وصية رسول الله:
إن الرسول محمد صلى الله عليه وآله يخبر المسلمين كافة أن موعد لقائه بربه قد اقترب، (وهذا ظاهر في لفظة يوشك وهي من أفعال المقاربة) وأن الإنتقال إلى الرفيق الأعلى قد آن أوانه، وأن واجب النبوة والرسالة يوجب عليه أن يوصي المسلمين بوصية، فكما علمنا أن نوصي، وأن لا ينام أحدنا إلا ووصيته تحت وسادته، فها هو عليه وآله الصلاة والسلام يوصي كل تلك الحشود من المسلمين وفي أكثر من موقف حتى يعلمهم وصيته، وأنه يريد أن يطبق ما علمهم من أمر الوصية استجابة لأمر الله تعالى.
قال تعالى في سورة البقرة الآية: 180 {كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقين}.
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ما حق امرئ مسلم، له شيء يوصي فيه، يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده).
ووصية رسول الله صلى الله عليه وآله الذي لا ينطق عن الهوى، ليست كأية وصية، بل يجب أن تحمل على محمل الجد، وأن يطبقها المسلمون من بعده، ولكنهم أنكروا أن يكون رسول الله قد أوصى، ويتهمونه بأنه أمر بالوصية ولم يوص.
روى البخاري في الصحيح قال حدثنا طلحة ابن مصرف قال: سألت عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنهما: هل كان النبي صلى الله عليه وسلم أوصى؟ فقال: لا، فقلت: كيف كتب على الناس الوصية، أو أمروا بالوصية؟ قال: أوصى بكتاب الله.
إن في منطوق ومفهوم حديث الثقلين دلالة واضحة على موضوع الوصية، لا ينكرها إلا الجهلاء أو المنافقين المبغضين لأهل البيت عليهم السلام، وهذه الوصية قد نادى بها رسول الله منذ بداية دعوته وحتى يوم وفاته، فحديث
فقد روى في كنز العمال عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا بني عبد المطلب! إني قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة وقد أمرني الله أن أدعوكم إليه فأيكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم؟ قال: فأحجم القوم عنها جميعا وقلت: يا نبي الله! أكون وزيرك عليه؟ فأخذ برقبتي ثم قال: هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا. ورواه الطبري وأحمد وغيرهما كثير.
ولقد كرر رسول الله صلى الله عليه وآله تلك الوصية طيلة حياته وفي مواقف ومناسبات متعددة، ثم أحب الله تعالى أن يؤكدها على المسلمين كافة، لأن الوصية هنا ليست شأنا شخصيا من رسول الله بل هي أمر وجَعل إلهي، فأراد الله أن يؤكدها بعد عودة رسول الله صلى الله عليه وآله من حجة الوداع، فأنزل الله تعالى على رسوله أمرا بإبلاغ الوصية للمسلمين، وأنزل قوله تعالى من سورة المائدة. الآية: 67 {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين}.
روى السيوطي في الدر المنثور قال أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر عن أبي سعيد الخدري قال: نزلت هذه الآية {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك} على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم غدير خم، في علي بن أبي طالب.
وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال: كنا نقرأ على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك} إن عليا مولى المؤمنين {وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس}.
وبعد أن بلغ رسول الله المسلمين ما أمره الله تعالى فيما يتعلق بالوصية بالإمامة لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، نزلت أيضا آية
وبعد أن أوضح رسول الله صلى الله عليه وآله وصيته أمام الناس كافة، وأمر أن يبلغ الشاهد الغائب، استنفرت قريش، واستنفر المعترضون على أمر الله ورسوله، المعارضون لإمامة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام. ونتيجة لإستنفار المعترضين على إرادة الله تعالى ووصية رسوله صلى الله عليه وآله، فقد حصلت حادثة هامة جدا، تبين حقيقة أخرى مرتبطة بحديث الثقلين، وهي أن كل من رفض الأمر الإلهي فيما يتعلق بالإمامة والولاية واعترض على ذلك، فإن مصيره العذاب الواقع الذي ليس له من الله دافع.
فلقد ذكرت مصادر المسلمين كافة، أن الحارث بن النعمان الفهري أتى النبي صلى الله عليه وآله على ناقة وكان بالأبطح (أبطح المدينة المنورة) فنزل وعقل ناقته، وقال للنبي صلى الله عليه وآله وهو في ملأ من أصحابه، يا محمد أمرتنا من الله أن نشهد أن لا إلَه إلا الله وأنك رسول الله فقبلنا منك ... ثم ذكر سائر أركان الإسلام ... ثم لم ترض بهذا حتى مددت بضبعي ابن عمك وفضلته علينا وقلت: من كنت مولاه فعلي مولاه! فهذا منك أم من الله؟. فقال صلى الله عليه وآله: والله الذي لا إلَه إلا هو، هو أمر الله.
فولى الحارث يريد راحلته وهو يقول: {اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب اليم} فما وصل إلى راحلته، حتى رماه الله بحجر فسقط على هامته وخرج من دبره، وأنزل الله تعالى {سأل سائل بعذاب واقع، للكافرين ليس له دافع من الله ذي المعارج}.
محاولة الرسول تدوين الوصية:
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وآله بعد كل تلك التأكيدات الشفوية على مسمع كل المسلمين، أراد أن يجعل الوصية مكتوبة مدونة قبل وفاته بثلاثة أيام، فأمر الصحابة ومن حضر عنده من الجموع، أن يأتوه بدواة وكتف ليكتب لهم كتابا ووصية حتى لا يضلوا بعده أبدا. وسنتطرق إلى موضع تلك الحادثة وتطابقها مع حديث الثقلين في محلها إن شاء الله تعالى.
ثم وفي آخر لحظات حياته صلى الله عليه وآله وسلم أكد معنى الوصية وموضوعها ومضمونها للسيدة فاطمة الزهراء عليها السلام، وقد سمع وشاهد ذلك كل من حضر في الحجرة النبوية الشريفة.
روى الهيثمي في مجمع الزوائد، والطبراني في الكبير عن علي بن علي الهلالي عن أبيه قال (دخلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في شكاته التي قبض فيها، فإذا فاطمة رضي الله عنها عند رأسه. قال: فبكت حتى ارتفع صوتها، فرفع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم طرفه إليها، فقال: "حبيبتي فاطمة ما الذي يبكيك؟". فقالت: أخشى الضيعة بعدك، فقال: "يا حبيبتي أما علمت أن الله عز وجل اطلع إلى الأرض اطلاعة فاختار منها أباك فبعثه برسالته، ثم اطلع اطلاعة فاختار منها بعلك، وأوحى إلي أن أنكحك إياه، يا فاطمة ونحن أهل بيت قد أعطانا الله سبع خصال لم تعط لأحد قبلنا ولا تعطى أحداً بعدنا. أنا خاتم النبيين وأكرم النبيين على الله، وأحب المخلوقين إلى الله عز وجل، وأنا أبوك، ووصيي خير الأوصياء وأحبهم إلى الله وهو بعلك، وشهيدنا خير الشهداء، وأحبهم إلى الله، وهو عمك حمزة بن عبد المطلب وعم بعلك، ومنا من له جناحان أخضران يطير مع الملائكة في الجنة حيث شاء وهو ابن عم أبيك وأخو بعلك، ومنا سبطا هذه الأمة وهما ابناك الحسن والحسين وهما سيدا شباب أهل الجنة، وأبوهما والذي بعثني بالحق خير منهما. يا فاطمة والذي بعثني بالحق إن منهما مهدي هذه الأمة، إذا صارت الدنيا هرجاً ومرجاً وتظاهرت الفتن وتقطعت السبل، وأغار بعضهم على بعض فلا كبير يرحم صغيراً ولا صغير يوقر كبيراً، فيبعث الله عز وجل عند ذلك منهما من يفتح حصون الضلالة، وقلوباً غلفاً، يقوم بالدين آخر الزمان كما
إني تارك فيكم
وعليه فإن الرسول قد أوصى، وأكد على الوصية، من خلال ما ذكرت من بعض الدلائل، ولكننا عند العودة إلى متن حديث الثقلين نجد أن رسول الله صلى الله عليه وآله يطابق كل الأدلة على الوصية لأمير المؤمنين وأهل بيته عليهم السلام مع متن حديث الثقلين وذلك في عبارة (إني تارك فيكم) أو بلفظ آخر (تركت فيكم) أو (مخلف فيكم) أو (خلفت فيكم).
وهذه الألفاظ تؤكد وبشكل آخر، أنه صحيح أن رسول الله صلى الله عليه وآله سوف يترك هذه الدنيا وينتقل إلى الرفيق الأعلى، ولكنه سوف يترك ما في وجوده يمثل وجود رسول الله، ويكون دوره من دور موقعية رسول الله في هداية المسلمين وتبيين ما يختلفون فيه. فيتحدث رسول الله من وجهة نظر المطمئن على أمته أنني تركت فيكم ما يؤكد على وجودي بينكم، فإنه لن ينقطع الدور الرسالي بانتقالي إلى الرفيق الأعلى، بل إن الرسالة سوف تستمر فيما تركته عندكم، وسوف أكون معكم وبينكم من خلال ما خلفته فيكم. تركت فيكم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب والأئمة من ولده، ليبينوا لكم ما تختلفون فيه من بعدي، وليهدوكم إلى الصراط المستقيم، وليعلموكم أمور دينكم، فهم ولاة الأمر الذين أوجب الله عليكم طاعتهم وموالاتهم، فيجب عليكم معرفة أئمتكم وولاة أمركم حتى تطيعوهم. ويجب عليكم قبولهم والإقتداء بهديهم وسلوك طريقهم.
طاعة أولي الأمر:
قال تعالى في سورة النساء الآية 59 {يأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم}.
روى في الكافي عن الإمام الصادق عليه السلام في قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم}. إيانا عنى خاصة أمر جميع المؤمنين إلى يوم القيامة بطاعتنا.
وفي الكافي عن الصادق عليه السلام أنه سئل عن الأوصياء، طاعتهم مفروضة؟. قال نعم هم الذين قال الله تعالى فيهم {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم}.
وروى في الكافي عن الإمام الصادق عليه السلام في هذه الآية قال نزلت في علي بن أبي طالب والحسن والحسين عليهم الصلاة والسلام، فقيل إن الناس يقولون فماله لم يسم عليا وأهل بيته في كتابه، قال، فقولوا لهم نزلت الصلاة ولم يسم الله لهم ثلاثا ولا أربعا حتى كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فسر ذلك لهم، ونزلت عليه الزكاة ولم يسم لهم من كل أربعين درهما درهم حتى كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي فسر ذلك لهم، ونزل الحج فلم يقل طوفوا أسبوعا حتى كان رسول الله صلى الله عليه واله وسلم، ونزلت {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم}، ونزلت في علي والحسن والحسين عليهم السلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في علي من كنت مولاه فعليّ مولاه، وقال أوصيكم بكتاب الله وأهل بيتي، فإني سألت الله أن لا يفرق بينهما حتى يوردهما عليّ الحوض فأعطاني ذلك، وقال لا تعلموهم فإنهم أعلم منكم، وقال إنهم لن يخرجوكم من باب هدى ولن يدخلوكم في باب ضلالة، فلو سكت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يبين من أهل بيته، لادعاها آل فلان وآل فلان، ولكن الله أنزل في كتابه تصديقا لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم، {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا} فكان علي والحسن والحسين وفاطمة صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، فأدخلهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تحت الكساء في بيت أم سلمة، ثم قال
وفي هذا المعنى وردت عشرات الآيات وكذلك الأحاديث النبوية الشريفة، فكل الآيات التي تأمر بطاعة رسول الله واضحة الدلالة بوجوب إتباع كل ما يأمر به صلى الله عليه وآله، فهو لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، ولا يمكن أن يوصي رسول الله بشيء إلا وهو على بصيرة من ربه أن ذلك الموصى به هو مراد الله تعالى، وأن متابعة الموصى به تحمي الأمة من الضلال والزيغ، وتحمي إستمرارية الدعوة المحمدية، كما لو أن رسول الله صلى الله عليه وآله موجود بيننا. قال تعالى في سورة الحشر الآية 7 {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب}.
أي أن ما أمركم به رسول الله صلى الله عليه وآله وأوصى به، هو أمر الله تعالى وهو مراده سبحانه.
مقومات أولي الأمر الذين أوصى بهم رسول الله:
ولذلك ظل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يبين حقائق كثيرة، تكشف لكل منصف حقيقة وأحقية ما تركه لنا من بعده، وجاءت الآيات تؤكد ذلك المعنى وتبعتها الأحاديث الشريفة أيضا، بأن ما تركه لنا رسول الله من بعده هو الهدى والصراط المستقيم والسبيل القويم المنجي من الضلال ومن العذاب الأليم.
روى السيوطي في الدر المنثور قال: أخرج ابن جرير وابن مردويه وأبو نعيم في المعرفة، والديلمي وابن عساكر وابن النجار قال: لما نزلت {إنما أنت منذر ولكل قوم هاد} وضع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يده على صدره فقال "أنا المنذر، وأومأ بيده إلى منكب علي عليه السلام فقال (أنت الهادي يا علي، بك يهتدي المهتدون من بعدي).
وأخرج ابن مردويه والضياء في المختارة، عن ابن عباس في الآية. قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (المنذر أنا والهادي علي بن أبي طالب عليه السلام).
وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد المسند، وابن أبي حاتم والطبراني في الأوسط، والحاكم وصححه وابن مردويه وابن عساكر، عن علي بن أبي طالب عليه السلام في قوله {إنما أنت منذر ولكل قوم هاد} قال: رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنا المنذر، وعلي الهادي.
وروى الحاكم في المستدرك عن أنس بن مالك أن النبي -صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال لعلي عليه السلام (أنت تبين لأمتي ما اختلفوا فيه من بعدي). ورواه الديلمي وفي كنز العمال.
وحتى يبين رسول الله صلى الله عليه وآله أنه ترك بعده قائدا عظيما وإماما قدوة للناس قال: (يا علي أنا أقاتلهم على تنزيل القرآن وأنت تقاتلهم على تأويله). رواه الخوارزمي والقندوزي الحنفي وابن حجر في الإصابة، ورواه في كنز العمال، وغيرها كثير.
وأخرج ابن مردويه من طريق محمد بن مروان، عن الكلبي، عن أبي صالح، عن جابر بن عبد الله: "عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله: {فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون} نزلت في علي بن أبي طالب، أنه ينتقم من الناكثين والقاسطين بعدي. رواه السيوطي في الدر المنثور.
وروى في مجمع الزوائد عن علي بن ربيعة قال: سمعت علياً على منبركم هذا يقول: عهد إلي النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن أقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين.
روى القرطبي في الجامع لأحكام القرآن قال: نزلت في علي بن أبي طالب عليه السلام، وقاله مجاهد والسدي، وحملهم على ذلك قوله تعالى: {الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون}. وذلك أن سائلا سأل في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلم يعطه أحد شيئا، وكان علي في الصلاة في الركوع وفي يمينه خاتم، فأشار إلى السائل بيده حتى أخذه.
وروى عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس في قوله {إنما وليكم الله ورسوله ...} الآية. قال: نزلت في علي بن أبي طالب.
وروى الطبراني في الأوسط وابن مردويه عن عمار بن ياسر قال: وقف بعلي عليه السلام سائل وهو راكع في صلاة تطوع، فنزع خاتمه فاعطاه السائل، فأتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاعلمه ذلك، فنزلت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذه الآية {إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون} فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه، ثم قال: من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه.
وروى السيوطي في الدر المنثور قال أخرج أبو الشيخ وابن مردويه عن علي ابن أبي طالب عليه السلام، قال: نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته {إنما وليكم الله ورسوله والذين ....} إلى آخر الآية. فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فدخل المسجد، جاء والناس يصلون بين راكع وساجد وقائم يصلي، فإذا سائل فقال: يا سائل، هل أعطاك أحد شيئا؟ قال: لا، إلا ذاك الراكع (لعلي بن أبي طالب) أعطاني خاتمه.
وروى ابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن عساكر عن سلمة بن كهيل قال: تصدق علي بخاتمه وهو راكع، فنزلت {إنما وليكم الله} الآية.
وروى ابن جرير عن السدي وعتبة بن حكيم مثله.
وروى السيوطي في الدر المنثور قال أخرج ابن مردويه من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: أتى عبد الله بن سلام ورهط معه من أهل الكتاب نبي الله صلى الله عليه وسلم عند الظهر، فقالوا يا رسول الله، ان بيوتنا قاصية لا نجد من يجالسنا ويخالطنا دون هذا المسجد، وإن قومنا لما رأونا قد صدقنا الله ورسوله وتركنا دينهم أظهروا العداوة وأقسموا ان لا يخالطونا ولا يؤاكلونا، فشق ذلك علينا، فبيناهم يشكون ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم {إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون} ونودي بالصلاة صلاة الظهر، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا سائل، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: أعطاك أحد شيئا؟ قال: نعم. قال: من؟ قال: ذاك الرجل القائم. قال: على أي حال أعطاكه؟ قال: وهو راكع. قال: وذلك علي بن أبي طالب، فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك وهو يقول {ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون} المائدة الآية 56.
وبالإضافة إلى كل ما ذكرنا من روايات تؤكد أنها نزلت في علي أمير المؤمنين عليه السلام، ومن أن تدعيم المعنى وبشكل أكبر وأقوى فإنني أضيف آيات أخرى تدل على مقومات الأئمة الذين خلفهم لنا رسول الله صلى الله عليه وآله من بعده لعلها تعطي صورة أوضح لمن يحاول أن يشكك في إختيار الله تعالى للمسلمين.
حيث أنها لم تكن المرة الوحيدة التي لا يستجيب لنداء الله ورسوله سوى أمير المؤمنين وأهل البيت عليهم السلام، فكل المسلمين يعرفون سبب نزول سورة الدهر عندما قال الله تعالى في علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام بعدما تصدقوا بطعامهم أياما متتالية وكانوا محتاجين لذلك الطعام حيث أنهم
قال تعالى في سورة الإنسان الآيات 7 - 9 {يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا، ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا، إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا}.
ثم إليك آية النجوى التي لم يطبقها إلا أمير المؤمنين عليه السلام ولن يطبقها أحد غيره، عندما أمر الله تعالى المسلمين إذا أرادوا أن يناجوا رسول الله صلى الله عليه وآله فعليهم أن يقدموا بين يدي نجواهم صدقة، فلم يستجب أحد لذلك الأمر الإلهي سوى علي بن أبي طالب عليه السلام.
قال تعالى في سورة المجادلة الآية 12 {يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة ذلك خير لكم وأطهر فإن لم تجدوا فإن الله غفور رحيم}.
روى الحاكم في المستدرك وغيره كثير عن علي بن أبي طالب عليه السلام أنه قال: إن في كتاب الله لآية ما عمل بها أحد، ولا يعمل بها أحد بعدي، آية النجوى. {يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة}.
قال عليه السلام: كان عندي دينار، فبعته بعشرة دراهم، فناجيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فكنت كلما ناجيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم قدمت بين يدي نجواي درهما، ثم نسخت، فلم يعمل بها أحد، فنزلت: {أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات} [المجادلة: 13]الآية.
وروى القرطبي في الجامع عن ابن عمر أنه قال: ابن عمر: لقد كانت لعلي رضي الله عنه ثلاثة لو كانت لي واحدة منهن كانت أحب إلي من حمر النعم: تزويجه فاطمة، وإعطاؤه الراية يوم خيبر، وآية النجوى.
وروى السيوطي في الدر المنثور قال أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: {إذا ناجيتم الرسول} الآية قال: إن المسلمين أكثروا المسائل على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى شقوا عليه، فأراد الله
وروى السيوطي في الدر المنثور قال أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن علي قال: ما عمل بها أحد غيري.
وروى السيوطي أيضا قال أخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد قال: نهوا عن مناجاة النبي صلى الله عليه وسلم حتى يقدموا صدقة فلم يناجه إلا علي بن أبي طالب، فإنه قد قدم دينارا فتصدق به، ثم ناجى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن عشر خصال. ومن أحب أن يعرف عن تلك العشر خصال فليراجع كتاب الكافي وغيره من كتب الحديث.
ومن الدلائل والمقومات على حقيقة ما خلفه وتركه لنا رسول الله من بعده فهم أولي الأمر الذين اجتباهم واختارهم الله لنا وهم علي والأئمة من ولده عليهم السلام الروايات التالية.
روى السيوطي في الجامع الصغير عن ابن عباس وعن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال (أنا مدينة العلم، وعلي بابها، فمن أراد العلم فليأت الباب).
وروى السيوطي والطبراني والحاكم عن أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال (علي مع القرآن والقرآن مع علي، لن يفترقا حتى يردا علي الحوض).
ثم إن هناك عشرات الحوادث والمسائل التي عجز عن معرفتها والإجابة عليها كل الصحابة بعد رسول الله، فلم يكن يحل كل تلك المسائل والإشكالات أو يجيب عن المسائل المستعصية إلا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، وكتب الصحاح والسنن شاهدة على ذلك، ولا يتسع المقام لذكرها كلها في هذا البحث، لكنها كلها تبين أعلمية ومعرفة وشجاعة وأفضلية أمير المؤمنين الذي تركه رسول الله صلى الله عليه وآله ليبين لأمته ما يختلفون فيه من بعده، ولقد شهد بذلك كل الصحابة ومنهم أبو بكر وعمر.
وروى مالك قال: لم يكن أحد من الصحب يقول: اسألوني إلا علي بن أبي طالب.
وروى السيوطي وغير أن عمر كان يقول: لولا عليّ هلك عمر واتفق له مع أبي بكر.
وروى في مجمع الزوائد عن أبي ذر قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وعلى آله وسلم لعلي: يا علي من فارقني فارق اللّه ومن فارقك فارقني. ورواه البزار.
حقيقة الإستغفار:
ومما يلفت النظر في تبيان أهمية ما خلفه رسول الله صلى الله عليه وآله لأمته، وتركه بعد وفاته، وأوصى بالتمسك به حتى يكون سببا للنجاة من العذاب، ونجاة من الزيغ والضلال، وهو الإستغفار والمغفرة والغفران، ويتمثل المعنى الحقيقي في هذه الكلمات من خلال قوله تعالى في سورة الأنفال الآية: 33 {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون}.
والإستغفار الحقيقي معناه ولاية الإمام علي عليه السلام والأئمة من ولده عليهم السلام والدخول في طاعتهم وموالاتهم والإقتداء بهديهم، وهذا المعنى تستطيع أن تستنبطه مما سأذكره من آيات وأحاديث من خلال ترابطها مع بعضها وتلازمها في المعنى والمضمون والموضوع.
فالإستغفار في الآية معناه الأمان من العذاب والأمان والنجاة في الدنيا والآخرة، ومعناه التسليم لأمر الله، ومعناه الإستسلام.
أليس الدخول في ولاية أهل البيت عليهم السلام أمان ونجاة وبعد عن الضلال والهلاك؟.
وذكر القرطبي في الجامع لأحكام القرآن عن عكرمة ومجاهد أن معنى يستغفرون في الآية هو يسلمون ويستسلمون.
وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان في هذه الأمة أمانان: رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والاستغفار، فذهب أمان، يعني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وبقي أمان، يعني الاستغفار.
وروى الترمذي والسيوطي في الجامع الصغير عن أبي موسى قال، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (أنزل الله علي أمانين لأمتي {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم}، {وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون} فإذا مضيت تركت فيهم الاستغفار إلى يوم القيامة). ورواه الحاكم عن أبي هريرة.
ولو طابقنا معاني الإستغفار التي هي الأمان والنجاة من العذاب والإستسلام لأمر الله ورسوله، مع بعض الأحاديث التي سوف أذكرها لك، لوجدنا وبشكل واضح لا يستشكل على أحد أن الإستغفار معناه الدخول في ولاية أهل البيت عليهم السلام، وهو التمسك بالكتاب والعترة الطاهرة.
فقد روى السيوطي في الجامع الصغير عن سلمة بن الأكوع قال، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (النجوم أمان لأهل السماء، وأهل بيتي أمان لأمتي). ورواه أبو يعلى في مسنده.
وروى الحاكم في المستدرك عن جابر قال، قال رسول الله صلى الله عليه وآله (أهل بيتي أمان لأمتي).
وروى الحاكم عن ابن عباس قال، قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم (النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق، وأهل بيتي أمان لأمتي من الاختلاف، فإذا خالفتها قبيلة من العرب، اختلفوا، فصاروا حزب إبليس).