الصفحة 521

بَرِيءٌ مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ}(1) .

فإذا صدر عمل حسن من إنسان فلا يدلُّ على أن ذلك الإنسان يكون حسناً إلى آخر عمره ، وأن عاقبة أمره تكون خيراً ، ولذا ورد في أدعية أهل البيت(عليهم السلام) : اللهم اجعل عواقب أمورنا خيراً .

3 ـ ومثله في البشر : بلعم بن باعورا ، فإنه كما ذكر المفسِّرون في تفسير قوله تعالى : {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ}(2) ، قالوا : إنه تقرَّب إلى الله تعالى بعبادته له إلى أن أعطاه الاسم الأعظم ، وأصبح ببركة اسم الله سبحانه دعاؤه مستجاباً ، وعلى أثر دعائه تاه موسى وبني إسرائيل وأممٌ كثيرة في الوادي ، ولكن على أثر طلبه للرئاسة والدنيا سقط في الامتحان ، واتّبع الشيطان ، وخالف الرحمن ، وسلك سبيل البغي والطغيان ، وصار في المخلَّدين في النيران ، ومن أحبَّ تفصيل قصّته فليراجع تفسير الفخر الرازي : 4/462 ، فإنه يروي ( قصته ) عن ابن عباس وابن مسعود ومجاهد بالتفصيل .

هشام آل قطيط : استأذنت بالخروج من الجلسة ، وما عدت أتحمَّل الحوار ، ولا الإصغاء إلى هذا الكلام القاسي بحقّ تشبيهه الخلفاء وأصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بإبليس وبرصيصا وبلعم بن باعورا ، ووقفت ووصلت إلى الباب ،فركض سماحة السيِّد خلفي ، وقال : ألم أقل لك : اصبر ، اصبر يا أخي .

فقلت له : من فضلك تغيِّر محور النقاش سماحة السيِّد الجليل .

____________

1- سوره الحشر ، الآية : 16 .

2- سورة الأعراف ، الآية : 175 .


الصفحة 522

السيِّد البدري : أنا انتهيت من هذه القصص ، ألم أقل لك في بداية الجلسة على أن الأمثال تضرب ولا تقاس ، ولا مناقشة في الأمثال ؟ ولكن يا أخي ! إن الأمثلة تضرب لتقريب موضوع الحوار إلى الأذهان ، وليس المقصود من المثل تشابه المتماثلين من جميع الجهات ، بل يكفي تشابههما من جهة واحدة ، وهي التي يرتكز عليها موضوع الحوار ، وإني أشهد الله ـ يا أخي ! ـ بأني ما قصدت بالأمثال التي ذكرتها إهانة أحد ، بل البحث والحوار يقتضي في بعض المواقع أن أذكر شاهداً لكلامي ، وأبيِّن المطلب والمراد والمقصود .

هشام آل قطيط : إذا كنت ـ سماحة السيد ! ـ قد بيَّنت لي في قوله تعالى : {إِنَّ اللّهَ مَعَنَا} وشرحت أن المقصود من أن الله سبحانه تعالى مع الكافر والمؤمن والمنافق فأين تذهب بهذا الدليل القاطع الذي يعدُّ منقبة وفضيلة عظيمة لسيِّدنا أبي بكر ، ألا وهو قوله تعالى : {فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ} فإن الضمير في ( عليه ) يرجع لأبي بكر الصدّيق ، وهذا شرف من الله ، ومقام عظيم قد كرَّمه به ، فلماذا تحاول طمس هذه الحقيقة ؟

السيّد البدري : الضمير التي ذكرته في هذه الكلمة يرجع إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وليس لأبي بكر ، وبقرينة الجملة التالية في الآية : {وَأَيَّدَهُ بِجُنُود لَّمْ تَرَوْهَا}وقد صرَّح جميع المفسرين : أن المؤيَّد بجنود الله سبحانه هو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) .

هشام آل قطيط : ونحن نقول : إن المؤيَّد بالجنود النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، لا شك بذلك ، ولكن أبا بكر كان مؤيَّداً مع النبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) لمصاحبته في الغار .

السيِّد البدري : إذا كان الأمر كما تقول يا أستاذ ، وقلت لي في أول الجلسة بأنك تدرس اللغة العربيّة ، لجاءت الضمائر في الآية الكريمة بالتثنية ، بينما الضمائر كلُّها جاءت مفردة ، فحينئذ لا يجوز لأحد أن يقول : إن الألطاف


الصفحة 523

والعنايات الإلهيّة ـ كالنصرة والسكينة ـ شملت أبا بكر دون رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فينحصر القول بأنها شملت رسول الله دون صاحبه .

هشام آل قطيط : سماحة السيِّد ! إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ليس بحاجة إلى السكينة ; لأن السكينة موجودة معه ولا تفارقه ، ولكنَّ سيِّدنا أبا بكر كان بحاجة ماسّة إلى السكينة فأنزلها الله عليه .

السيِّد البدري : يا أخي ! لماذا تضيع الوقت بتكرار الكلام ؟ وبأيِّ دليل تقول : إن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يحتاج إلى السكينة الإلهيّة ؟! بينما الله سبحانه وتعالى يقول : {ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا}(1)وذلك في غزوة حنين ، ويقول الله تعالى في آية أخرى : {فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى}(2) وذلك في فتح مكة المكرمة .

لاحظ ـ أيُّها الأستاذ الكريم ـ أن الله تعالى في الآيتين الكريمتين يذكر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ويذكر بعده المؤمنين ، فلو كان أبو بكر في آية الغار من المؤمنين الذين تشملهم السكينة الإلهيّة لكان الله عزَّوجلَّ قد ذكره بعد ذكر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، أو قال تعالى : فأنزل الله سكينته عليهما .

هذا وقد صرَّح كثير من كبار علمائكم بأن ضمير ( عليه ) في الآية الكريمة يرجع إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، لا إلى أبي بكر ، راجع كتاب : ( نقض العثمانيّة ) للعلامة الشيخ أبي جعفر الإسكافي ، وهو أستاذ ابن أبي الحديد ، وقد كتب ذلك الكتاب القيِّم في ردِّ وجواب أباطيل أبي عثمان الجاحظ .

____________

1- سورة التوبة ، الآية : 26 .

2- سوره الفتح ، الآية : 26 .


الصفحة 524

وأزيدك أدلّة أخرى أيُّها الأستاذ المحاور ، إنا نجد في الآية الكريمة جملة تناقض قولك !

سؤال : قال تعالى في محكم كتابه : {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ}(1)فالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هنا ينهى صاحبه عن الحزن ، فالسؤال الذي أوجِّهه إليك أيُّها المحاور : هل أن حزن أبي بكر كان طاعة لله ولرسوله أم معصية ؟!

هشام آل قطيط : طبعاً حزن سيِّدنا أبي بكر كان طاعة لله فكيف يكون معصية ؟ معاذ الله !

السيِّد البدري : ما دام حزن الخليفة أبي بكر طاعة لله كما ذكرت فلماذا نهاه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن هذه الطاعة وقال له : لا تحزن ؟ و( لا ) هنا للنهي ، والنهي يأتي عن المعصية وليس عن الطاعة ، فالآية لم تكن في فضل أبي بكر ومدحه ، بل تكون في ذمِّه وقدحه ! وصاحب السوء لا تشمله العناية والسكينة الإلهيَّة ; لأنهما تختصَّان بالنبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) والمؤمنين ، وهم أولياء الله الذين لا يخشون أحداً إلاَّ الله سبحانه ، ومن أهم علامات الأولياء كما في قوله تعالى : {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}(2) .

ولمَّا وصلنا إلى هذه النقطة كان الوقت ما يقرب من أذان صلاة المغرب ، وأجِّلت الجلسة بسبب تعب الطرفين ; لأن هناك تكملة لبحوث أخرى .

____________

1- سورة التوبة ، الآية : 40 .

2- سورة يونس ، الآية : 62 .


الصفحة 525

اللقاء الخامس : مناقشة الأدلّة التي يستدلّ بها على خلافة أبي بكر

هشام آل قطيط : بعد أن ذكرت وبيَّنت ـ سماحة السيِّد ! ـ موضوع آية : {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ} وآية الغار ، لديَّ أدلّة جديدة ، ونصوص صريحة ، أثبت من خلالها أحقّيّة سيِّدنا أبي بكر بالخلافة من بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وهي :

أولا : مروا أبا بكر فليصلِّ بالمسلمين ( حديث رواه البخاري )(1) .

ثانياً : لو كنت متّخذاً من أهل الأرض خليلا غير ربّي لا تخذت أبا بكر خليلا ، لا يبقين في المسجد خوخة إلاَّ سدَّت إلاَّ خوخة أبي بكر ( حديث رواه البخاري )(2) .

ثالثاً : عن عائشة قالت : دخل عليَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في اليوم الذي بدأ فيه فقال : ادعي لي أباك وأخاك حتى أكتب لأبي بكر كتاباً ، ثمَّ قال : يأبى الله والمسلمون إلاَّ أبا بكر(3) .

حوار في النصوص المدعاة على أحقّيّة الخليفة أبي بكر بالخلافة

السيِّد البدري : أقول : لو سلَّمت لك جدلا أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أمر أبا بكر أن يصلّي بالناس في مرضه الذي توفِّي فيه (صلى الله عليه وآله وسلم) ، ولكن ماذا تقول لو قال قائل ممن لا يقول بقولك : ألم يقل جمهور الصحابة لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في مرضه : هجر رسول

____________

1- سوف يأتي قريباً مع مصادره .

2- سوف يأتي قريباً أيضاً مع مصادره .

3- راجع مسند أحمد بن حنبل : 6/144 ، السنن الكبرى ، البيهقي : 8/153 .


الصفحة 526

الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على ما أخرجه البخاري في صحيحه(1) عن ابن عباس أنه قال : يوم الخميس وما يوم الخميس ، ثمَّ بكى حتى خضب دمعه الحصباء ، قال : اشتدّ برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وجعه يوم الخميس ، فقال : ائتوني بكتاب أكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعده أبداً ، فتنازعوا ، ولا ينبغي عند نبيٍّ تنازع ، فقالوا : هجر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ! قال : دعوني فالذي أنا فيه خير مما تدعوني إليه .

هشام آل قطيط : عفواً سماحة السيِّد ! أراك خرجت عن موضوع الدليل والنصّ الذي طرحته .

السيّد البدري : يا أستاذ ! تعلَّم الصبر والنفس الطويل في الحوار ، ولا تكن سريعاً ، مهلا ! سأورد لك بعض المخالفات لأنتقل إلى تحليل هذا النصّ الذي أنت تحتجُّ به وتعتبره دليلا مقنعاً .

سؤال موجَّه لك : ألم يقل الخليفة عمر بن الخطاب للصحابة في مرض النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : إن النبي قد غلبه الوجع ، وعندكم القرآن ، حسبنا كتاب الله ؟ والرواية الأولى قال عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) : إنه هجر ; أي بمعنى يهذي(2) .

هشام آل قطيط : سيِّدنا عمر بن الخطاب الفاروق يقول لسيِّدنا محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) : إنّه هجر ؟ من أين لك هذا الحديث ؟ ومن أين أتيت به أيها السيِّد ؟ كلام غريب ( معاذ الله من ذلك ) .

السيِّد البدري : لا تغضب يا أخي ، هدِّئ من روعك واصبر .

هشام آل قطيط : كيف أهدأ وأنت تتهجَّم على سيِّدنا عمر وتتّهمه هذا

____________

1- صحيح البخاري : 7/9 ، 5/137 ، 2/132 ، 4/65 ـ 66 ، صحيح مسلم : 2/16 ، 5/75 ، 11/94 ـ 95 ، بشرح النووي ، مسند أحمد بن حنبل : 1/955 .

2- سرّ العالمين وكشف ما في الدارين ، أبو حامد الغزالي : 21 .


الصفحة 527

الاتّهام ؟

السيِّد البدري : ما رأيك في صحيح البخاري يا أستاذ ؟

هشام آل قطيط : صحيح البخاري أصدق صحيح عندنا بعد القرآن .

السيِّد البدري : راجع صحيح البخاري في أواخر ص118 الجزء الثاني في باب ( هل يستشفع إلى أهل الذمّة ومعاملتهم ) وحتى أربط كل هذا الاستدلال لك يقول : عن ابن عباس قال : لمَّا حضر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب ، قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : هلمّ أكتب لكم كتاباً لا تضلُّوا بعده ، فقال عمر : إن النبيَّ (صلى الله عليه وآله وسلم) قد غلب عليه الوجع ، وعندكم القرآن ، حسبنا كتاب الله ، فاختلف أهل البيت فاختصموا ، ، منهم من يقول : قرِّبوا يكتب لكم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)كتاباً لنا تضلوا بعده ، ومنهم من يقول ما قال عمر ، فلمَّا أكثروا اللغو واللغط والاختلاف عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : قوموا . قال عبيدالله : فكان ابن عباس يقول : الرزيّة كل الرزيَّة ما حال بين رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم(1) ، وهذا مشهور برزيَّة يوم الخميس .

الوجه الصحيح في حديث صلاة الخليفة أبي بكر

السيِّد البدري : أقول : إن الصحيح المتواتر بين الفريقين : السنّي والشيعيّ معاً أن النبيَّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أخَّر الخليفة أبا بكر من تلك الصلاة ، وصرفه عن إمامة المسلمين ; لأنه خرج بعد سماعه بتقدُّم أبي بكر يتهادى بين علي والعبّاس ، مع ما فيه من ضعف الجسم بالمرض ، الأمر الذي لا يتحرَّك معه العاقل إلاَّ في حال

____________

1- صحيح البخاري ، الجزء الثاني ، باب ( يستشفع إلى أهل الذمّة ومعاملتهم ) ص118 .


الصفحة 528

الاضطرار ، لتدارك ما يخاف بفوته حدوث أعظم فتنة ، فعزل النبيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم)أبا بكر عمّا كان تولاَّه من تلك الصلاة كما نطقت به صحاحكم ، ويدلُّك على أن تقدُّمه للصلاة لم يكن بأمر من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في شيء ، وإنما كان الأمر صادراً من ابنته السيّدة عائشة ، ولم تكن تلك الصلاة إلاَّ صلاة الصبح لا غيرها .

ويرشدك ويدلُّك على ذلك ـ يا أخي ـ ما أخرجه الحافظ الكبير الإمام مسلم في صحيحه(1) .

وأنقل لك هذه الرواية عن عائشة : قالت : لمَّا ثقل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) جاء بلال يؤذنه بالصلاة ، فقال : مروا أبا بكر فليصلِّ بالناس ، قالت : فقلت : يا رسول الله ! إن أبا بكر رجل أسيف ، وإنه متى يقم مقامك لم يسمع الناس فلو أمرت عمر ، فقال : مروا أبا بكر فليصلِّ بالناس ، قالت : فقلت لحفصة : قولي له : إن أبا بكر رجل أسيف ، وإنه متى يقم مقامك لا يسمع الناس فلو أمرت عمر ، فقالت له ، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : إنكن لأنتن صويحبات يوسف ، مروا أبا بكر فليصلِّ بالناس ! قالت : فأمروا أبا بكر يصلّي بالناس .

ثمَّ ـ أخي الكريم ـ لماذا تحاول ربط مسألة الصلاة بمسألة الخلافة ؟ لو فرضنا جدلا صحّة حديث عائشة أم المؤمنين ، وغضضنا النظر عن تلك الوجوه التي ناقشتها الآن ، ومع كل ذلك فإن الأمر بالصلاة خلفه لا يوجب للخليفة أبي بكر الإمامة العامة على المسلمين ; لعدة أسباب ، منها :

أولا : لقد اتّفق أئمّة السنة والحفّاظ عندكم على أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) صلَّى

____________

1- صحيح مسلم ، 2/22 ـ 23 باب ( استخلاف الإمام إذا عرض له عذر ) كتاب الصلاة ، صحيح البخاري : 1/165 ، مسند أحمد بن حنبل : 6/96 ، سنن الترمذي : 5/275 ح3754 .


الصفحة 529

خلف عبد الرحمن بن عوف ، على ما نقله لنا ابن كثير في تأريخه(1) وهذا شيء لا يختلف فيه أحد ، فلم يوجب فضلا لعبد الرحمن بن عوف على النبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ، ولا يقتضي ذلك أن يكون إماماً واجب الطاعة عليه (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلى غيره من أصحابه ، فكما أن صلاة النبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) خلف عبد الرحمن بن عوف لم توجب له الإمامة على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولا على غيره من الناس ، فكذلك لم توجب صلاة أبي بكر بالمسلمين إمامته عليهم .

ثانياً : لا خلاف بين الفريقين : السنّي والشيعيّ في أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)قد استعمل عمرو بن العاص على الخليفتين أبي بكر وعمر وجماعة المهاجرين والأنصار ، وكان يؤمُّهم في الصلاة مدّة إمارته عليهم في واقعة ذات السلاسل ، على ما نقله لنا ابن كثير في تاريخه(2) ، فلم توجب صلاته فيهم(3) إمامته عليهم ، ولا فضلا عليهم ، لا في الظاهر ، ولا عند الله تعالى على حال من الأحوال ، فكذلك الحال في صلاة أبي بكر فيهم ، لا توجب إمامته عليهم ، ولا فضلا عليهم .

ثالثاً : وهذا البخاري أصدق صحيح عندكم يحدِّثنا في صحيحه(4) عن ابن عمر قال : لمَّا قدم المهاجرون الأوّلون العصبة ( موضع بقبا ) قبل مقدم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يؤمُّهم سالم مولى أبي حذيفة ، وكان أكثرهم قرآناً .

فكما أن إمامة سالم مولى أبي حذيفة للمهاجرين الأوّلين لم توجب له

____________

1- البداية والنهاية ، ابن كثير : 5/22 .

2- البداية والنهاية ، ابن كثير : 4/273 .

3- راجع في إمامة عمرو بن العاص في الخليفتين أبي بكر وعمر هذه المصادر : السيرة الحلبيّة ، الشافعي : 3/19 ، تاريخ الخميس : 2/82 ، والدحلاني في ص11 من سيرته بهامش الجزء الثاني من السيرة الحلبية .

4- صحيح البخاري : 1/89 ، باب ( إمامة العبد من أبواب صلاة الجماعة من كتاب الأذان ) .


الصفحة 530

فضلا ، ولا الإمامة العامّة عليهم ، ولم تقض له بخلافة الرسالة المحمديَّة ، فكذلك إمامة أبي بكر للصلاة بالمسلمين لم توجب له فضلا ، ولا الإمامة العامّة عليهم ، ولم تقض له بخلافة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) .

رابعاً : عتاب بن أسيد أحقُّ بالخلافة من الخليفة أبي بكر ، لماذا ؟ لأنه الذي قدَّمه الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) يصلّي بالناس حين فتح رسول الله مكة ، والرسول مقيم في مكة ، وأبو بكر معه يصلّي خلف عتاب بن أسيد ، فقدَّمه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)يصلّي بالناس في المسجد الحرام من غير علّة ، ولا ضرورة دعته إلى ذلك .

وهذا بإجماع الأمّة ، فكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يصلّي بالناس الظهر والعصر ، وعتاب بن أسيد يصلّي بالناس الثلاث صلوات بإجماع الأمّة ، وبإجماع الأمّة أن المسجد الحرام أفضل من مسجد المدينة ، ومكة أفضل من المدينة ، ويلزم في النظر أن من قدَّمه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في المواطن الأفضل من غير علّة أفضل ممن قدَّمه في مسجد هو دونه في الفضل مع ضرورة العلة ، فتأمَّل يا أخي .

تجويزكم للصلاة خلف البرّ والفاجر

السيِّد البدري : ثمَّ إنكم متّفقون على أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أرشدكم إلى الصلاة خلف كل برٍّ وفاجر(1) ، فإذا كانت الصلاة تجوز عندكم خلف كل فاسق وفاجر ، والاقتداء بكل ظالم وعاص ، بإجماع علماء السنة نصّاً وفتوى وعملا ، وكانت صلاة الخليفة أبي بكر بالمسلمين دليلا على خلافة النبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وإمامة الأمّة ، كان ذلك دليلا أيضاً على إمامة هؤلاء جميعاً ، ولكان كلُّهم خلفاء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من بعده ، وكأن قوله تعالى : {وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ

____________

1- سنن البيهقي : 4/19 ، الفتح الكبير : 2/190 .


الصفحة 531

النَّارُ}(1) باطلا لا معنى له(2) .

حوار في حديث خوخة أبي بكر

هشام آل قطيط : بعدما ذكرت الأدلّة الكثيرة حول صلاة الخليفة أبي بكر وإبطالها ، فما رأي سماحتكم بقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) : لو كنت متّخذاً من أهل الأرض خليلا غير ربّي لا تخّذت أبا بكر خليلا ، لا يبقين في المسجد خوخة إلاَّ سدَّت إلاَّ خوخة أبي بكر(3)؟ أليس هذا الحديث دليلا قاطعاً على خلافة سيدنا أبي بكر(4).

____________

1- سورة هود ، الآية : 113 .

2- قال الشيخ المظفر عليه الرحمة في دعوى تقديم أبي بكر في الصلاة : فليس فيها أيَّة إشارة إلى تعيينه للخلافة ، فضلا عن النصّ ; لأن الإمامة في الصلاة ليست بالأمر الخطير الشأن الذي لا يكون إلاَّ لمن له الإمامة ، ولا سيّما على مذهب أهل السنّة ، وكان ائتمام المسلمين بعضهم ببعض مما اعتادوا عليه ، وشاع يومئذ بينهم بترغيب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيه .. ولا أعتقد بصحّة ما يروى أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هو الذي قدَّمه للصلاة ، وأنه صلَّى أياماً ; لأن أبا بكر كان من جيش أسامة من غير شك ، وقد نهى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)عن التخلُّف عنه ، وشدَّد في الإسراع بإنفاذه ، فكيف يجتمع هذا مع تقديم النبيِّ له للصلاة مدّة مرضه ؟

نعم ، الثابت أنه صلَّى صلاة واحدة .. يوم الإثنين ، يوم وفاة النبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وقبل أن يتمَّها خرج صاحب الرسالة يتهادى بين رجلين ، ورجلاه تخطّان الأرض من الوجع ، فصلَّى بالناس صلاتهم ، وتأخَّر أبو بكر ، فإن عائشة هي التي روت أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بتقديمه لا غيرها ، وأنها راجعته في ذلك حتى قال لها غاضباً : إنكن لأنتن صواحب يوسف ، وهي نفسها تروي خروجه في نفس تلك الصلاة ، وكان خروجه بهذه الحال إلى الصلاة يوم وفاته وهو يوم الإثنين ، ولو أن النبيَّ (صلى الله عليه وآله وسلم) كان قدَّمه للصلاة إشارة إلى خلافته ، فلماذا خرج بهذه الحال المؤلمة ، وصلَّى بالناس صلاة المضطرين جالساً ؟ ولا معنى لما يقال : إنّه صلَّى أبو بكر بصلاة النبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وصلَّى الناس بصلاة أبي بكر ، فمن هو الإمام إذن ؟ إن كان أبا بكر فلم يكن قد صلَّى بصلاة النبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وإن كان النبي فلم تكن الناس قد صلَّت بصلاة أبي بكر .. السقيفة ، الشيخ محمّد رضا المظفر : 54 .

3- صحيح البخاري : 4/254 ، فضائل الصحابة ، أحمد بن حنبل : 3 ، مسند أحمد بن حنبل : 1/434 ، سنن الترمذي : 5/270 ح3740 ، صحيح مسلم : 7/109 ، السنن الكبرى ، البيهقي : 6/246 .

4- قال ابن أبي الحديد في شرح النهج : 11/49 : إن البكرية وضعت لأبي بكر أحاديث في مقابلة هذه الأحاديث نحو ( لو كنت متخذاً خليلا ... ) فإنهم وضعوه في مقابلة حديث الإخاء ، ونحو سد الأبواب ، فإنه كان لعلي (عليه السلام) فقلبته البكرية إلى أبي بكر .


الصفحة 532

السيِّد البدري : إن هذا الحديث رواية آحاد ، هذا أوَّلا .

وثانياً : إن هذا الحديث معارض بحديث أقوى منه سنداً ، وتنقله أحاديثكم ، وهو قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) : لا تقل : لو أني فعلت كذا كان كذا ، ولكن قل : قدَّر الله وما شاء فعل ، فإن كلمة ( لو ) تفتح عمل الشيطان ( حديث شريف )(1) ، فكيف برسول الأمّة وإمامها ينهانا عن القول بكلمة ( لو ) ويقول لنا إنها تفتح عمل الشيطان ، وهو يبدأ بها ؟! هل يعقل هذا الأمر بأن هذا الحديث يصدر من النبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ؟ فتأمَّل .

ثالثاً : إن هذا الحديث موضوع لدينا ، ووضع مقابل حديث المؤاخاة المشهور والمتواتر ، وهو قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لعلي (عليه السلام) : أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلاَّ أنه لا نبيَّ بعدي(2) .

رابعاً : الشطر الثاني من الحديث ( لا يبقين في المسجد خوخة إلاَّ سدَّت إلاَّ خوخة أبي بكر ) وضع مقابل الحديث المشهور والمتواتر ( سدُّوا هذه الأبواب إلاَّ باب علي )(3) فوضع أصحاب الأقلام المأجورة كلمة ( خوخة ) بدل ( باب )

____________

1- سنن ابن ماجة : 5/31 ح79 ، صحيح مسلم : 8/56 ، السنن الكبرى ، البيهقي : 10/89 ، السنن الكبرى ، النسائي : 6/159 ح10475 .

2- تقدَّمت تخريجاته .

3- فضائل الصحابة ، أحمد بن حنبل : 13 ـ 14 ، صحيح مسلم : 7/120 ـ 121 ، سنن الترمذي : 5/302 ح 3808 و304 ح3813 ، المستدرك ، الحاكم : 2/337 ـ 338 ، وقال : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ، و3/108 ـ 109 ، وقال : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه بهذه السياقة ، وص133 أيضاً ، السنن الكبرى ، البيهقي : 9/40 ، المصنّف ، عبد الرزاق : 5/405 ـ 406 ح9745 ، وغير ذلك من المصادر الكثيرة ، كما أن هذا الحديث يعدُّ من المتواترات .


الصفحة 533

للتغيير والتحريف .

هشام آل قطيط : عفواً سماحة السيِّد ! الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ترك خوخة مفتوحة لسيِّدنا أبي بكر ، ومعنى كلمة الخوخة أي ( الباب الصغير ) .

السيِّد البدري : لو أن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أراد إكرامه لفتح له باباً كبير ، لماذا باب صغير ؟ وحتى أثبت لك بالأدلّة والبراهين القاطعة بأن هذا الحديث وضع مقابل حديث ( سدُّوا كل الأبواب إلاَّ باب علي ) فتفضَّل يا أخي :

أوّلا : أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بسدِّ أبواب الصحابة من المسجد تنزيهاً له عن الجنب والجنابة ، ولكنَّه أبقى باب علي (عليه السلام) ، وأباح له عن الله تعالى أن يجنب في المسجد ، كما كان هذا مباحاً لهارون ، فدلَّنا على ذلك عموم المشابهة كما كان هذا مباحا لهارون (عليه السلام) .

الحديث : قال ابن عباس حبر الأمّة : وسدَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أبواب المسجد غير باب عليٍّ ، فكان يدخل المسجد جنباً ، وهو طريقه ليس له طريق غيره(1) .

الحديث : كان لنفر من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أبواب شارعة في المسجد ، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : سدُّوا هذه الأبواب إلاَّ باب عليٍّ ، فتكلَّم الناس في ذلك ، فقام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثمَّ قال : أمَّا بعد ، فإني أمرت بسدِّ هذه الأبواب إلاَّ باب علي ، فقال فيه قائلكم ، وإنّي والله ما سددت شيئاً ولا فتحته ، ولكني أمرت بشيء فاتبعته(2) .

____________

1- المستدرك ، الحاكم : 3/134 ، وقال : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه بهذه السياقة ، السنن الكبرى ، النسائي : 5/112 ـ 113 ح8409 ، المعجم الكبير ، الطبراني : 12/78 ، تأريخ دمشق ، ابن عساكر : 42/99 ـ 102 ، ذخائر العقبى ، أحمد بن عبد الله الطبري : 87 ـ 88 .

2- السنن الكبرى ، النسائي : 5/118 ح8423 ، فتح الباري ، ابن حجر : 7/12 ـ 13 ، فيض القدير ، المناوي : 1/120 .


الصفحة 534

وأخرج الطبراني في الكبير ، عن ابن عباس أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)قام يومئذ فقال : ما أنا أخرجتكم من قبل نفسي ، ولا أنا تركته ، ولكن الله أخرجكم وتركه ، إنما أنا عبد مأمور ، ما أمرت به فعلت ، إن أتَّبِعُ إلاَّ ما يوحى إليَّ(1) .

يا عليُّ ! لا يحلُّ لأحد أن يجنب في المسجد غيري وغيرك(2) .

وعن سعد بن أبي وقاص ، والبرّاء بن عازب ، وابن عباس ، وابن عمر وحذيفة بن أسيد الغفاري ، قالوا كلُّهم : خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المسجد فقال : إن الله تعالى أوحى إلى نبيِّه موسى أن ابن لي مسجداً طاهراً لا يسكنه إلاَّ أنت وهارون ، وإن الله أوحى إليَّ أن ابنِ مسجداً طاهراً لا يسكنه إلاَّ أنا وأخي علي(3)

حديث المنزلة ومنازل هارون من موسى(عليه السلام)

السيِّد البدري : وحتى أثبت لك بأن حديث الخلّة وضع مقابل حديث المنزلة ، حتى تكون على بصيرة من أمرك أيُّها الأستاذ الباحث عن الحقيقة ، فالواجب الشرعي يفرض عليَّ أن أبيِّن لك الحقائق لتنقذ نفسك من الصراع الذي تعيشه ، والتناقض والحيرة ، فهذا الإمام البخاري يحدِّثنا في صحيحه(4) في مناقب علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، وذاك الإمام مسلم في صحيحه يحدِّثنا عن

____________

1- المعجم الكبير ، الطبراني : 12/114 ، مجمع الزوائد ، الهيثمي : 9/115 ، كنز العمال ، المتقي الهندي : 11/600 ح32887 .

2- سنن الترمذي : 5/303 ح3811 ، السنن الكبرى ، البيهقي : 7/66 ، فتح الملك العلي ، المغربي : 46 ، تأريخ دمشق ، ابن عساكر : 42/140 ، تهذيب الكمال ، المزي : 26/252 ، سير أعلام النبلاء ، الذهبي : 13/272 ، ذخائر العقبى ، أحمد بن عبد الله الطبري : 77 .

3- المناقب ، ابن المغازلي : 252 ح301 ، ينابيع المودة ، القندوزي الحنفي : 1/258 ح6 .

4- صحيح البخاري : 4/208 و5/129 ، التأريخ الكبير ، البخاري : 1/115 ، رقم : 333 .


الصفحة 535

النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال لعلي (عليه السلام) : أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلاَّ أنّه لا نبيَّ بعدي(1) .

وفي القرآن العربي المبين يقول الله تعالى في سورة طه : آية 25 وما بعدها ، حكاية عن كليمه موسى (عليه السلام) : {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} إلى قوله تعالى : {قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى }وأنت تعلم ـ يا أخي المحاور ـ أن منازل هارون (عليه السلام) من موسى (عليه السلام) كثيرة ومتعدِّدة ، وسأورد لك بعض المقارنات بين هارون ومنزلته من موسى لتعلم أن علياً هو الخليفة الحق بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) .

الأوَّل : إن هارون (عليه السلام) كان وزيراً لموسى (عليه السلام) ، فكذلك علي (عليه السلام)وزير رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) .

الثاني : إن هارون (عليه السلام) كان شريكاً لموسى (عليه السلام) في أمره ، فكذلك علي (عليه السلام)شريك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في أمره على الخلافة والإمامة ، إلاّ النبوَّة ، والمستثناة من عموم المنازل في الحديث الشريف .

الثالث : إن هارون (عليه السلام) كان ثاني موسى (عليه السلام) في قومه ، فكذلك علي (عليه السلام)ثاني رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في أمته .

الرابع : إن هارون (عليه السلام) كان أخاً لموسى (عليه السلام) ، فكذلك علي (عليه السلام) كان أخاً لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، بدليل حديث المؤاخاة المتواتر نقله في كتب السنة والشيعة ، وعدم استثناء النبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) من حديثه إلاَّ النبوة ، وقد أخرج ذلك أحد علمائكم ـ

____________

1- صحيح مسلم : 7/120 ـ 121 .


الصفحة 536

أحمد بن حنبل في مسنده ـ عن عمرو بن ميمون ، عن ابن عباس في حديث : بضع عشرة فضيلة كانت لعلي (عليه السلام) لم تكن لغيره من الصحابة(1) .

الخامس : إن هارون (عليه السلام) كان أفضل قوم موسى (عليه السلام) عند الله تعالى وعند نبيِّه موسى (عليه السلام) ، فكذلك علي (عليه السلام) أفضل أمّة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عند الله تعالى وعند رسوله محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) .

السادس : إن هارون (عليه السلام) كان هو القائم مقام موسى (عليه السلام) في غيبته مطلقاً ، فكذلك علي (عليه السلام) هو الذىِّ يقوم مقام النبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) في غيبته مطلقاً ، وقد جاء التنصيص عليه جليّاً واضحاً ، لا يرتاب فيه اثنان من أهل الإيمان ، بقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) : لا ينبغي أن أذهب إلاَّ وأنت خليفتي(2) .

____________

1- مسند أحمد بن حنبل : 1/331 ، السنن الكبرى ، النسائي : 5/113 ، خصائص أميرالمؤمنين (عليه السلام) ، النسائي : 62 ، وقال محقِّق الكتاب في الهامش : في نسخة : فضائل ليست لأحد غيره ، تاريخ مدينة دمشق ، ابن عساكر : 42/99 ، البداية والنهاية ، ابن كثير : 7/374 ، ذخائر العقبى ، أحمد بن عبدالله الطبري : 87 .

وروى الموفق الخوارزمي بالإسناد عن عبد الله بن أحمد بن حنبل ، عن أبيه بإسناده عن ابن عباس : وقعوا في رجل له بضع عشرة فضائل ليست لأحد غيره ( المناقب ، الموفق الخوارزمي : 125 ح140 ، المستدرك ، الحاكم النيسابوري : 3/132 ) .

وفي رواية النعمان المغربي : عن عمرو بن ميمون ، عبدالله بن عبّاس : وقعوا في رجل قال فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عشر خلال ، كل خلّة منها خير من الدنيا وما فيها ، وقعوا في علي أميرالمؤمنين .

( شرح الأخبار ، القاضي النعمان المغربي : 2/209 ح541 ) .

2- مسند أحمد بن حنبل : 1/331 ، كتاب السنّة ، عمرو بن أبي عاصم : 551 ، خصائص أميرالمؤمنين (عليه السلام) ، النسائي : 64 ، المعجم الكبير ، الطبراني : 12/78 ، المناقب ، الموفق الخوارزمي : 127 ، تاريخ مدينة دمشق ، ابن عساكر : 42/102 ، الإصابة ، ابن حجر : 4/467 ، البداية والنهاية ، ابن كثير : 7/374 ، ذخائر العقبى ، أحمد بن عبدالله الطبري : 87 ، كنز العمال ، المتقى الهندي : 11/606 ح32931 ، مجمع الزوائد ، الهيثمي : 9/120 ، ينابيع المودة ، القندوزي : 1/112 .


الصفحة 537

السابع : إن هارون (عليه السلام) كان أعلم قوم موسى (عليه السلام) فكذلك علي (عليه السلام) أعلم أمة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وقد صرَّح النبيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم)بذلك فقال : أعلم أمّتي من بعدي علي بن أبي طالب(1) .

الثامن : إن هارون (عليه السلام) كان واجب الطاعة على يوشع بن نون وصيِّ موسى (عليه السلام) وغيره من أمّته ، فكذلك علي (عليه السلام) واجب الطاعة على الخلفاء : أبي بكر وعمر وعثمان ، وغيرهم من أمّة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) .

التاسع : إن هارون (عليه السلام) كان أحبَّ الناس إلى الله تعالى وإلى كليمه موسى (عليه السلام) ، فكذلك عليٌّ أحبُّ الناس إلى الله تعالى وإلى رسوله محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) .

العاشر : إن الله تعالى قد شدَّ أزر نبيِّه موسى (عليه السلام) بأخيه هارون (عليه السلام) ، فكذلك شدَّ أزر نبيِّه محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) بأخيه علي (عليه السلام) .

الحادي عشر : إن هارون (عليه السلام) كان معصوماً من الخطأ والنسيان ، والزلل والعصيان ، فكذلك علي (عليه السلام) يكون معصوماً من الخطأ والنسيان ، والزلل والعصيان .

هشام آل قطيط : سماحة السيِّد ! هل لديك أدلّة أخرى في عليٍّ كرَّم الله وجهه ، وفي إثبات أحقّيّته بالخلافه ؟ زدني من فضلك .

السيِّد البدري : وما أزيدك ؟ ما هذا الذي ذكرته إلاَّ غيض من فيض من

____________

1- روى الموفق الخوارزمي بالإسناد عن سلمان ، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال : أعلم أمتي من بعدي علي بن أبي طالب (عليه السلام) .

راجع : المناقب ، الموفق الخوارزمي : 82 ، فتح الملك العلي ، أحمد بن الصديق المغربي : 70 عن مسند الفردوس ، ينابيع المودة ، القندوزي : 2/70 ح6 و239 ح669 ، كنز العمال ، المتقي الهندي : 11/614 ح 32977 .


الصفحة 538

فضائل علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، إذا قلت لك إن عليّاً جامع لفضائل الأنبياء هل تقنع ؟

هشام آل قطيط : إذا كان هناك أدلّة وبراهين تقنعني لماذا لا أقنع ؟ الإمام علي (عليه السلام) جامع فضائل الأنبياء .

السيِّد البدري : وقد شهد بذلك سيِّد الرسل ، وخاتم النبيين محمّد ، الصادق الأمين (عليه السلام) ، كما جاء في مناقب الخوارزمي : ص49 ـ 245 والرياض النضرة : 2 ـ 217 ، وذخائر العقبى : 93 ، وغيرها أنه قال (صلى الله عليه وآله وسلم) مع بعض الاختلافات اللفظيّة : ( من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه ، وإلى نوح في فهمه ، وإلى يحيى بن زكريا في زهده ، وإلى موسى بن عمران في بطشه فلينظر إلى علي بن أبي طالب ) .

ونقل لنا ابن الصبّاغ المالكي في كتابه ( الفصول المهمة ) : من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه ، وإلى نوح في عزمه ، وإلى إبراهيم في حلمه ، وإلى موسى في هيبته ، وإلى عيسى في زهده فلينظر إلى علي بن أبي طالب .

وفي الرياض النضرة : 2 ـ 202 قال : أخرج الملا عمر بن خضر في سيرته : قيل : يا رسول الله ! وكيف يستطيع علي (عليه السلام) أن يحمل لواء الحمد ؟ فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : وكيف لا يستطيع ذلك وقد أعطي خصالا شتّى ; صبراً كصبري ، وحسناً كحسن يوسف ، وقوّة كقوّة جبريل (عليه السلام) ؟!

وروى السيِّد مير علي الهمداني في كتابه ( مودّة القربى ) المودة الثامنة ، قال : عن جابر قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : من أراد أن ينظر إلى إسرافيل في هيبته ، وإلى ميكائيل في رتبته ، وإلى جبرائيل في جلالته ، وإلى آدم في علمه ، وإلى نوح في خشيته ، وإلى إبراهيم في خلّته ، وإلى يعقوب في حزنه ، وإلى


الصفحة 539

يوسف في جماله ، وإلى موسى في مناجاته ، وإلى أيوب في صبره ، وإلى يحيى في زهده ، وإلى عيسى في عبادته ، وإلى يونس في ورعه ، وإلى محمّد في حسبه وخلقه ، فلينظر إلى عليٍّ ، فإن فيه تسعين خصلة من خصال الأنبياء جمعها الله فيه ، ولم يجمعها في أحد غيره(1) .

هشام آل قطيط : عفواً سماحة السيد ! أنت هنا وصلت بي إلى مقايسة عليٍّ ـ كرَّم الله وجهه ـ بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، وهذا مشكل منكم ؟

السيِّد البدري : اسمع ـ يا أخي ـ لأروي لك ما نقله بعض من المؤرِّخين ، إذا الأدلّة لم تقنع فناقشني وحاورني .

مقايسة علي (عليه السلام) بالأنبياء (عليهم السلام)

لقد حدَّثنا المؤرِّخون والمحدِّثون أنه (عليه السلام) في آخر يوم من حياته الكريمة ، حينما كان على فراش الموت والشهادة حضر عنده جماعة من أصحابه لعيادته ، وكان ممَّن حضر صعصعة بن صوحان ، وهو من كبار الشيعة في الكوفة ، وكان خطيباً بارعاً ، ومتكلِّماً لامعاً ، وهو من الرواة الثقات حتى عند أصحاب الصحاح الستة عندكم وأصحاب المسانيد ، فإنّهم يروون عنه ما ينقله عن الإمام علي (عليه السلام) ، وقد ترجم له كثير من أعلامكم مثل : ابن عبد البرّ في الاستيعاب ، وابن سعد في الطبقات الكبرى ، وابن قتيبة في المعارف ، وغيرهم ، فكتبوا أنه كان عالماً صادقاً ، وملتزماً بالدين ، ومن خاصة أصحاب أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، في ذلك اليوم سأل صعصعة الإمام عليّاً (عليه السلام) قائلا : يا أميرالمؤمنين !

____________

1- ينابيع المودة ، القندوزي : 2/306 ـ 307 ح874 .


الصفحة 540

أخبرني أنت أفضل أم آدم (عليه السلام) ؟

فقال الإمام (عليه السلام) : يا صعصعة ! تزكية المرء نفسه قبيح ، ولو لا قول الله عزَّ وجلَّ : {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ}(1) ما أجبت ، يا صعصعة ! أنا أفضل من آدم ; لأن الله تعالى أباح لآدم كلَّ الطيِّبات المتوفِّرة في الجنة ، ونهاه عن أكل الحنطة فحسب ، ولكنَّه عصى ربَّه وأكل منها ! وأنا لم يمنعني ربّي من الطيِّبات ، وما نهاني عن أكل الحنطة ، فأعرضت عنها رغبة وطوعاً .

فقال صعصعة : أنت أفضل أم نوح ؟

فقال (عليه السلام) : أنا أفضل من نوح ; لأنه تحمَّل ما تحمَّل من قومه ، ولمَّا رأى منهم العناد دعا عليهم ، وما صبر على أذاهم ، فقال : {رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الاَْرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً}(2) ، ولكنّي بعد حبيبي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تحمَّلت أذى قومي وعنادهم ، فظلموني كثيراً ، فصبرت وما دعوت عليهم(3) .

فقال صعصعة : أنت أفضل أم إبراهيم ؟

فقال (عليه السلام) : أنا أفضل ، لأن إبراهيم قال : {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}(4) ، ولكنّي قلت وأقول : لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقيناً .

قال صعصعة : أنت أفضل أم موسى ؟

قال (عليه السلام) : أنا أفضل من موسى ; لأن الله تعالى لمَّا أمره أن يذهب إلى فرعون

____________

1- سورة الضحى ، الآية : 11 .

2- سورة نوح ، الآية : 26 .

3- راجع : نهج البلاغة ـ الخطبة الشقشقية حيث يصف (عليه السلام) فيها جانباً من الوضع الذي قاساه فصبر .

4- سورة البقرة ، الآية : 260 .


الصفحة 541

ويبلِّغ رسالته قال : {رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ}(1) ، ولكنّي حين أمرني حبيبي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بأمر الله عزَّوجلَّ حتى أبلِّغ أهل مكة المشركين سورة براءة ، وأنا قاتل كثير من رجالهم وأعيانهم ! مع ذلك أسرعت غير مكترث ، وذهبت وحدي بلا خوف ولا وجل ، فوقفت في جمعهم رافعاً صوتي ، وتلوت الآيات من سورة براءة وهم يسمعون !!

قال صعصعة : أنت أفضل أم عيسى ؟

قال (عليه السلام) : أنا أفضل ; لأن مريم بنت عمران لمَّا أرادت أن تضع عيسى كانت في بيت المقدس ، جاءها النداء : يا مريم ! اخرجي من البيت ، هاهنا محلُّ عبادة ، لا محلُّ ولادة ، فخرجت {فَأَجَاءهَا الَْمخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ}(2) ، ولكنَّ أمّي فاطمة بنت أسد لمَّا قرب مولدي جاءت إلى بيت الله الحرام ، والتجأت إلى الكعبة ، وسألت ربَّها أن يسهِّل عليها الولادة ، فانشقَّ لها جدار البيت الحرام ، وسمعت النداء : يا فاطمة ! ادخلي ، فدخلت وردَّ الجدار على حاله ، فولدتني في حرم الله وبيته(3) .

وانتهى اللقاء ، وعشت في دوَّامة أكثر ، وأحدِّث نفسي : تابع البحث ، إياك والملل !!

اللقاء السادس : خبر منع عمر النبيَّ (صلى الله عليه وآله وسلم) من كتابة الكتاب

هشام آل قطيط : لقد فاتنا ـ سماحة السيِّد البدري ! ـ المناقشة في الحديث

____________

1- سورة القصص ، الآية : 33 .

2- سورة مريم ، الآية : 23 .

3- راجع : الأنوار النعمانية : 1/27 .


الصفحة 542

الشريف الذي يقول : عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : ادعي لي أباك وأخاك حتى أكتب لأبي بكر كتاباً ، ثمَّ قال : يأبى الله والمسلمون إلاَّ أبا بكر(1) .

فهذا الحديث أفهم منه أن هناك عزيمة وتصميم من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)للتوصية بالخليفة أبي بكر من بعده ، والذي يدلّني أكثر أن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)يريد أن يكتب كتاباً ، ويؤكِّد من خلال فعل الأمر الذي يبدأ به الحديث .

السيِّد البدري : ألم يكن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) عازماً على أن يكتب كتاباً ومنعه الخليفة عمر بن الخطاب ، وقال : إن رسول الله غلبه الوجع ، وإنَّه هجر ، أي بمعنى يهذي ، والرسول المعصوم لا يمكن أن يهجر أو يهذي أيُّها الأستاذ ، وقول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) : قوموا عنّي ، لا ينبغي عند نبيٍّ تنازع(2) ; لأنه لو أصرَّ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)على كتابة الكتاب لقالوا : إنه هجر ؟

ثمَّ إن هذا الحديث وضع مقابل الحديث المشهور ، عندما أراد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يكتب الكتاب ، حيث قال : أعطوني دواة وكتف أكتب لكم كتاباً لن تضلُّوا بعدي ـ ولمَّا واجهه القوم بتلك الكلمة القارصة والعبارة الجارحة ـ خاصّة وهو في آخر أيامه من الدنيا ـ رأى أن من الحكمة والمصلحة أن يعدل عن كتابته حفاظاً على الدين ، وقياماً بما أوجبه (صلى الله عليه وآله وسلم) من تقديمه الأهمَّ على

____________

1- قال ابن أبي الحديد في شرح النهج : إن البكريّة وضعت لأبي بكر أحاديث في مقابلة هذه الأحاديث نحو : ائتوني بدواة وبياض أكتب فيه لأبي بكر كتاباً لا يختلف عليه اثنان ، ثمَّ قال : يأبى الله تعالى والمسلمون إلاَّ أبا بكر ; فإنهم وضعوه في مقابلة الحديث المرويِّ عنه في مرضه : ائتوني بدواة وبياض أكتب لكم ما لا تضلُّون بعده ابداً ، فاختلفوا عنده ( شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 11/49 ) .

2- صحيح البخاري : 4/31 ، المصنّف ، عبد الرزاق الصنعاني : 6/57 ح9992 ، مسند أبي يعلى الموصلي : 4/298 ح2409 ، الطبقات الكبرى ، ابن سعد : 2/242 ، فتح الباري ، ابن حجر : 8/101 ، البداية والنهاية ، ابن كثير : 5/247 .


الصفحة 543

المهمِّ .

وأنقل لك ما سجَّله ابن أبي الحديد المعتزلي في شرح نهج البلاغة ، عن أحمد بن أبي طاهر صاحب كتاب تأريخ بغداد ، مسنداً عن ابن عباس أنه قال ـ في حديث طويل جرى بينه وبين الخليفة عمر بن الخطاب ـ قال عمر في بعض ما أجاب به ابن عبّاس ما ملخَّصه : إني لمَّا علمت أن النبيَّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أراد في مرضه أن يكتب لعلي (عليه السلام) بالخلافة ويعهد بها إليه ، فمنعته من ذلك ، لعلمي بأن العرب تنقض عليه لبغضها له(1) .

وهذا القول ـ يا أستاذ ـ يرشدك إلى أنهم كانوا يعلمون مسبقاً بالنصِّ على علي (عليه السلام) ، ولكنّهم يرون أن مصلحة الأمّة ، وانتقاض العرب ، وعدم رغبتهم في اجتماع النبوّة والإمامة في أهل بيت النبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) .

المحاورة بين عمر وابن عباس تكشف عن لثام الحقيقة

السيِّد البدري يتابع الحديث قائلا : هذه المحاورة تكشف لك ـ يا أخي ـ عن المؤامرة التي حصلت من الخليفة عمر بن الخطاب عمَّا كان يريده رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من كتابة الكتاب ، كما وردت في تأريخ الطبري ، والكامل لابن الأثير ، فاسمع أيها المحاور ...

قال عمر بن الخطاب لابن عباس : يا بن عباس ! أتدري ما منع قومكم منهم بعد محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) ؟

فكرهت أن أجيبه ، فقلت : إن لم أكن أدري فإن أميرالمؤمنين يدريني .

____________

1- شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 12/21 .


الصفحة 544

فقال عمر : كرهوا أن يجمعوا لكم النبوَّة والخلافة ، فتبجَّحوا على قومكم بجحاً بجحاً ، فاختارت قريش لأنفسها فأصابت ووفِّقت .

فقلت : يا أميرالمؤمنين ! إن تأذن لي في الكلام ، وتمط عني الغضب تكلَّمت .

قال : تكلَّم ، قلت : أمَّا قولك يا أميرالمؤمنين : اختارت قريش لأنفسها فأصابت ووفِّقت ، فلو أن قريشاً اختارت لأنفسها حيث اختار الله لها لكان الصواب بيدها غير مردود ولا محسود ، وأمَّا قولك : إنهم أبوا أن تكون لنا النبوَّة والخلافة ، فإن الله عزَّوجلَّ وصف قوماً بالكراهة ، فقال : {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ}(1) .

فقال عمر : هيهات والله يا ابن عباس ، قد كانت تبلغني عنك أشياء كنت أكره أن أقرَّك عليها فتزيل منزلتك مني(2) .

ولهذا يقول عمر بن الخطاب : لقد كان ـ أي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ يربع في أمره ، ولقد أراد في مرضه أن يصرِّح باسمه فمنعته من ذلك إشفاقاً وحيطة على الإسلام ، لا وربِّ هذه البنيَّة ! لا تجتمع عليه قريش أبداً ، ولو وليها لا نتفضت عليه العرب في أقطارها ، فعلم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنني علمت ما في نفسه فأمسك(3) .

هشام آل قطيط : بعد كلِّ ما طرحناه من تساؤلات ومناقشات وردود من

____________

1- سورة محمّد ، الآية : 9 .

2- تاريخ الطبري : 3/289 ، السقيفة وفدك ، الجوهري : 131 ، الكامل ، ابن الأثير : 3/62 في حوادث سنة 23 ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 12/53 .

3- شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 12/21 .


الصفحة 545

قبل سماحتكم ، إلى أين تريد أن توصلني ؟

السيِّد البدري : يا أخي ! نحن لسنا بحاجة ، إن تشيعت أم لم تتشيَّع لدينا أكثر من 300 مليون شيعي في العالم ، ولكن الواجب الشرعي يفرض عليَّ أن أبيِّن لك بالأدلّة والبراهين أين هو الحق ، فالمسلم الواثق من عقيدته لا يهاب الحوار ، ولا تخيفه المناقشات ، لماذا الخوف من الحوار ؟ فأعطيك مثالا : أنا السيِّد علي البدري ، من سكَّان بغداد ( الكرَّادة الشرقية ) ، نشأت في بيئة سنّية ، ودرجت كما درج أهلي ( الدين عندنا عادة وليس عبادة ) .

وبعد أن أنهيت دراساتي الشرعيَّة من جامعة بغداد ، وذهبت إلى الأزهر لإكمال الدراسات العليا ، فبدأت من هناك أجري مقارنات بين العقيدة السنّيّة والعقيدة الشيعيّة ، فتوصَّلت بعد بحوث مجهدة ومعاناة طويلة إلى أن اخترت مذهب أهل البيت(عليهم السلام) ، أو مذهب الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) ، أو ما يسمُّونه اليوم بالشيعة ، أو المذهب الشيعيّ ، فأعلنت عن تشيُّعي ، وكنت وكيل زعيم الطائفة الشيعيّة السيِّد أبو القاسم الخوئي في مصر ، وحتى أصبحت داعية التشيُّع في كلِّ أقطار العالم الإسلاميّ وغير الإسلاميّ .

وأنا أتكلَّم من منطق الواثق من نفسه ، حيث إني درست واطّلعت على كتب الفريقين : السنّيّ والشيعيّ ، حتى توصَّلت إلى حفظ صحيح البخاري وأرقام الصفحات المهمّة بالحوار والاحتجاج ، وغيره من الصحاح وكتب التاريخ .

كل ممنوع مرغوب

أحكي لك هذه القصَّة : عندما كنت صغيراً في العشرينات كان أحد أساتذني يحذِّرني من قراءة كتب الشيعة .