المناظرة الرابعة والستون
مناظرة
الدكتور التيجاني مع شرف الدين المصري
إمام الرابطة في السويد
قال الدكتور التيجاني : وجاء اليوم الموعود واستقبلني الأخوة بالمطار في العاصمة السوّيدية ستوكهولم ، ونزلت ضيفا عند الأخ الشّطي رئيس الرّابطة وفي يومين وخلال محاضرتين انقسمت الرّابطة إلى قسمين وتشيّع أغلبهم بإعانة الإخوة الذين عرفتهم خلال المؤتمر ، وكان أشدّ النّاس حماسا للتشيّع الأخ محمود الطّاهري والأخ الجزائري رشيد بدرة ، ولكن إمام الرّابطة شرف الدين المصري ومعاونه حسين التونسي بقيا معادين ومعاندين .
وبدأ الإمام يحسّ بالعزلة شيئاً فشيئا فلجأ إلى المواجهة والهجوم العنيف على الشيعة وقال فيما قال : أنا أعرف أن علماء الشيعة كذّابين ومنافقين ، وأن أعظم كتاب عندهم هو كتاب المراجعات الذي يفتخر به الدكتور التيجاني نفسه ، هذا الكتاب كلّه كذب ونفاق .
استفزّني كلامه الذي قاله بمحضر أكثر من عشرين رجلا فقلت : اتّق الله فأنت إمام الجماعة والمفروض أن الإمام يكون مثال الصدّق والأمانة ، ولا يقول
بما لا يعلم ، فكيف لو طالبتك بالدليل على ادّعائك .
قال : عندي دليل على ما أقول وأنا لا أتكلم إلاّ بما أعلم .
استغربت منه هذه الجرأة وتحدّيته أمام الحاضرين قائلا : إن هذا الكتاب هو بالفعل من أعظم الكتب التي أثّرت فيّ شخصيّاً ، وقد تتبّعته بالبحث فوجدته ينقل بدقّة ، أعني مؤلّفه وهو السيد شرف الدين الموسوي ينقل بدقّة وأمانة فلا يزيد ولا ينقص ، فأنا أتحدّاك أمام الحاضرين إن جئتني بكذبة واحدة في كتابه فسوف ألعنه أمام الجميع وألعن الشيعة معه .
قال : أتشهدون عليه يا جماعة ؟
قالوا : لقد حكم على نفسه بنفسه .
قلت : وهو كذلك .
قال : موعدنا الليلة وسآتيكم بالدليل القاطع ، إن شاء الله .
قال الأخ الجزائري : السهرة الليلة في بيتي فأنتم كلّكم مدعوّون للعشاء عندي ، وبعد العشاء نبحث في الموضوع ، وكان الاتّفاق على ذلك .
بقي الأخ محمود الطاهري متخوّفاً ويحذّرني من الإمام على أنه مثقّف ، ومطّلع على أمور كثيرة ، وأغلب النّاس يثقون بعلمه فلو انتصر عليك ، لا قدّر الله فستكون ردّة لكلّ من تشيّعوا ، فهدّأت من روعه وطمأنته بأن شرف الدين الشيعي أعلم من شرف الدين السنّي .
وكان اللقاء ، الإمام المصري يتبعه معاونه حسين التونسي ويحمل حقيبته ، وبعد تناول العشاء وقضاء فريضة الصّلاة ، افتتح صاحب البيت الأخ رشيد بدرة الجلسة بكلمة وجيزة دعا فيها الحاضرين ، وكانوا يزيدون على الثلاثين رجلا ، ونساءهم في الغرفة المجاورة ، دعاهم كلّهم لاحترام المجالس العلميّة ولزوم
الصمت ، وقال : كلّنا نستمع للدكتور التيجاني والإمام شرف الدّين ، فلسنا هنا للخصام ولا للملاكمة ، وإنما نحن نريد الوصول إلى الحقيقة ، وهذه الحقيقة قد تكون مع التيجاني وقد تكون من شرف الدين ، فنحن يجب أن نكون مع الحقّ لا مع الأشخاص .
أخرج الإمام شرف الدين المصري من حقيبته كتاب النصّ والاجتهاد ، ثم أخرج معه صحيح البخاري وفتح كتاب النص والاجتهاد وأعطاني إيّاه ، وطلب مني قراءة الصفحة المسطرة ، وقرأتها وأنا أعرفها فهي تتعلّق باجتهاد عمر بن الخطّاب عندما جذب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من قميصه وهو يصلّي على عبد الله ابن أبي المنافق وقال له : إن الله نهاك أن تصلي على المنافقين(1) .
قلت : وماذا فيها فالقضيّة معروفة ولا ينكرها أيّ باحث .
قال : نعم أنا لا أجادل في القضيّة ، وإنما في العالم الشيعي الذي يكذب ويقلّب الحقائق .
قلت : وكيف ذلك ، ما وجدت في القصّة كذبا ولا تقليباً للحقيقة أعدت القراءة ، خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يصلّى على عبدالله بن أبي ، فجاء عمر فجذبه من قميصه .
قال : قف هنا واقرأ التعليق الذي كتبته أنا ، فقرأت على الحاشية وقد سطّر كلمة فجذبه بسطرين ، قوله : انظروا إلى هذا الكذّاب الدجّال الذي يحرّف الكلام عن مواضعه ، ثم أولغ سباً وشتماً في المؤلّف وفي الشيعة عامّة .
فقلت مستغرباً : ما فهمت حتى الآن قصدك ، وأين الكذب والتحريف أنا ما
____________
1- صحيح البخاري : 7/36 ، سنن النسائي : 4/36 ـ 37 .
رأيته .
قال : إنه هنا يستشهد بالبخاري وها هو البخاري أمامنا ، خذ اقرأ بنفسك ما ذكره البخاري ، وناولني كتاب البخاري فقرأت : فجاء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ليصلّي عليه ، فمسكه عمر(1) .
قلت : ما هو الفرق بين هذا وذاك المهمّ أن عمر منع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من الصلاة وأنا لا أرى فرقا بين جذبه أو مسكه .
فصاح قائلا : وهذه مصيبتك ، أنت جاهل باللّغة العربيّة ، ولا تفرّق بين جذبه ومسكه ، فلفظ مسكه تعني اللين واللّطف ، وجذبه تعني الشدّة والعنف ، وسيّدنا عمر كما يقول البخاري : مسك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) برفق ولطف ، وليس كما يقول عالم الشيعة : جذبه ، وهو يوحي بتحريفه ، هذا على أن سيّدنا عمر كان يستعمل الشدّة والعنف مع حضرة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) .
ونظرت حولي إلى الحاضرين وقد انتكست رؤوسهم ، وأوجست في نفسي خيفة أمام شرف الدين الذي أخذ يصول ويجول بنخوة الانتصار عليّ أمام الجموع الحاضرة ، لأني تحديته أمامهم إن جاءني بكذبة واحدة فسألعن الشيعة وعلى رأسهم صاحب المراجعات ، وها هي الكذبة واضحة في نظر الحاضرين لأن شرف الدين الموسوي أبدل كلمة مسكه بكلمة جذبه ، وهذه خيانة علميّة .
وفجأة جاءني الجواب وقرأت من جديد ما كتبه شرف الدين قائلا : وإليك منه ما أخرجه البخاري في كتاب اللباس من صحيحه ، وراجعت كتاب البخاري الذي جاء به الإمام معه فوجدته يستدلّ بغير الكتاب الذي ذكره شرف الدين
____________
1- راجع : صحيح البخاري : 2/100 ، وجاء في ص206 : فقام عمر فأخذ بثوب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) .. الخ .
الموسوي ، عند ذلك ، فهمت وقلت لشرف الدين المصري : لا تتسرّع بفرحة الانتصار ، وأنا أتّهمك أنت الآن بالدّس ، فلماذا لم تأت بالجزء المذكور ، والذي فيه كتاب اللباس ، فإن كنت تعلم فتلك مصيبة ، وإن كنت لا تعلم فالمصيبة أعظم .
قال صائحا يسأل الحاضرين : أهناك كتاب آخر للبخاري غير هذا ؟
قلت : لا ، أنا أقصد لماذا لم تأت بالأجزاء كلّها وجئت بهذا الجزء فقط ؟ لأني أعرف أن البخاري ينقل الحادثة في عدّة أبواب من صحيحه ، ويتصرّف في الحديث فيغيّر هو معانيه حفاظاً على كرامة الصّحابة ، ولو كان ذلك على حساب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) .
فتهلّل وجه صاحب البيت رشيد بدرة وقال : أنا عندي صحيح البخاري هنا بكل أجزائه .
فقلت : هلم به إلينا ، وفي لحظة جاء الكتاب وأخرجت كتاب اللباس الذي استدلّ به شرف الدين الموسوي وإذا فيه : فجاء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ليصلّي عليه فجذبه عمر ، فصاح رشيد بدرة : الله أكبر وتهلل الحاضرون كلّهم ، وانتكس الإمام المصري لأنه أصيب بذهول وتبيّن لي أنه ما كان يعرف بوجود هذا الحديث ، ولكنّه لمجرّد ما فتح البخاري ووجد كلمة مسكه عوضاً عن جذبه ظنّ المسكين أنه اكتشف زيف الشيعة وأكاذيبهم فطأطأ برأسه إلى الأرض ، ولم يزد شيئاً رغم الكلمات النابية التي وجّهها إليه الأخ رشيد بدرة الذي قال له فيها : يا شرف الدين كنّا نظنّك عالما متبحّرا فإذا بك فارغ ، وتتّهم العلماء الأجلاء بالكذب والدّجل ، وتسبّ وتشتم أناساً أبرياء أفضوا أمرهم إلى الله .
فقام معاونه حسين التونسي لينقذ الموقف ، ويخرج زميله من الورطة التي وقع فيها ، فقال موجّها كلامه إليّ : إن إمامك الذي تدعو إليه عنده شذوذ فهو يجيز
نكاح المرأة من دبرها ، استغربت منه هذا القول ، وهو الذي لم يتكلّم أبداً ، وكان يمتاز بالسّكوت والاستماع .
قلت : أي إمام دعوتك إليه ؟
قال : الإمام الخميني .
التفت للحاضرين وسألتهم : هل كلّمتكم منذ قدمت إليكم عن الإمام الخميني ؟
قالوا : ما سمعنا منك إلاّ الكلام عن أئمّة أهل البيت(عليهم السلام) ولم نسمعك أبدأ تتكلّم عن الإمام الخميني .
قلت له : لماذا تتّهمني بشيء لم يقع أبدأ هذا أولا ، أمّا ثانياً فلماذا تنكر على الإمام الخميني ، وتتّهمه بالشّذوذ في مسألة فقهيّة اختلف فيها الصّحابة أنفسهم بين مانع ومكره ومجيز ، وإذا استنكرت ذلك على الإمام الخميني ، الذي قال : بالكراهة ، لماذا لم تستنكره على البخاري الذي قال بجوازه قبل ألف عام .
فقال : حاشى البخاري من هذه السّفاسف .
قلت : البخاري بين أيدينا ، وفي لحظة وجيزة أخرجت له وللحاضرين قول البخاري عن عبدالله بن عمر في تفسير قوله تعالى : {نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ}(1) قال يأتيها في ...(2) واستفظع الكلمة فلم يكتبها(3) .
____________
1- سورة البقرة ، الآية : 223 . 2- صحيح البخاري : 5/160 . 3- جاء في كتاب جامع البيان لابن جرير الطبري : 2/535 : بإسناده عن نافع قال : كنت أمسك على ابن عمر المصحف ، اذتلا هذه الآية : (نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) فقال : أن يأتيها في دبرها . وعن نافع أيضاً عن ابن عمر أن هذه الآية نزلت في إتيان النساء في أدبارهن .
فلمّا قرأ الأخ رشيد بدرة هذا الحديث غضب وقال للتّونسي : أنت أيضاً تريد طمس الحقيقة ونصرة الباطل ، غداً خذ أدباشك ، وارجع من حيث أتيت ، فأنا لا أكفلك أبداً ، وانتهى كل شيء بيننا .
وتبيّن لي أن التّونسي جيء به من باريس ليؤمّ المصلّين في غياب الإمام المصري الذي يتغيّب شهورا عندما يسافر إلى مصر ، ووعد الأخ رشيد بدرة أن يزوّجه من سوّيدية ، ويحضرّ له أوراق الإقامة والمعاملات القانونيّة .
وحاولت إقناع الأخ الجزائري بإتمام ما وعده به فرفض قائلا : أنا لا أعين الباطل ، ولا أكون للظّالمين ناصرا ، وقد تبيّن لي أن هؤلاء فارغين ونحن كنّا غافلين(1) .
____________
1- كتاب فسيروا في الأرض ، الدكتور التيجاني : 287 ـ 291 .
المناظرة الخامسة والستون
مناظرة
الدكتور التيجاني مع بعض السلفيين
في مسألة التوسّل والاستشفاع بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
قال الدكتور التيجاني : أعلمني صديقي الأستاذ التونسي بأنّ صديقه السعودي سيأتي في الغد لإجراء محاورة علمية معي ، وقال : بأنه استدعى لذلك مجموعة من الأساتذة ليشاركوا في الحوار ليستفيد الجميع ، وقال : بأنّه هيأ الغداء ، فاليوم هو يوم عطلة الأسبوع ، وعندنا الوقت الكافي ، وكم نحن مشتاقون لمثل هذه المجالس ، ثم أضاف : ونحن نريدك منتصراً فلا تخجّلنا ، لأنّ هذا السعودي " ما كِلْنَا بقرعة "(1) .
وفي الساعة الموعودة توافد على البيت الأساتذة ومعهم العالم الوهّابي ، وكان مجموعهم سبعة ، أضف إليهم صاحب البيت ، وشخصي الحقير ، فصار المجلس يضمّ تسعة أشخاص .
بعد أكل سريع ودردشة أثناء الأكل ، قد لا يخلو منها مجلس بدأنا الحوار ،
____________
1- جاء في الهامش : هو تعبير شائع عند العامة في تونس ومعناه يتكلم وحده ولا يترك لنا فرصة للكلام .
وكان موضوعه المطروح التوسّل والوساطة بين العبد وربّه .
كنت من القائلين بالتوسّل إليه سبحانه وتعالى بأنبيائه ورسله وأوليائه الصّالحين ، وأن الإنسان قد يحجب دعاءه كثرة الذنوب والإنشغال بالدنيا فيستشفع إلى الله سبحانه بأوليائه وأحبابه .
قال : هذا شرك ، وأن الله لا يغفر أن يشرك به ..
قلت : وما دليلك على أنه شركٌ بالله ؟
قال : {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً}(1) ، هذه آية صريحة في تحريم الدعاء لغير الله ، فمن دعا غير الله فقد جعل له شريكاً ينفع ويضرّ ، والنّافع والضّار هو الله وحده .
إستحسن بعض الحاضرين كلامه وأراد تأييده فاستوقفه صاحب البيت قائلا : مهلا ، مهلا ، لقد دعوتكم لا للجدال ولا للمباراة ، وإنّما دعوتكم للإستماع لهذين العالمين ، فهذا التونسي عرفته من قديم ولكنّي فوجئت بأنه شيعي يتبع أهل البيت ،(عليهم السلام) وهذا صديقنا السعودي ، وكلّكم تعرفونه وتعرفون عقيدته ، فما علينا إلاّ الاستماع إليهما ، وإلى ما يدليان به من حجج إلى أن يفرغا من بحثهما ويستوفيا ما عندهما ، بعد ذلك نفسح المجال للنقاش ليشارك فيه كل من أراد .
شكرناه على هذا الأسلوب وهذا اللطف ، وواصلنا الحديث فقلت : أنا أوافقك على أنّ الله سبحانه هو وحده النّافع والضارّ ولا أحد غيره ، ولا يخالفك أحدٌ من المسلمين في ذلك ، إنّما اختلافنا في التوسّل ، فالذي يتوسّل برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مثلا يعرف أنّ محمّداً لا ينفع ولا يضرّ ، ولكنّ دعاءه مستجاب عند الله ،
____________
1- سورة الجن ، الآية : 18 .
فإذا سأل محمّدٌ ربّه قائلا : اللهم ارحم هذا العبد ، أو اغفر لهذا العبد ، أو اغني هذا العبد ، فإنّ الله سبحانه يستجيبُ له ، والرّوايات الصحيحة الواردة في هذا المعنى كثيرة جداً ، منها : أنّ أحد الصحابة كان أعمى فجاء إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)وطلب منه أن يدعو الله له ليفتح بصره ، فأمره الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بأن يتوضّأ ويصلّي لله ركعتين ، ثم يقول : اللهم إني أتوسّل إليك بحبيبك محمّد إلاّ ما فتحت بصري ففتح الله بصرهُ(1) .
وكذلك ثعلبة ذلك الصحابي الفقير المعدوم الذي جاء للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وطلب منه أن يسأل الله له الغنى لأنه يحبّ أن يتصدّق ، ويكون من المحسنين ، وسأل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ربّهُ فاستجاب له ، وأغنى ثعلبة ، فأصبح من الأغنياء حتّى ضاقت بأنعامه أرجاء المدينة فلم يعد يحضر الصّلاة ، ومنع إعطاء الزكاة . والقصة
____________
1- روى الترمذي في السنن : 5/229 ح3649 بالإسناد عن عثمان بن حنيف : أن رجلا ضرير البصر أتى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال : ادع الله أن يعافيني ، قال : إن شئت دعوت ، وإن شئت صبرت فهو خير لك ، قال : فادعه ، قال : فأمره أن يتوضأ فيحسن وضؤه ويدعوه بهذا الدعاء : اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمّد نبي الرحمة ، إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه لتقضي لي ، اللهم فشفعه في . قال : هذا حديث حسن صحيح . ورواه ابن ماجة في السنن : 1/441 ح1385 وقال : قال أبو إسحاق : هذا حديث صحيح ، ومسند أحمد بن حنبل : 4/138 ، السنن الكبرى ، النسائي : 6/169 ح10494 ـ 10496 ، أسد الغابة ، ابن الأثير : 3/371 ، تأريخ دمشق ، ابن عساكر : 6/24 ، المستدرك ، الحاكم النيسابوري : 1/313 ، وقال : هذا صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ، ورواه أيضاً في ص519 . ورواه في ص526 وجاء في الحديث بعد الدعاء : فدعا بهذا الدعاء فقام وقد أبصر ، ورواه أيضاً ثانية في نفس الصفحة وجاء في آخره : قال عثمان : فو الله ما تفرقنا ولا طال بنا الحديث حتى دخل الرجل وكأنه لم يكن به ضر قط ، ثم قال الحاكم : هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه .
معروفة ومشهورة عند النّاس كافة(1) .
كذلك كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يوماً يصف لأصحابه نعيم الجنّة ، وما أعدّه الله سبحانه لسكّانها ، فقام عكاشة فقال : يا رسول الله أدعو الله أن يجعلني منهم ، فقال رسول الله : اللهمّ اجعله منهم ، فقام آخر فقال : وأنا يا رسول الله ، فقال : لقد سبقك بها عكاشة(2) .
ففي الرّوايات الثلاثة دليل قاطع على أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) جعل نفسه واسطة بين الله والعباد .
قاطعني الوهابيّ بقوله : أنا أستدل عليه بالقرآن الكريم ، وهو يستدل عليَّ بالأحاديث الضعيفة التي لا تسمن ولا تغني من جوع .
قلت : القرآن الكريم يقول : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ}(3) .
قال : الوسيلة هي العمل الصالح !
قلت : آيات العمل الصالح كثيرة ومحكمة ففيها يقول سبحانه : {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}(4) ولكن في هذه الآية قال : {وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ}وفي
____________
1- أسباب النزول ، الواحدي : 170 ـ 172 ، تفسير القرطبي : 8/209 ، الدر المنثور ، السيوطي : 260 ـ 261 ، تفسير ابن كثير : 2/388 ، في تفسير قوله تعالى : (وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ) سورة التوبة ، الآية : 75 ، أسد الغاية ، ابن الأثير : 1/237 . 2- مسند أحمد بن حنبل : 1/420 ، صحيح البخاري : 7/40 ، صحيح مسلم : 1/136 ، المستدرك ، الحاكم : 3/228 . 3- سورة المائدة ، الآية 35 . 4- سورة البقرة ، الآية : 25 .
آية أخرى قال : {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ}(1) .
وهاتان الآيتان تفيدان البحث عن وسيلة يتوسل بها إليه سبحانه ، وذلك مع التقوى والعمل الصالح ألم تر أن الله قال : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ}(2) فقدّم الإيمان والتقوى على ابتغاء الوسيلة ؟
قال : أكثر العلماء يفسّرون الوسيلة بالعمل الصالح .
قلت : دعنا من التفسير وأقوال العلماء ، ما رأيك لو أثبت لك الوساطة من القرآن نفسه ؟
قال : مستحيل إلاّ أن يكون قرآن لا نعرفه !
قلت : أعرف ماذا تقصد ، سامحك الله ، ولكنّي سوف أثبت ذلك من القرآن الذي نعرفه جميعاً ، ثم قرأتُ {قَالُواْ يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ * قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّيَ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}(3) فلماذا لم يقل سيدنا يعقوب نبي الله (عليه السلام) لأولاده : استغفروا الله وحدكم ، ولا تجعلوني وسيطاً بينكم وبين خالقكم ، بل أقرّهم على تلك الوساطة فقال : ( سوف أستغفر لكم ربّي ) فجعل نفسه بذلك وسيلة إلى الله لأولاده ؟!
أحسّ الوهّابي بحرج لدفع هذه الآيات البيّنات التي لا مجال للتشكيك فيها ، ولا لتأويلها فقال : ما لنا وليعقوب (عليه السلام) وهو من بني إسرائيل ، وقد نُسخت شريعته بشريعة الإسلام .
قلت : سأعطيك الدليل من شريعة الإسلام ، من شريعة نبي الإسلام محمّد
____________
1- سورة الإسراء ، الآية : 57 . 2- سورة المائدة ، الآية : 278 . 3- سورة يوسف ، الآية : 97 و 98 .
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) .
قال : نستمع إليك .
فقلت : {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّاباً رَّحِيماً}(1) .
فلماذا يأمرهم الله بالمجيء إلى الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ليستغفروا عنده ، ثم يستغفر لهم الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فهذا دليل قاطع على أنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) هو واسطتهم إلى الله ولا يغفر الله لهم إلاّ به .
فقال الحاضرون : هذا دليل ما بعده دليل ، وأحسّ الوهابيّ بالهزيمة فاستطرد يقول : ذاك صحيح عندما كان حيّاً ، ولكن الرّجال مات منذ أربعة عشر قرناً .
قلت مستغرباً : كيف تقول عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) رجّال مات ؟! رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حيّ وليس بميّت .
فضحك من قولي مستهزءاً قائلا : القرآن قال له : {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ}(2) .
قلت : والقرآن نفسه يقول : {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}(3) وقال : {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ}(4) .
____________
1- سورة النساء ، الآية : 64 . 2- سورة الزمر ، الآية : 30 . 3- سورة آل عمران ، الآية : 169 . 4- سورة البقرة ، الآية : 154 .
قال : هذه الآيات تتكلّم عن الشهداء الذين يقتلون في سبيل الله ، ولا علاقة لها بمحمّد .
قلت : سبحان الله ، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله ، أأنت تنزل بمرتبة النبي محمّد حبيب الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى درجة هي أقل من رتبة الشهيد ، وكأنّك تريد أن تقول بأن أحمد بن حنبل مات شهيداً ، فهو حيّ عند ربّه يرزق ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ميّتٌ كسائر الأموات ؟!
قال : هذا ما يقوله القرآن الكريم .
قلت : الحمد لله أن كشف لنا عن هويّتكم ، وعرّفنا على حقيقتكم بألسنتكم ، وقد حاولتم جهودكم طمس آثار الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ووصل الأمر بكم أن حاولتم إعفاء قبره ، كما أعفيتم البيت الذي ولد فيه .
وهنا تدخَّل صاحب البيت ليقول لي : لا نخرج عن دائرة القرآن والسنّة وهذا ما اتفقنا عليه .
اعتذرت وقلت : المهمّ أنّ صاحبنا اعترف بالوسيلة في حياة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)ونفاها بعد وفاته .
فقال الحاضرون جميعاً : وهو كذلك ، وسألوه من جديد : أنت وافقت بأنّ الوساطة كانت جائزة في حياة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ؟
أجاب : كانت جائزة في حياته وهي غير جائزة الآن بعد وفاته (صلى الله عليه وآله وسلم) .
فقلت : الحمد لله ، لأول مرّة تعترف الوهابيّة بالوسيلة وهذا فتح كبير .
واسمحوا لي بأن أضيف أنّ الوسيلة جائزة حتى بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) .
قال الوهّابي : والله لا يجوز ، ذلك من الشرك .
فقلت : مهلا ، ولا تتسرّع وتقسم فتندم على ذلك .
قال : هات الدليل من القرآن .
قلت : أنت تطلب المستحيل لأنّ نزول الوحي انقطع بوفاة محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فلا بد من الإستدلال من كتب الحديث .
فقال : نحن لا نقبل الحديث إلاّ إذا كان صحيحاً ، أمّا ما يقوله الشيعة فلا نعتبره شيئاً .
قلتُ : هل تثق في صحيح البخاري ، وهو أصح الكتب عندكم بعد كتاب الله ؟
قال مستغرباً : البخاري يقول بجواز الوسيلة ؟!
قلتُ : نعم يقول بذلك ، ولكن مع الأسف لا تقرأون ما في صحاحكم ، ورغم ذلك تعاندون تعصّباً لأرائكم فقد أخرج البخاري في صحيحه أنّ عمر بن الخطاب كان إذا قحطوا استسقى بالعبّاس بن عبد المطّلب فقال : اللهمّ إنّا كنّا نتوسّل إليك بنبيّنا (صلى الله عليه وآله وسلم) فتسقينا وإنّا نتوسّل إليك بعمّ نبيّنا فاسقنا ، قال : فيسقون "(1) .
ثم قلت له : هذا عمر بن الخطّاب وهو عندكم أعظم الصّحابة ولا شك عندك في إخلاصه ، وقوة إيمانه ، وحسن عقيدته ، فإنكم تقولون : لو كان نبي بعد محمّد لكان عمر بن الخطاب(2) ، وأنت الآن بين أمرين لا ثالث لهما ، إمّا أن
____________
1- صحيح البخاري : 2/16 ، 4/209 ، السنن الكبرى ، البيهقي : 3/352 ، المعجم الكبير ، الطبراني : 1/72 ح84 ، الطبقات الكبرى ، ابن سعد 4/28 ـ 29 ، تاريخ دمشق ، ابن عساكر : 26/355 ، ذخائر العقبى ، الطبري : 198 ـ 199 . 2- راجع : مسند أحمد بن حنبل : 4/154 ، المعجم الكبير ، الطبراني : 17/180 ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 12/178 ، تذكرة الموضوعات ، الفتني ، 94 ، فيض القدير ، المناوي : 5/414 ح7469 ، كشف الخفاء ، العجلوني : 2/154 ح2094 .
تعترف بأنّ التوسل هو من صميم الدين الإسلامي ، وقول عمر بن الخطّاب : إنّا كنا نتوسل إليك بنبيّنا ، وإنا نتوسل إليك بعمّ نبيّنا ، هو إقرارٌ بالتوسّل في حياة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وبعد حياة النبيّ ، وإمّا أن تقول : بأنّ عمر بن الخطاب مشرك ، لأنه جعل العبّاس بن عبد المطلب وسيلته إلى الله ، والعبّاس كما هو معلوم ليس بنبيّ ولا إمام ، وليس هو من أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرّجس وطهّرهم تطهيراً .
أضف إلى ذلك أنّ البخاري وهو إمام المحدّثين عندكم الذي أخرج هذه القصة معترفاً بصحّتها ، ثم أضاف بقوله : كانوا إذا قحطوا استسقوا بالعبّاس فيسقون ، ويعني بذلك أن الله يستجيب لهم .
فالبخاري والمحدّثين من الصحابة الذين رووا هذا وكل أهل السنة والجماعة الذين يعتقدون صحة البخاري كلّهم عندكم مشركون ؟!
قال الوهّابي : لو صحّ هذا الحديث فهو حجّة عليك .
قلت : وكيف يكون حجّةً عليَّ ؟!
قال : لأن سيدنا عمر لم يتوسّل بالنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) لأنه ميّتٌ ، وتوسل بالعباس لأنه حيّ .
قلت : إنّ عمل وقول عمر بن الخطّاب ليس عندي بحجة ، ولا أقيم له وزناً ، وإنّما استعرضت هذه الرواية للإستدلال بها على موضوع البحث ، وهو إنكارك وإنكار كل علمائكم التوسّل ، واعتباره شركاً بالله .
وإني أتساءل لماذا لم يتوسّل عمر بن الخطاب أثناء القحط بعلي بن أبي طالب (عليه السلام) الذي هو من محمّد كمنزلة هارون من موسى ، ولم يقل أحدٌ من المسلمين بأنّ العبّاس أفضل من عليّ ، ولكن هذا موضوع آخر لا يهمّنا في هذا
البحث ، ونكتفي بالقول : بأنكم الآن تعترفون بالوسيلة بالأحياء ، فهذا بالنسبة إليَّ انتصارٌ كبير أحمد الله عليه أن جعل حجتنا هي البالغة ، وجعل حجتكم هي الباطلة(1) .
____________
1- كل الحلول عند آل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ، الدكتور التيجاني : 229 ـ 237 .
المناظرة السادسة والستون
مناظرة
الدكتور التيجاني مع بعض السلفيّة في مشروعيّة زيارة القبور
قال الدكتور التيجاني : والأحاديث في هذا الباب كثيرة جدّاً ملأت كتب الصحاح عند أهل السنّة وعند الشيعة(1) .
ولكن الوهابيّة تنكرها ولا تقيم لها وزناً وقد قال لي بعضهم عندما حاججتهم بهذه الأحاديث فقال : أنَّها نسخت .
فقلت : بالعكس التحريم هو المنسوخ ، لأن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : كنت نهيتكم عن زيارة القبور ، الآن فزوروها فإنها تذكّركم بالموت(2) .
قال : هذا الحديث يعني به الرّجال دون النساء .
قلت : قد ثبت في التأريخ وعند المحققين من أهل السنّة بأنّ فاطمة الزهراء سلام الله عليها كانت في كل يوم تزور قبر أبيها فتبكي وتقول :
____________
1- يعني الأحاديث المصرحة بجواز زيارة القبور . 2- مسند أحمد بن حنبل : 1/145 ، صحيح مسلم : 3/65 ، سنن ابن ماجة : 1/501 ح1571 ، سنن الترمذي : 2/259 ح1060 ، المستدرك ، الحاكم : 1/374 ـ 376 ، المعجم الكبير ، الطبراني : 5/82 ح4648 .
صُبَّت عليّ مصائبٌ لو أنها | صُبّت على الأيام صرن لياليا(1) |
والمعروف بأن عليّاً (عليه السلام) بنى لها بيتاً يسمى بيت الأحزان فكانت تقضي جلّ أوقاتها في البقيع(2) .
قال : وعلى فرض صحة الرّواية فهي تخص فاطمة (عليها السلام) وحدها .
إنّه التعصّب الأعمى مع الأسف ، وإلاّ كيف يتصوّر مسلمٌ أن يمنع الله ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) المرأة المسلمة من زيارة قبر أبيها ، أو قبر أخيها ، أو قبر ولدها ، أو قبر أمّها ، أو قبر زوجها ، فتترحّم عليهم وتستغفر لهم ، وتسيل عليهم دموع الرّحمة ، وتتذكر هي الأخرى الموت والآخرة ، كما يتذكر الرّجل ، إنّه ظلمٌ للمرأة المسلمة المسكينة ، ولا يرضاه الله ، ولا يرضاه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، ولا يرضاه أهل العقول السليمة(3) .
____________
1- مناقب آل أبي طالب ، ابن شهر آشوب : 1/208 ، نظم درر المسطين ، الزرندي : 181 ، أعلام النبلاء ، الذهبي : 2/134 . 2- بحار الأنوار ، المجلسي : 43/177 ـ 178 . 3- كل الحلول عند آل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ، الدكتور التيجاني : 266 ـ 267 .
المناظرة السابعة والستون
مناظرة
الدكتور أسعد القاسم الفلسطيني مع دكتور أردني
يقول الدكتور أسعد القاسم(1) : من الحوادث أذكر منها مناقشتي لدكتور معروف في كليَّة الشريعة بالجامعة الأردنية ، لا داعي لذكر اسمه ، حيث زار مانيلا قبل عشر سنوات ، وألقى محاضرة للطلبة العرب ، تعرَّض فيها لأحوال المسلمين عموماً ، وكان مما قاله : أن معركة المسلمين مع الشيعة معركة عقيدة .
وبعد انتهاء المحاضرة طلبت مناقشته فيما قال ، فكان همُّه معرفة إن كنت شيعيّاً أم سنّياً ، وعندما حاصرته بالأدلّة القويّة حاول في البداية تبريرها بقوله : ومن منّا لا يحب أهل البيت(عليهم السلام) .
وعندما واجهته بالأحاديث التي توجب اتبّاعهم بالعمل ، وليس بمجرِّد
____________
1- هو : الدكتور أسعد وحيد القاسم ، من مواليد فلسطين 1965 م ، حاصل على بكالوريوس في الهندسة المدنيَّة ، وما جستير في إدارة الإنشاءات ، ودكتوراة في الإدارة العامة ، دفعه اطّلاعه على بعض كتب السلفيّة التي تهاجم مذهب أهل البيت(عليهم السلام)إلى قراءة كتاب المراجعات وكتباً أخرى ، ثمَّ تحقَّق مما جاء فيها من صحاح السنة ، وهو الأمر الذي قاده إلى إعلان تشيُّعه بعد بحث مستفيض طال سنتين ، له كتاب : تحليل نظم الإدارة العامة في الإسلام ، وهي رسالة الدكتوراة ، وكتاب : حقيقة الشيعة الاثني عشرية ، وكتاب : أزمة الخلافة والإمامة وآثارها المعاصرة . عن كتاب : المتحوِّلون : 485 .
الادّعاء حاول أن ينهي النقاش ، وعندما ذكرت له الأحاديث الدالّة على عدد الأئمة الاثني عشر(عليهم السلام) ، وسألته : من هم هؤلاء الأئمَّة أو الأمراء كما ذكر البخاري ؟ كان جوابه :
هذا الحديث من عقلك ، وليس له وجود عندنا ، ثمَّ سحب نفسه من المناقشة تاركاً الطلبة يهزّوا رؤوسهم استغراباً .
وكان لهذه الحادثة الأثر الكبير في تحفيزي للمزيد من البحث ما دامت المسألة على هذه الدرجة من الخطورة(1) .
ويقول الدكتور أسعد في بيان السبب الذي دعاه إلى التشيُّع : إن الدافع كان واحداً ليس له ثاني ، وهو رؤيتي ـ بما لا يقبل الشك ، والدليل والبرهان القاطع ـ وجوب اتّباع أهل البيت(عليهم السلام)الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهَّرهم تطهيراً ، فماذا بعد التمعُّن بقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) في خطبة حجة الوداع : إني تارك فيكم الثقلين ما إن تمسَّكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً : كتاب الله وعترتي أهل بيتي(2) .
فهذا القول المعروف بحديث الثقلين يرسم المنهاج بإطاره العام ، ثمَّ يخصّص بقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) : من كنت مولاه فهذا عليٌّ مولاه ، اللهم والِ من والاه وعادِ من عاداه(3) ، وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) : أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلاَّ أنه لا نبيَّ
____________
1- المتحولون ، الشيخ هشام آل قطيط : 483 ـ 484 . 2- تقدَّمت تخريجاته . 3- روى أحمد بن حنبل في مسنده : 4/281 : عن البراء بن عازب قال : كنّا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في سفر ، فنزلنا بغدير خمٍّ ، فنودي فينا : الصلاة جامعة ، وكسح لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تحت شجرتين ، فصلَّى الظهر ، وأخذ بيد علي (عليه السلام) فقال : ألستم تعلمون أني أولى بالمؤمنين من أنفسهم ؟ قالوا : بلى ، قال : ألستم تعلمون أني أولى بكل مؤمن من نفسه ؟ قالوا : بلى ، قال : فأخذ بيد علي ، فقال : من كنت مولاه فعليٌّ مولاه ، اللهم والِ من والاه ، وعادِ من عاداه . قال : فلقيه عمر بعد ذلك فقال له : هنيئاً يا ابن أبي طالب ! أصبحت وأمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة . ورواه أيضاً الحاكم النيسابوري في المستدرك : 3/109 عن زيد بن أرقم مثله ، وقال : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه بطوله . وروى أحمد بن حنبل أيضاً في مسنده : 1/118 عن سعيد بن وهب ، وعن زيد بن يثيع قالا : نشد علي (عليه السلام) الناس في الرحبة : من سمع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول يوم غدير خم إلاَّ قام ، قال : فقام من قبل سعيد ستة ، ومن قبل زيد ستة ، فشهدوا أنهم سمعوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول لعلي (عليه السلام) يوم غدير خم : أليس الله أولى بالمؤمنين ؟ قالوا : بلى ، قال : اللهم من كنت مولاه فعليٌّ مولاه ، اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه . وهذا الحديث من المتواترات ، وقد ذكرته جلَّ المصادر ، ونذكر منها مايلي : فضائل الصحابة ، أحمد بن حنبل : 15 ، المصنّف ، ابن أبي شيبة الكوفي : 7/499 ح28 و503 ح55 ، السنن الكبرى ، النسائي : 5/45 ح8148 و134 ح8478 ، مسند أبي يعلى الموصلي : 1/429 ، صحيح ابن حبان : 15/376 ، المعجم الكبير ، الطبراني : 2/357 ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 2/289 ، مجمع الزوائد ، الهيثمي : 1/9 ، ذخائر العقبى ، أحمد بن عبدالله الطبري : 67 .
بعدي(1) ، وغير ذلك الكثير من التوجيهات النبوّيّة التي تضع النقاط على الحروف ، فكلمة " بعدي " توضح أن علياً (عليه السلام) كان وصيّاً للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) كما كان هارون ليكون خليفة له وإماماً على الأمة بعده .
وهناك العديد من الروايات الموثَّقة أيضاً في الصحاح ، تشير إلى أن عدد الأئمة(عليهم السلام)اثنا عشر ، وكان علماء أهل السنة على مرّ التأريخ مازالوا في حيرة أمام هذا الرقم الصعب دون أن يجدوا له تفسيراً(2) .
____________
1- تقدَّمت تخريجاته . 2- المتحوِّلون ، الشيخ هشام آل قطيط : 472 ـ 473 .
المناظرة الثامنة والستون
مناظرة
السيّد حسين الرجا السوري مع بعض علماء العامّة
قال السيِّد حسين الرجا(1) : أبلغني ذات يوم أحد المحبّين الغيارى أنّه يعتزم عقد لقاء بيني وبين أحد العلماء ، فقلت له : ياليت ، فإن وضح الحق وشفيت نفسي لك الأجر والثواب ، وإنني خائف من زلّة القدم ، ولكنني أطلب منك أن يحضر ندوة الحوار بعض المثقَّفين ; لأنهم أقدر على الفهم فيحكموا لي أو عليَّ .
وبعد أيام أبلغني بأنَّه عيَّن العالم والزمان والمكان ، فذهبنا في الوقت المحدَّد ، ووجدنا الشيخ بالانتظار ، وقد حضر أحد المثقَّفين ، وكان عدد الحضور سبعة رجال ، وما أن استقرَّ بنا المجلس إلاَّ ونطق أحدهم قائلا : شيخنا ! هذا السيِّد الذي كلَّمناك بشأنه ، وعندها بدأنا الكلام ، وإليك عزيزي القارئ نصَّ الحوار بكامله .
أشاح الشيخ بوجهه ناظراً إلى وجهي فقال : {هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}(2) .
____________
1- من منطقة دير الزور حطلة ، ومؤلِّف كتاب : دفاع من وحي الشريعة ضمن دائرة السنة والشيعة . 2- سورة البقرة ، الآية : 111 .
فقلت له : شيخنا ! أصحيح أن عمر بن الخطاب دخل على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)فوجده ميِّتاً مسجَّى ببردته ، فأغلق الباب عليه ، وشهر سيفه ، يهدِّد الناس ، ويمنعهم من القول بأن محمّداً قد مات ، ويقول : من قال إن محمّداً قد مات ضربته بسيفي هذا ، محمّد لم يمت ، إنما ذهب إلى ميقات ربِّه كموسى بن عمران ، وسيرجع بعد أربعين يوماً ، فيقطع أيدي رجال وأرجلهم ؟(1)
فقال : نعم ، هذا الحديث صحيح لا غبار عليه .
فقلت له : شيخنا ! هل الله قال : إن محمَّداً لم يمت ؟
قال : لا .
قلت : فهل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : إني لم أمت ؟
قال : لا .
____________
1- جاء في صحيح البخاري : 4/193 : قال عمر : والله ما مات رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وليبعثنَّه الله ، فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم . وفي رواية تاريخ اليعقوبي : 2/114 : قال : وخرج عمر فقال : والله ما مات رسول الله ولا يموت ، وإنما تغيَّب كما غاب موسى بن عمران أربعين ليلة ، ثمَّ يعود ، والله ليقطعن أيدي قوم وأرجلهم ، وقال أبو بكر : بل قد نعاه الله إلينا فقال : (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ) فقال عمر : والله لكأني ما قرأتها . وفي رواية الآحاد والمثاني للضحاك : 3/13 ، قال : ثمَّ إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قبض ، فقال عمر : والله لا أسمع أحداً يذكر أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قبض إلاَّ ضربته بسيفي هذا . وراجع أيضاً : السنن الكبرى ، النسائي : 4/263 ، أسد الغابة ، ابن الأثير : 2/248 ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 2/40 . وفي شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : 1/178 : لمَّا مات رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وشاع بين الناس موته ، طاف عمر على الناس قائلا : إنه لم يمت ، ولكنه غاب عنّا كما غاب موسى عن قومه ، وليرجعن فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم ، يزعمون أنه مات ، فجعل لا يمرُّ بأحد يقول إنه مات إلا ويخبطه ويتوعَّده ، حتى جاء أبو بكر ، فقال : أيُّها الناس ! من كان يعبد محمّداً فإن محمّداً قد مات ، ومن كان يعبد ربَّ محمّد ، فإنه حيٌّ لم يمت .. إلخ .
قلت : فهل جبرئيل نزل على عمر فقال له : إن محمَّداً لم يمت ؟
قال : لا .
قلت : أما كان عمر يقرأ قول الله : {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ}(1) معنى ذلك أن عمر تكلَّم بما لا يتطابق مع الواقع ، بل تكلَّم ضدَّ الله ورسوله وجبرئيل والقرآن .
ثمَّ سكتُّ قليلا أنتظر الجواب ، ووجه الشيخ يتغيَّر ، وقبل أن يتكلَّم قلت : اللّهم إلاَّ أن يقال : إن عمر كان يهجر ، وحتى هذا الاعتذار ساقط من الحسبان ; لأن الرجل عندما يهجر يختلُّ كلامه لفظاً ومعنى ; لأنه فاقد الشعور ، لا يدرك ما يقول ، وعلى عكس ما يقوله عمر ، حيث تكلَّم بكلام فصيح ، فلا ركّة في المعنى ،ولا هجر في القول .
ثمَّ سكتُّ قليلا أنتظر الجواب ، وإذا بالشيخ ينظر إلى الساعة في يده قائلا : عندي موعد ، يا الله ، فنهض قائماً فتفرَّقنا بلا عودة .
ثمَّ التقيت بالرجل المثقَّف ، فقلت له : بماذا حكمت ؟
فقال : إذا كان دليل الشيعة هكذا ، وعلماء السنة هكذا ، فعلى هذا الأساس اعتبرني شيعيّاً ، وبعد مدّة استبصر ذلك المثقَّف ، والحمد لله(2) .
____________
1- سورة الزمر ، الآية : 30 . 2- المتحولون ، الشيخ هشام آل قطيط : 365 ـ 366 .