فقلت له : يا أستاذ ! ما دمتم تحذِّرونا من كتب الشيعة أسألك هذا السؤال : هذه الكتب المخيفة إمَّا أنها تحتوي على الحقيقة أو على الباطل ، فإن كانت الأولى فلماذا تحذِّرون من اتّباع الحقيقة ؟ وإمَّا على الباطل فلماذا لا تردُّون عليها ـ يا أستاذ ـ وتبيِّنوا لنا الشبهات التي فيها حتى لا نقع في الشبهات ؟
فضحك الأستاذ ، وقال لي : كان والدي يحذِّرني منها .
فقلت له : يا أستاذ ! وإلى متى نبقى على هذا الخوف والتحذير ؟
فكان الأستاذ من خلال تحذيره لي ، تولَّد عندي نزعة شديدة لقراءة هذه الكتب ، ووصلت بحمد الله تعالى إلى ما وصلت ، فأشجِّعك ـ يا أخي ـ قربة إلى الله ، وأنا رجل مريض ، وأصبحت في آخر العمر ، ولا أعرف أكمل هذه السنة أم لا ، فتابع البحث والسؤال يا بنيَّ ; لأن عمدة العلم في السؤال ، ووفَّقك الله .
وانتهت هذه الجلسة بسبب مرض السيِّد البدري .
اللقاء السابع : المناقشة في بيعة أبي بكر وحديث الثقلين
ذهبت في تمام الساعة العاشرة صباحاً إلى منزل الداعية الشيعيِّ السيِّد علي البدري ، فطرقت الباب ، ففوجئت بحرمه الموقَّرة تبلغني نبأ مرضه الشديد ، وقالت : حصل معه ألم في القلب ، وهو في مشفى المجتهد ، في قسم العناية القلبيّة المشددة .
فنزلت على الدرج بسرعة هائلة ، وقطعت الشارع ركضاً ، وأقلَّتني سيَّارة إلى مشفى المجتهد ، فدخلت إلى المشفى ، وأدعو له طول الطريق بطول العمر ; لأنه الإنسان الوحيد الذي وجدت فيه الصدق في القول والإخلاص في العمل ، رجل شيبة في الثمانينات ، ويحاور ويسافر ، ويحمل أكداس من الكتب بيده
الشريفة لينير الدرب أمام الشباب ، وسألت البوَّاب الذي يقف على باب قسم العناية القلبيّة المشدَّدة فأدخلني ، فسرت في الممرّ ، فسألت إحدى الممرِّضات عن غرفة السيِّد علي البدري ، فقالت لي : الشيخ الشيبة ؟ قلت لها : نعم ، قالت : هو في الغرفة الثالثة .
فدخلت وقبَّلت جبينه ، وقال لي : يا بنيَّ ! لقد أتيت ، فقلت له : نعم ، فقال لي : أطلب من الله أن يطيل بعمري فقط ولو سنة حتى أوضح لك كل الشبهات التي في ذهنك ، فقلت له : عمرك طويل إن شاء الله تعالى يا سماحة السيِّد .
السيِّد : هل تريد منّي أيَّ خدمة ؟ قال لي : اجلس هنا ، هذا السرير فارغ ، فجلست ، ورفع رأسه عن الوسادة .
حوار في مشفى المجتهد لمدة نصف ساعة !!
هشام آل قطيط : سماحة السيِّد الجليل ! أستطيع أن أتكلَّم معك وأسألك ؟
السيِّد البدري : اسأل يا أخي ! ما دام فيَّ عرق ينبض سأردُّ عليك ، ويساعدني الإمام علي والزهراء (عليهما السلام) ، والحجّة القائم الإمام المهدي عجَّل الله فرجه الشريف .
هشام آل قطيط : ألم يكن هناك إجماع وشورى على خلافة سيِّدنا أبي بكر بعد النبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ؟
السيِّد البدري : أرجو أن تبيِّن لي أدلّتك على صحة الإجماع والشورى .
هشام آل قطيط : أولا : إجماع الأمّة على خلافته .
ثانياً : كبر سنّه وشيخوخته ، والأمّة لا تقبل أن يكون الخليفة من هو أصغر سنّاً مثل الإمام علي ( كرَّم الله وجهه ) وأنتم لو أنصفتم ـ سماحة السيِّد ـ لأعطيتم
الحقَّ للمسلمين ، فلا يجوز عقلا أن يتقدَّم في هذا الأمر العظيم شابٌّ حدث السن مع وجود شيوخ قومه وكبراء أهله ، وإن تأخَّر سيِّدنا علي ( كرَّم الله وجهه ) لا يكون نقصاً له بل كمالا له ، وإن أفضليته على أقرانه ثابتة ولا ننكرها .
ثمَّ إنني أسمع حديثاً دائماً يردِّده علماؤنا السنّة ; قول سيِّدنا عمر : لا تجتمع النبوَّة والملك في أهل بيت واحد .
هذه أسباب تقدُّم أبي بكر وتأخُّر عليٍّ (عليه السلام) في أمر الخلافة ( ولا تجتمع أمّتي على ضلال أو على خطأ ) .
السيِّد البدري : إن أدلَّتك ـ يا أخي ـ تضحك الثكلى ، وإن مثلك كمثل الذي يغمض عينيه فيصبح كالأعمى ، فلا يرى الشمس الطالعة في الضحى ، وينكر ضوء النهار إذا تجلَّى ، فافتح عينيك ، وانظر إلى منار الهدى ، واسلك طريق الحقّ ، ولا تتّبع الهوى ، ولا تغرّنّك الدنيا ، وإن الآخرة خير وأبقى .
وأرجو منك أن تقرأ كتب الشيعة بدقّة ، وتعمِّق الفكر في أدلّتنا وبراهيننا ، أقول هذا لأني فتَّشت أسواق القاهرة والحجاز والخليج والأردن ، وأسواق الشام وأندونيسيا وتنزانيا وبومباي ، وغيرها من البلاد الإسلاميّة التي غالب سكَّانها أهل السنة ، أو حكَّامها من أهل السنّة والجماعة ، فما وجدت كتب الشيعة في مكتباتها ، فكأنكم ـ مع الأسف ـ آليتم أن لا تطالعوا كتب الشيعة ، فلا أدري هل حكمتم عليها بأنها كتب ضلال فحرَّمتم قراءتها ؟!!
وإنّي دخلت بيوت كثير من إخواننا أهل السنّة ، علماء وغير علماء ، وخاصة الذين يهوون مطالعة الكتب ، ويملكون مكتبات شخصيّة في بيوتهم ، فوجدت فيها كتب مختلفة حتى كتب غير المسلمين من الشرقيّين والغربيّين ، ولم أجد كتاباً واحداً من كتب الشيعة !!
بينما نحن في بلادنا نطبع كتب السنّة وننشرها ، وندعو أهل العلم والمثَّقفين من شبابنا لمطالعتها ، فهذه مدينة النجف الأشرف ، وكربلاء المقدَّسة في العراق ، وهذه مدينة مشهد ، ومدينة قم المقدسة ، وكذلك شيراز وطهران وإصفهان ، التي فيها حوزاتنا العلميّة ومراجعنا العظام ، ولا أجد مكتبة واحدة من مكتباتنا العامّة والخاصّة تخلو من صحاحكم وكتبكم ومسانيدكم وتواريخكم وتفاسيركم ، لا لحاجة منّا إليها ; لأن مدرسة أهل البيت(عليهم السلام)غنيّة ، والأخبار المرويَّة عن العترة الطاهرة تناولت جميع جوانب الحياة ، وكل ما يحتاجه الإنسان في أمر الدين والدنيا .
وعلاوة على ذلك ألفت نظرك إلى مسألة مهمّة جدّاً ، خذها بعين الاعتبار يا أخي ، أعطني دليلا واحداً أن هناك عالم شيعي انتقل من التشيُّع إلى التسنُّن ، لا يوجد .. أتحدَّاك ، بينما العشرات والمئات من علماء السنة ومثقَّفيهم انتقلوا من التسنُّن إلى التشيُّع .. لماذا ؟!! فكِّر في ذلك وأنصف .
لا إجماع على خلافة أبي بكر ..
ويتابع سماحة السيِّد إجابته قائلا : أيُّها الأخ ! لو فكَّرت قليلا وأنصفت ، ثمَّ نظرت نظرة الباحث المدقِّق المتأمِّل بأحداث السقيفة وما نجم منها لأذعنت أن خلافة أبي بكر ما كانت بموافقة أهل الحلِّ والعقد ، ولم يحصل الإجماع عليها ، ولو أنك تدبَّرت قول عمر بن الخطاب في صحيح البخاري ـ أصدق صحيح عندكم ـ ما قاله بعد هذا الإجماع والبيعة في السقيفة قوله : إنّما كانت بيعة أبي بكر
فلتة ، وتمَّت ، ولكن الله وقى شرَّها(1) ، إلى أن قال : من بايع منكم رجلا من غير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو ، ولا الذي بايعه تغرَّة أن يقتلا ، إلى قوله : إلاَّ أن الأنصار خالفوا ، واجتمعوا بأسرهم في سقيفة بني ساعدة ، وخالف عنّا علي (عليه السلام)والزبير ومن معهما .
وأزيدك أدلّة أخرى يا أستاذ ، فالإجماع الذي تزعمه نفاه كثير من علمائكم ، منهم : صاحب كتاب ( المواقف ) ، والفخر الرازي ، وجلال الدين السيوطي ، وابن أبي الحديد ، والطبري ، والبخاري ، ومسلم بن الحجاج ، وغيرهم .
وقد ذكر العسقلاني ، والبلاذري في تأريخه ، وابن عبد البرّ في الاستيعاب ، وغير هؤلاء أيضاً ، ذكروا : أن سعد بن عبادة وطائفة من الخزرج وجماعة من قريش ما بايعوا أبا بكر ، وثمانية عشر من كبار الصحابة رفضوا أيضاً أن يبايعوه ، وهم شيعة علي بن أبي طالب (عليه السلام) وأنصاره ، ذكروا أسماءهم كمايلي :
1 ـ سلمان الفارسي 2 ـ أبو ذر الغفاري .
3 ـ المقداد بن الأسود الكندي . 4 ـ أُبي بن كعب .
5 ـ عمار بن ياسر . 6 ـ خالد بن سعيد بن العاص .
7 ـ بريدة الأسلمي . 8 ـ خزيمة بن ثابت ذوالشهادتين .
9 ـ أبو الهيثم بن التيهان . 10 ـ سهل بن حنيف .
____________
1- صحيح البخاري : 8/26 ، المعيار والموازنة ، أبو جعفر الإسكافي : 38 ، المصنّف ، ابن أبي شيبة : 8/615 ـ 616 ، تأريخ اليعقوبي : 2/158 ، كتاب الثقات ، ابن حبان : 2/156 ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 9/31 ، مجمع الزوائد ، الهيثمي : 6/5 .
11 ـ عثمان بن حنيف . 12 ـ أبو أيوب الأنصاري .
13 ـ جابر بن عبد الله الأنصاري . 14 ـ حذيفة بن اليمان .
15 ـ سعد بن عبادة . 16 ـ قيس بن سعد .
17 ـ عبد الله بن عبّاس . 18 ـ زيد بن أرقم .
وذكر اليعقوبي في تأريخه فقال : تخلَّف قوم من المهاجرين والأنصار عن بيعة أبي بكر ، ومالوا مع علي بن أبي طالب ، منهم : العباس بن عبد المطلب ، والفضل بن العباس ، والزبير بن العوام ، وخالد بن سعيد بن العاص ، والمقداد ، وسلمان ، وأبو ذر الغفاري ، وعمار بن ياسر ، والبراء بن عازب ، وأُبي بن كعب(1) .
أقول : ألم يكن هؤلاء من صفوة أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، ومن المقرَّبين إليه والمكرَّمين لديه ؟! فلماذا لم يشاورهم ؟ فإن لم يكن هؤلاء الأخيار من أهل الحلِّ والعقد ، ومن ذوي البصيرة والرأي في المشورة والاختيار ، فمن يكون إذن ؟!! وإذا لم يعبأ برأي أولئك الذين كانوا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يشاورهم الأمور ويعتمد عليهم ، فبرأي من يعبأ ؟ ورأي من يكون ميزاناً ومعياراً لإبرام الأمور المهمّة ، وحسم قضايا الأمة ؟!
مخالفة أهل البيت(عليهم السلام) لخلافة أبي بكر
ويتابع السيِّد البدري استدلاله قائلا : أوَّل من خالف أبا بكر هم أهل البيت(عليهم السلام) ، وهم بإجماع الأمة أفضل الصحابة ، وهم في الصفّ الأول والمتقدِّمين
____________
1- تاريخ اليعقوبي : 2/124 .
على أهل الحلّ والعقد ، وإن إجماع أهل البيت(عليهم السلام)حجّة لازمة على الأمّة ، بدليل قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) : إني تارك فيكم الثقلين : كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، ما إن تمسَّكتم بهما لن تضلُّوا بعدي أبداً(1) .
هشام آل قطيط : عفواً ، عفواً سماحة السيِّد ! أنت ذكرت : إني تارك فيكم الثقلين : كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، لماذا لم تذكر حديث : كتاب الله وسنّة نبيِّه ؟ من أين أتيت بحديث : عترتي أهل بيتي ؟
السيِّد البدري : أعطني دليلا على صحّة ما قلت أيُّها الأستاذ .
هشام آل قطيط : وقفت محتاراً عن عدم الدليل ( فاقد الشيء لا يعطيه ) ، إن شاء الله في جلسة أخرى سأحضر الدليل .
السيِّد البدري : لا تعذِّب نفسك يا أخي ، راجع : مسند أحمد بن حنبل ، الجزء الثالث : ص17 ، وأخرجه أيضاً في نفس المصدر عن أبي سعيد الخدري ص26 ، وص59 عن أبي سعيد الخدري حديثاً آخر ، وأخرج في الجزء الرابع ص267 عن زيد بن أرقم حديثاً آخر ، وفي صحيح مسلم ذكره في الجزء الثاني ص238 .
وأمَّا حديث : كتاب الله وسنَّة نبيِّه ، رواه الإمام مالك في موطَّئه ، الجزء الثاني : ص899 ، ط دار إحياء التراث العربي ، تحقيق الدكتور محمّد فؤاد عبد الباقي المصري . وصيغة الحديث على الشكل التالي : حدَّثنا مالك أنه بلغه : ما إن تمسَّكتم بأمرين : كتاب الله وسنّة نبيِّه .
فهذا الحديث عند علماء الجرح والتعديل عندكم والحفَّاظ حديث مرسل
____________
1- تقدَّمت تخريجاته .
ولا يؤخذ به ، فاشتهر عندكم ( وكم من شهير ليس له أصل ) والصحاح الحاكمة بوجوب التمسُّك بالثقلين متواترة ، وطرقها عن بضع وعشرين صحابيّاً متظافرة ، وقد صدع بها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في مواقف له شتّى : تارة يوم غدير خمّ ، وتارة يوم عرفة في حجّة الوداع ، وتارة بعد انصرافه من الطائف ، ومرَّة على منبره في المدينة ، وأخرى في حجرته المباركة في مرضه ، والحجرة غاصَّة بأصحابه ، إذ قال : أيُّها الناس ! يوشك أن أقبض قبضاً سريعاً فينطلق بي ، وقد قدَّمت إليكم القول معذرة إليكم ، ألا إنّي مخلِّف فيكم كتاب الله عزَّوجلَّ وعترتي أهل بيتي ، ثمَّ أخذ بيد علي (عليه السلام) فرفعها ، فقال : هذا علي مع القرآن ، والقرآن مع علي ، لا يفترقان حتى يردا عليَّ الحوض .. الحديث(1) .
ثمَّ قال : أخرجه الطبراني كما في أربعين الأربعين ، وكتاب ( إحياء الميت في فضائل أهل البيت(عليهم السلام) ) للشيخ جلال الدين السيوطي .
وانتهى الحوار في مشفى المجتهد بدمشق .
اللقاء الثامن : تأجيل المناظرة
ذهبت إلى منزل السيِّد البدري صباحاً ، وهنَّأته بالسلامة بعد خروجه من المشفى ، وقال لي : الآن عندي موعد مع جماعة من لبنان ، وبعد صلاة المغرب تفضَّل ـ يا أخي ـ لنكمل البحث والحوار .
____________
1- مناقب أهل البيت(عليهم السلام) ، الشيرواني : 174 ، ينابيع المودة ، القندوزي الحنفي : 1/124 ح56 و2/403 ح54 ، الصواعق المحرقة ، ابن حجر : 124 ط المحمدية بمصر و75 ط الميمنية .
اللقاء التاسع : مسألة كبر السنّ في الخليفة ، وظلامة علي وفاطمة (عليهما السلام)
وبعد صلاة المغرب حضرت لإكمال البحث والحوار .
مناقشة الأدلّة وتفنيدها
السيِّد البدري : أمَّا دليلك كبر سنّ الخليفة أبي بكر ، فقدَّموه لأنه أكبر سنّاً من علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، صحيح أن أصحاب السقيفة استدلُّوا بهذا الدليل لإقناع الإمام علي (عليه السلام) ليبايع أبا بكر(1) ، ولكنه دليل ضعيف ، وكلام سخيف ، فلو كان كبر السنّ ملحوظاً في المنصوب للخلافة فقد كان في المسلمين والصحابة من هو أكبر سنّاً من أبي بكر ، حتى إن والده أبا قحافة كان حيّاً في ذلك اليوم ، فلم أخَّروه وقدَّموا ابنه ؟!!
هشام آل قطيط : عفواً سماحة السيّد ! إن الملاحظ عندنا والمعروف هو كبر السنّ والسابقة في الإسلام ، وقد كان سيِّدنا أبو بكر محنَّكاً في الأمور ، ومحبوباً عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، بينما سيِّدنا علي ( كرَّم الله وجهه ) كان حدث السنّ، وغير محنَّك في مجرَّبات الأمور .
السيِّد البدري : إذا كان كذلك ـ يا أستاذ ـ فلماذا قدَّم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)عليّاً (عليه السلام) في كثير من الأمور والقضايا ؟!
____________
1- قال ابن قتيبة في الإمامة والسياسة 1/29 : قال أبو عبيدة بن الجرَّاح لعليٍّ كرَّم الله وجهه : يا بن عمّ ! إنك حديث السنّ ، وهؤلاء مشيخة قومك ، ليس لك مثل تجربتهم ومعرفتهم بالأمور ، ولا أرى أبا بكر إلاَّ أقوى على هذا الأمر منك ، وأشدّ احتمالا واستطلاعاً ، فسلِّم لأبي بكر هذا الأمر ، فإنك إن تعش ويطل بك بقاء فأنت بهذا الأمر خليق ، وبه حقيق ، في فضلك ودينك ، وعلمك وفهمك ، وسابقتك ، ونسبك وصهرك .
أولا : أروي لك هذه النكتة التي وردت في شرح ابن أبي الحديد ، قال : قيل لأبي قحافة والد الخليفة أبي بكر يوم ولي الأمر ابنه : قد ولي ابنك الخلافة ، فقرأ : {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء}(1) ، ثمَّ قال : لم ولَّوه ؟ قالوا : لسنِّه ! قال : أنا أسنُّ منه !!(2) .
ثانياً : في غزوة تبوك ، حينما عزم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يخرج مع المسلمين إلى تبوك ، وكان يخشى تحرُّك المنافقين في المدينة وتخريبهم خلَّف عليّاً (عليه السلام)ليدير أمور المدينة المنوَّرة ، دينيّاً وسياسيّاً واجتماعيّاً ، وقال له : أنت خليفتي في أهل بيتي ، ودار هجرتي ، وأنت منّي بمنزلة هارون من موسى ، إلاَّ أنه لا نبيَّ بعدي(3) .
ثالثاً : تبليغ آيات من سورة براءة لأهل مكة حين كانوا مشركين ، فقد عيَّن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أبا بكر لهذه المهمّة وأرسله إلى مكة ، وقطع مسافة نحوها ، ولكنَّ الله عزَّوجلَّ أمر النبيَّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يعزل أبا بكر ويعيِّن عليّاً (عليه السلام) لتبليغ الرسالة ، ففعل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأرسل عليّاً (عليه السلام) ، فأخذ الرسالة من أبي بكر ، فرجع إلى المدينة ، وذهب علي (عليه السلام) إلى مكة ، فوقف في الملأ العام من قريش ، ورفع صوته بتلاوة الآيات من سورة براءة ، وأدَّى تبليغ الرسالة ، ونفَّذ الأمر ، ورجع إلى المدينة(4) .
____________
1- سورة آل عمران ، الآية : 26 . 2- شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 1/222 . 3- الإرشاد ، المفيد : 1/156 ، بحار الأنوار ، المجلسي : 21/208 ، مسند أحمد بن حنبل : 1/331 ، كتاب السنة ، ابن أبي عاصم : 551 ح1188 ، المعجم الكبير ، الطبراني : 12/78 ، المناقب ، الموفق الخوارزمي : 126 ـ 127 ح140 ، تأريخ دمشق ، ابن عساكر : 42/102 ، الإصابة ، ابن حجر : 4/467 ، البداية والنهاية ، ابن كثير : 7/374 ، كنز العمال ، المتقي الهندي : 11/606 ح32931 . 4- قال ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة : 6/45 و12/46 : روى الزبير بن بكار في كتاب ( الموفقيات ) عن عبدالله بن عباس ، قال : إني لأماشي عمر بن الخطاب في سكَّة من سكك المدينة ، إذ قال لي : يا ابن عباس ! ما أرى صاحبك إلاَّ مظلوماً ! فقلت في نفسي : والله لا يسبقني بها ، فقلت : يا أميرالمؤمنين ! فاردد إليه ظلامته ، فانتزع يده من يدي ، ومضى يهمهم ساعة ، ثمَّ وقف فلحقته ، فقال : يا ابن عباس ! ما أظنُّ منعهم عنه إلاَّ أنه استصغره قومه ! فقلت في نفسي : هذه شرٌّ من الأولى ! فقلت : والله ما استصغره الله ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) حين أمراه أن يأخذ براءة من صاحبك ! فأعرض عني وأسرع ، فرجعت عنه . وروي أيضاً : في السقيفة وفدك ، الجوهري : 72 ، والرياض النضرة ، الطبري : 2/173 .
رابعاً : أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) بعثه إلى اليمن ليهدي أهلها إلى الإسلام ، ويبلغهم الدين ، ويقضي بين المتخاصمين ، وقد أدَّى هذا الأمر على أحسن وجه .
هشام آل قطيط : وما جوابكم ـ سماحة السيِّد ـ عن قول سيِّدنا عمر بأن النبوَّة والحكم لا تجتمعان في أهل بيت واحد ؟
السيِّد البدري : أيُّها الأستاذ ! قول عمر باطل ، وزيفه واضح ، بدليل قوله تعالى : {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكاً عَظِيماً}(1) .
فهذا الكلام إن كان ينسب إلى عمر فهو دليل على عدم إحاطته بالآيات القرآنيّة ومفاهيمها ، وإن كان عمر يرويه عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فهو حديث مجعول ;لأنه مخالف لكتاب الله العظيم .
ثمَّ ـ أيُّها الأخ المحاور ـ إن خلافة النبوَّة عندنا كخلافة هارون لأخيه موسى بن عمران ، حيث قال سبحانه وتعالى في كتابه : {وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ}(2) ، فإن يكن عندكم أنه يحقُّ للمسلم أن ينفي خلافة
____________
1- سورة النساء ، الآية : 54 . 2- سورة الأعراف ، الآية : 142 .
هارون لموسى ، فإنه يحقُّ له أيضاً عزل علي (عليه السلام) من خلافة خاتم النبيين (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فكما أن النبوَّة والخلافة اجتمعتا في أهل بيت عمران والد موسى وهارون كما ينصُّ القرآن فيه ، كذلك اجتمعتا للنبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلي (عليه السلام) في بيت عبد المطلب بالنصوص الكثيرة .
هشام آل قطيط : سماحة السيِّد ! إن الكلام والنقاش حول هذه المواضيع لا يزيد المسلمين إلاَّ تنافراً وحقداً وابتعاداً ، كيفما كان الأمر فنحن ما كنّا في ذلك اليوم ، ولم نحضر السقيفة حتى نلمس الأمر ، ونتحسَّس الأحداث ، فأقول لك : {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ}(1) ، فنحن لا نحاسب عنهم إن أخطأوا .
السيِّد البدري : هذا جواب من لا يملك الحجّة والدليل الشرعيّ ، فيقول : {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ} يجب على كل مسلم أن يتبع الحق ، لا أنه يستسلم للأمر الواقع فكم من ضلال وباطل قائم في الدنيا ، فهل يجوز للمسلم أن يتبعه ويتقبَّله ثمَّ يقول : إنه أمر واقع ، وليس لنا إلاَّ أن نستسلم للأمر الواقع ؟! فالإسلام دين تحقيق لا دين تقليد ، قال سبحانه وتعالى : {فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ}(2) ، فهل قول عمر أحسن أم قول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ؟! فهل يجوز للمسلم أن يترك هذه النصوص الجليَّة والأحاديث النبويَّة المرويَّة عن صحاحكم وتواريخكم ؟
هشام آل قطيط : لقد كرَّرت الكلام بأن عليّاً كرَّم الله وجهه وبني هاشم وكثير من الصحابة لم يرضوا بخلافة أبي بكر ولم يبايعوه ، ونحن نرى التواريخ
____________
1- سورة البقرة ، الآية : 134 . 2- سورة الزمر ، الآية : 17 ـ 18 .
كلها اتّفقت على أن سيِّدنا عليّاً وبني هاشم وجميع أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)بايعوا أبا بكر .
السيِّد البدري : نعم بايعوا ، ولكن أسألك كيف تمَّت هذه البيعة ؟ أما قرأت في كتب التأريخ والحديث أن عليّاً (عليه السلام) وبني هاشم وكثيراً من كبار الصحابة ما بايعوا إلاَّ بعد ستة أشهر بالتهديد والجبر ، إذ جردوا السيف على رأس الإمام علي (عليه السلام) ، وهدَّدوه بالقتل إن لم يبايع !
هشام آل قطيط : إني أعجب من سماحتك أيُّها السيِّد ، كيف تتفوَّه بهذا الكلام ؟! ما هو إلاَّ من أساطير عوام الشيعة وجهلتهم ، وقد أكَّد المؤرِّخون أن سيِّدنا عليّاً ( كرَّم الله وجهه ) بايع أبا بكر في لحظة استلامه للخلافة طوعاً ورغبة ، وأعلن موافقته لخلافة سيِّدنا أبي بكر .
السيِّد البدري : ألم تقرأ كتب الصحاح والتاريخ أيُّها المحاور ، إرجع إلى صحيح البخاري : 3 ـ 37 باب غزوة خيبر لترى ما ترى .. راجع صحيح مسلم : 5 ـ 154 باب قول النبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) : لا نورث ، وراجع كتاب الإمامة والسياسة : ص14 ، وراجع مروج الذهب للمسعودي : 1 ـ 414 ، وابن أعثم الكوفي في الفتوح ، والحميدي في الجمع بين الصحيحين ، كل هؤلاء أخرجوا أن عليّاً (عليه السلام)وبني هاشم لم يبايعوا إلاَّ بعد ستة أشهر .
وروى ابن أبي الحديد المعتزلي في شرح نهج البلاغة عن الصحيحين ، عن الزهري ، عن عائشة : فهجرته ـ يعني أبا بكر ـ فاطمة ولم تكلِّمه في ذلك حتى ماتت ، فدفنها عليٌّ ليلا ، ولم يؤذن بها أبا بكر ، وفي الخبر : فمكثت فاطمة (عليها السلام)ستة أشهر ثمَّ توفِّيت ، فقال رجل للزهري : فلم يبايعه عليٌّ ستة أشهر ؟! قال : ولا
أحد من بني هاشم ، حتى بايعه علي(1) .
وذكر ابن قتيبة في الإمامة والسياسة : ص 13(2) ، تحت عنوان : ( كيف كانت بيعة علي بن أبي طالب كرَّم الله وجهه ) قال : وإن أبا بكر تفقَّد قوماً تخلَّفوا عن بيعته عند علي ( كرَّم الله وجهه ) فبعث إليهم عمر فجاء فناداهم وهم في دار عليٍّ ، فأبوا أن يخرجوا ، فدعا بالحطب وقال : والذي نفس عمر بيده ! لتخرجن أو لأحرقها على من فيها ! فقيل له : يا أبا حفص ! إن فيها فاطمة ! فقال : وإن ... وبعد عدّة أسطر في نفس المصدر السابق له ، يقول : فدقُّوا الباب ، فلمَّا سمعت أصواتهم نادت بأعلى صوتها : يا أبت يا رسول الله ! ماذا لقينا بعدك من ابن الخطاب وابن أبي قحافة ؟ فلمَّا سمع القوم صوتها وبكاءها انصرفوا باكين .
وبقي عمر ومعه قوم فأخرجوا عليّاً ، فمضوا به إلى أبي بكر ، فقالوا له : بايع ، فقال : إن أنا لم أبايع فمه ؟! قالوا : إذن والله الذي لا إله إلاَّ هو ! نضرب عنقك ! قال : إذن تقتلون عبد الله وأخا رسوله ، قال عمر : أمَّا عبد الله فنعم ، وأمَّا أخو رسوله فلا ، وأبو بكر ساكت لا يتكلَّم ، فقال له عمر : ألا تأمر فيه بأمرك ؟! فقال : لا أكرهه على شيء ما كانت فاطمة إلى جنبه .
فلحق عليٌّ بقبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، يصيح ويبكي وينادي : {ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي}(3)(4) .
____________
1- راجع أيضاً : السنن الكبرى ، البيهقي : 6/300 ، المصنّف ، عبد الرزاق الصنعاني : 5/472 ح9774 ، تاريخ الطبري : 2/448 ، فتح الباري ، ابن حجر : 7/379 ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 6/46 . 2- وفي الطبعة الأولى : ص30 وفي طبعة مؤسَّسة الحلبي : ص19 . 3- سورة الأعراف ، الآية : 150 . 4- قال قطب الدين اليونيني : وحكى لي نجم الدين موسى الشقراوي ما معناه : أن العزّ الضرير ـ وكان العز يصرِّح بتفضيل علي (عليه السلام) على الثلاثة الخلفاء ـ حدَّثه أنه كان في مجلس سيف الدين الآمدي ، وهناك جماعة من العلماء منهم الشيخ عزّ الدين بن عبد السلام ، فجرى البحث في الإمامة ، ومن الخليفة بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ؟ فقال بعض الحاضرين : قد روي أن علي بن أبي طالب (عليه السلام) بايع لأبي بكر مكرهاً ، وأن أبا عبيدة بن الجراح قال له : بايع وإلاَّ قتلت ، فالتفت علي (عليه السلام) إلى قبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقال : (ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي) . ( ذيل مرآة الزمان ، قطب الدين اليونيني ، المجلّد الأول : ج2 ص169 ) .
واعلم ـ أيُّها الأخ المحاور ـ أن مسؤوليتك خطيرة تجاه الجهلة والعوام ; لأنهم يأخذون منكم أنتم المثقَّفون ـ وأيضاً العلماء ـ ولقد قيل : إذا فسد العالِم فسد العالَم ، أنتم الشباب الواعي المثقَّف يجب عليكم أن تقرؤوا صحاحكم وتاريخكم ، ولا تتّبعون أسلافكم المتعصِّبين وأتباعهم ، فلِم تصدِّقون كل ما تسمعونه عن الشيعة المظلومين عبر التاريخ ؟ بينما كل الأخبار التي تتحدَّث بها الشيعة هي من كتبكم ، فراجع واقرأ بعين الإنصاف ; لأنك مسؤول غداً أمام الله عن هذه الأدلّة ، ولا تقل إن أبي وجدّي كانوا كذا ... الدين ليس بالوراثة ، والدين ليس عادات وتقاليد ورثناها عن آبائنا وأجدادنا ، فالدين علم ، وفكر ، ومنطق ، واحتجاج ، وبيِّنة .
حتى لو اصطدمت مع والدك ، حتى لو اصطدمت مع أستاذك ، أو مع شيخك الذي تصلّي خلفه ، أو اختلفت فعليك اتّباع البيِّنة والحجَّة والبرهان ، والله الموفِّق إلى سبيل الرشاد .
وثائق تاريخيَّة
لقد نقل لنا المحدِّثون والمؤرِّخون هذه الحوادث الأليمة في التاريخ ، وإليك ـ أيُّها المحاور ـ بعض الوثائق التاريخية التي تكون عندكم محلَّ الوثوق
والاعتبار .
1 ـ غضب السيِّدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) ، ويذكره البخاري في صحيحه قائلا : ( فوجدت فاطمة (عليها السلام) على أبي بكر في ذلك ، فهجرته فلم تكلَّمه حتى توفِّيت )(1) ، وأخذنا بحديث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، ( فاطمة سيِّدة نساء العالمين )(2) .
فنستنتج بأن إمام زمان فاطمة (عليها السلام) هو علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، الواجب الطاعة ، وهو الخليفة بعد رسول الأمَّة ، ألم يبادر إلى ذهنك ـ أيُّها المحاور ـ أين قبر فاطمة ؟ فخذ الجواب من شاعر أهل البيت(عليهم السلام)الأزري :
فَلأَيِّ الأُمُورِ تُدْفَنُ لَيْلا | بَضْعَةُ الْمُصْطَفَى وَيُعْفَى ثَرَاهَا |
فَمَضَتْ وَهيَ أَعْظَمُ الناسِ وَجْداً | في فَمِ الدهرِ غُصَّةٌ مِنْ جَوَاهَا |
وَثَوَتْ لاَ يَرَى لَهَا النّاسُ مثوىً | أيُّ قُدّس يَضُمُّهُ مَثْوَاها(3) |
ثمَّ أُضيف لك ـ أيُّها الأخ ـ أنهم اغتصبوا حقَّ فاطمة (عليها السلام) ، واحتجُّوا عليها بحديث : النبيُّ لا يورِّث .
المحاور : عفواً سماحة السيِّد ! : النبيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : نحن معاشر الأنبياء لا نوِّرث ، فالوراثة هي العلم والحكمة .
____________
1- صحيح البخاري : 5/82 و8/3 ، صحيح مسلم : 5/154 ، السنن الكبرى ، البيهقي : 6/300 ، المصنّف ، عبد الرزاق الصنعاني : 5/472 ح9774 ، صحيح ابن حبان : 11/153 ، تأريخ المدينة ، ابن شبة : 1/196 . 2- السنن الكبرى ، النسائي : 4/252 ، ح7078 ، المصنّف ، ابن أبي شيبة : 7/527 ح5 ، تأريخ دمشق ، ابن عساكر : 42/134 ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 10/265 ، أسد الغابة ، ابن الأثير : 4/16 ، كنز العمال ، المتقي الهندي : 12/110 ح 34233 ، فيض القدير ، المناوي : 3/139 ، الدرّ المنثور ، السيوطي : 2/23 ، ذخائر العقبى ، أحمد بن عبدالله الطبري : 43 . 3- الأزريّة ، الشيخ الأزري : 143 .
السيِّد البدري : أولا : هذا الحديث هو رواية آحاد ، وتفرَّد به الخليفة أبو بكر ثمَّ قال الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) : ( ستكثر من بعدي الكذَّابة )(1) ( فاعرضوا كلامنا على القرآن ، فإن وافق القرآن فخذوا به ، وإن خالف القرآن فاضربوا به عرض الحائط )(2) فليكن رجوعنا إلى الميزان وهو القرآن ، لنرى هل هذا الحديث الذي استشهدت به يخالف القرآن أم يوافقه .
الزهراء (عليها السلام) تخاطب الخليفة أبابكر
فاسمع قوله تعالى : {وَوَرِثَ سُلَيَْمانُ دَاوُودَ}(3) ، فإن قلت لي : إن الميراث المطلوب في هذه الآية هو العلم والحكمة فاسمع قول الزهراء (عليها السلام) في خطبتها
____________
1- روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : أيُّها الناس ! قد كثرت عليَّ الكذَّابة . راجع : الكافي ، الكليني : 1/62 ح1 ، تحف العقول ، ابن شعبة الحراني : 193 . (صلى الله عليه وآله وسلم) 2- روى الشيخ الطبرسي عليه الرحمة في كتاب الاحتجاج : 2/246 قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)في حجّة الوداع : قد كثرت عليَّ الكذّابة وستكثر بعدي ، فمن كذب عليَّ متعمِّداً فليتبوَّأ مقعده من النار ، فإذا أتاكم الحديث عنّي فاعرضوه على كتاب الله وسنّتي ، فما وافق كتاب الله وسنّتي فخذوا به ، وما خالف كتاب الله وسنّتي فلا تأخذوا به . وروى الشيخ الطبرسي عليه الرحمة في تفسير مجمع البيان 1/39 قال : قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : إذا جاءكم عنّي حديث فاعرضوه على كتاب الله ، فما وافقه فاقبلوه ، وما خالفه فاضربوا به عرض الحائط . وروى الشيخ الطوسي عليه الرحمة في الاستبصار : 1/190 ح9668 : وقد روي عنهم(عليهم السلام) أنهم قالوا : إذا جاءكم عنّا حديثان فاعرضوهما على كتاب الله ، فما وافق كتاب الله فخذوه ، وما خالفه فاطرحوه . وروى العامّة أيضاً عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : ما أتاكم عنّي فاعرضوه على كتاب الله ، فما وافق كتاب الله فهو منّي ، وما خالفه فليس منّي . راجع : أحكام القرآن ، الجصاص : 1/629 ، المحصول ، الرازي : 4/438 . 3- سورة النمل ، الآية : 16 .
المشهورة للخليفة أبي بكر : يا ابن أبي قحافة ! أفي كتاب الله أن ترث أباك ولا أرث أبي ؟ لقد جئت شيئاً فريّاً !! أفعلى عمد تركتم كتاب الله ، ونبذتموه وراء ظهوركم ؟ إذ يقول : {وَوَرِثَ سُلَيَْمانُ دَاوُودَ} وقال فيما اقتصّ من خبر يحيى بن زكريا إذ قال : {فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيّاً * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ}(1) ، وقال : {وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْض فِي كِتَابِ اللّهِ}(2) ، وقال : {يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ}(3) ، وقال : {إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ}(4) ، وزعمتم أن لا حظوة لي ، ولا إرث من أبي ، ولا رحم بيننا ، أفخصَّكم الله بآية أخرج أبي منها ؟ أم تقولون : أهل ملّتين لا يتوارثان ؟ أو لست أنا وأبي من ملّة واحدة ؟ أم أنتم أعلم بخصوص القرآن وعمومه من أبي وابن عمّي ؟! فدونكها مخطومة مرحولة ، تلقاك يوم حشرك ، فنعم الحكم الله ، والزعيم محمّد ، والموعد القيامة ، وعند الساعة يخسر المبطلون ، ولا ينفعكم إذ تندمون و{لِّكُلِّ نَبَإ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ}(5) {مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ}(6) . الخطبة(7) .
ألم يكفِك جواباً قول الزهراء (عليها السلام) ؟
____________
1- سورة مريم ، الآية : 5 ـ 6 . 2- سورة الأنفال ، الآية : 75 . 3- سورة النساء ، الآية : 11 . 4- سورة البقرة ، الآية : 180 . 5- سورة الأنعام ، الآية : 67 . 6- سورة هود ، الآية : 39 . 7- بلاغات النساء ، ابن طيفور : 14 ، السقيفة وفدك ، الجوهري : 101 ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 16/212 ، جواهر المطالب ، ابن الدمشقي : 160 ـ 161 .
المحاور : سماحة السيِّد ! الكلام قويٌّ وبليغ ، ولكن أين دليل وسند هذه الخطبة ؟
السيِّد البدري : راجع نهج البلاغة ، شرح ابن أبي الحديد المعتزلي : الجزء الرابع ، ص193 ، وبلاغات النساء لابن أبي طيفور .
الإمام علي (عليه السلام) يذكر فدك في خطبته .
السيِّد البدري يتابع الحديث .. ينقل لنا كلاماً للإمام علي (عليه السلام) في نهج البلاغة بمناسبة أرض فدك : ( .. فو الله ما كنزت من دنياكم تبراً ، ولا ادّخرت من غنائمها وفراً ، ولا حزت من أرضها شبراً ، بلى كانت في أيدينا فدك من كلِّ ما أظلَّته السماء ، فشحَّت عليها نفوس قوم ، وسخت عنها نفوس قوم آخرين ، ونعم الحكم الله .. )(1) .
فهذا كلام الإمام علي (عليه السلام) ، يقول : ( ونعم الحكم الله ) ومعناه : أني سوف أطالبهم حقّي يوم الحساب .. يوم لا تظلم نفس شيئاً .. والحكم يومئذ لله .
الزهراء (عليها السلام) تشكو اهتضامها لأبيها
وأمَّآ سيِّدتنا فاطمة (عليها السلام) فقد قالت لأبي بكر وعمر : فإني أشهد الله وملائكته أنّكما أسخطتماني فما أرضيتماني ، ولئن لقيت النبيَّ (عليها السلام) لأشكونَّكما إليه . الإمامة والسياسة لابن قتيبة(2) عليك مراجعته .
وكما نقل بعض المؤرِّخين كانت في أواخر أيَّام حياتها تخرج إلى قبر أبيها
____________
1- نهج البلاغة ، خطب الإمام علي (عليه السلام) : 3/70 ـ 71 ، كتاب رقم : 45 ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 16/208 . 2- الإمامة والسياسة ، ابن قتيبة : 1/31 .
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وهناك تشكو اهتضامها وتقول : أبتاه ! أمسينا بعدك من المستضعفين ، وأصبحت الناس عنّا معرضين !! ثمَّ تأخذ تراب القبر فتشمُّه وتنشد :
مَاذَا علَى مَنْ شَمَّ تُرْبَةَ أَحْمَد | أَنْ لاَ يَشَمَّ مَدَى الزَّمَان غَوَالِيَا |
صُبَّتْ عَلَيَّ مَصَائِبٌ لَوْ أَنَّها | صبَّتْ عَلَى الأيَّامِ صِرْنَ لَيَالِيَا(1) |
فماتت مقهورة مظلومة ، في ربيع العمر وعنفوان الشباب ، وأوصت إلى علي (عليه السلام) أن يغسِّلها ويجهِّزها ليلا ، ويدفنها ليلا إذا هدأت الأصوات ونامت العيون ، وأوصت أن لا يشهد جنازتها أحد ممن ظلمها وآذاها(2) .
ولمَّا وضعها في لحدها وأهال عليها التراب هاج به الحزن فتوجَّه إلى قبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول : السلام عليك يا رسول الله عنّي وعن ابنتك النازلة في جوارك ، والسريعة اللحاق بك ، إلى أن يقول (عليه السلام) : فإنّا لله وإنّا إليه راجعون ، فلقد استرجعت الوديعة ، وأخذت الرهينة ! أمَّا حزني فسرمد ، وأمَّا ليلي فمسهَّد ، إلى أن يختار الله لي دارك التي أنت بها مقيم ، وستنبئك ابنتك بتضافر أمَّتك على هضمها ، فأحفها السؤال ، واستخبرها الحال ، هذا ولم يطل العهد ، ولم يخل منك الذكر ، والسلام عليكما سلام مودِّع ، لا قال ولا سئم ..(3) .
____________
1- مناقب آل أبي طالب ، ابن شهر آشوب : 1/208 ، سير أعلام النبلاء ، الذهبي : 2/134 ، نظم درر السمطين ، الزرندي الحنفي : 181 ، سبل الهدى والرشاد ، الصالحي الشامي : 12/337 ، المغني ، عبدالله بن قدامة : 2/411 . 2- مناقب آل أبي طالب ، ابن شهر آشوب : 3/137 ، بحار الأنوار ، المجلسي : 31/619 ح97 و43/182 ح16 . 3- نهج البلاغة ، خطب الإمام علي (عليه السلام) : 2/182 ، رقم : 202 ، الكافي ، الكليني : 1/458 ـ 459 ح3 ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 10/265 .
المحاور : كفى .. كفى .. رحم الله والديك ، لقد مزَّقتني من الداخل ، حيث كانت دموعي تجري على تلك المظلوميَّة ، لا حول ولا قوَّة إلاَّ بالله العليِّ العظيم ، إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، فلذة كبد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وريحانته ، وسيِّدة نساء العالمين ، وسيِّدة نساء أهل الجنة ، وأمّ الحسن والحسين ، وزوجة الإمام علي ( كرَّم الله وجهه ) بطل الإسلام ، تموت مظلومة ، لم تعش بعد والدها سوى بضعة أشهر ... تدفن ليلا ، يهضم حقّها ، وممَّن ؟ من الخلفاء أبي بكر وعمر !!
يا للهول ويا للعجب ! فكانت أكبر نقاط الحوار تأثيراً في نفسي وفي كياني ، فتركت الجلسة ولم أستطع أن أكمل الحوار ، فاعتذرت من سماحة السيِّد وخرجت .
في المنزل
خرجت من منزل السيِّد البدري والوقت ما يقارب الساعة العاشرة ليلا ، ووصلت إلى البيت حيث كنت منهكاً ، فقالت لي زوجتي : يبدو عليك الأرق والتعب !
فقلت لها : وأيُّ تعب ؟
فقالت لي : وجهك مقلوب ومتغيِّر .. عندما ذهبت وجهك كان أفضل .
فقلت لها : نعم صحيح .. إن مظلوميّة السيِّدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) قد هدَّت كياني ، ولم أكن أعلم كل هذا العمر الذي قضيته في المطالعة وقراءة الكتب والجامعة بهذه المصيبة والفاجعة والمظلوميّة .
مراجعة صحيح البخاري للوصول إلى الحقيقة
تناولت من مكتبتي المتواضعة صحيح البخاري لأرى صدق كلام السيِّد
البدري بأن فاطمة (عليها السلام) ماتت وهي غاضبة عليهم ، وفي رواية أخرى قال لي : ( ماتت وهي واجدة عليهم ) كما ذكر لي في صحيح البخاري كتاب المغازي ، باب غزوة خيبر ، ج5 ، ص77 ، مطابع دار الشعب ، وصحيح البخاري ، كتاب الجهاد والسير ، باب فرض الخمس ، ج4 ، ص42 ، دار الفكر .
والحديث في هذا مسند إلى عائشة ، وقد صرَّحت فيه أن الزهراء (عليها السلام)هجرت أبا بكر ، فلم تكلِّمه بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى ماتت فعندما وجدت الحديث ووقفت عليه متأمِّلا ، فصرت أحدِّث نفسي : لماذا علماؤنا علماء السنة لايصرِّحون لنا بالحقيقة ؟!! هل الدين جاء لكتمان الحقائق أم للتصريح بها ؟! فإنّا لله وإنّا إليه راجعون .
اللقاء الأخير : ودخل النور إلى قلبي بمظلوميَّة فاطمة (عليها السلام)
بعد وقوفي على حادثة ومظلوميَّة الزهراء (عليها السلام) ، وتأمَّلتها في صحيح البخاري ، رجعت إلى منزل السيِّد البدري بعد ثلاث أيام لأشكره على ما قدَّم لي من كتب ، وأعطاني من وقته للبحث ، وقال لي : يا بنيَّ ! اللّهمَّ اشهد أني قد بلَّغتك على مذهب الحقّ مذهب أهل البيت(عليهم السلام) ، وأقام عليَّ الحجّة بعد هذه اللقاءات ، وأصبحت هذه الحوارات أمانة في عنقك وحجَّة عليك ، فالويل ثمَّ الويل لمن بان له الحقُّ وكتمه ، فالويل ثمَّ الويل لمن تجلَّت له الحقيقة وسكت عنها ، ولم يدافع عنها ولم يدعُ لها .
وقال لي : يا بنيَّ ! أنا كبرت وتعبت ، وأتعبني قلبي ، وغداً سأسافر إلى بيروت ، إلى الجامعة الأمريكيّة لأعمل عمليّة للقلب ، وفقرات الظهر .
وفعلا سافر السيِّد البدري ، وتمَّ الرفض من قبل الجامعة الأمريكيّة لإجراء
أيِّ عمل جراحيٍّ له ، بسبب عدم تحمُّل القلب ، وصمَّم أن يعمل فقط عمل جراحي لظهره في مشفى صيدا ، وسافر بعدها إلى إيران .
وكان يقول لي : مسؤوليتك كبيرة أمام الله ، ومعرفتك الحق أمانة ، وأنت تسأل غداً عن هذه الأمانة .
فعاهدت السيِّد البدري على حفظ الأمانة ، ومتابعة البحث والطريق إن شاء الله تعالى ، وأسألك الدعاء سيِّدي ، فودَّعته وقبَّلت جبينه وخرجت .
وبعد ذلك وصلني نبأ وفاته في مدينة قم المقدسة بعد شهر ، فبكيت عليه بكاء شديداً ، وسافرت إلى مدينة قم حيث لم أحضر جنازته ، فزرته وقرأت الفاتحة على ضريحه المقدَّس ، وعاهدته بمواصلة البحث ، والسير في الدعوة إلى طريق أهل البيت(عليهم السلام)حتى ألقى ربّي وأنا في هذا الطريق إن شاء الله تعالى(1) .
____________