الناس فقتلوه ،وكان الصحابة والتابعون بين قاتل وراض ، ولم يحم عنه منهم أحد ، وترك ثلاثة أيام بغير دفن .

وقد شهد عمَّار بن ياسر ، وزيد بن أرقم ، وحذيفة بن اليمان ، وجماعة آخرون بكفره ، وقالوا : {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}(2) ، وكانوا يقولون علانية : قتلناه ـ بحمد الله ـ كافراً(3) .

ثمَّ بيَّنت له أن عمر قد فتح البلاد بسيوف الصحابة ، وإمداد أهل البيت(عليهم السلام)كما نقل ، ومع ذلك لا يدلّ على مدّاكم فيه ; لأن ذلك للزيادة في ملكه ، ونحن نجد الملوك يسفكون الدماء لفتح البلاد والزيادة في الملك ، وإن استوجب العقاب في الآخرة ، وما فعله عمر لزيادة ملكه وإظهار صيته ، وليس عليه في الآخرة منه لوم ، فأيُّ دليل على صلاح باطنه ؟!

وذكرت له أمثال ذلك مما يطول شرحه ، واتفق أهل النقل من الشيعة والسنة والمعتزلة على نقله وصحّته ، فلم يمكنهم إنكاره ، ولهذا تأوَّلوه بتكلُّفات

____________

1- راجع مصادره في الجزء الثالث من هذا الكتاب : 487 .

2- سورة المائدة ، الآية : 44 .

3- المعيار والموازنة ، أبو جعفر الإسكافي : 171 ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 3/47 .


الصفحة 167

تصغر عن النقل ، ويحكم بفسادها كل ذي عقل .

وكان يجيبني في المجلس عن بعضها بما ذكروه من التكلُّفات ، فأردُّه بأيسر وجه ، وقلت له : إن اتّباع الحقّ يحتاج إلى إنصاف ، وترك الهوى ، والتقليد المألوف ، وإلاَّ فمعاجز نبيِّنا (صلى الله عليه وآله وسلم) الدالّة على صدقه ، كالقرآن وانشقاق القمر لا تبقي لأحد شكاً ، والكفَّار لمَّا سلكوا التعصُّب والعناد والتقليد المألوف لهم ، نشزت أنفسهم عن قبول ذلك ، وقابلوه بالشبهات ، فبقوا على كفرهم ، فاعترف بذلك .

حديث الأئمة إثنى عشر

ودخلت إلى عنده يوماً ، فرأيت بين يديه كتباً منها صحيح البخاري ، فتذكَّرت الأحاديث التي فيه : إن الأئمة اثنا عشر ـ فأريته إيّاها ـ وذلك أنه روي في صحيح البخاري بطريقين :

أحدهما : إلى جابر بن سمرة قال : سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول : يكون بعدي اثنا عشر أميراً ، فقال كلمة لم أسمعها ، فقال أبي : إنه قال : كلُّهم من قريش(1) .

وثانيهما : إلى ابن عيينة قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : لا يزال أمر الناس ماضياً ما وليهم اثنا عشر رجلا ، ثمَّ تكلَّم بكلمة خفيت عليَّ ، فسألت أبي : ماذا قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ؟ فقال : قال : كلُّهم من قريش(2) .

____________

1- صحيح البخاري : 8/127 ، مسند أحمد بن حنبل : 5/90 و93 و95 ، صحيح ابن حبان : 15/44 ، مسند أبي داوود : 103 ـ 104 ، فتح الباري ، ابن حجر : 13/181 .

2- مسند أحمد بن حنبل : 5/97 ـ 98 و101 ، صحيح مسلم : 6/3 ، السنن الكبرى ، البيهقي : 6/254 ، المستدرك ، الحاكم النيسابوري : 3/617 ، المعجم الكبير ، الطبراني : 2/196 .


الصفحة 168

وروى بطريق آخر إلى ابن عمر ، قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي منهم اثنان(1) .

وذكرت له أن مسلماً روى في صحيحه هذا الحديث بلفظه ، وروى مسلم أيضاً في صحيحه الحديث الأول بطرق متعدِّدة ، وكان صحيح مسلم عنده فأتى به ، فأريته ذلك فيه ، وفي بعض طرقه : لا يزال هذا الدين عزيزاً(2) .

فقلت له : هذا عين ما تقوله الشيعة ، وشاهد بصحّة معتقدهم ، فلا يتمُّ إلاَّ على مذهبهم ، فيكونون هم الفرقة الناجية ; لأنهم هم المتمسِّكون بالخليفتين اللذين لن يفترقا حتى يردا الحوض ، القائلون بالاثني عشر خليفة ، الموادُّون أهل بيت نبيهم(عليهم السلام) ، الذين جعل الله ودَّهم أجر الرسالة بقوله تعالى : {قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}(3) فإن غير الشيعة لم يميِّزوهم ، بل قدَّموا غيرهم عليهم ، فلا يضرُّهم تلبيس المتلبِّسين بالشبهات ، ولا معاداة المعاندين .

ثمَّ باحثته في مسائل كلاميّة ، كالرؤية ، والقضاء والقدر ، وفي مسائل فرعيَّة كالمسح ، والمتعة ، وذلك بعد أن كان قد أذعن واستقرَّ الإيمان في قلبه ، وسبَّ أعداء أهل البيت عموماً ، لما تبيَّن له أحوالهم ، وما وقع منهم ، واتّضحت له حقيقة الحال ، وصار من خواصّ الشيعة .

ولله الحمد أولا وآخراً ، وظاهراً وباطناً ، وصلَّى الله على سيِّدنا محمّد وآله الطيِّبين الطاهرين إلى يوم الدين .

____________

1- صحيح البخاري : 8/105 ، فتح الباري ، ابن حجر : 6/390 ، شرح مسلم ، النووي : 12/200 .

2- صحيح مسلم : 6/4 ، سنن أبي داوود : 2/309 ح4280 ، مسند أحمد بن حنبل : 5/96 .

3- سورة الشورى ، الآية : 23 .


الصفحة 169

المناظرة الأربعون

مناظرة

الشيخ محمّد طاهر القمّي الشيرازي مع مفتي الحنفية

في عدم الدليل على وجوب اتّباع أحد المذاهب الأربعة

قال محمّد طاهر القمّي الشيرازي عليه الرحمة : حكاية لطيفة مناسبة ، قد اتّفق لي صحبة في مكة المشرفة مع بعض فضلاء أهل السنة ، وكان مفتي الحنفيّة ، وكان يتوهَّم أني علم مذهبه وعقيدته ، فجرى بيني وبينه مكالمات هذا مضمونها وحاصلها : قلت له : هل يرجى النجاة للشيعة ؟ وهم يقولون : ليس دليل يدلّ على عدم جواز اتّباع غير الأربعة ، ونحن نعمل بقول جعفر بن محمّد الصادق (عليه السلام) ؟

فأجاب : بأن جعفر بن محمّد كان من المجتهدين الكبار ، ويجوز اتّباعه ، ولكن ما يدّعي الشيعة من المسائل بأنه قول جعفر بن محمّد (عليه السلام) غير ثابت .

فقلت له : إن الشيعة يقولون : إنّا إذا سألنا الحنفيّة والشافعيّة والمالكيّة والحنبليّة ، وقلنا لهم : من أين عرفتم أن ما تعملون به قول هؤلاء المجتهدين ؟ قال كل واحد من هذه الطوائف الأربعة : إن مشايخنا نقلوا عن مشايخهم ، وهكذا إلى المجتهد الذي نعمل برأيه ، فثبت بالنقل المشهور مذهب المجتهد الذي نعمل


الصفحة 170

برأيه ، وهكذا نحن عملنا بالنقل المشهور عن مشايخنا طبقة عن طبقة أن ما نعمل به قول جعفر بن محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) .

فقال : إذا كان هذا فهم من أهل النجاة(1) .

____________

1- كتاب الأربعين ، محمّد طاهر القمي الشيرازي : 640 ـ 641 .


الصفحة 171

المناظرة الحادية والأربعون

مناظرة

رجل من عوام الشيعة مع بعض المتعصِّبين

قال العلاّمة الدربندي عليه الرحمة : حدَّثني علاّمة علماء العامة المفتي الأروسي ، قال : كنت مع جمع من عظماء العامة والمتنصِّبين المتعصِّبين منهم ، وكنّآ جالسين في مكان يكثر فيه عبور المسافرين والغرباء ، فمرَّ بنا رجل من أهل العجم ، وكان ممَّن لايملأ العيون لكونه وضيعاً ومن العوام ، فخاض طائفة من الجالسين في طعنه وإيذائه والاستهزاء به ، فقالوا : مالكم ـ أيَّها الأعاجم ، أيُّها الحمقاء ! ـ تفعلون في كل سنة في شهر المحرَّم فعل المجانين والأطفال ، تضربون صدوركم ، وتحثون التراب على صدوركم ، وتجزعون ، وترفعون أصواتكم في الصيحة والضجَّة ، وتقولون : واحسناه واحسيناه ، ونحو ذلك ؟

فقال : هذا الرجل : أتدرون سبب هذا وسره ؟

فقالوا : لا .

فقال : هذا مما يجب فعله علينا ; لأنّا إن تركنا ذلك وبقينا على هذا الترك مدّة مديدة لكنتم تقولون : إن يزيد لم يقتل ريحانة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقرّة عينه ، ولم يسبِ ـ بنات رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، بل إن قضيّة يوم الطفّ ليس لها أصل .


الصفحة 172

فقالوا : فلم ذا ؟

قال : إنّا قد جرَّبناكم وشاهدنا أمثال ذلك منكم مراراً .

فقالوا : فكيف ذا ؟

فقال : إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد جعل ابن عمِّه ووصيَّه وأميرالمؤمنين وسيِّد الوصيين إماماً وخليفة بأمر مؤكَّد من الله تعالى ، وكان ذلك بعد حجّة الوداع في مكان يسمَّى بخم ، وكان ذلك في محضر سبعين ألف رجل حاج في تلك السنة ، وقد وصل ذلك إليكم بطرق متكاثرة متظافرة خارجة عن الحدّ والإحصاء ، مذكورة في كتبكم ، فلمَّا رأيتمونا أنَّا لا نفعل ـ خوفاً وتقيَّة منكم ـ يوم الغدير ، الذي هو أعظم الأعياد سلكتم جادّة الاعتساف ، وخالفتم أمر الله تعالى ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأنكرتم قضيَّة الغدير من أصلها(1) .

____________

1- وفي يوم الغدير يقول الكميت :


وَيَوْمَ الدَّوْحِ دَوْحِ غَدِيرِ خُمٍّ أَبَانَ لَهُ الْوِلاَيَةَ لَوْ أُطِيْعَا

ولكنَّ الرِّجالَ تَبَايعوها فكم لك مثلُها خَطباً منيعا

وَلَمْ أر مِثْلَ ذاك اليومِ يوماً وَلَمْ أَرَ مِثْلَهُ حقّاً أُضيعا

وروي أن ابن الكميت رأى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في المنام ، فقال : أنشدني قصيدة أبيك ! فلمَّا وصل إلى هذا بكى بكاء شديداً ، وقال (صلى الله عليه وآله وسلم) : صدق أبوك رحمة الله ، اي ـ والله ـ لم أر مثله حقّاً أضيعا .

الصراط المستقيم ، علي بن يونس العاملي : 1/310 .

وفي كنز الفوائد للكراجكي : 154 قال هناد بن السري : رأيت أميرالمؤمنين (عليه السلام) في المنام ، فقال لي : يا هناد ! قلت : لبَّيك يا أميرالمؤمنين ، قال : أنشدني قول الكميت :


ويوم الدوح دوح غدير خم أبان لنا الولاية لو أطيعا

ولكن الرجال تبايعوها فلم أر مثلها أمراً شنيعا

قال : فأنشدته فقال : خذ إليك يا هناد ، فقلت : هات يا سيدي ، فقال :


ولم أر مثل ذاك اليوم يوماً ولم أر مثله حقاً أضيعا


الصفحة 173

ونجدِّد في كل سنة إقامة التعزية ، وذكر مصائب سيِّد الشهداء (عليه السلام) والنوح والجزع والبكاء عليه ، واللعن على قاتله ، وتسميتهم بأسمائهم لئلا تطمعوا في إنكار هذا الأمر البديهيِّ الضروريِّ ، الواصل شأنه إلى هذا المقام ..

قال : لمَّا سمعوا مقالته هذه ارتعدت فرائصهم ، وتغيَّرت ألوانهم ، واصفرَّت وجوههم ، وطأطأوا رؤوسهم إلى الأرض ، فارتطموا في الوحل .

ثمَّ قال : والله إن هذا كان في باب ذلك الرجل من ألطاف الله تعالى وإلهاماته بحسب المقام ; لأنه كان رجلا من عوام الناس ، غير مطّلع على اصطلاحات العلماء ، وكيفيّة معارضتهم ومباحثاتهم(1) .

قال الأستاذ عبدالمنعم حسن السوداني المستبصر : والمحاولات التي يبثُّها المغرضون اليوم حول البكاء على الحسين (عليه السلام) ما هي إلاَّ إحدى المحاولات لإسكات صوت الحقّ ، وإطفاء نور الله {وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}(2) .

ولو لم يفعل الشيعة ذلك لإحياء ذكرى كربلاء لحاولوا طمسها كما فعلوا بحادثة الغدير ، ولقالوا لنا اليوم إن الذي قتل لم يكن الحسين بن علي (عليه السلام) ، ويكفي فخراً لمجالس الحسين (عليه السلام) أنَّها ما فتئت تؤرق مضاجع الطغاة ، وتلهب في النفس المؤمنة روح الجهاد ، ويكفي قراءة خطبة واحدة من خطب الحسين (عليه السلام) ليسري مفعولها السحريُّ في الأرواح المؤمنة(3) .

____________

1- أسرار الشهادة ، الدربندي : 1/75 ـ 76 .

2- سورة التوبة ، الآية : 32 .

3- بنور فاطمة اهتديت ، عبدالمنعم حسن السوداني : 203 .


الصفحة 174

المناظرة الثانية والأربعون

مناظرة

الشيخ الكاظمي مع الآلوسي

قال العلاّمة الميانجي(رحمه الله) : نقل السيِّد المحقِّق العلامة الحاج السيِّد مهدي الروحاني : أن في بغداد انعقدت حفلة عرس حضرها كثير من الشيعة والسنة ، وحضرها العالم الكبير والمحقِّق التقيُّ الشيخ محمّد حسين الكاظمي ، ومن أهل السنة الشيخ محمود شكري الآلوسي ، فالتفت الآلوسي إلى الشيخ فقال : كان الماضون من العلماء يباحثون في مسائل دينيّة في المجالس فيستفيد منه الناس ، فهل لك أن تناظرني في بعض المسائل الشرعيَّة حتى يستفيد هؤلاء ؟

قال الشيخ : باختياركم .

قال الآلوسي : فهل في الأصول أو الفروع ؟

قال الشيخ : باختياركم .

قال : فإذن نبحث في الأصول ، ولكن في أيِّ أصل منها ؟ فهل نجعلها مناظرة ؟

قال الشيخ : باختياركم .

قال الآلوسي : لم لا يقول الشيعة بإمامة الشيخين ؟

قال الشيخ : للمدّعي أن يأتي بدليل ، فإنّا نسأل أهل السنة : لم اختاروا إمامة الشيخين ؟


الصفحة 175

قال الآلوسي : لأنَّ النبيَّ (صلى الله عليه وآله وسلم) نصبه للصلاة في أيام مرضه .

وهنا أخذ الشيخ يذكِّر الآلوسي بأن بعض الصحابة زعم أن النبيَّ (صلى الله عليه وآله وسلم) في مرضه كان يهجر ( وذلك لما قال لهم (صلى الله عليه وآله وسلم) : آتوني بدواة وكتف ... )(1) .

سكت الآلوسي وبهت وتحير ، وبان على وجهه الانكسار والعيُّ ، وفهمه الحاضرون ، وانكسر أهل السنّة الموجودون في المجلس ، وسرَّ وفرح الشيعة ، فأراد الآلوسي أن يجبر الانكسار بشيء ينسيه فقال : هلمّوا بالطعام ، فجاءوا بالطعام إليَّ وإليه ، فأراد الآلوسي جبران ما فات بالمزاح ، وأخذ يأكل من الطعام .

فقال الألوسي : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : من أكل وحده فشريكه شيطان .

فقال الشيخ : صدق رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فانكسر الآلوسي أيضاً ، وضحك الحاضرون .

وكان على رأس الأرز المطبوخ الموضوع أمام كل من الحاضرين دجاجة ، فأكل الآلوسي وأخذ من الأرز فانهارت الدجاجة إليه ، فقال : عرف الحقُّ أهله فتقدَّم ، فقال الشيخ : لا ، بل حفر الشيخ تحته فتهدَّم .

قال الأحمدي الميانجي(رحمه الله) : نقل السيِّد الروحاني هذا في منزلي في محلة خاك فرج ليلة الجمعة في شهر ربيع الأول من 1406 هـ ق(2) .

____________

1- والمعنى الذي يريد أن يوصله الشيخ للآلوسي ولأمثاله من السنة : أنهم ماداموا يسلِّمون بصدور هذه المقالة بمحضر النبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) في مرضه وقد زعموا : أنّه يهجر وفي رواية قالوا : غلب عليه الوجع كما في صحيح البخاري وغيره ، ولم نر أحداً منهم ردَّ هذه المزاعم الكاذبة أو أنكر على قائلها ، فكيف يأخذون ويحتجّون ـ والحال هذه ـ ويدّعون أنه في مرضه (صلى الله عليه وآله وسلم) قدم أبا بكر للصلاة ؟! فإن كان كلام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حجّة في حال المرض فقوله : آتوني بدواة وكتف لأكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً حجّة أيضاً ، فلماذا غضّوا الطرف عن هذه الوصيَّة ، وأخذوا بما يروونه من أنّه في المرض قدَّم أبا بكر للصلاة ؟ مع أن هذه الرواية غير ثابتة أيضاً وغير صحيحة . راجع : الجزء الثالث : 260 .

2- مواقف الشيعة ، الأحمدي الميانجي : 3/479 ـ 481 .