المناظرة الثالثة والأربعون
مناظرة
الشيخ كاشف الغطاء مع أحمد أمين المصري
قال الشيخ الأحمدي الميانجي(رحمه الله) : سافرنا إلى الأهواز للقاء العلماء العظام فيها ، ونزلنا على السيِّد الجليل العالم الفاضل السيِّد محمّد علي الجزائري الشوشتري ، إمام الجمعة في الأهواز ، دامت إفاضاته ، كنت يوم الخميس 15/10/1362 هـ . ش ، الموافق لـ 1/4/1404 هـ ق حبيس البيت ، جالساً أطالع في مكتبة السيِّد الجزائري دامت إفاضاته العالية ، فإذا بكتاب جنّة المأوى للعلاّمة الشيخ محمّد حسين كاشف الغطاء(رحمه الله) ، المطبوع في تبريز بتحقيق العلاّمة الشهيد السيِّد محمّد علي القاضي الطباطبائي(رحمه الله) ، وفي مقدَّمته بقلم المحقِّق الشهيد ـ رضوان الله تعالى عليه ـ هذه الحكاية نقلا عن مجلة العرفان في المجلَّد 21 ج3/308 : عند مجيء البعثة المصريّة المؤلَّفة من الأستاذ أحمد أمين صاحب فجر الإسلام وإخوانه إلى النجف الأشرف ، ليلة 21 شهر رمضان من عام 1349 هـ . ق ، وزيارته للإمام المترجم له ـ يعني المرحوم كاشف الغطاء ـ في داره ، ومشاهدة مكتبة الإمام في مدرسته العلميّة ، فكان لملاقاتهم له أثر بالغ في نفوسهم .
وإليك ما دار بينهم من المناظرات والمسألة لتقف على المواهب العالية كيف يخصُّ الله تعالى بعض عباده بها ؟
قال سماحته لأحمد أمين : من العسير أن يلمَّ بما حول النجف وأوضاعها ـ وهي تلك المدينة العلميّة المهمّة ـ شخص لا يلبث فيها أكثر من سواد ليلة واحدة ، فإنّي قد دخلت مصركم قبل عشرين سنة ، ومكثت فيها مدّة ثلاثة أشهر متجوِّلا في بلدانها ، باحثا ومنقِّباً ، ثمَّ فارقتها وأنا لا أعرف من أوضاعها شيئاً إلاَّ قليلا ضمَّنته أبياتاً أتذكَّر منها :
تبزغ شمس العلى ولكن | من أفقها ذلك البزوغ |
ومثلما تنبغ البرايا | كذا لبلدانها نبوغ |
أكل شيء يروج فيها | اللهو و الزهو والنزوغ |
فضحكوا من كلمة النزوغ .
قال الأستاذ أحمد أمين مخاطباً الشيخ : قلتم هذا قبل عشرين سنة ؟
قال : نعم ، وقبل أن ينبغ طه حسين ، ويبزغ سلامة موسى ، ويبزغ فجر الإسلام ، وقد ضمَّنته ـ مخطاباً أحمد أمين ـ من التلفيقات عن مذهب الشيعة مالا يحسن بالباحث المؤرِّخ اتّباعه(1) .
____________
1- قال العلاّمة الأميني عليه الرحمة في كتابه القيِّم الغدير : 3/310 : فجر الإسلام ، ضحى الإسلام ، ظهر الإسلام ، هذه الكتب ألفَّها الأستاذ أحمد أمين المصري لغاية هو أدرى بها ، ونحن أيضاً لا يفوتنا عرفانها ، وهذه الأسماء الفخمة لا تغرُّ الباحث النابه مهما وقف على ما في طيِّها من التافهات والمخازي ، فهي كاسمه ( الأمين ) لا تطابق المسمَّى ، وأيم الله إنه لو كان أميناً لكان يتحفَّظ على ناموس العلم والدين والكتاب والسنّة ، وكفِّ القلم عن تسويد تلك الصحائف السوداء .. ولم يطمس الحقائق ، ولم يظهرها للناس بغير صورها الحقيقيّة المبهجة ، ولم يحرِّف الكلم عن مواضعها ، ولم يقذف أمّة كبيرة بنسب مفتعلة ، ولم يتقوَّل عليهم بما يدنِّس ذيل قدسهم . كما أن تآليفه هذه لو كانت إسلامية ـ كما توهمها أسماؤها ـ لما كانت مشحونة بالضلال والإفك وقول الزور ، ولما بعدت عن أدب الإسلام . وقال في موضع آخر : 3/338 : وواجب رجال الدعاية والنشر في الحكومات الإسلاميّة عرض كل تأليف مذهبيٍّ حول أيِّ فرقة من فرق الإسلام إلى أصولها ومبادئها الصحيحة المؤلَّفة بيد رجالها ومشايخها ، والمنع عما يضادُّها ويخالفها .. وعليهم قطع جذور الفساد قبل أن يؤجِّج المفسد نار الشحناء في الملأ ، ثمَّ يعتذر بعدم الاطّلاع وقلّة المصادر عنده ، كما فعل أحمد أمين بعد نشر كتابه فجر الإسلام في ملأ من قومه ، والإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره ، ولا عذر لأيِّ أحد في القعود عن واجبه الديني الاجتماعي (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) سوره آل عمران ، الآية : 104 .
قال أحمد أمين : ولكنه ذنب الشيعة أنفسهم ; إذ لم يتصدّوا إلى نشر حقيقة مذهبهم في الكتب والصحف ليطلع العالم عليه .
الشيخ : هذا كسابقه ... فإن كتب الشيعة مطبوعة ومبذولة أكثر من أيِّ كتب ، وأيِّ مذهب آخر ، وبينها ما هو مطبوع في مصر ، وما هو مطبوع في سوريا ، عدا ما هو مطبوع في الهند وفارس والعراق وغيرها ، هذا فضلا عمّا يلزم للمؤرِّخ من طلب الأشياء من مصادرها .
أحمد أمين : حسناً ، سنجهد في أن نتدارك ما فات في الجزء الثاني .. إلخ(1) .
____________
1- مواقف الشيعة ، الأحمدي الميانجي : 3/400 ـ 401 .
المناظرة الرابعة والأربعون
مناظرة
العلاّمة الشيخ الأميني (رحمه الله) مع الأستاذ حسين الأعظمي
وكيل عميد كلّيّة الحقوق ببغداد
في الحديث عن أميرالمؤمنين (عليه السلام) بما وصفه الوحي الإلهيّ
قال الشيخ رضا الأميني : لقاء بين علمين ، في حديث لشيخنا الوالد ـ طاب ثراه ـ قال : وقفت في ( جريدة الساعة ) البغداديّة الصادرة في شهر محرَّم(1) على قصيدة عصماء للأستاذ حسين علي الأعظمي ، وكيل عميد كلّيّة الحقوق ببغداد ، في رثاء الإمام الحسين (عليه السلام) ، وأشار في التعليق على بعض أبياتها إلى أن له مؤلَّفاً في حياة الإمام أميرالمؤمنين (عليه السلام) .
فأحببت أن أقف عن كثب على تأليفه ، وأسبر طريقته في ذلك ، وإن وجدت لديه نظماً في واقعة ( الغدير ) جعلته ضمن شعراء القرن الرابع عشر الهجري .
____________
1- جاء في الهامش : لم يحضرني التاريخ بصورة دقيقة ، وأكثر ظنّي أنه كان بين أعوام 65 ـ 1367 هجريّة .
فقصدت داره ، وكانت على مقربة من إحدى سفارات الدول الغربيّة ، فطرقت الباب فخرج إليَّ خادمه ، فسألته عن الأستاذ فأجاب : نعم ، هو موجود في الدار ، فطلبت مواجهته فخرج إليَّ الأستاذ ، وما إن رآني أخذ يفكِّر في السرِّ الذي دعاني إلى زيارته ، لم قصد هذا العالم الشيعيُّ زيارتي ؟ أهو بحاجة للتوسُّط في قبول أبنائه في الجامعة ؟ أم للتوسُّط في توظيف أحد منسوبيه في إحدى الدوائر ؟ فبدأته بالسلام وقلت : أنا أخ لك في الدين ، فإن كنت في شك من إسلامك فأنا قبل كل شيء أعترف بإسلامك وإيمانك ، لما سبرته في قصيدتك العصماء في رثاء سيِّدنا السبط الشهيد أبي عبد الله الحسين (عليه السلام) من نزعة دينيّة ، وإن كنت في شك من إسلامي فأنا أشهد أن لا إله إلاَّ الله وأن محمّداً عبده ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) أرسله بالهدى ودين الحقّ .
فخرج الأستاذ إلى خارج الدار ، ومدَّ يده للمصافحة ، عند ذلك بسطت له ذراعي واحتضنته ، فتبادلنا القبلات ، وسار بي إلى الغرفة الخاصة باستقبال زائريه ، عند ذلك افتتحت الحديث بالكلام حول قصيدته ، وتطرَّقت إلى ما أشار إليه في التعليق على بعض أبياتها ، وأن له مؤلَّفاً حول الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، وأني قصدته من النجف الأشرف لأشكره على قصيدته ورؤية مؤلَّفه .
خلال بحثنا فيما عرضته عليه دخل الغرفة بكل أدب أشباله الثلاثة ، وكانوا من ذوي الثقافة العالية ، عليهم سيماء العلم والأدب ، وبعد المصافحة وتبادل عبارات الترحيب ، اغتنم الأستاذ الأعظمي الفرصة وأراد أن يستخبر ميزان ثقافتي وعلمي ، وما أتحلَّى به من العلوم الإسلاميَّة ، فقال : شيخنا ! ما رأيكم حول كتاب ( عبقريَّة الإمام علي (عليه السلام) ) تأليف الأستاذ المصري عباس محمود العقَّاد ؟ ولم يكن مضى على عرض كتابه في الأسواق التجاريَّة سوى أشهر عديدة ، وقد لاقى إقبالا كبيراً بين الشباب العربي والإسلامي .
قلت : لا أخال أن الأستاذ العقّاد كتب ما يشفي الغليل ; إذ ليس بوسعه ولا بوسع أمَّة من أمثاله عرفان شخصيّة الإمام علي (عليه السلام) على حقيقتها مهما جدّوا واجتهدوا في ذلك ، وبهذا طرأ على الأستاذ وأبنائه استغراب وتفكير ، واستغرق ذلك شيئاً من الوقت في جوٍّ يسوده الهدوء .
فتقدَّمت بالكلام وقلت : تسمحون لي ، قد أكون أنا في كلامي أوجدت نزاعاً بينكم ، إذ بعد أن أترك الدار ستقوم القائمة بينكم ، فتعترضون على والدكم قائلين : يا بابا ! كيف يتسنَّى لشخص بهذه البزّة ، وهذا الهيكل أن يقف على الغثّ والسمين ، ويتعرَّف على ما جاء في كتاب ( عبقريَّة الإمام (عليه السلام) ) ؟ وستكون إجابة الأستاذ إليكم : كلاّ يا أبنائي ، ليس الأمر كما تزعمون ، بل إن الرجل عالم من علماء أمَّة من المسلمين ، وعلى علم بكل شيء ، إلاَّ أنه لا يروقه أن يثني على كتاب أديب سنّيٍّ مخالف لنزعته الدينيّة .
وحتى لا أكون أضرمت نار الفتنة بينكم سأقوم بحسم النزاع بعد أن أعرض على الأستاذ شواهد كلامي ، وإن كنت مخطئاً فسيتولَّى مناقشتي برأيه الصائب ، ويقضي بالحقِّ ، وهو أستاذ القضاء ، ومربّي رجالاته .
عند ذلك سألت الأستاذ الأعظمي قائلا : هل يسعنا أن نقيس الأستاذ العقّاد في الفكر والنظر بواحد من العلماء أمثال : أبي نعيم الإصفهاني ، الفخر الرازي ، ابن عساكر ، الكنجي الشافعي ، أو أخطب خوارزم ، وأضرابهم ممَّن كتبوا حول الإمام أميرالمؤمنين (عليه السلام) مؤلَّفاً خاصاً ، أو تطرَّقوا إلى ناحية من حياته في تآليفهم ؟
أجاب الأستاذ قائلا : شيخنا ! من الجفاء بحقِّ العلم والعلماء أن نقيس مائة من أمثال العقّاد بواحد ممَّن ذكرتم ، إذ أن أولئك أساطين العلم وجهابذة الفكر
الإسلامي ، ولا يتسنّى لإنسان أن يسبر ما كانوا عليه من مكانة سامية في الحديث والتفسير والحكمة والفلسفة وسائر العلوم الإسلاميَّة .
قلت : إذن ما السرُّ في أن أولئك حينما يتطرَّقون إلى ذكر الإمام (عليه السلام) لم يتفوَّهوا في وصفه ببنت شفة بآرائهم الخاصة ، بل يذكرونه بما وصفه الوحي الإلهيُّ ، وما روي عن النبيِّ الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) في حقِّه ؟
قال الأستاذ الأعظمي : هذه نظريَّة مبتكرة نرجو توضيحها كي نستفيد منها ، ونقف على السرِّ الكامن فيها .
قلت : ألم نكن في دراستنا للمنطق قرأنا قول علمائه : يشترط في المعرِّف أن يكون أجلى من المعرَّف ؟ فالصحابة وأئمّة الحديث حيث وقفوا على قول النبيِّ الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) : عليٌّ ممسوس بذات الله(1) ، وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) : يا عليُّ ! ما عرف الله إلاَّ أنا وأنت ، وما عرفني إلاَّ الله وأنت ، وما عرفك إلاَّ الله وأنا(2) .
هذا جزء يسير من خصائصه وصفاته ، من العسير على الأمّة عرفان حقيقته إلاَّ بما وصفه المولى عزَّوجلَّ به ، فأعلنوا إلى الملأ أن عليّاً (عليه السلام) من المعنيَّين بقوله تعالى : {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}(3) ، وقوله تعالى : {قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}(4) ، وقوله
____________
1- المعجم الأوسط ، الطبراني : 9/142 ـ 143 ، المعجم الكبير ، الطبراني : 19/148 ، مجمع الزوائد ، الهيثمي : 9/130 ، كنز العمال ، المتقي الهندي : 11/621 ح33017 ، ينابيع المودة ، القندوزي : 2/84 . 2- تأويل الآيات ، السيِّد شرف الدين الحسيني : 1/139 ح18 ، مناقب آل أبي طالب ، ابن شهر آشوب : 3/60 ، بحار الأنوار ، المجلسي : 39/84 . 3- سورة الأحزاب ، الآية : 33 . 4- سورة الشورى ، الآية : 23 .
تعالى : {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ}(1) ، وقوله تعالى : {أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لاَّ يَسْتَوُونَ}(2) .
وإن خير معرِّف للإمام (عليه السلام) وخصائصه الذاتيّة هو ما أصحر به النبيُّ الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) من قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) : من كنت مولاه فعليٌّ مولاه ، اللهم والِ من والاه ، وعادِ من عاداه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله(3) ، وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) : عليٌّ مع الحقِّ والحقُّ مع عليٍّ ، يدور الحقُّ مع عليٍّ حيثما دار(4) ، وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) : عليٌّ خير البشر ، من أبي فقد كفر(5) ، وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) : عليٌّ مع القرآن والقرآن معه ، لا يفترقان حتى يردا عليَّ الحوض(6) .
____________
1- سورة المائدة ، الآية : 55 . 2- سورة السجدة ، الآية : 17 . 3- تأريخ دمشق ، ابن عساكر : 42/449 ، الإمامة والسياسة ، ابن قتيبة : 1/98 ، وراجع بقيَّة تخريجات الحديث الشريف في مناظرة أسعد القاسم . 4- تقدَّمت تخريجاته . 5- تقدَّمت تخريجاته . 6- جاء في ينابيع المودة ، القندوزي : 1/124 ح56 : وأخرج ابن عقدة من طريق عروة بن خارجة ، عن فاطمة الزهراء (عليها السلام) قالت : سمعت أبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في مرضه الذي قبض فيه يقول ـ وقد امتلأت الحجرة من أصحابه ـ : أيُّها الناس ! يوشك أن أقبض قبضاً سريعاً ، وقد قدَّمت إليكم القول معذرة إليكم ، ألا وإنّي مخلِّف فيكم كتاب ربّي عزَّ وجلَّ وعترتي أهل بيتي ، ثمَّ أخذ بيد عليٍّ فقال : هذا عليٌّ مع القرآن والقرآن مع عليٍّ ، لا يفترقان حتى يردا عليَّ الحوض ، فأسألكم ما تخلِّفوني فيهما . وجاء في المستدرك للحاكم النيسابوري : 3/124 : عن أبي ثابت مولى أبي ذر قال : كنت مع علي (عليه السلام) يوم الجمل ، فلمَّا رأيت عائشة واقفة دخلني بعض ما يدخل الناس ، فكشف الله عنّي ذلك عند صلاة الظهر ، فقاتلت مع أميرالمؤمنين ، فلمَّا فرغ ذهبت إلى المدينة ، فأتيت أم سلمة فقلت : إني ـ والله ـ ما جئت أسأل طعاماً ولا شراباً ، ولكنّي مولى لأبي ذر ، فقالت : مرحباً ، فقصصت عليها قصتي ، فقالت : أين كنت حين طارت القلوب مطائرها ؟ قلت : إلى حيث كشف الله ذلك عنّي عند زوال الشمس ، قالت : أحسنت ، سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول : عليٌّ مع القرآن والقرآن مع علي لن يتفرَّقا حتى يردا عليَّ الحوض . قال : هذا حديث صحيح الإسناد ، وأبو سعيد التيمي هو عقيصاء ، ثقة مأمون ولم يخرجاه . وراجع المصادر التالية : المعجم الصغير ، الطبراني : 1/255 ، المعجم الأوسط ، الطبراني : 5/135 ، المناقب ، الموفَّق الخوارزمي : 176 ـ 177 ح214 ، سبل الهدى والرشاد ، الصالحي الشامي : 11/297 ، ينابيع المودة لذوي القربى ، القندوزي : 1/269 ، ح2 ، و2/96 ح234 ، الجامع الصغير ، جلال الدين السيوطي : 2/177 ، كنز العمال ، المتقي الهندي : 11/603 ح32912 ، فيض القدير ، المناوي : 4/470 رقم : 5594 .
ونرى الأستاذ العقّاد قبل أشهر عديدة نشر كتاباً حول الشاعر ابن الرومي ، وهو من رجال القرن الثالث الهجري ، وله تراجم مسهبة في كتاب التاريخ والسير ، ولم يتحلَّ بشيء من الخصائص فوق خصائص الإنسان ، في حين أخذ العلماء والأساتذة عليه شطحات كثيرة ، ونشروا حولها مقالات مسهبة ; لعدم عرفانه بسيرة الرجل وسلوكه ، أو أخطائه في تحليل تاريخ حياته ، أو بعده عن دراسة نفسيَّته ، أو سوء تفهُّمه لفلسفة الرجل وشعره .
فمؤلِّف هذا مبلغه من العلم في الكتابة عن إنسان في شاكلته ، وهذه سعة اطّلاعه عمَّن انبرى مئات من الكتَّاب في الكتابة عنه ، كيف يتسنَّى له أن يعرف بفكره ونظره شخصيَّةً ممسوسة بذات الله ، وأن يكتب عن قطب رحى الحقِّ الذي يدور الحقُّ معه حيثما دار ؟ وإن كنت أنت ـ أيُّها الأستاذ ـ قد اتّبعت في تأليفك طريقة العقّاد فأراني في غنى عن مطالعته ، وإن اتّبعت في كتابك سيرة السلف ، واعتمدت في بحثك على كتاب الله وسنّة نبيِّه (صلى الله عليه وآله وسلم) فسأكون شاكراً لك لو سمحت لي بمطالعته .
أجاب الأستاذ الأعظمي قائلا : كلاَّ يا شيخ ، أنا سرت في كتابي على كتاب
الله وسنَّة نبيِّه (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وسأكون شاكراً لك مدى الحياة لو سبرت كتابي بدقَّة ، وأخذت عليَّ ما فاتني ، مع ما أفضته عليَّ من حديثك العلمي .
قلت له : هات بحثك ، وأظهر رؤوس عناوينه ، فأوعز إلى أحد أنجاله بذلك ، فأحضر ملفّاً ضخماً كبيراً ، وقال : أنا قمت بتحليل شخصيَّة الإمام شرحاً وبياناً في الكلام حول أربعة أحاديث .
الأول : قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) : علي مع الحق ، والحق مع علي ، يدور الحق معه حيثما دار .
قلت له : أترى هذه فضيلة تخصُّ عليّاً سلام الله عليه ؟
قال : بلى ، ولم يشاركه فيه أيُّ ابن أنثى .
قلت : فما تقول في قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) : عمَّار مع الحقِّ ، والحقُّ مع عمار ، يدور عمار مع الحق حيثما دار ؟(1) وأوعزت إلى مصادر الحديث .
وجم الأستاذ حينما سمع ذلك ، وطأطأ برأسه ، وطرأ على الحفل هدوء مشفوع بتأثُّر مزعج ، وبعد دقائق رفع الأستاذ رأسه وقال : شيخنا ! نسفت ربع البحث بحديثك ، وقضيت على الحول الذي بذلته دونه .
قلت له : بل أحييت لك كتابك ، وأظهرت لك بالحديث الذي ذكرته ما خفي عنك وعن الصحابة قبلك السرُّ الكامن فيه .
قال : وما ذلك ؟
قلت : عندما أصحر النبيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بحديثه حول عليٍّ سلام الله عليه ، لم يدرك
____________
1- الأخبار الطوال ، الدينوري : 147 ، الطبقات الكبرى ، ابن سعد : 3/262 ، تأريخ دمشق ، ابن عساكر : 43/476 ، كنز العمال ، المتقي الهندي : 13/539 ح37411 ، الجوهرة في نسب الإمام علي (عليه السلام)وآله ، البري : 101 .
المجتمع الإسلامي الناحية الهامّة الكامنة في الحديث ، لذلك أصحر بحديثه حول عمار ليدرك المجتمع مكانة عليٍّ سلام الله عليه الإلهيّة بذلك .
ففي حديث عليٍّ (عليه السلام) جعل النبيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) عليّاً محوراً للحقِّ وقطب رحاه ، قال : علي مع الحق والحق مع علي ، يدور الحق مع علي حيثما دار علي ، وفي حديث عمّار قال : عمار مع الحق والحق مع عمار ، يدور عمار مع الحق حيثما دار الحق .
وبهذا أراد النبيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يبيِّن للعالم أن عليّاً (عليه السلام) هو قطب رحى الحق ، والحق يدور معه حيثما دار هو سلام الله عليه ، وكل طالب للحق عليه أن يكون على صلة في علي (عليه السلام) كي يتسنَّى له أن يعرف الحق ، ويتّصل به ، ويسير على نهجه .
هنا طرأ على الأستاذ وأنجاله فرحة وسرور ، فقالوا بصوت عال : الله أكبر ! الله أكبر ! ما أحلاه من شرح وتوضيح يقام له ويقعد !!
إلى هنا أختتم ما سمعت من حديث شيخنا الوالد طاب ثراه ، وما رسخ في بالي ، ومنه سبحانه وتعالى أستمدُّ العون والتسديد ، والحمد لله ربِّ العالمين .
رضا الأميني(1) .
____________
1- ربع قرن مع العلامة الأميني ، الشاكري : 64 ـ 69 .
المناظرة الخامسة والأربعون
مناظرة
السيِّد محمّد تقي الحكيم مع أمين مكتبة الأزهر
وممثِّل الجزائر في فتح باب الاجتهاد والصحابة
قال السيِّد مرتضى الرضوي : حدَّثني الأستاذ عباس الترجمان ، قال : قال لي الأستاذ السيِّد محمّد تقي الحكيم بعد ما رجع من القاهرة لحضور المؤتمر الإسلاميّ هناك : دخلنا يوماً إلى مكتبة جامع الأزهر مع كثير من المؤتمرين في الدول الإسلاميّة ، فتوجَّه إليَّ أمين المكتبة بصورة خاصة وبلهجة شديدة قائلا : على أيِّ استناد استندتم في فتح باب الاجتهاد على أنفسكم بعد ما سدَّه السلف الصالح ؟!(1)
فأجبته بهدوء : وأنتم على أيِّ استناد استندتم في سدِّ باب الاجتهاد على أنفسكم بعد ما فتحه السلف الصالح ؟!
فسكت ولم يحر جواباً ... فالتفت ممثِّل الجزائر في المؤتمر ، وقال لي :
____________
1- وقد تقدَّمت مثل هذه المناظرة للسيِّد نفسه عليه الرحمة في الجزء الثاني : 311 ، المناظرة الحادية والأربعون ، مع مدير مكتبة الأزهر ، وهو الشيخ أبو الوفا المراغي ، في حكم فتح باب الاجتهاد ، ولكن هذه المضامين المذكورة هنا لم تذكر هناك .
الحقُّ معكم ، فلنتازل نحن السنَّة ، وأنتم الشيعة عن بعض الأشياء ، ونتفق على أشياء ، ونكون يداً واحدة ، وأقول لك الآن هذا .
فأجبته بقولي : يا أستاذ ! لا يمكن التفاهم والاتفاق على شيء قبل أن نضع رجال الصدر الأول في ميزان الحساب ; لأنهم خلَّفوا أموراً خلافيّة كثيرة لا يمكن التغاضي والسكوت عنها ، وتركها من دون علاج ، وبعد ذلك فمن السهل أن نتحدَّث ونتفق على كل شيء .
فسكت الأستاذ الخولي ، أمَّا الحاضرون فاحمرَّت عيونهم ، وانتفخت أوداجهم ، وكأن كلامي هذا كان غذاباً قد صبَّ عليهم ، وبعد أن انتهت الندوة استأذنت وانصرفت(1) .
____________
1- مع رجال الفكر في القاهرة ، السيِّد مرتضى الرضوي : 1/311 ـ 312 .
المناظرة السادسة والأربعون
مناظرة
السيِّد مهدي الروحاني مع بعضهم
في حكم مسح الرجلين في الوضوء(1)
حدَّثنا المرحوم الحجّة السيِّد مهدي الروحاني القمي ، قال : كنّا مع بعض الأصدقاء في منى قريباً من الجمرات ، وكنّا ننتظر طلوع الشمس لنرمي الجمرات ، بينا نحن كذلك إذ أقبل علينا رجل ، وسلَّم علينا فرددنا عليه السلام ، فاستأذن في الكلام معنا ، وبيَّن لنا أنه من السنّة السلفيّين ، ثمَّ قال : إن كل الناس يعلمون أن لكل مذهب منطلقاً ينطلق منه ، ويمشي على طبقه ، وكل الفرق الإسلاميَّة تعلم أن منطلقنا ـ نحن السلفية ـ هو الكتاب والسنّة .
فقلت له : أنتم منطلقكم الكتاب والسنّة ؟
قال : نعم .
فقلت : إن كل الفرق الإسلاميّة تقول ما تقولونه ، فالحنفيّة يقولون : إن
____________
1- كتبت هذه المناظرة وما بعدها من لسان السيِّد نفسه(رحمه الله)في عام 1416 تقريباً ، بالتماس منّا ، فلم يبخل علينا بالحديث بهاتين المناظرتين ، وكان في غاية الارتياح ، فجزاه الله خير الجزاء ، وقد أهديناه حينها كتابنا : مناظرات في الإمامة .
منطلقهم الكتاب والسنَّة ، وكذلك الشافعيّة والمالكية والحنبليَّة والشيعة الإماميَّة والإسماعيليّة ، وكل الفرق الإسلاميَّة تسلِّم للكتاب والسنّة ، وأنا أقول لك : إذا كان منطلقكم هو الكتاب والسنَّة فعلا كما تقول فعليكم عدّة مؤاخذات في آرائكم .
فقال : ما هي ؟
فقلت : منها القول بالتشبيه والتجسيم ، ونحن نعرف أن اليهود يقولون بالتشبيه والتجسيم ، وقد ذكر الله سبحانه وتعالى ذلك عنهم في كتابه ، وأنتم أكثر الفرق تشبيهاً وتجسيماً ، فهذا ابن تيميَّة يقول : إن روايات الإثبات أقرب للسنَّة ، ويعني بروايات الإثبات الروايات التي تثبت لله تعالى يدين ورجلين وساقين ووجهاً ، فينبغي عليكم تنزيه الباري تعالى عن التشبيه والتجسيم .
وأصل التنزيه مأخوذ من كلمات أميرالمؤمنين (عليه السلام) وخطبه الشريفة ، فأخذ منه الشيعة والأشاعرة والمعتزلة .
ومنها : مسألة غسل الرجلين في الوضوء ، فإن الواجب في الرجلين هو المسح ولم تأخذوا به(1) ، وأنتم تقولون : إن منطلقنا الكتاب والسنّة ، والمسح في الرجلين هو صريح الآية الشريفة ، قال تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ}(2) ، وفي كلمة أرجلكم قراءتان : قراءة بالنصب وهي الموجودة في المصاحف
____________
1- ومن أفضل ما كتب في هذا المجال ما كتبه العلامة المحقِّق السيِّد علي الشهرستاني في كتابه القيِّم ( وضوء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ) وما كتبه الفاضل المحقق الشيخ محمّد كوزل الآمدي في كتابه ( حكم الأرجل في الوضوء ) ، وقد كتب بحثاً موسَّعاً في ذلك في أكثر من ستمائة صفحة . 2- سورة المائدة ، الآية : 6 .
الشائعة ، وقراءة بالجرّ ، وقد قرأ بالجرِّ نصف القرَّاء ، وبناءً على قراءة الجرِّ يكون الواجب في الوضوء بالنسبة للأرجل واضحاً وهو المسح ; إذ الأرجل معطوفة على الرؤوس ، فالواجب فيها هو المسح إلى الكعبين .
وأمَّا بناء على قراءة النصب فالآية تدل أيضاً على وجوب المسح ، وذلك لأمر نبَّه عليه علماء اللغة وهو : أنه إذا جاء عامل ، وجاء بعده معمول ، ثمَّ جاء عامل آخر ، وجاء بعده معمول ، ثمَّ جاء معمول آخر فلا يكون المعمول الأخير معطوفاً على معمول العامل الأول ، بل لابد أن يكون معطوفاً على معمول العامل الثاني ، فإنّ العطف على معمول عامل مع فصل العامل الثاني بين المعطوف والمعطوف عليه يعدُّ غير صحيح عند علماء اللغة العربيّة ، ولا أقول هذا الكلام لأنني شيعيٌّ ومذهبي المسح ، بل أقول هذا لأن علماء اللغة الكبار قد صرَّحوا به .
ونوضح هذا الكلام بالمثال ، فإذا قلت مثلا : ضربت زيداً وأكرمت عمراً وخالداً ، فإن كل من يسمع هذا الكلام يفهم منه أن خالداً في المثال معطوف على معمول العامل الثاني وهو عمرو ، وليس معطوفاً على معمول العامل الأول وهو زيد كما في المثال .
فيفهم من المثال أن خالداً مكرم كعمرو ، لا مضروب كزيد ; إذ لو كان معطوفاً على زيد للزم الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بعامل آخر ومعموله ، وهو خطأ ; إذ يتضمَّن إخلالا ببيان المقصود .
وقد صرَّح بهذا علماء اللغة ، وعلماء التفسير ـ أيضاً ـ كالفخر الرازي ، حيث قال : إن حجة القول بالمسح هو الآية الشريفة ، ثمَّ أورد البيان الذي ذكرناه .
وممَّن صرَّح بذلك أيضاً إبراهيم بن محمّد القسطنطيني ، إمام جامع القسطنطينية في كتابه غنية المتملّي في شرح منية المصلّي وقد تعرّض فيه
للمسح على الأرجل ، وصرَّح بالبيان المذكور أيضاً(1) .
وممن صرَّح بذلك محمّد عبده ، وتلميذه محمّد رشيد رضا في تفسير المنار ، فقد صرَّحا بأن ظاهر القرآن هو المسح .
وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : لا صلاة إلاَّ بطهور(2) ، والطهور لا يحصل إلاَّ بمسح الرجلين في الوضوء لا الغسل ، كما دلَّت عليه الآية الشريفة ، فهو المتعيِّن .
وإذا كان هناك خبر يدلُّ على الغسل فهو مردود بمخالفته للقرآن الكريم ، ويكون العامل به داخلا في قوله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ}(3)ووجوب مسح الرجلين في الوضوء شيء بيَّنه الله تعالى في كتابه ، فبأيِّ مسوِّغ نعدل عنه إلى غيره ؟
ولو ورد على سبيل الفرض في السنة الشريفة ما يدلُّ على غسل الرجلين فإنه لا يصلح للعدول عن حكم القرآن الكريم ، وذلك لمايلي :
أوّلا : أنه لو قلنا بصحّة سند ما يدلُّ على غسل الرجلين فهو لا يقاوم دلالة القرآن الكريم ، إذ القرآن مقدَّم في الدلالة(4) .
____________
1- راجع في ذلك أيضاً : المسائل الفقهيّة ، السيِّد شرف الدين : 76 ، المسح في وضوء الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ، محمّد بن الحسن الآمدي : 54 . 2- تهذيب الأحكام ، الطوسي : 1/50 ح83 ، الأمالي ، الصدوق : 744 ، المناقب ، الخوارزمي : 384 ، المعجم الكبير ، الطبراني : 1/101 ، المصنّف ، ابن أبي شيبة : 1/15 ، تاريخ الطبري : 4/113 ، الأحكام ، ابن حزم : 5/718 . 3- سورة البقرة ، الآية : 159 . 4- ويدلّ على ذلك أخبار عرض الروايات على القرآن الكريم ، والتي منها : ما رواه الشيخ الكليني عليه الرحمة بالإسناد عن السكوني ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : إن على كل حقّ حقيقة ، وعلى كل صواب نوراً ، فما وافق كتاب الله فخذوه ، وما خالف كتاب الله فدعوه . راجع : الكافي ، الكليني : 1/69 ح1 ، الأمالي ، الصدوق : 449 ح18 ، المحاسن ، البرقي : 1/226 ح150 . وروى الأشعري عنه (عليه السلام) ، قال : كل ما خالف كتاب الله في شيء من الأشياء من يمين أو غيره ردّ إلى كتاب الله . النوادر ، الأشعري : 173 ح452 . وقد ذكر السيّد مهدي الروحاني(رحمه الله)تعالى في كتابه : ( بحوث مع أهل السنّة والسلفية ) أن هذه الأحاديث ـ أي أحاديث عرض الحديث على الكتاب ـ ناظرة إلى قبول الموافق وردّ المخالف ، أمَّا مالا يوافق ولا يخالف فهو باق تحت حجّيّة الأخبار ، كما جاء في كتاب موسوعة التاريخ الإسلامي ، اليوسفي : 1/59 .
ثانياً : أن دلالة بعض الروايات التي ادّعيت استفادة الغسل منها مخدوشة ، وعمدة ما استدلّ به على الغسل هو الرواية المعروفة ، وهي : كنّا نمسح على أرجلنا ، فرأى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ذلك فقال : ويل للأعقاب من النار(1) .
وصريح هذه الرواية أن أصحاب الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) كانوا يمسحون على أرجلهم ، وأما جملة ، ويل للأعقاب من النار ، فأيُّ دلالة فيها على وجوب غسل الأعقاب ، وجعله من الوضوء ؟
وهذه الرواية تدل على أن الصحابة كانوا أيضاً يمسحون أرجلهم ، وهذا يعني أنهم أخذوه عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فهي صريحة في أن المسح كان عندهم أمراً واضحاً ، ومعروفاً فيما بينهم .
وعلى فرض صدور هذه الرواية من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وأنه قال : ويل للأعقاب
____________
1- روى البخاري ، عن عبدالله بن عمرو قال : تخلَّف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في سفرة سافرناها ، فأدركنا وقد أرهقتنا الصلاة ونحن نتوضّأ ، فجعلنا نمسح على أرجلنا ، فنادى بأعلى صوته : ويل للأعقاب من النار مرَّتين أو ثلاثاً . صحيح البخاري : 1/21 ، صحيح ابن حبان : 3/335 ، المعجم الكبير ، الطبراني : 8/289 .
من النار ، فلعلّه التفت إلى أن بعضهم كانوا يبولون ، وأن البول يصل إلى أعقابهم ، ويتوضّأون ولا يغسلون أعقابهم من النجاسة ، ولا يتحرَّزون منها ، فقال حينئذ : ويل للأعقاب من النار .
فهذه الجملة لا توجب غسل الرجلين في الوضوء ، بل تدلّ على وجوب تطهير الرجلين من النجاسة .
كما أن الرواية لا تعارض الآية الشريفة ; إذ أن الرواية أقصى ما تدلّ عليه هو وجوب إزالة النجاسة عن الأعقاب ، ولا دلالة فيها على وجوب غسل الأرجل وكونه من الوضوء ، نعم يظهر منها أن بعض الصحابة كانوا يتهاونون في إزالة النجاسة عن أعقابهم .
والجدير بالذكر أن محمّد رشيد رضا ذكر عن بعضهم أن دلالة هذه الرواية على وجوب المسح في الوضوء أقوى من دلالتها على وجوب غسل الرجلين .
والخلاصة أنَّه قد وقع النزاع والاختلاف بين الأمّة في تفسير الآية الشريفة ، فقال قوم بالمسح ، وهم فقهاء كثيرون من الأمّة في عصر التابعين .
وفي هذه الحالة نرجع إلى سنّة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ونراه يقول : إني مخلِّف فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي(1) ، فجعل المرجع في مثل هذا الحال إلى أهل بيته(عليهم السلام) ، فنرجع إلى آل محمّد(عليهم السلام) ، وهم الذين أوجب الصلاة عليهم بعد الصلاة على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في جميع الصلوات ، وجعلهم في الصلاة تلو محمَّد رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) لنفهم أن لهم مقاماً عظيماً ليس لغيرهم ، يتلو مقام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، ولو كان هناك أناس أفضل منهم وأحقّ منهم لقدَّمهم عليهم .
____________
1- تقدمت تخريجاته .
هذا وقد جعل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أهل بيته(عليهم السلام) مرجعاً لنا في الدين كالقرآن ، لا يمكن التخلُّف عنهم ، وأهل البيت(عليهم السلام) يقولون بوجوب مسح الرجلين في الوضوء ، فأنتم إذن حينما تتركون المسح وتغسلون أرجلكم تخالفون بذلك الكتاب الكريم ، وتخالفون سنَّة نبيِّه العظيم (صلى الله عليه وآله وسلم) في عدم الرجوع إلى أهل بيته(عليهم السلام) ، وبعد هذا كيف تقولون : إن منطلقنا هو الكتاب والسنَّة ؟
ففهمت أن المناظر لم يستوعب ويفهم كلامي جيِّداً ، ولم يعطه حقَّه ، ولذا كرَّرت عليه المطلب بعبارة ثانية ، وقلت له : غداً يوم القيامة أحضر أنا للمحاكمة والحساب ، وكذلك تحضر أنت أيضاً ، فيقولون لي : يا مهدي ! لماذا مسحت رجليك بدلا من الغسل في الوضوء ؟ فأقول : يا رب ! إن ظاهر القرآن الكريم هو المسح ، وقد رأيت الناس مختلفين فيه بين من يقول بالمسح ، وبين من يقول بالغسل ، فرجعت لآل محمَّد(عليهم السلام)الذين جعلت ذكرهم في كل صلاة ، فوجدتهم يقولون بوجوب المسح ، ولهذا مسحت رجلي .
وأمَّا أنت إذا سئلت عن غسل الرجلين في الوضوء فبماذا تجيبهم ؟ وأين دليلك في هذا الأمر العظيم الذي بيَّنه الله تعالى في كتابه ؟
فسكت ولم يقل شيئاً ، ورأيت في وجهه الانكسار ، فخفَّفت عنه ، ثمَّ قلت له : نحن الشيعة قد اتُّهمنا بعدّة اتّهامات غير صحيحة ، منها الغلو في أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، ومنها أننا نقول بتحريف القرآن ، وهذا كلُّه غير صحيح ، وهو كلام باطل لا أساس له من الصحّة ، فلماذا ترمى أمّة مسلمة ويفترى عليها ، والحال أنها ترجع في عقائدها وأحكامها إلى آل محمَّد(عليهم السلام) ، وهم علماء معروفون بالعلم والتقوى ؟
فقال : من هم ؟
فقلت له : هم الأئمّة الاثنا عشر(عليهم السلام) .
فقال : من هم الأئمة الاثنا عشر ؟
فقلت له : هم الذين ذكرهم السيوطي في تأريخ الخلفاء الراشدين ، حيث قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : الأئمة بعدي اثنا عشر ، وذكر ذيلا للحديث : أبو بكر لا يلبث إلاَّ قليلا ... ثمَّ قال السيوطي : إن صدر الحديث وهو : الأئمة بعدي اثنا عشر مجمع على صحّته ، وأمَّا ذيله ففيه ضعف ، ولم يقله إلاَّ فلان .
فقال : فمن هم إذن الأئمة الاثنا عشر ؟
فقلت له : أوَّلهم أميرالمؤمنين(عليهم السلام) ، ثمَّ الحسن ، ثمَّ الحسين ، ثمَّ علي بن الحسين ، ثمَّ محمّد بن علي الباقر ، ثمَّ جعفر بن محمّد الصادق ، ثمَّ موسى بن جعفر الكاظم ، ثمَّ علي بن موسى الرضا ، ثمَّ محمّد بن علي الجواد ، ثمَّ علي بن محمّد الهادي ، ثمَّ الحسن بن علي العسكري ، ثمَّ المهدي الحجة بن الحسن(عليهم السلام) ، ولمَّا وصلت إلى ذكر اسم الحجة قمت ، فقام وودَّعنا قائلا : في أمان الله .
فقلت له : في أمان الله . انتهى .
مسح القدمين في كتب السنّة
أقول : هذا وقد ورد في كتب السنّة بعض الأخبار ، وجملة من كلمات بعض الصحابة تدلّ على وجوب مسح القدمين ، وقد غضَّ القوم الطرف عنها ، وصاروا إلى غسل الرجلين بلا مسوِّغ في ذلك ، مع تعيُّن المسح كتاباً وسنّة .
ويبدو من بعض روايات المسح التي رواها السنة أنه أضيف إليها بعض الكلمات كي يصرفوا معنى المسح إلى الغسل ، تارة بتفسيرها بالمسح على
الخفين(1) ، وأخرى بتأويل المسح وتفسيره بالغسل الخفيف(2) ، وهو قول باطل لا
دليل عليه ، وحمله على غير معناه يحتاج إلى دليل ، ولكنها محاولات يراد منها تحريف ما ينصُّ على تعيُّن المسح .
وإليك هنا بعض الروايات والأقوال في ذلك :
1 ـ روى أحمد بن حنبل ، عن عبد خير ، عن علي (عليه السلام) قال : كنت أرى أن باطن القدمين أحقُّ بالمسح من ظاهرهما حتى رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يمسح ظاهرهما(3) .
وفي رواية ابن أبي شيبة الكوفي : عن عبد خير ، عن علي (عليه السلام) قال : لو كان الدين برأي كان باطن القدمين أحقَّ بالمسح من ظاهرهما(4) .
2 ـ وروى أبو داود ، عن الأعمش قال : لو كان الدين بالرأي لكان باطن القدمين أحقَّ بالمسح من ظاهرهما .
____________
1- راجع : سنن أبي داود : 1/44 ح164 وقول وكيع في ذلك . 2- وهو قول ابن كثير الذي تحير في تأويل الحديث ولم يهتد إلى مخرج بعدما أورد روايات المسح الصريحة في ذلك ، قال : فهذه آثار غريبة جداً ، وهي محمولة على أن المراد بالمسح هو الغسل الخفيف . راجع تفسير ابن كثير : 2/27 . 3- مسند أحمد بن حنبل : 1/95 و114 ، السنن الكبرى ، البيهقي : 1/292 ، السنن الكبرى ، النسائي : 1/90 ح119 . 4- قال المحقِّق السيِّد علي الشهرستاني في كتابه القيِّم ( وضوء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : 2/44 : تنبيه وإشارة الإمام علي (عليه السلام) ـ في جملة أحاديثه الوضوئيّة ـ إلى أن مبعث الإحداث في الوضوء هو الاجتهاد والرأي ، وأن الوضوء ـ بل الدين ـ لا يدرك بالرأي ، فكان يقول : لو كان الدين بالرأي لكان باطن القدم أحقَّ بالمسح من ظاهرها ، لكن رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مسح ظاهرها .. فهو يقرِّر أن الدين ـ ومنه الوضوء ـ لا يدرك بالرأي كما يتصوَّره البعض ، وإلاَّ لكان باطن القدم أحقَّ بالمسح ، فكيف يعدل عنه إلى غسل الظاهر والباطن بمحض الرأي والاجتهاد ؟!
ورواه أيضاً وكيع عن الأعمش بإسناده ، قال : كنت أرى أن باطن القدمين أحقُّ بالمسح من ظاهرهما ، حتى رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يمسح ظاهرهما(1) .
وجاء بعد هذه الرواية تفسير المسح وتأويله ، قال وكيع : يعني الخفّين .
وهذا التفسير ـ كما ترى ـ ليس من راوي الحديث ، بل هو تفسير جاء به وكيع ، وليس عليه دليل ، إذ روي مثل هذه الرواية عن عبد خير عن أميرالمؤمنين (عليه السلام) ولا يوجد فيها هذا التفسير .
ثمَّ إن هذا التفسير غير صحيح ; لأن صدر الحديث يقول : كنت أرى أن باطن القدمين أحقُّ بالمسح ، وهذا لا ينسجم مع المسح على الخفّين ، ولا معنى له أصلا ، وإنما ينسجم مع المسح على نفس القدمين .
3 ـ روى ابن أبي شيبة الكوفي ، عن الشعبي قال : نزل جبرائيل بالمسح على القدمين(2) .
4 ـ وقال القرطبي : قال عامر الشعبي : نزل جبريل بالمسح ، ألا ترى أن التيمُّم يمسح فيه ما كان غسلا ، ويلغى ما كان مسحاً(3) .
5 ـ ابن كثير : عن ابن أبي زياد ، قال : حدَّثنا يزيد ، أخبرنا إسماعيل ، قلت لعامر : إن ناساً يقولون : إن جبريل نزل بغسل الرجلين ، فقال : نزل جبريل بالمسح(4) .
____________
1- سنن أبي داود : 1/44 ح164 . 2- المصنّف ، ابن أبي شيبة الكوفي : 1/30 ح7 ، كنز العمال ، المتقي الهندي : 9/434 ح26851 . 3- تفسير القرطبي : 6/92 ، تفسير ابن كثير : 2/27 ، الدر المنثور ، السيوطي : 2/262 . 4- تفسير ابن كثير : 2/27 .
6 ـ وعن عاصم ، عن الشعبي قال : نزل القرآن بالمسح ، والسنَّة بالغسل(1) .
وقد نسب مثل هذا القول أيضاً إلى أنس ، حيث نقل أنه قال : نزل القرآن بالمسح والسنّة بالغسل(2) ، ولكن روي عنه ما ينافي هذا القول ، كما سوف يأتي قريباً ; فقد كان أنس يمسح قدميه ، وكان يقول : صدق الله وكذب الحجاج .
فقولهم : ( نزل القرآن بالمسح والسنَّة بالغسل ) ما هو إلاَّ جمع بين المتناقضين ، فالقرآن يوجب المسح ، والسنة تعيِّن الغسل ، فهل السنة تخالف القرآن ؟ وأيُّ حكيم يتفوَّه بهذا ؟ وكيف ينسب لسنَّة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ما يخالف القرآن ويتعارض معه ؟ وقد ورد أنه إذا جاء في الروايات ما يخالف القرآن فلا يعمل بها ، ولا تكون حجة .
7 ـ وروي عن ابن عبّاس أنه قال : الوضوء غسلتان ومسحتان(3) .
8 ـ قال ابن أبي حاتم : بالإسناد عن ابن عباس {وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ} قال : هو المسح .
ثمَّ قال : وروي عن ابن عمر ، وعلقمة ، وأبي جعفر ـ محمّد بن علي (عليه السلام) ـ ، والحسن في إحدى الروايات ، وجابر بن زيد ، ومجاهد في إحدى الروايات نحوه(4) .
9 ـ السيوطي : أخرج عبد الرزاق ، وابن أبي شيبة ، وابن ماجه ، عن ابن
____________
1- شرح معاني الآثار ، أحمد بن محمّد بن سلمة : 1/40 ، الدرّ المنثور ، السيوطي : 2/262 ، كنز العمال ، المتقي الهندي : 9/434 ح26852 . 2- تفسير القرطبي : 6/92 . 3- تفسير القرطبي : 6/92 ، تفسير ابن كثير : 2/27 ، الدرّ المنثور ، السيوطي : 2/262 . 4- تفسير ابن كثير : 2/27 ، الدر المنثور ، السيوطي : 2/262 .
عباس قال : أبى الناس إلاَّ الغسل ، ولا أجد في كتاب الله إلاَّ المسح(1) .
10 ـ السيوطي : أخرج عبدالرزاق ، وعبد بن حميد ، عن ابن عباس قال : افترض الله غسلتين ومسحتين ، ألا ترى أنه ذكر التيمُّم فجعل مكان الغسلتين مسحتين ، وترك المسحتين(2) .
11 ـ وروي أن الحجاج خطب بالأهواز ، فذكر الوضوء فقال : اغسلوا وجوهكم وأيديكم ، وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم ، فإنه ليس شيء من ابن آدم أقرب إلى خبثه من قدميه ، فاغسلوا بطونهما وظهورهما وعراقيبهما ، فسمع ذلك أنس بن مالك فقال : صدق الله وكذب الحجاج ، قال الله تعالى : {وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} قال : وكان إذا مسح رجليه بلَّهما(3) .
12 ـ وكان عكرمة يمسح رجليه ، وقال : ليس في الرجلين غسل ، إنما نزل فيهما المسح(4) .
13 ـ وقال ابن جرير : حدَّثنا يعقوب ، حدَّثنا ابن علية ، حدَّثنا أيوب ، قال : رأيت عكرمة يمسح على رجليه ، قال : وكان يقوله(5) .
14 ـ وقال قتادة : افترض الله غسلتين ومسحتين(6) .
وكل هذه الروايات ـ كما ترى ـ دلائل على وجوب المسح في الرجلين ،
____________
1- الدرّ المنثور ، السيوطي : 2/262 . 2- الدرّ المنثور ، السيوطي : 2/262 . 3- تفسير القرطبي : 6/92 ، الدرّ المنثور ، السيوطي : 2/262 ، وقد روى هذه الرواية أيضاً ابن كثير في التفسير 2/27 عن ابن جرير مسنداً ، عن موسى بن أنس ، عن أنس مثلها ، وقال : إسناد صحيح إليه . 4- تفسير القرطبي : 6/92 . 5- تفسير ابن كثير : 2/27 . 6- تفسير القرطبي : 6/92 ، تفسير ابن كثير : 2/27 .
وصريحة في ذلك ، وأن دعوى النسخ غير ثابتة ، وكذلك التأويلات الأخرى ، وهي تنفي صراحة القول بغسلهما ، فما ورد من قول ابن عباس : الوضوء غسلتان ومسحتان ، واحتجاج أنس بالآية الشريفة على لزوم المسح وتكذيبه الحجاج الذي أمر الناس بالغسل ، وقول قتادة : افترض الله .. وقولهم : نزل جبرئيل بالمسح ، كلُّها دلائل قطعية على أن المتعيِّن في الرجلين هو المسح وليس الغسل .
ويدل كلام ابن عباس وقوله : أبى الناس إلاَّ الغسل على أن تحوُّل الناس من المسح إلى الغسل ليس شرعّياً ، ولهذا نسب الغسل للناس ، ولو كان من السنّة والشرع لما صحَّ أن ينسب الغسل للناس .
وبعد ما عرفت جملة من هذه الروايات التي تنصّ على لزوم المسح فلا عبرة إذن بما ورد من دعوى أن الصحابة كانوا يغسلون أرجلهم(1) ; إذ لا يعدو كونه اجتهاداً منهم ، كما يدل عليه قول ابن عباس : وأبى الناس إلاَّ الغسل ، فلا يمكن بوجه ترك ما جاء به القرآن الكريم والمصير إلى اجتهادات الصحابة ، وما قيل من أن المسح مضت به السنّة من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)(2) فهو غير صحيح قطعاً ، فإنه لو كان من السنّة لما خفي على أميرالمؤمنين (عليه السلام) الذي هو باب مدينة علم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وأقضى الأمة ، وعلى ابن عباس حبر الأمّة ، ومن حذا حذوه من الصحابة .
وما رووه عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من أنه غسل قدميه ، فهو من الروايات التي لا
____________
1- الدرّ المنثور ، السيوطي : 2/262 . 2- الدرّ المنثور ، السيوطي : 2/262 .
تقاوم ما مرَّ عليك ، مضافاً إلى أنها مخالفة للقرآن فلا يؤخذ بها ، وعلى فرض صحّتها فيحمل الغسل فيها على ما بعد الوضوء ; إذ لا ضير أن يمسح قدميه للفرض ، ثم يغسل رجليه لمقتض آخر استوجب ذلك ، وهذا يحصل كثيراً عند المتوضِّئين ، فيمسح قدميه وبعد أن يتمَّ وضوءه يغسل قدميه للنظافة أو أمر آخر .