الصفحة 696

الذنابى بالقوادم ، والعجز بالكاهل ، فرغماً لمعاطس قوم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً ، ألا إنّهم المفسدون ولكن لا يشعرون ، ويحهم {أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ}(1) ... إلى آخر الخطبة .

بينما هو يقرأ أحسست برعشة تسري إلى جميع أجزاء بدني ، وجرت دمعة على خدّي .. وكيف لا أبكي وقد أحسست بأنفاس الزهراء الطاهرة (عليها السلام)تتسرَّب مع أنفاسي إلى أعماق نفسي ، فكانت تلك الكلمات حروفاً من نور تشعُّ في وجداني ، وربّ السماء والأرض لو أنكر أهل الدنيا جميعاً هذه الكلمات لعشت بها وحيدة في فيافي الأرض وقفارها ، أترنّم بأجراس كلماتها ، وترقص نفسي طرباً بأزيز أنغامها ، وهنا يكون العشق والحبُّ ، وتهيم الروح سكراً بلبِّ معناها .

كفكفت دمعي ، وتوسَّلت بخالي أن لا يقطع الحوار بسبب اضطرابي ... دعاني إلى النوم لكي تهدأ أعصابي ، قلت : كم هي الليالي التي لم نستفد منها إلاَّ النوم ، فإن كانت ليلة القدر خيراً من ألف شهر فهذه الليلة خير من ألف يوم ، فتلك الليلة تكتب فيها الأقدار ، وهذه الليلة تبعث فيها الأرواح .

وبعد إلحاح قال خالي : أختم لك هذه الليلة بحوار عمر مع جدِّنا عبد الله بن العباس ـ الذي نتشرَّف بالانتساب إليه ـ كما جاء في الكامل لابن الأثير(2) ، وشرح النهج لابن أبي الحديد(3) ، وتاريخ الطبري(4) .

____________

1- سورة يونس ، الآية : 35 .

2- ج3 ، ص63 .

3- شرح نهج البلاغة : 12/53 .

4- تأريخ الطبري : 3/289 .


الصفحة 697

قال عمر : أتدري ما منع قومكم بعد محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) ؟

قال ابن عباس : فكرهت أن أجيبه ، فقلت له : إن لم أكن أدري فإن أميرالمؤمنين يدري !

فقال عمر : كرهوا أن يجمعوا لكم النبوَّة والخلافة فتبجحوا على قومكم بجحاً بجحاً(1) ، فاختارت قريش لأنفسها فأصابت ووفّقت .

عندها قال ابن عباس : يا أميرالمؤمنين ! إن تأذن لي في الكلام وتمط عنّي الغضب ، تكلَّمت ..

قال : تكلَّم .

فقال ابن عباس : أمَّا قولك ـ يا أمير المؤمنين ـ : اختارت قريش لأنفسها فأصابت ووفّقت ، فلو أنّ قريشاً اختارت لأنفسها من حيث اختار الله لها لكان الصواب بيدها غير مردود ولا محسود ، وأمَّا قولك : إنهم أبوا أن تكون لنا النبوّة والخلافة فإنّ الله عزّ وجلَّ وصف قوماً بالكراهة ، فقال : {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ}(2) .

قال عمر : هيهات يا ابن عباس ! قد كانت تبلغني عنك أشياء أكره أن أقرّك عليها فتزيل منزلتك منّي .

فقال ابن عباس : ما هي يا أميرالمؤمنين ؟ فإن كانت حقاً فما ينبغي أن تزيل منزلتي منك ، وإن كانت باطلا فمثلي أماط الباطل عن نفسه .

قال عمر : بلغني أنك تقول : إنّما صرفوها عنّا حسداً وبغياً وظلماً .

____________

1- التبجُّح بالشي ، أي الفرح به .

2- سورة محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) ، الآية : 47 .


الصفحة 698

فقال ابن عباس : أمَّا قولك ـ يا أميرالمؤمنين ـ : ظلماً ، فقد تبيَّن للجاهل والحليم ، وأمَّا قولك : حسداً ، فإن آدم حُسدَ ، ونحن ولده المحسودون .

فقال عمر : هيهات ، هيهات ، أبت والله قلوبكم ـ يا بني هاشم ـ إلاَّ حسداً لا يزول .

فقال ابن عباس : مهلا يا أميرالمؤمنين ! لا تصف بهذا قلوب قوم أذهب الله عنهم الرِّجس وطهَّرهم تطهيراً .

خالي : والدليل على أنّ أهل البيت(عليهم السلام) محسودون على المكانة التي خصّهم بها الله قوله تعالى : {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكاً عَظِيماً}(1) ، والتدبُّر في هذه الآية يكشف لنا أنّ الحسد وقع على هؤلاء الناس بسبب عطاء ربِّك لهم ( الكتاب والحكمة والملك العظيم ) لأنّ المعلوم والمحكم في هذه الآية أنّ الله أعطى آل إبراهيم الكتاب والحكمة والملك العظيم ، والمتشابه علينا في هذه الآية هو من المقصود بالناس في هذه الآية ؟ وما هو الفضل الذي أُعطي لهم ؟ ولاستجلاء المعنى المقصود لابد من إجراء المقابلة ، فالناس يقابلهم آل إبراهيم ، والفضل يقابله الكتاب والحكمة والملك العظيم ، فهل ياترى من هؤلاء الناس في أمَّة محمّد يقابلون آل إبراهيم ؟ هل تجدين غير آل محمّد كفؤاً ونظيراً لآل إبراهيم ؟ فيتضح بذلك أنّ الناس المقصودين في هذه الآية هم آل محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم)(2) .

____________

1- سورة النساء ، الآية : 54 .

2- روى الحاكم الحسكاني ، عن أبان بن تغلب ، عن جعفر بن محمّد (عليه السلام) في قوله تعالى : ( أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله ) قال : نحن المحسودون . شواهد التنزيل ، الحاكم الحسكاني : 1/183 ح195 ، ينابيع المودة ، القندوزي : 2/369 ح52 ، عن المناقب لابن المغازلي : 267 حديث 314 .


الصفحة 699

أمَّا الفضل الذي أُعطي لهم فهو الكتاب والحكمة والملك العظيم ، فيكون معنى الآية : أم يحسدون آل محمّد على ما آتاهم الله من الكتاب والحكمة والملك العظيم ، ولقد آتينا آل إبراهيم مثل ما أعطيناهم من الكتاب والملك العظيم ، فهل عرفت بذلك السبب الذي جعلهم يزيلون آل محمّد عن مراتبهم التي رتبهم الله بها ؟ .

يا عزيزتي ! قد تبيَّن للجاهل قبل العالم ، وإياك أن تحيدي عن قوم أذهب الله عنهم الرّجس وطهّرهم تطهيراً .

قلت : كل ما ذكرته مقنع ، ومستند على الأدلّة والبراهين الساطعة ، وهذا خلاف ما كنّا نعرفه عن الشيعة الذين كانوا في تصوُّرنا أبعد الناس عن الحقِّ ، وكل ما يمكن أن أجزم به الآن ـ حتى لا أكون متعجِّلة بالحكم بأحقّيّة مذهبكم ـ أنَّ الشيعة طائفة إسلاميَّة يجب أن تحترم ، وإن كانوا يختلفون مع عامّة المسلمين من أهل السنّة في بعض الأمور التي يمكن تجاوزها في سبيل الوحدة الإسلاميّة ، وللإنصاف ـ يا خالي ـ لقد سررت جداً بهذا الحوار ، وقد تعلَّمت منه درساً لن أنساه أبداً ، وهو عدم الحكم على الآخرين بالأفكار المسبقة ، والرجوع إليهم لا إلى من يخالفهم ، وأنا أعتقد أنّ من أعظم المصائب التي تعيشها أمتنا هي فقدانها لأرضيَّة الحوار .

ولكن عفواً يا خالي ! ما زال هناك سؤال يراودني ، هل غاب هذا عن العلماء ؟ ولماذا لم يتوصَّل أحد منهم لما ذكرت ؟

خالي : لقد أثلجت صدري بهذا الكلام الذي ينمُّ عن وعي وشعور كاملين


الصفحة 700

بالمسؤولية ، التي أمرنا القرآن الكريم أن نتحلّى بها من معرفة المنهج القرآنيِّ في المباحثة والمناظرة العلميّة الذي يعترف بالطرفين ، قال تعالى معلِّماً رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم)مخاطبة الكفار والمشركين : {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَل مُّبِين}(1) ، فانظري إلى هذا التعامل الأخلاقي النبيل ، فلم يقل لهم : إني على حق وأنتم على ضلال ، بل قال : إمَّا نحن أو أنتم على حق أو على باطل .. فهذا هو منهج القرآن عندما طرح للجميع حرّيّة المناقشة قائلا : {قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}(2) ، فكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يسمع براهينهم ويردُّها بالتي هي أحسن ، وقد سجَّل القرآن نماذج كثيرةً سواء كانت مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أو مع الأنبياء السابقين ، ففي قصّة إبراهيم ونمرود ، وموسى وفرعون ، خير عبر ، وقد أثبت الله سبحانه وتعالى حجج وبراهين الكافرين في قرآنه ، وأعطاها من القداسة ما أعطى غيرها من الآيات ، ولم يجوّز لمسلم أن يمسَّها من غير وضوء بناء على الفقه الشيعي ، فأين هؤلاء الذين يشنِّعون ويفترون على الشيعة بكل ما هو باطل من هذا المنهج القرآني الأصيل(3) ؟

أمَّا قولك : لماذا لم يتوصَّل أحد لما ذكرت ؟

قال تعالى : {وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ}(4) ، وقال : {أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ}(5) ، {أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ}(6) ، {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ

____________

1- سورة سبأ ، الآية : 24 .

2- سورة النمل ، الآية : 64 .

3- راجع كتاب الحقيقة الضائعة ، لمعتصم سيد أحمد ، ص30 تحت عنوان : ملاحظات للباحث لابد منها ، وص 218 مع إحسان إلهي ظهير .

4- سورة المؤمنون ، الآية : 70 .

5- سورة الأعراف ، الآية : 187 .

6- سورة يوسف ، الآية : 38 .


الصفحة 701

بِمُؤْمِنِينَ}(1) ، {فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً}(2) ، {أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ}(3) .. هذا أوَّلا .

ثانياً : هناك من هو مصداق قوله تعالى : {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً}(4) .

ثالثاً : هنالك مجموعة من نخبة السنّة وعلمائها من كسر الأغلال ، وتعدَّى حواجز الكبت الإعلامي ، والتحقوا بركب التشيٌّع في كل أنحاء العالم ، فتمسُّك بعض العلماء بموقفهم ليس دليلا على بطلان مذهب آل البيت(عليهم السلام)وإلاَّ حكمنا ببطلان مذهب أهل السنّة أيضاً لتمسّك علماء الطوائف الأخرى بعقيدتهم .

مسح الأرجل في الوضوء

لو سمحت لي ـ يا خالي ـ بآخر سؤال : لقد رأيتك تمسح على رجليك في الوضوء بدلا عن الغسل ، فما هو السبب ؟ أليس الغسل أنظف وآمن للنجاسة من المسح ؟

خالي وهو مستغرب لهذا الانتقال المفاجئ : نعم الغسل أنظف ، ولكن الله أعرف ، ثم ابتسم .

قلت : ولكن لم يأمر الله بالمسح ؟

____________

1- سورة يوسف ، الآية : 103 .

2- سورة الإسراء ، الآية : 89 .

3- سورة الرعد ، الآية : 1 .

4- سورة النمل ، الآية : 14 .


الصفحة 702

خالي : صبراً عليَّ : قال تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ}(1) ، فقوله : {وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ}دال على وجوب المسح بكلتا القراءتين : بالكسر أو بالفتح ، أمَّا الكسر فواضح ; لأنها معطوفة على الرأس ، وأمَّا النصب فإنه يدل على المسح أيضاً ، وذلك لأنه معطوف على موضع الرؤوس لوقوع المسح عليهما ، ولا يمكن العطف على الأيدي ، وذلك لوجود فاصل أجنبيٍّ وهو المسح ، فلا يجوز العطف على البعيد مع إمكانيَّة العطف على القريب .

وهذا ما أكَّدت عليه روايات أهل بيت العصمة والطهارة(عليهم السلام) ، بل هنالك أحاديث من مصادر أهل السنة تؤيِّد المسح ، وممَّن قال بالمسح ابن عباس والحسن البصري والجبائي والطبري وغيرهم ، قال ابن عباس وأنس : الوضوء غسلتان ومسحتان ، كما جاء في الدر المنثور(2) ، وقال عكرمة : ليس على الرجلين غسل ، إنما فيهما المسح ، وبه قال الشعبي : ألا ترى أن التيمم أن يمسح ما كان غسلا ، ويلغي ما كان مسحاً(3) ، وروى أوس بن أوس ، قال : رأيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) توضَّأ ومسح على رجليه(4) ، ووصف ابن عباس وضوء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأنّه مسح على رجليه ، وقال : إنّ في كتاب الله المسح ، ويأبى الناس إلاَّ

____________

1- سورة المائدة ، الآية : 6 .

2- الدر المنثور : 2/262 .

3- نفس المصدر : 262 .

4- أسد الغابة ، ابن الأثير : 1/217 .


الصفحة 703

الغسل(1) .

وجاء أيضاً في كنز العمال عن حمران قال : دعا عثمان بماء فتوضَّأ ، ثم ضحك فقال : ألا تسألوني ممَّ أضحك ؟ قالوا : يا أميرالمؤمنين ! ما أضحكك ؟ قال : رأيتُ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) توضَّأ كما توضَّأت ، فمضمض واستنشق وغسل وجهه ثلاثاً ويديه ثلاثاً ومسح برأسه وظهر قدميه(2) .

وفي سنن ابن ماجة فقال : إنّها لا تتُّم صلاة لأحد حتى يسبغ الوضوء كما أمره الله تعالى ، يغسل وجهه ويديه إلى المرفقين ، ويمسح برأسه ورجليه إلى الكعبين(3) .

ألا يكفي هذه دلالة على وجوب المسح ؟

قلت : عجيب ! ولماذا يغسل أهل السنّة إذاً ؟

خالي : أنت سألتيني لماذا يمسح الشيعة فأجبتك ، وبقي عليك أن تجيبي على سؤالك لماذا يغسل أهل السنّة ؟

ثمَّ اعتذر وانصرف لنومه .

أكذوبة المذاهب الأربعة

وبعد ذلك الحوار وجلسات أخرى متفرِّقة مع خالي ، اهتزّت كل قناعاتي بالموروث الديني السنّي ، وتكشَّفت أمام ناظري مجموعة من الحقائق ، بعدما

____________

1- مجمع البيان ، الطبرسي : 3/284 ، الدرّ المنثور ، السيوطي : 2/262 ، كنز العمال ، المتقي الهندي : 9/432 ح26837 .

2- كنز العمال : 436 ح26863 .

3- سنن ابن ماجة : 1/156 ح469 .


الصفحة 704

وقفت على عمق الخلافات المذهبيَّة ، وعندما أتى خالي لزيارتنا في بيتنا عاجلته بالسؤال : وما هو رأيكم في المذاهب الأربعة ؟

فتبسّم خالي قائلا : أما زلت في حيرة من أمرك ، فإنّ الله ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم)لم يكلِّفاك باتّباع أحد منهم ، وأنا أتحدَّى كل علماء السنة الماضين منهم والباقين أن يستدلُّوا بدليل واحد على وجوب تقليدهم ، فدعي عنك تلك الوساوس ، وتوجَّهي إلى أئمّة الهدى من آل البيت(عليهم السلام) ، فهم موضع الحكمة والرسالة ، جعلهم الله لنا عصمة وملاذاً ، ألم يقل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : إني تارك فيكم ما إن تمسَّكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً ; كتاب الله وعترتي أهل بيتي(1) .. ولم يقل : كتاب الله وأئمَّة المذاهب الأربعة .

فقاطعته قائلة : ولكن قال : ( كتاب الله وسنّتي ) ممَّا يفتح الباب واسعاً أمام اجتهاد الأمة .

خالي : أوَّلا : إنّ حديث : كتاب الله وسنّتي غير صحيح فلم يروه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجة والترمذي وكل الصحاح الستة ، فكيف نرتكز على حديث غير ثابت عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فهذا الحديث لم يروه إلاَّ مالك في الموطأ من غير سند ، فقد جاء في الموطأ أن مالك بلغه أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : ( تركت فيكم كتاب الله وسنّتي )(2) ، فكيف ياترى بلغ مالكاً هذا الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ؟!! ومن المعلوم أن الفاصل بين رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ومالك يحتاج فيه الحديث إلى سند طويل ، يعني : حدَّثني فلان عن فلان عن فلان عن الصحابي

____________

1- تقدَّمت تخريجاته .

2- كتاب الموطأ ، مالك : 2/899 ح3 ، ولفظ الحديث : وحدَّثني عن مالك أنّه بلغه أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)قال : تركت فيكم أمرين لن تضلُّوا ما مسكتم بهما : كتاب الله وسنّة نبيِّه (صلى الله عليه وآله وسلم) .


الصفحة 705

عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وهذا الحديث من غير سند ، ممَّا يعني أنه حديث في غاية الضعف .

أمَّا حديث : تركت فيكم كتاب الله وعترتي فقد رواه مسلم في صحيحه بعدّة طرق(1) ، وروته كل الصحاح الستة ما عدا البخاري ، وعدد الرواة الذين نقلوا الحديث من الصحابة يتجاوز الثلاثين راوياً ، ممَّا يعني أنّه حديث متواتر مقطوع الصدور عند السنّة والشيعة ، فكيف نتنازل عنه من أجل حديث لا سند له ؟ ومن هنا كان من الواجب على كل مسلم أن يتبع أهل البيت(عليهم السلام) في كل أمور دينه .

قلت : هناك حديث آخر يقول : عليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الراشدين من بعدي ، عضّوا عليها بالنواجذ(2) ، فنستفيد من هذا الحديث أوَّلا التمسُّك بسنّة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وسنَّة الخلفاء ثانياً .

خالي : هذه إسقاطات لا يقبلها النص ، أولا ـ بعيداً عن مناقشة سند الحديث الذي استفرد بنقله أبو داود وابن ماجة والترمذي ، وتجاوزنا عن تضعيف بعض الرواة في أسانيده ـ فإنّ هذا الحديث لا يتحمَّل أكثر من دعم رأي الشيعة ، وذلك أنّ كلمة الخلفاء هنا لا تعني الخلفاء الأربعة ، أو الذين حكموا في التأريخ ; لأن هذا إسقاط تأويلي متأخِّر عن النص ، فتسمية الخلفاء الراشدين للأربعة الذين حكموا ليست هي تسمية شرعيّة ، وإنّما تسمية المؤرِّخين الذين حكموا على فترة حكم الخلفاء بالرشد ، فبالتالي لا يكون الخلفاء مصداقاً لهذا الحديث لمجَّرد اشتراك التسمية ، فيكون التفسير الأقرب أن الخلفاء المقصودين

____________

1- صحيح مسلم : 7/123 . وقد تقدَّم المزيد من تخريجات هذا الحديث المتواتر .

2- سنن ابن ماجة : 1/16 ح42 ، شرح معاني الآثار ، ابن سلمة : 1/81 ، أحكام القرآن ، الجصاص : 1/530 .


الصفحة 706

هم أئمة أهل البيت الاثنا عشر(عليهم السلام) ، وذلك لقول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في البخاري في باب الخلافة ، ومسلم وغيرهما من الصحاح عشرين رواية ـ كما جعلها القندوزي الحنفي في ينابيع المودة ـ أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : إن الخلفاء من بعدي اثنا عشر خليفة(1) .

فجاء في رواية : كلهم من قريش ، وفي رواية : كلهم من بني هاشم ، وهذا الترديد في نقل الراوي لا يؤثِّر في الاستدلال بهذا الحديث على إمامة أهل البيت(عليهم السلام) ، وذلك بأن الفرقة الإسلاميّة الوحيدة التي توالي اثني عشر إماماً هم الشيعة الإماميّة الاثنا عشريّة ، كلهم من أهل البيت(عليهم السلام) ، فإذا ثبت ـ وهو كذلك ـ حديث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : عليكم بكتاب الله وعترتي ، وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض ، ثمَّ جاء حديث آخر يقول : الخلفاء من بعدي اثنا عشر خليفة ، تعيَّن أن يكون هؤلاء من أهل البيت(عليهم السلام) ; لأنه يستحيل عقلا أن يأمرنا الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) باتّباع أهل البيت ، وفي نفس الوقت يأمرنا باتّباع خلفاء من غير أهل البيت ، ممَّا يحدث تناقضاً وتضارباً ، فتعيَّن أن يكون الخلفاء المقصودون في الحديث هم الأئمة من آل البيت(عليهم السلام) ، وللأسف لم يكن الخلفاء الذين حكموا في التأريخ ولا أئمّة المذاهب الأربعة من آل البيت(عليهم السلام) ، وهذا كاف في إبعادهم عن ساحة الحوار .

قلت : ولكن من أين جاءت فكرة المذاهب الأربعة ؟

خالي : فكرة المذاهب الأربعة خدعة نسجت خيوطها سياسات الكبت

____________

1- راجع : صحيح البخاري : 8/127 ، صحيح مسلم : 6/3 ، مسند أحمد بن حنبل : 5/86 ـ 93 ، المستدرك ، الحاكم النيسابوري : 3/617 ـ 618 .


الصفحة 707

الأمويّة والعباسيّة ، وإلاَّ لم يكن الفقهاء الأربعة هم أعلم أهل زمانهم ، فهناك من كان أكثر علماً منهم ، وكان لهم مذاهبهم الخاصة ، كسفيان الثوري وابن عيينة والأوزاعي وغيرهم ، انقرضت مذاهبهم عندما لم تجد دعماً سياسيّاً من السلطة ، ممَّا يعني أن للسلطة مآرب معيَّنة لتمرير أسماء الأربعة ، ومن ثمَّ سدّ الطريق عن غيرهم ، والأمر واضح وهو خلق قيادات فقهيّة بديلة عن أهل البيت(عليهم السلام)لكي يلتفَّ حولها عامة المسلمين .

أو ليس من العجيب فعلا أن كل ما جاء في أهل البيت(عليهم السلام)من آيات قرآنيّة وأحاديث نبويّة كاشفة عن مكانة عظيمة ومرتبة رفيعة إذا لم نقل بالعصمة ، ألا تؤهِّلهم في نظر أهل السنّة ليتسلَّم أهل البيت(عليهم السلام)زمام الفتيا ، أو على أقل تقدير يختارون واحداً من أهل البيت ليكون من بين الأئمّة الأربعة ، حتى يأتي شيخ الأزهر شلتوت ليتصدَّق على أهل البيت(عليهم السلام)في القرن العشرين بأن يجعل الإمام الصادق (عليه السلام) إماماً خامساً مع الأئمة الأربعة ، مع أن أهل البيت(عليهم السلام)لا يقبلون الصدقة .

لقد تعجَّبت فعلا عندما ردَّدت أسماءهم في نفسي ( مالك ، أبو حنيفة ، الشافعي ، أحمد بن حنبل ) فمعظمهم مشكوك في عروبته ، ناهيك عن كونه من آل البيت ، ثمَّ نتباهى بحبِّ ذرِّيَّة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ، أيُّ حب هذا الذي لم يورثنا الثقة في علمهم وجدارتهم ؟ ومن الغريب أيضاً أننا لم نقبل حقَّ أهل البيت(عليهم السلام) في الخلافة ، متمسِّكين بأنّ الحق لا يثبت بمجرِّد القرابة ، فإن كان الحق لا يثبت بالقرابة فالحبُّ لا يكون أيضاً لمجرِّد القرابة ، إلاَّ إذا كان حبُّنا مجرَّد ادّعاء أجوف ، أمَّا إذا اعترفنا بأن هنالك مكانة خاصة ومرتبة رفيعة تؤهِّلهم للحبِّ غير قرابتهم من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فهو نفسه يؤهّلهم إلى مرتبة الإمامة ، هذا مع أنّ الواقع


الصفحة 708

التأريخي يثبت أنّ أئمة المذاهب الأربعة ـ بدءاً من مالك وانتهاءاً بابن حنبل ـ يدينون بالفضل والأعلميّة لأهل البيت(عليهم السلام) ، فإن كان للأربعة علم فهو من نفحات أهل البيت(عليهم السلام) ، ممَّا يكشف لنا مأساة التأريخ الأعمى الذي لا ينظر إلاَّ بعيون السلطة ، فإن كان بنظر أهل السنّة لا يوجد في أهل البيت فقهاء ، ألا يوجد فيهم علماء في العقائد والحديث ومعارف القرآن ؟ فمن أئمّة العقائد والتفسير والحديث عندنا ؟ ... لا يوجد من بينهم واحد من أهل البيت(عليهم السلام) ، فهل يحقُّ لأهل السنّة بعد ذلك أن يدّعوا أنهم محبُّون لأهل البيت(عليهم السلام) ؟

الشعائر الحسينيّة

حسمت لي تلك النقاشات مع بعض الاطلاع أحقّيّة المذهب الشيعي بجدارة ، ولم يكن بيني وبين الالتزام الكامل إلاَّ بعض الإشكالات الطفيفة التي لا تمسُّ بالجوهر ، مثل بعض الممارسات الشيعيّة في شهر محرَّم ; من اللطم على الصدور ، وضرب الرؤوس بالسيوف ، فسألت خالي وأنا مستنكرة لهذا الأمر : كيف يجوِّز الشيعة فعل ذلك ، ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول : ليس منّا من شقّ الجيوب ولطم الخدود ودعا بدعوة الجاهلية(1) ؟

خالي : أولا : هذا نقاش فقهيٌّ داخل الدائرة الشيعيّة ، ممَّا يعني أن الشيعة ملزمون باستنباط أحكامهم الشرعيّة فيما ورد عندهم من الأحاديث المرويَّة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل البيت(عليهم السلام) ، والحديث الذي ذكرته هو من أحاديث أهل السنة ، فهو ملزم لهم وليس للشيعة ، كما تقول القاعدة : ألزموهم بما ألزموا به

____________

1- مسند أحمد بن حنبل : 1/432 .


الصفحة 709

أنفسهم .

وثانياً : إذا سلَّمنا بهذا الحديث فهو بعيد كلَّ البعد عن مورد الاستدلال والاعتراض ، فالحديث يتكوَّن من ثلاثة محاور أساسية ، فإن اجتمعت في موضوع واحد تتعلَّق به الحرمة والنهي ، وهي : شقُّ الجيوب ، ولطم الخدود ، ودعوة الجاهلية ، والدليل على الاقتران هو حرف العطف ، فإن كان شقُّ الجيب لوحده حراماً ، وكذا لطم الخد لكان من المفترض استخدام حرف ( أو ) فيكون الحديث ( .. من شقّ الجيوب أو لطم الخدود أو دعا بدعوة الجاهلية ) فبالتالي لا تنصبُّ الحرمة على شقِّ الجيب إلاَّ بعنوان دعوة الجاهلية ، أمَّا من شقَّ جيبه بل شقَّ كل ملابسه ولطم خدَّه لأيِّ سبب يراه أو مصلحة يجلبها لنفسه أو حتى عبثاً ، ولم يدع بدعوة الجاهليّة ، لا يكون ملاماً أو معاتباً ، وأكثر ما يقال فيه إذا لم يكن هناك حكمة عقلائيَّة : إنّه مجنون ، فإذاً ليس شقُّ الجيب ولطم الخدِّ بمعزل عن دعاء الجاهليّة ، وهو الذي تدور عليه الحرمة ، وإنما تتحقَّق الحرمة ، ويتعلَّق النهي عن هذه التصرُّفات مع الدعاء بدعوة الجاهليّة ، وكذلك لا يكون الأمر محصوراً في شقِّ الجيب ولطم الخدِّ ، فالذي يضرب رأسه ويشدُّ شعره ويدعو بدعوة الجاهليَّة كذلك يشمله الحديث ، ومن هنا كان محور الحرمة ومناط الحكم هو دعوة الجاهليّة مع شقِّ الجيب أو ضرب الرأس أو أيِّ تصرُّف آخر ، وإلاَّ حكمنا بجواز من يحثو التراب على رأسه ويدعو بدعوة الجاهليّة .

فالحديث بعيد عن تصرُّفات الشيعة أيام محرَّم ; لأنهم لا يدعون بدعوة الجاهليّة ، فهم لا يدعون اللاّت والعزّى ومناة وهُبل ، ولا يدعون باسم العصبيّة القبليّة ، ولا كل العادات التي ذمّها الإسلام ، وإنما يدعون بدعوة الإسلام ، ودعوة التوحيد ، ويبكون على مصائب أهل البيت(عليهم السلام)التي هي مصائب الإسلام ،


الصفحة 710

فالحديث بعيد عنهم .

قلت : ولكن ليس هناك أحد من كل العقلاء يستحسن ما يفعله الشيعة ، بل يستقبحونه ، ألا يكفي حكم العقلاء لتحريمه ؟

خالي : أولا : إذا نظرنا إلى حكم العقل بعيداً عن العقلاء فإن العقل لا يرى فيه قبحاً ; لأن العقل إذا نظر إلى أمر نظر له وهو مجرَّد عن كل العناوين وكل الاعتبارات ، فإذا جرَّدنا هذه التصرُّفات من كل عناوينها لا يتمكَّن العقل من الحكم عليها ; لأنها من الأمور غير الذاتيّة القبح أو الحسن كالعدل والظلم ، وإنما من الأمور التي يدور حكم العقل فيها مع العنوان ، فمثلا : الضرب كموضوع إذا نظرنا له بعيداً عن أيِّ اعتبار ليس قبيحاً ، وليس هو حسناً ، فإذا كان الضرب مع عنوان التأديب فهو حسن ، والضرب نفسه مع عنوان الإيذاء والظلم فهو قبيح ، فبالتالي الحسن والقبح يدوران مدار العنوان ، كذلك بعض الشعائر الحسينيّة ، فهي إمَّا أن تكون بعنوان إحياء أمر أهل البيت(عليهم السلام)وبالتالي إحياء الإسلام ، وإمَّا بأيِّ عنوان سلبيٍّ آخر ، فإن كانت بالأول فهي حسنة ، وإن كانت بالثاني فهي قبيحة ، وأظنُّ أنّ الأمر واضح أن هذه الشعائر بالقصد الأوَّل .

أمَّا حكم العقلاء فهو دائر مدار المصلحة العامة من الفعل أو المفسدة ، ولا يرى العقلاء أيَّ مفسدة في أن يقوم مجموعة من الناس بشعيرة معيَّنة لمصلحة تخصُّهم ، كما لا يرى مانع أن يخترع مجموعة من الناس احتفالا يعظِّمون فيه أمراً ما ، مثلا : كأس العالم في كرة القدم الذي يقوم كل أربع سنوات بإجراء منافسات دوليّة ينشغل بها كل العالم ، فلا يستقبح العقلاء هذا الأمر .

أمَّا حكم العرف والذوق والميل والحب والكراهية كلها عناوين لا يمكنها تشكيل معيار لمحاكمة أيِّ قضية ، فإذا كان هناك عرف لا يحبِّذ الشعائر الحسينيّة


الصفحة 711

فهناك عرف آخر يحبِّذها بل يحترمها ، وكذا الحب والكراهية ، فما تحبينه أنت يكرهه الآخر ، فمن الخطأ أن نحاكم الشيعة برغباتنا الخاصة .

قلت : ولكنَّ الأمر يصل إلى حدِّ الضرر كضرب الرؤوس بالسيوف ، وهذه مفسدة واضحة ; لأن فيها ضرراً ، وقد نهى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عنه وقال : لا ضرر ولا ضرار في الإسلام(1) .

خالي : إذا نظرنا إلى هذا الحديث وأمعنّا فيه النظر نجد أنّ الاستدلال بهذا الحديث يكون كالتالي : كل ضرر حرام ، وضرب الرأس بالسيف ضرر ، إذاً هو حرام ، وهذا قياس منطقيٌّ واضح ، فإذا كان كل إنسان يموت ، وزيد إنسان ، إذاً زيد حتماً يموت ، أليس كذلك ؟

قلت : نعم ، فكيف تجوِّزونه إذاً ؟

خالي : مهلا ولا تتعجّلي ، حتى يكون هذا الأمر صحيحاً والقياس تاماً لابد أن تكون الكبرى سليمة كما يسمُّونها في المنطق ، وهي : كل ضرر حرام ، فهل كل ضرر على إطلاقه حرام ، فإذا كان كذلك لتوقَّفت كل الحياة ، وليست الشعائر الحسينيّة لوحدها ; لأن الضرر نسبيٌّ ، فكل فعل يفعله الإنسان فيه ضرر ، ففي الأكل ضرر كما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : ما ملأ ابن آدم وعاء شرّاً من بطنه(2) ، وفي عدمه ضرر ، والنوم الكثير ضرر ، والقليل كذلك ، في القراءة ضرر ، وفي عدمها

____________

1- الكافي ، الكليني : 5/292 ـ 293 ح2 ، تهذيب الأحكام ، الطوسي : 7/146 ـ 147 ح35 ، مسند أحمد بن حنبل : 5/327 ، سنن ابن ماجة : 2/784 ح2340 و2341 ، المستدرك ، الحاكم : 2/57 ـ 58 .

2- روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : ماملأ آدمي وعاء شراً من بطنه ، فإن كان لابد فثلث لطعامه ، وثلث لشرابه ، وثلث لنفسه . راجع : مشكاة الأنوار ، الشيخ علي الطبرسي : 564 ، سنن الترمذي : 4/18 .


الصفحة 712

ضرر ، كذلك هناك أفعال في فعلها ضرر وفي تركها منفعة ، ولكنّها ليست حراماً بإجماع الأمّة ، مثل أكل بعض المأكولات الضارّة كالشحوم ، والفلفل الحار ، والسكر الأبيض ، وعشرات الأسماء ، فمع إمكان الإنسان التخلّي عنها إلاَّ أنه ليس ملزماً ، وباختصار ليس هنالك فعل إلاَّ فيه ضرر ، ممَّا يدعونا إلى التفكير في معنى الضرر المقصود في الحديث .

وهنا نتعرَّف على أنّ الضرر نوعان : ضرر حتميٌّ ، وضرر غير حتميٍّ ، أو بمعنى : ضرر مسموح به ، وضرر غير مسموح به ، فالضرر الحرام المقصود في الحديث هو الضرر الحتمي ، بمعنى حتماً يؤدِّي إلى هلاك الإنسان ، مثل أن يشرب الانسان كأساً من السمِّ ، أمَّا الضرر غير الحتمي هو أن يشرب الإنسان مثلا كأساً من القهوة ، فمع أنه فيه نسبة من الضرر إلاَّ أنه ضرر مأذون به .

قاطعته قائلة : ولكن في ضرب الرأس بالسيف ضرر حتمي ، فمن الممكن أن تصادف الضربة شرياناً ، ممَّا يؤدِّي إلى النزف المتواصل ، فيؤدِّي إلى موته .

خالي : هذا الاحتمال غير وارد ولا يعوَّل عليه ; لأن الاحتمال نوعان : احتمال عقلائي ، واحتمال غير عقلائي ، والفرق بين الاثنين أنّ الأول احتمال قائم على مجموعة من المبادئ العلمية ، والثاني عكسه ، فمن المحتمل أن يقع هذا البيت على رؤوسنا ، فهل نركض خارج الغرفة ؟!

قلت : لا ـ وأنا ضاحكة ـ لأن هذا مجرَّد احتمال سخيف .

خالي : وإذا قال لك مهندس مختص : بأن أعمدة البيت لا يمكنها حمل هذه الغرفة أكثر من يوم مثلا فهل تغادرينها ؟

قلت : نعم ، وإذا بقيت أكون رميت بنفسي في التهلكة !

خالي : هذا هو بالضبط الفرق بين الاحتمالين ، فقولك : من المحتمل أن


الصفحة 713

تقطع الضربة شرياناً ، هو كالقول : من المحتمل أن تصدمك سيارة إذا عبرت الشارع ، فهل تتوقَّفين عن العبور ؟

قلت : لكن يا خالي ، إذا نظر إنسان إلى منظرهم وهم مضرّجون بالدماء في منظر تشمئزّ منه القلوب وخاصة غير المسلم ، ممَّا يجعله يستهجن هذا الدين الذي يجعل أتباعه غارقين في الدماء .

خالي : نعم معك حق ، إن هذا المنظر الذي يخرج به المطبّرون كما يسمّونهم منظر ( قد ) تشمئزُّ منه القلوب ، ولكن ليس عليهم عتاب ، ولكي تعرفي ذلك لابدَّ لنا من النظر في الجذر الثقافي الذي يرتكز عليه التطبير ، فهو لا يعدو كونه عملا فنّياً ولوحةً إبداعيةً تحاول أن تقترب من مأساة كربلاء ، فإذا أحضرنا مجموعة من الرسَّامين وكلَّفناهم برسم واقعة كربلاء فما هي اللوحات التي تتوقَّعين أن يرسموها ، غير رؤوس مقطَّعة ، وأياد مبتورة ، وخيام محروقة ، ونساء مفجوعة ، فهل يحقُّ لنا أن نعاتبهم على تلك الرسومات ونقول : كان أجدر بكم أن ترسموا لنا حدائق ومياهاً وزهوراً ، فالقبح إذاً ليس في اللوحة ، وإنما القبح في الواقع الذي حاولت أن تجسِّده اللوحة ، وإن صدق ذلك على اللوحة الورقيَّة يصدق أيضاً على اللوحة التي يشترك مجموعة من الناس في إخراجها كالعمل الدرامي مثلا ، فهذا الموكب الدرامي الذي يتكوَّن من مجموعة من الناس لا بسين الأكفان وهي ملطَّخة بالدماء ، وحاملين السيوف ، حقاً منظر تشمئزُّ منه النفوس ، ولكن ليس القبح فيه ، وإنما القبح في ذلك الواقع التأريخي ، وفي تلك المعركة المفجعة ، فالمأساة ليست في التطبير ، وإنما هي في كربلاء ، فهل نغيِّر حقيقة كربلاء أيضاً ؟!

قلت : هذا الكلام بصورته النظريّة مقنع ، ولكن عملياً أرى أنه بعيد ، فأنا لا


الصفحة 714

أتصوَّر أن يدفعني أمر للقيام بضرب رأسي بالسيف .

خالي : الفعل يصدر من الإنسان عندما تكون هناك تهيئة نفسيَّة تناسب الفعل ، فإذا لم تتحقَّق فإن الدوافع النظريَّة ليست كافية ، فكثير من الأمور نعتقد بها نظريّاً ولكن لا نمارسها إلاَّ إذا كانت هناك تهيئة نفسيّة ، فمثلا ضرورة الأكل مقدِّمة نظريَّة ، ولكن لا يقدم الإنسان على الأكل إلاَّ إذا كان جائعاً ممَّا تستعدُّ نفسه للقيام بالأكل ، وكذا الأمثلة كثيرة ، فنحن خلافنا مع الذين يستنكرون هذه الشعائر خلاف نظريٌّ وليس عمليّاً ، فلم نطلب منهم المشاركة ، ومن هنا كان النقاش النظري ضرورياً معهم ، أمَّا التهيئة النفسيَّة فتحتاج إلى مقدِّمات من نوع آخر ، فمثلا الصوت الجميل في تلاوة القرآن يخلق جوّاً تهيج معه النفس ممَّا يجعلها تبكي ، وكذا الأغاني ، فإنّها تطرب النفس فتكون مقدِّمة للرقص ، وكذلك في محرَّم عندما يعيش الإنسان أجزاء كربلاء ، ويستنشق روائح تلك الدماء الزاكيات ، وتعلو النداءات بثارات الحسين (عليه السلام) ، وتدقُّ طبول الحرب ، تهيِّئ الإنسان نفسيّاً للقيام بتلك الشعائر التي تكون تعبيراً صادقاً لما يجول في نفسه من حبٍّ للإمام الحسين (عليه السلام) .

الحسين (عليه السلام) الدمعة الجارية

تردَّدت كثيراً في تسجيل تجرتبي الأولى مع الإمام الحسين (عليه السلام) ، وكلَّما أبدأ بالكتابة تهرب الكلمات من تحت سنان قلمي ، وتبقى المأساة مكتومة في داخل نفسي ، فلا معين أطيل معه العويل والبكاء ، ولا جزوع فأساعد جزعه إذا خلا ، فتمتزج البسمة عندي بالدمعة ، ويحلُّ الحزن مكان الفرحة ، وتتبدَّل كل أهازيج البشرى بأنين الحزن الدائم ، ففي ميلاده سكبت عبرة ... وما زالت تلك


الصفحة 715

العبرة .. وفي استشهاده وفي ذكراه تعلو العبرة .. فللحسين مجد مكتوب من الأزل الأبديّ لا ينال إلاَّ بالدمع الأحمر : يا حسين ! اعلم أن لك عند الله أجراً لا تبلغه إلاَّ بالشهادة .

قبل أن أعيش في رحاب التشيُّع ، وأهتدي إلى مذهب أهل البيت(عليهم السلام)لم أكن أعرف عن الحسين (عليه السلام) إلاَّ ما درسناه في المدارس ، وهي قصة مجتزأة تعبِّر عن الكبت الدائم لقضيَّة كربلاء ، أذكر أنّني كنت في الرابع الابتدائي ، فحاول الأستاذ ـ تبعاً للمنهج ـ أن يطوي كل ذلك التأريخ في قوله : إن يزيد قتل الإمام الحسين (عليه السلام) وأولاده وسبى نساءه ، في معركة تسمَّى كربلاء ، فسألت طالبة مسيحيَّة بدهشة : كيف تجوِّزون قتل ابن بنت نبيِّكم ؟ فدمعت عيناي دون أن أشعر ، فكانت تلك أول دمعة في مصاب الإمام الحسين (عليه السلام) ، فقال الأستاذ : ذلك قدر الله على هذه الأمة .

قدر الله أم غدر الأمة التي لم تحفظ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في ذرِّيَّته وهو

القائل : أذكِّركم الله في أهل بيتي(1) ، وقال الله تعالى في حقِّهم : {قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}(2) ، أيقتل ـ روحي له الفداء ـ في أبشع صورة مرَّت على تأريخ البشرية ، وهو الذي قال فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : حسين منّي وأنا من حسين ، أحبَّ الله من أحبّ حسيناً(3) ، وقال : الحسين مصباح الهدى وسفينة النجاة(4) ،

____________

1- راجع : فضائل الصحابة ، أحمد بن حنبل : 22 ، مسند أحمد بن حنبل : 4/367 ، السنن الكبرى ، النسائي : 5/15 ح8175 ، المعجم الكبير ، الطبراني : 5/182 ـ 183 ، تأريخ دمشق ، ابن عساكر : 41/19 ، الدرّ المنثور ، السيوطي : 5/199 .

2- سورة الشورى ، الآية : 23 .

3- وهو من الأحاديث المتواترة جداً ، راجع : الإرشاد ، المفيد : 2/127 ، مناقب آل أبي طالب ، ابن شهر آشوب : 3/226 ، مسند أحمد بن حنبل : 4/172 ، سنن ابن ماجة : 1/51 ح 144 ، سنن الترمذي : 5/324 ح3864 ، المصنف ، ابن أبي شيبة الكوفي : 7/515 ح22 ، الأدب المفرد ، البخاري : 85 ح364 ، صحيح ابن حبان : 15/428 ، المستدرك على الصحيحين ، الحاكم : 3/177 ، المعجم الكبير ، الطبراني : 3/33 ح2589 ، تاريخ مدينة دمشق ، ابن عساكر : 64/35 ، أسد الغابة ، ابن الأثير : 2/19 ، تهذيب الكمال ، المزي : 6/402 ، سير أعلام النبلاء ، الذهبي : 3/283 ، تهذيب التهذيب ، ابن حجر : 2/299 ، الجامع الصغير ، السيوطي : 1/575 ح3727 ، كنز العمال ، المتقي الهندي : 12/115 ح34264 ، ذخائر العقبى ، أحمد بن عبدالله الطبري : 133 .

4- كمال الدين وتمام النعمة ، الصدوق : 265 ح11 ، بحار الأنوار ، المجلسي : 36/205 ح7 .


الصفحة 716

والحسن والحسين سيِّدا شباب أهل الجنة(1) ، وعندما قال رجل للحسين (عليه السلام)وهو راكب على ظهر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : نعم المركب ركبت ، فقال رسول الله : ونعم الراكب هو(2) ، فالأمَّة التي تجرَّأت على قتل الحسين (عليه السلام) هي نفسها يمكنها قتل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) .

فبقيت تلك الدمعة وحيدة حتى جاء اليوم الذي عشت فيه مأساة كربلاء بتفاصيلها ، حيث ما تزال ظلالها الحزينة ترافق ظلّي إلى اليوم ، تاركة آثاراً عميقة في نفسي .

____________

1- صحيح ابن حبان : 15/413 ، فضائل الصحابة ، أحمد بن حنبل : 20 ، مسند أحمد بن حنبل : 3/3 ، سنن ابن ماجة : 1/44 ح118 ، سنن الترمذي : 5/321 ح3856 ، المصنف ، ابن أبي شيبة الكوفي : 7/512 ، المعجم الكبير ، الطبراني : 3/35 ـ 36 ح2599 ، مجمع الزوائد ، الهيثمي : 9/165 .

2- نظم درر السمطين ، الزرندي الحنفي : 212 ، وفي سائر المصادر بدل الحسين (عليه السلام) الحسن (عليه السلام) ، راجع : سنن الترمذي : 5/327 ح3872 ، المستدرك ، الحاكم : 3/170 ، أسد الغابة ، ابن الأثير : 2/12 .

وروى ابن عساكر في تأريخ دمشق : 13/216 ، بالإسناد عن جابر بن عبد الله قال : دخلت على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو حامل الحسن والحسين على ظهره ، وهو يمشي بهما ، فقلت : نعم الجمل جملكما ، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : نعم الراكبان هما .

وراجع أيضاً في حديث آخر وفيه أن القائل هو أبو بكر : المعجم الكبير ، الطبراني : 3/65 ح2677 ، ذخائر العقبى ، أحمد بن عبدالله الطبري : 130 ، مجمع الزوائد ، الهيثمي : 9/182 .


الصفحة 717

كنّا في شهر محرَّم الحرام في منطقة السيِّدة زينب (عليها السلام) بدمشق ، والسواد يغطّي الساحات ، والكل حزين يهتف : يا لثارات الحسين ، فانتقل بي الزمان حتى كأنّي أرى كربلاء بأمِّ عيني ، صورة لا تحكى ومنظر لا يصوَّر ، عشت لحظات في فيافي دمائها الحمراء ، أواسي النساء الهاشميّات ، فبكيت معهن حتى نبض الدمع مني ، وحينها رجع صدى النفس يردِّد : يا ليتنا كنّا معك فنفوز فوزاً عظيماً .

فعاشوراء لم تمت ، بل هي حاضرة في وجدان هذه الأمَّة ، يلوح من أريج دمائها الذاكية الصمود والإباء ، وفي أعتابها شموخ الإيمان على الكفر ، وفي لهواتها انتصار الحق على الباطل ، وعلى أشراف أبوابها كان نهج الحق وراية العدل ترفرف مدى الأزمان ، فكل أيامنا عاشوراء ، وكل بقعة من بقاع الأرض كربلاء ، فهي أعظم من أن تكون حبيسة التأريخ ، وأكبر من أن يكون الزمان قيداً على عنفوان تحدّيها ، فهي شاهد حيٌّ على كل العصور .

فعام 61 للهجرة هو بداية المأساة ، ولكن لم يكن هو النهاية ، فلم تزل حاضرة بكل مأساتها عبر السنين ، ففي كربلاء يتجلَّى الإسلام بأسمى معانيه ، وتضيق عندها المسافة بين الإنسان والقيم ، وتقترب فيها السماء من الأرض ، فكانت تضحيات الحسين جسراً يقرِّب الإنسان من العالم المعنويِّ والأفق الأعلى بما لا يقرِّب به شيء آخر .

فللحسين قضيَّتان : قضيَّة الجسد المقطَّع ، وقضيَّة الحقِّ المضيَّع ، وفي كربلاء اختلطت القيم بالدماء ، والعدل بالشهادة ، ولكي يرفع الحق رفعت هامة الحسين على سنان الرماح ، فلا وجود للمسيرة من غير الوقوف على أشلاء كربلاء ، وليس هناك مأساة تبكي من غير تلك المسيرة التي كان الحسين قرباناً


الصفحة 718

لها : ( اللهمّ تقبل هذا القربان من آل محمّد ) فكانت المأساة بحجم المسيرة ، وكانت التضحية بقدر المنهج .

فأصبح الحسين (عليه السلام) هو نهجي .. وعاشوراء هي شعاري ، وتربته الطاهرة أضعها تحت جبيني في سجودي ، لكي أبقى دوماً مع الحسين وألقى الله مع الحسين (عليه السلام)(1) .

____________

1- كتاب : من حقّي أن أكون شيعية ، أم محمّد علي المعتصم .