الصفحة 401

على اعتبار أنّ المادّة في في المقام الأوّل، ثمّ يأتي الوعي الذي هو في نظرهم، شكل من أشكال المادة .

وكانت الشبيبة الروسية تعيش في غمرة الانبهار والإنجازات التي حققتها الشيوعية في مدى نصف قرن من عمر الثورة البولشيفية، التي حدثت سنة 1335هـ (1917م) في بداية هذا القرن، والتي بدأت معها الدولة منذ الستينات تسير نحو الصدارة لتصبح دولة كبرى في مقابل الغرب، كان لها أثر كبير في محيطها وفي غيره.

وهي اليوم تشهد انحساراً نتيجة لظروف موضوعية تتعلّق بمصداقية المبادىء التي قامت عليها، والتي ثبت أنّها لم تكن إلاّ شعارات مؤقتة وزائفة، قامت في ظروف تعتبر الأسوء في العالم المعاصر، ممّا أتاح لها أن تحقّق ذلك النجاح والازدهار، وبعد انكشاف زيف تلك الحضارة المادية والخدعة الشيوعية كان السقوط المدوي الذي نعيش آثاره وتجربته الجديدة، وقد ترافق ذلك مع تنامي الصحوة الإسلامية التي مازالت تمتدّ وتتوسّع إلى محيط أبعد، وقد حلّت اليوم بنظري النظرية الإسلامية محلّ النظرية الماركسية في مواجهة الغرب ورأسماليته.

س ـ هل نستطيع ان نعرف الدوافع والظروف التي قادتك لاعتناق الإسلام؟

ج ـ نعم، كنت أشعر منذ البداية في ظلّ النظام الماركسي بثغرات على مستوى الفكر والعقيدة، وكانت هناك بضعة أسئلة فطرية تلحّ عليّ باصرار، ولا أجد لها جواباً، وبالإضافة إلى دوافع الفطرة التي هيّأتني إلى دخول الجّو الجديد، كان تعرّفي على نموذج جديد في الفكر من خلال تعارفي مع زوجي، وقد ساعدني ذلك على الخروج من واقعي الحائر، فكان اللقاء معه نقطة بداية للدخول


الصفحة 402

إلى أجواء الإسلام، وكانت هذه الفرصة مهمّة، كونها ساعدتني على مراجعة آرائي السابقة وتمحيص الثقافة والأفكار التي تربّيت عليها.

وبداية كان التساؤل عن أصل الإنسان (النظرية الداروينية) عن النشوء والارتقاء، مسيطراً عليّ، والسؤال المحور كان هل المادة أوّلاً أم الوعي، وأيّهما ينتج عن الآخر؟ وذلك يدور في إطار نظرية أصل الأشياء، أو مبدأ الخلق والتكوين، وذلك بحثاً عن العلّة الأولى الخالقة للكون، أهي المادة وتناقضاتها، أم أنّ هناك قوّة فوق المادة؟ من هنا بدأت رحلتي مع الإيمان والعقيدة، حيث وصلت إلى قناعات كافية وإيمان راسخ عن طريق الإجابات المقنعة التي يقدّمها الإسلام في هذا المجال وسواه.

س ـ ما كان موقف أسرتك وأصدقائك من تحوّلك هذا؟

ج ـ أوّل الأمر كانت ردود الفعل سلبية لدى أهلي، نتيجة الدعاية السلبية الموجّهة عن الإسلام في آسيا الوسطى وجمهوريات الاتحاد السوفياتي، وكذلك ما تعرضه الأفلام عن المرأة الشرقية المسلمة على أنّها سلعة للبيع، وهي صورة قديمة غير صحيحة، يتداولها الإعلام الشيوعي، ولكن بعدما استطعت توضيح الصورة في أذهان أهلي وتبديد هذه الدعايات، تفهّموا دوافعي ورحبّوا بفكرة الزواج من رجل مسلم.

أمّا أصدقائي وأقربائي فقد بقوا على دهشتهم وتعجّبهم من تحوّلي إلى الإسلام، ومن اختياري أن أعيش في مجتمع وطريقة مختلفين عمّا نشأت فيه وترعرعت عليه، ولكنّي آمل في يوم ما، أن يعوا ويتوصّلوا إلى ما توصّلت إليه.

س ـ ما هي المتغيّرات الإيجابية التي تمت في حياتك بعد اعتناقك الإسلام .


الصفحة 403

ج ـ بعد اعتناقي الإسلام شعرت براحة نفسية عظيمة، خصوصاً أنّني بدأت أمارس الصلاة، وكذلك الصوم الذي فهمته كباعث ديني اجتماعي للتعاطف مع الفقراء، وقد وفّرت لي هذه العبادات شعوراً بالاطمئنان، ودفعتني نحو التكامل الروحي والإنساني.

وبعد أن عرفت أنّ للحياة هدفاً، وأنّ للكون خالقاً ومدبّراً، تخلّصت من حيرتي، ولم يعد هناك فراغ في حياتي على مستوى الفكر والعقيدة.

س ـ على ضوء تجربتك هل تقترحين وسائل جديدة للدعوة إلى الله؟

ج ـ يجب أن ندعو الناس إلى حوار فكري وعقيدي مهما كانت عقيدتهم ونظرتهم للحياة، على قاعدة الاقتناع والبحث عن الحقيقة للوصول إلى قواسم مشتركة، خاصّة مع أتباع الديانات السماوية الأخرى، وذلك مصداقاً للآية الكريمة: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَة سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ الله وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً}(1).

كما علينا أن نستفيد بشكل واضح وذكي من وسائل الإعلام الحديثة، كي نعرض أفكار الإسلام ومفاهيمه على أكبر مجموعات ممكنة من مختلف القوميات والشعوب.

س ـ ما هي نظرتك إلى واقع المسلمين اليوم؟

ج ـ أرى أنّ أكثر المسلمين يعيشون القشور في حياتهم، ويتركون جوهر الإسلام، وهناك الكثير ممن اكتفوا بالنظرية وتركوا التطبيق، ولم يحوّلوا ما أخذوه إلى واقع علمي وإيجابي، بالإضافة إلى أسباب وعوامل خارجية أخرى، تؤدّي إلى ضعف التزام قطّاعات كبيرة من المسلمين بدينهم، غير أنّ ذلك يجب أن لا

____________

1- آل عمران(3) : 64.


الصفحة 404

يمنع الواعين من العمل الدؤوب لتحسين واقع المسلمين، وتقوية الدين في نفوسهم، كذلك أشير إلى ضعف وحدة المسلمين، هذه الوحدة ضرورية لا من أجل خوض الحروب، بل من أجل لعب دور حضاري وفكري واسع ومؤثّر، فالإسلام لم يقم على الحروب كما يدّعي الغربيون، بل كانت تلك وسيلة للدفاع عن الرسالة وكيان الأمّة.

س ـ وما هي رؤيتك إلى واقع المرأة المسلمة اليوم؟

ج ـ يجب على المرأة المسلمة أن لا تنغلق على نفسها، وهي حينما ترتدي الحجاب إنّما تستعيد حرّيتها الحقيقية، فهي إذا فهمت الإسلام أصبحت عصيّة على المحاولات الخبيثة العاملة على انحرافها وضياعها، وبالتالي على إضعاف الأمّة والمجتمعات الإسلامية، ولذلك يجب العمل بكل جهد لصيانة الجيل المسلم وخصوصاً الفتيات والمرأة بشكل عام، إنّ المشكلة الرئيسية هي مع المسلمات قبل غيرهن، وإنّي أدعوهن للعودة إلى الينابيع الإسلامية الأصيلة، كي يشاركن بشكل فعّال في رقي مجتمعاتهن، وإنّني أثمّن نشاط الحركات النسائية الإسلامية الفعّالة، وأطلب دعمهن ليتمكّن من تحقيق أهدافهن العزيزة.

س ـ هل من كلمة توجيهينها عبر المجلة؟

ج ـ أشكر مجلّة (نور الإسلام) التي أتاحت لي الفرصة، وفسحت لي المجال، ولكل من يريد أن يتحدّث عن تجربته الشخصية في طريقه للهداية، وإنّني أدعو المسلمات المهتديات ـ خصوصاً ـ كي يتحّدثن عن تجربتهن في الاهتداء إلى الإسلام، من أجل إغناء أسلوب الدعوة وإيضاح الطريق أمام الأخريات.

كما أدعو الرجل المسلم إلى أن يعطي المرأة فرصة التعلّم والثقافة الصحيحة; كي تنفتح عليّ المجتمع وتتمكّن من التعرّف على نقاط الوعي; لأنّ


الصفحة 405

المرأة هي دعامة المجتمع، وعلى عاتقها تقع مسؤولية التربية والإعداد.

كما أدعو علماء الدين والهيئات الدينية الإسلامية كي يحوّلوا الدين من مجرّد دعوة جامدّة إلى دين حي يغتني بالفكر والواقع ويغنيهما، وأدعوهم إلى أن يرتفعوا إلى مستوى الرسالة الحضارية الإنسانية التي جاء بها الإسلام، والعمل على إزالة الخلافات فيما بينهم; لأنّها تؤثّر على حركة التبليغ وسمعة الإسلام وهم يتحمّلون بذلك مسؤولية شرعية كبيرة(1).

____________

1- مجلّة نور الإسلام: العدد (67ـ68)، السنة السادسة 1416هـ ـ ص 88 .


الصفحة 406

(96) أبو بكر إيزمبا

(شافعي / أوغندا)

من مواليد أوغندا، شافعي المذهب، اعتنق مذهب الشيعة الإمامية عن طريق أحد أصدقائه الذي استبصر قبله.

المفاجأة باستبصار صديقه:

استغرب "أبو بكر ايزمبا" من التحاق صديقه بركب أهل البيت(عليهم السلام)، فاندفع إلى الاستفسار حول أسباب هذا التحوّل المذهبي، وجعل يسأل نفسه:

ما هذا الجديد الذي طرأ على اعتقاد صديقي؟!

ما هذا المذهب الذي من أجله ترك صديقي انتماءه لأهل السنّة والجماعة؟!

فاستفسر منه عن الأسباب التي دفعته لذلك، فبيّن له صديقه المستبصر جملة من الحقائق التاريخيّة، وقدّم له العديد من الأدلّة المقنعة على أنّ أتباع مذهب أهل البيت(عليهم السلام) هم السائرون على طريق الحقّ والصراط المستقيم.

حينئذ بدأ الشكّ يشقّ طريقه في عقل "أبي بكر ايزمبا"، وبدأ النزاع بينه وبين نفسه، فكانت النتيجة أن توصّل بعد البحث إلى أنَّ موروثه العقائدي لا يتطابق مع الصحيح ممّا جاء به الإسلام والرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)، وأنّه لا يوجد سبيل أفضل من عترة الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)، ولذلك ترك انتماءه السابق وأمسى كصديقه يجمعهما مذهب واحد وهو مذهب أهل البيت(عليهم السلام).


الصفحة 407

ما بعد الاستبصار:

عاش "أبو بكر ايزمبا" بعد الاستبصار حالة ردّة فعل شديدة ـ كغيره من المستبصرين ـ اتجاه من زوّر له الحقيقة، وأخفى عنه ما يجب أن يعرفه عن حقيقة مذهب أهل البيت(عليهم السلام)، ولعلّ السرّ يكمن في أنّ "أبو بكر ايزمبا" اكتشف قوّة وضوح الحقّ في هذا المذهب، ووجد أنّه محصّن بأدلّة محكمة تبرهن على أحقيّته وصحّته عمّا سواه من المذاهب الإسلامية.

من هذا المنطلق اندفع بشدّة للدفاع عن مذهب أهل البيت(عليهم السلام)، وبذل في هذا السبيل كُلّ جهده من أجل سعادة إخوته من أهل السنّة وإزالة الغشاوة التي تحجبهم عن النظر بعين البصيرة إلى الحقيقة السّاطعة والمغيّبة عنهم بسبب التكتيم والتضليل الإعلامي، وتبيّن لأبي بكر ايزمبا بأنّ مذهب أهل البيت(عليهم السلام) قد تعرّض على مرّ العصور لهجمات عنيفة، وتعرّض للكثير من التهم والافتراءات، وهذه الهجمات مستمرّة إلى يومنا هذا، وقد قام بهذا الأمر أخيراً التيار الوهابي حيث شنّ حملاته المسعورة ضدّ مذهب أهل البيت(عليهم السلام)، وألصق به تهم وافتراءات ما انزل الله بها من سلطان.

اتهام الشيعة بالشرك:

إنّ من التهم الشنيعة التي نسبها الوهابية إلى أتباع مذهب أهل البيت(عليهم السلام) هي "الشرك" والعياذ بالله، وذلك بسبب أنّهم يتوسّلون بالنبي الأعظم(صلى الله عليه وآله وسلم) وعترته الطاهرة(عليهم السلام) وبكثير من الصالحين، فيطلبون من هؤلاء العظماء الشّفاعة وقضاء الحوائج والاستشفاء وغير ذلك من الحاجات.

والذي يطلب الحقّ بإنصاف، يجد أنّ هذه الممارسات بعيدة عن الشرك بُعد الحقّ عن الباطل، ولكن البعض ممن في قلبه مرض ساء الظنّ بالمسلمين وبحقيقة


الصفحة 408

ما يقصدونه في هذا التوسّل، وجعل فهم التوسّل المشروع واللاّمشروع في الإسلام حكراً على نفسه ومن تبعه وأخذ يفسّر التوسل بمعان ترومها نفسه وما يفهمه ولا يقبل بتفسير غيره من المسلمين، وحكم بشرك شريحة واسعة من المسلمين امعاناً في النيل منهم وإخراجهم من دائرة الإسلام ولأنّه رأى بأنّ توسّلاتهم بالأنبياء(عليهم السلام)والأوصياء من عترة الرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله وسلم) لا تنطبق عليهم بتلك المعاني التي فسّرها بحدود عقله وتفكيره.

التوسّل ليس بشرك:

نقل ابن منظور في لسان العرب عن الجوهري، قال:

الوسيلة: "ما يتوصّل به إلى الشيء ويتقرّب به. والجمع: الوُسُل والوسائل والتوسيل والتوسّل واحد"(1).

وفي الاصطلاح: "هو أن يقدّم العبد إلى ربّه شيئاً; ليكون وسيلة إلى الله تعالى; لأن يتقبّل دعائه، ويجيبه إلى ما دعا وينال مطلوبه"(2).

ومن الواضح أنّ التوسّل بهذا المعنى ليس عليه أي شائبة، بل هو ما تدعو إليه الفطرة الإنسانية السليمة، وهو أيضاً ما جرت عليه العادة البشرية، فإنّ أىّ شخص إذا عرضت له حاجة ما، ولا تقضى إلاّ ممّن هو أعلى منه مقاماً وشأناً نراه يتوسّط من هو أقرب منه إليه، ويجعله وسيلة لقضاء حاجته.

والشيعة الإمامية، بمقتضى إيمانهم بالأنبياء(عليهم السلام)، وثبوت الإمامة الإلهية للأئمة من عترة الرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله وسلم)، وما يترتّب عليها من مقام شامخ وعظيم عند الله تعالى.

____________

1- لسان العرب، ابن منظور 11: 724 مادة وسل.

2- التوسّل، الشيخ جعفر السبحاني، ص 18.


الصفحة 409

يجعلون هؤلاء الأنبياء والأئمة(عليهم السلام) وسيلة وواسطة بينهم وبين الباري عزّ وجلّ، لقضاءِ حوائجهم وغفران ذنوبهم.

وكلّ ذلك اعتقاداً منهم بأنّ الله تعالى سيستجيب لهم ويقضي حاجاتهم ويغفر لهم تكريما لتلك الذوات المقدّسة، بما لها من المقام والمنزلة العلية عنده عزّ وجلّ، والتوسّل بهذا المعنى لا إشكال ولا غبار عليه من حيث المبدأ; لأنّه عملية مشروعة ومرغوبة في الإسلام.

التوسل عند الشيعة:

كيف تتم عملية التوسّل عند الشيعة الإمامية؟

التوسّل له طرق كثيرة ومتعدّدة، وأهم نقطة تجب مراعاتها على المتوسِّل، هي بأنّ يعتقد بأنّ المتوسَّل به، لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضرّاً، وكلّ شيء في كيانه ووجوده وصفاته ومقامه من الله تعالى، غاية الأمر أنّه وبسبب قربه من الله تعالى وعلّو منزلته عنده، يجعله وسيلة بينه وبين ربّه، لعلّ الله يعطيه ما يريد تكريماً لهذه الواسطة، أو قد يقطع بقضاء حاجته لحسن ظنّه بالله عزّ وجلّ، وأنّه سيقبل بهذه الواسطة والوسيلة المقربّة منه، وتكون سبباً لنيل مطلوبه.

وهذا كلّه متحقّق في قصد المسلم الشيعي عندما يتوسّل بالأئمة(عليهم السلام)، فليس هناك مسلماً شيعيّاً يعتقد أنّ الإمام(عليه السلام) سسيجيب طلبه من دون الله تعالى، بل على العكس من ذلك، فهو يعتقد أنّ الأئمة(عليهم السلام) سيكونون سببا لقبول طلبه وغفران ذنبه وما إلى ذلك لأنّهم في أقصى مراتب العبودية والإخلاص لله سبحانه وتعالى، ولأنّهم صفوته من خلقه، فيستجيب الله تعالى لهم تكريماً لهم واعلاءاً لمنزلتهم عنده.

ومادام هذا الاعتقاد حاضراً في حال التوسّل، فلا شرك حينئذ عند


الصفحة 410

المتوسِّل، سواء سأل الله تعالى بذات النبيّ أو الإمام أن يقضي حاجته، أو طلب من النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) أو الإمام كذلك، مع التسليم بأنّ ذلك لا يتمّ من دون إذن وقدرة الله تعالى.

إشكالية الموت:

قال البعض، بأنّ طلب الدعاء من الأنبياء والأئمة(عليهم السلام) بعدالموت بدعة وشرك وحرام، واستدلّ بقوله تعالى:

{وَمَا يَسْتَوِي الاَْحْيَاء وَلاَ الاَْمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاء وَمَا أَنتَ بِمُسْمِع مَّن فِي الْقُبُورِ}(1).

وقد أجيب عن ذلك، بأنّ علماء السنّة لم يفسّروا الآية الكريمة بما ذهب إليه هذا البعض، فهذا "ابن كثير الدمشقي" يقول في تفسيره:

"وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاء} أي يهديهم إلى سماع الحجّة وقبولها والانقياد لها: {وَمَا أَنتَ بِمُسْمِع مَّن فِي الْقُبُورِ} أي كما لا ينتفع الأموات بعد موتهم وصيرورتهم إلى قبورهم وهم كفّار بالهداية والدعوة إليها، كذلك هؤلاء المشركون الذين كتب عليهم الشقاوة لا حيلة لك فيهم ولا تستطيع هدايتهم"(2).

ويقول الطبري أيضاً في تفسيره:

"وقوله: {إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاء وَمَا أَنتَ بِمُسْمِع مَّن فِي الْقُبُورِ} يقول تعالى ذكره: كما لا يقدر أن يسمع من في القبور كتاب الله، فيهديهم به إلى سبيل الرشاد، فكذلك لا يقدر أن ينتفع بمواعظ الله، وبيان حججه، من كان ميّت القلب من أحياء عباده، عن معرفة الله، وفهم كتابه وتنزيله، وواضح حججه، كما حدثنا بشر، قال:

____________

1- فاطر(35) : 22.

2- تفسير القرآن العظيم، ابن كثير الدمشقي، ج3/ 557.


الصفحة 411

ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة {إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاء وَمَا أَنتَ بِمُسْمِع مَّن فِي الْقُبُورِ} كذلك الكافر لا يسمع، ولا ينتفع بما يسمع"(1).

فعلى هذا لا علاقة للآية الكريمة بما استُدلَّ له، والآية غير ناظرة إلى ما ذهب إليه هذا البعض، من أنّ الأموات لا يسمعون، وأنّ طلب الدعاء منهم بدعة وشرك وما إلى ذلك. وإنّما نفهم من خلال ما ذكره الطبري وابن كثير، بأنّه كما أنّ الأموات لا تنفعهم الهداية والدعوة والموعظة بعد ما صاروا إلى القبور، كذلك الأحياء من الكفّار فإنّ من مات قلبه لا يقدر أن ينتفع بالمواعظ، وبيان الحجج الإلهيّة، وأن يفهم الكتاب العزيز.

بل ورد في صحيح مسلم عن أنس بن مالك:

"أنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ترك قتلى بدر ثلاثاً، ثمّ أتاهم فقام عليهم، فناداهم فقال "يا أبا جهل بن هشام، يا أميّة بن خلف، يا عتبة بن ربيعة، يا شيبة بن ربيعة، أليس قد وجدتم ما وعد ربّكم حقّاً؟ فإنّي وجدت ما وعدني ربّي حقاً" فسمع عمر قول النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم). فقال: يا رسول الله، كيف يسمعوا، وأنّي يجيبوا وقد جيّفوا؟ قال "والذي نفسي بيده: ما أنتم بأسمع لمّا أقولُ منهم، ولكنهم لا يقدرون أن يجيبوا" ثمّ أمر بهم فسحبوا فأُلقوا في قليب بدر"(2).

وقال القرطبي في تفسيره حول الآية الكريمة: {إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتَى}(3) : "وقد عورضت هذه الآية بقصّة بدر وبالسلام على القبور، وبما روي في ذلك من أنّ الأرواح تكون على شفير القبور في أوقات، وبأنّ الميّت يسمع قرع النعال(4) إذا

____________

1- جامع البيان، الطبري: ج22 ـ ص139.

2- صحيح مسلم: 4: 1746،ح2874.

3- النمل (27) : 80.

4- صحيح البخاري 1: 325، ح1338.


الصفحة 412

انصرفوا عنه، إلى غير ذلك، فلو لم يسمع الميّت لم يُسلَّم عليه، وهذا واضح وقد بيّناه في كتاب "التذكرة"(1).

وقفة من ابن تيميّة:

ورد حديث في سنن ابن ماجة، قال عنه: "هذا حديث صحيح"، قال: "حدثنا أحمد بن منصور بن سيّار، ثنا عثمان بن عمر، ثنا شعبة، عن أبي جعفر المدني، عن عمارة بن خزيمة بن ثابت، عن عثمان بن حنيف، أنّ رجلاً ضرير البصر أتى النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: ادع الله لي أن يعافيني.

فقال: "إنّ شئت أخّرت لك وهو خير، وإنّ شئت دعوتُ".

فقال: ادعه.

فأمره أن يتوضّأ فيحسن وضوءه، ويُصلِّيَ ركعتين، ويدعو بهذا الدعاء: "اللّهم: إنّي أسألك، وأتوجّه إليك بمحمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) نبي الرحمة، يا محمّد إنّي قد توجّهت بك إلى ربّي في حاجتي هذه لتقضى، اللّهم: فشفّعه فِيَّ"(2).

وهذا الحديث مع ما فيه من الدلالة الواضحة على جواز التوسّل بذات النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) كعبارة: "اللّهم: إنّي أسألك، وأتوجّه إليك بمحمّد(صلى الله عليه وآله وسلم)"، وعبارة: "يا محمّد إنّي قد توجّهت بك إلى ربّي"، غير أنّ ابن تيميّة اعترض على ذلك، وشرع يُفسّر الدعاء بتفسيرات واهية لا تحمل في طيّاتها دليلاً يمكن الاعتماد عليه.

يقول ابن تيميّة:

"إنّ معنى قوله "أسألك وأتوجّه إليك بنبيّك محمّد" أي بدعائه

____________

1- الجامع لأحكام القرآن، القرطبي: 13: 154.

2- سنن ابن ماجة: 153 ـ ح1385.


الصفحة 413

وشفاعته"(1).

واستدلّ على ذلك بقوله: "وهذا الأعمى شفع له النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)، فلهذا قال في دعائه "اللّهم فشفّعه فيّ" فعلم أنّه شفيع فيه، ولفظه "إنّ شئت صبرتَ وإنّ شئت دعوتُ لك" فقال: ادع لي.

فهو طلب من النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يدعو له، فأمره النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يصلّي ويدعو هو أيضاً لنفسه ويقول في دعائه "اللّهم فشفّعه فيَّ"(2).

هنا يمكن أن نسأل ابن تيميّة:

أين الإثبات على أنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) قد دعا للأعمى؟ حتّى تفّسر قوله: "وأتوجّه إليك بنبيّك"، "أي بدعائه وشفاعته"!، فإنّ غاية ما تثبته الرواية هو أنّ الأعمى طلب من النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يدعو له، فأمره(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يتوضّأ ويصلّي ويدعو، فلا يوجد في الرواية نص يثبت دعاء الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)للأعمى، لا من حيث صيغة الدعاء، ولا من حيث الإخبار عن دعائه(صلى الله عليه وآله وسلم) للأعمى.

فإنّ تقدير "بدعائه وشفاعته" في قوله: "وأتوجّه إليك بنبيّك" خروج عن الظاهر، وإدّعاء فارغ البرهان.

ويؤيّد ما بيّناه، ما ذكره السندي في شرحه لهذا الحديث، حيث قال: "فإن قلت: كيف أمره بالدعاء وقد طلب الرجل منه أن يدعو له؟ وقال سابقاً: (إن شئت دعوتُ) بإسناد الدعاء إلى نفسه؟

قلت: كأنّه أشار بذلك إلى أنّ تعليم الدعاء والتشفيع به (بمنزلة دعائه)"(3).

____________

1- قاعدة جليلة في التوسّل والوسيلة: ص173.

2- قاعدة جليلة في التوسّل والوسيلة: ص172.

3- سنن ابن ماجة، بشرح الإمام السندي 2: 156.


الصفحة 414

فإنّ كلام السندي هذا، فيه إشارة إلى أنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) لن يدعُ للأعمى، وإنّما كان تعليم الدعاء وقراءته، بمنزلة دعائة(صلى الله عليه وآله وسلم)، وحينئذ، فإنّ كلّ من قرأ هذا الدعاء بإخلاص وبشرطه وشروطه، كان بمنزلة من دعا له الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)، وهذا يعمُّ من توسّل به في حياته ومغيبه ومماته(صلى الله عليه وآله وسلم).

ومن جهة أخرى، يدلّ هذا الحديث على جواز التوسّل بذات النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)وجاهه عند الله تعالى. وذاته المقدسة(صلى الله عليه وآله وسلم) لا تتأثّر بعوامل الحياة والغياب والموت.

ثمّ إنّ ابن تيميّة اعترض على من ذهب إلى جواز التوسّل بالنبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)بعد مماته، بقوله: "فلو كان التوسّل به حيّاً وميّتاً سواء، والمتوسّل به الذي دعا له الرسول كمن لم يدعُ له الرسول، لم يعدلوا عن التوسّل به(1) ـ وهو أفضل الخلق وأكرمهم على ربّه، وأقربهم إليه وسيلة ـ إلى أن يتوسّلوا بغيره ممن ليس مثله"(2).

والجواب عن ذلك: إنّ عدول الصحابة عن التوسّل بالنبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) إلى غيره، لا يدلّ إلا على جواز العدول ومشروعيّته، ولا يدلّ على وجوبه، وفرق كبير بين جواز العدول ووجوبه.

فإنّ استدلال ابن تيميّة بعدول الصحابة إلى التوسّل بغيره(صلى الله عليه وآله وسلم)، يصلح جواباً لمن استشكل بجواز التوسّل بغير النبيّ بعد مماته(صلى الله عليه وآله وسلم)، ولا يصلح أبداً لإثبات حرمة البقاء على التوسّل به(صلى الله عليه وآله وسلم).

اكتشاف الحقيقة:

اكتشف "أبو بكر ايزمبا" بعد البحث والمطالعة لكتب أتباع مذهب أهل

____________

1- إشارة إلى توسّل عمر بالعباس عمّ النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)

2- قاعدة جليلة في التوسّل والوسيلة: 173.


الصفحة 415

البيت(عليهم السلام) بطلان التهم التي تلصق بالشيعة، بل وجد بأنّ التشيّع مذهب يعتمد في أصوله ومبادئه على أئمّة أهل البيت(عليهم السلام)، وأنّ منشأ التهم والافتراءات الموجّهة ضدّه يعود إلى بني أميّة وبني العبّاس الذين حاربوا أهل البيت(عليهم السلام) بشتى الوسائل حفاظاً على مصالحهم الدنيوية ومآربهم الشخصية.

وهؤلاء الطغاة حاولوا التنقيص من مقام أهل البيت(عليهم السلام) تثبيتاً لدعائم حكمهم، فلماذا نكون ضحية لمّا قاموا، بل يفرض علينا البحث الموضوعي أن نغربل أفكارنا الموروثة لنطهرّها من الشوائب والأدران العالقة بها من طغاة بني أمية وبني العبّاس.


الصفحة 416

(97) أوس ايزمبا

(شافعي / أوغندا)

ولد في أوغندا، ونشأ في أسرة تنتمي للمذهب الشافعي، ثمّ تعرّف على مذهب أهل البيت(عليهم السلام) من خلال أحد أصدقائه، وكان الحوار الموضوعي بينهما له الأثر الكبير في وصول "أوس ايزمبا" إلى الحقيقة التي كانت مغيّبة عنه.

فكان من ثمرة هذا الحوار، تغيير الرؤية العقائديّة الموروثة لديه، فأدرك "أوس" بأنّه كان صاحب عقيدة متوارثة، الضرووة تلزمه إعادة النظر في كلّ معتقداته السابقة.

وهذا واضح بعد انقسام الأمّة الإسلاميّة فور التحاق الرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله وسلم)بالرفيق الأعلى إلى فرق ومذاهب متعدّدة، كلُّ واحدة منها تدّعي أنّ الحقّ معها فعلى المسلم أن يتحرَّ عن الحقيقة بضمير حرّ ومنصف ومجرّد عن التعصّب واتّباع الهوى، فيتأمّل فيما سطّره أتباع المذاهب الإسلامية من حجج وبراهين في إثبات ما يدّعون، وينتقي منها ما يدعمه الكتاب العزيز والسنّة النبوية الصحيحة والعقل السليم، وبذلك يستطيع الانسان أن يصل إلى المذهب الحقّ الذي يجب عليه اتّباعه، وينهض بنفسه إلى مستوى من الرقي الفكري المستقل الذي يخرجه من دائرة التبعية اللاّواعية للآباء والأجداد.

وهذا ما حصل لـ"أوس ايزمبا" في مرحلة التحوّل إلى مذهب أهل البيت(عليهم السلام)، فإنّه أدرك في عملية البحث عن المذهب الحقّ، أنّ المذهب الشيعي


الصفحة 417

يعتمد العقلانية في أفكاره، وأنّ هذا ما يميّزه عمّا سواه من المذاهب الإسلامية، فالعقلانية ما هي إلا حصيلة اعتماد هذا الفكر على أمور يقدّرها العقل والمنطق في فهمه للكتاب والسنّة والعقل.

وهذا بخلاف المذهب السنّي الذي أخفق في انتهاج العقلانية في طرح أفكاره ونظريّاته على الواقع الإسلامي، كما أنّه ابتعد عن الموضوعية في الحوار مع المذهب الشيعي في أخذ بعض أعلامه في التهجّم على المذهب الشيعي بل افرط التيار الوهابي في ذلك، واتهم التشيّع بالشرك لمجرّد عدم توافق هذا المذهب مع وجهة نظره في العقيدة في حين أن عقائد المذهب الشيعي تتمتّع بالدعم التام من جهة الكتاب الكريم والسنّة النبوية الصحيحة.

ولمزيد من استيضاح الأمر نأخذ مسألة اتهام الشيعة بـ"الغلو" مثالاً على ذلك.

شبهة الغلو وبراءة الشيعة منها:

عُرّف "الغلو" في اللغة، بأنّه: مجاوزة الحدّ والإفراط في الشيء(1).

وفي الاصطلاح: تجاوز الحدّ الشرعي في العقائد والشريعة على ما قرّره الكتاب الكريم والسنّة النبوية الصحيحة.

وللغلو في الاصطلاح مصاديق متعدّدة منها:

أوّلاً: ادّعاء الإلوهيّة لأحد الأئمة(عليهم السلام) .

ثانيا: حلول الله تعالى في الأئمّة أو الاتحاد معهم.

ثالثاً: وصف الأنبياء والأئمّة بصفات تفوق الطابع البشري لهم، فلا يعتبر في

____________

1- لسان العرب: 10:112.


الصفحة 418

الواقع من الغلو وانكار ذلك ينشأ من الفهم السطحي لمقام النبوّة والإمامة وتجريده عن خصائصه التي يتمتّع بها من قبل الباري عزّ وجلّ، ويرجع هذا الفهم في الحقيقة إلى الجهل بتلك المقامات، وما جعل الله تعالى لها من القدر والمنزلة العظيمة.

إنّ من المعلوم في الدين الإسلامي أنّ العبد الذي ينال مقام "النبوّة" أو "الإمامة"، لابّد وأن يمتاز بأمور وخصائص جليلة لا تكون في سواه من العباد، ويكن ذا نفس عالية وعظيمة، ويبلغ من السمّو الروحي ما يؤهّله لمقام "النبوّة" أو "الإمامة" أو مقام "النبوّة والإمامة" معاً، كالرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله وسلم).

والذي يتأهّل لمثل هذه المقامات الجليلة، يكون من الطبيعي ذا طاقة خاصّة وقدرة هائلة على التصرّف بأمور الكون بإذن الله تعالى.

فإنّ معاجز النبيّ محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) وكراماته تنطوي على حقيقة لابدّ من الإذعان بها، وهي، الصدق في دعواه، وارتباطه بالسماء، وكذا بلوغه ذلك المقام العظيم الذي يتصرّف من خلاله بأمور الكون بأمر الله تعالى وحكمته.

وكذا معاجز النبيّ موسى(عليه السلام)، حيث يقول الله تعالى: {فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ}(1)، فإنّه تعالى قد أسند التصرّف التكويني إلى عبده موسى(عليه السلام)،ولكن بإذنه ومشيئته.

وهكذا جميع معاجز وكرامات الأنبياء، فليست هي إلاّ تصرّف بأمور الكون بإذن الله تعالى.

أمّا بالنسبة لمقام "الإمامة"، فهو أعظم من مقام النبوّة وأعلى شأناً، يقول تعالى في كتابه العزيز: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَات فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ

____________

1- الشعراء (26) : 45.


الصفحة 419

إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}(1)، فإنّ الله تعالى قد جعل إبراهيم(عليهم السلام) إماماً، بعد أن اتّخذه نبيّاً، وكان بعد أن اجتاز مرحلة من الامتحان والاختبار الإلهي.

ولذا لا يحق لأيِّ إنسان أن يجرّد تلك الامتيازات والخصائص عن مقام الإمامة والنبوّة، لمجرّد عدم استيعاب حقيقتهما، وكيفية ارتباط أصحابها بالله تبارك وتعالى.

وممّا يعجب له، أنّ البعض يذهب إلى أنّ الإيمان بقدرة من نال مقام النبوّة والإمامة على التصّرف بذرّات الكون، أو عنده علم الغيب تعدٍّ على حدود الله ومختصّاته، بل يعتقد بعدم بقاء شيء لله تعالى بعد ذلك!

والجواب عن ذلك ـ كما هو واضح لمن ينصف في حكمه ـ بأنّ إيماننا بذلك بعد التسليم بأنّ قدرة هذا العبد على هذه الأمور في طول قدرة الله عزّ وجلّ، وأنّ علمه بالغيب يكون بعد أن يطلعه الله تعالى عليه، وكلّ شيء في الوجود خاضع لقدرة الله ومشيئته سبحانه.

فإنّنا إذا استخبرنا القرآن الكريم، وجدنا أنّ هذه الآية الكريمة: {قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ}(2)، صريحة بأنّ بعض عباد الله الصالحين يمتلكون القدرة على خرق القوانين العادية لحركة الأشياء، فكيف إذاً بالنبي والإمام؟!

وكذا قوله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُول}(3)، فإنّ الله تعالى يعلم الغيب لذاته، وعباده الصالحين من نبي أو إمام يعلم

____________

1- البقرة (2) : 124.

2- النمل (27) : 40.

3- الجن (72) : 26 ـ 27.


الصفحة 420

الغيب بتعليمه سبحانه له، فهذه الآية الكريمة تبيّن لنا إمكانية علم الغيب بالنسبة لغير الله عزّ وجلّ، ولكن إذا كان من المرتضين لذلك .

ومن جهة أخرى، أنّ هذا البعض يظهر منه صغر عظمة الله تعالى في نفسه ـ وهو لا يشعر ـ فيتصّور أنَّ عظمته تعالى تقتصر على علم الغيب، وولايته التكوينيّة على نواميس الكون، بحيث إذا أعطاهما لبعض أوليائه المقرّبين على نحو الإذن منه سبحانه، يغدو خالياً من الصّفات العظيمة التي يتّصف بها، ويصبح عباده شركاء له! وكأنّ عظمة ربّ السموات والأرض تكمن كلّها في هذه الأمور! وهذا إنّما مردّه إلى قلّة الاطّلاع والاستيعاب، بما جاء به ديننا الحنيف، والرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله وسلم) ممّا يخصّ عظمة الله عزّ وجلّ ودوره في الوجود.

إمامة أهل البيت(عليهم السلام) :

نخرج من هذا العرض الموجز بنتيجة، وهي أنّ الولاية التكوينية للأنبياء(عليهم السلام)، أمر ثابت في الدين الإسلامي، ولا مجال للتشكيك فيها بعد وجود الحجج والبراهين عليها من الكتاب والسنّة الشريفة.

وأمّا اعتقاد الشيعة بثبوت الولاية التكوينية أو علم الغيب، لأئمّة أهل البيت(عليهم السلام) فهو متفرّع على إيمانهم بأنّ "الاثني عشر(عليهم السلام)" أئمّة منصوبون من قبل الله عزّ وجلّ، ومعصومون مطهّرون، وأنّهم الأوصياء الشرعيون للرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله وسلم)، فهم امتداد لرسالته ومبيّنون لسنّته، وكلّ ذلك مستند لأدلة ثابتة وقطعية عند كافة المسلمين، غير أنّ الباحث يحتاج إلى شيء من الإنصاف والاستقلالية ليتّضح له ما خفي عليه ويقطع به.

والأدلّة على عصمة أهل البيت(عليهم السلام) تحمل خصائص ومزايا لا توجد في سواهم، ولذا أغدق الله عليهم بألطافه الخاصّة فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم


الصفحة 421

تطهيراً.

وكذا قول الرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله وسلم) في حديث الثقلين: "إنّي تارك فيكم ما إنّ تمسّكتم به لن تضلوّا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ولن يتفرقا حتّى يردا عليَّ الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما"(1).

فدلالة هذا الحديث الشريف على عصمة أهل البيت(عليهم السلام) من أوضح الأمور وأبينها، وذلك لا قترانهم بالقرآن الكريم، وعدم افتراقهما إلى يوم القيامة، ومن جهة أخرى دلالته على إمامتهم وتنصيبهم من الله تعالى، وخلافتهم الشرعيّة عن الرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله وسلم)، وما ذلك إلاّ لانحصار الأمن من الضلال بالتمسّك بهم وبالقرآن، ومتابعتهما معاً في العقيدة والأحكام.

ومن الجدير بالذكر، أنّه لا مبررّ للمسلم السنّي ـ بعد وجود هذا الحديث الشريف ـ عن أهل بيت رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) والتمسّك بغيرهم، ولا سيّما أنّ سند هذا الحديث في أعلى درجات الصحّة عند غالب المحدّثين من علماء السنّة. اللّهم إلاّ أن يُفسّر "التمسّك" بمعاني تخالف الفهم العرفي والعقلائي له، ويخالفه الوجدان والضمير المنصف. فينبغي للمسلم أن يحتاط لدينه وآخرته ويتأمّل فيما هو فيه.

وعلى كلّ حال. فالشيعة الإمامية، بعد ثبوت الإمامة الإلهية، والخلافة الشرعيّة والعصمة لأهل البيت(عليهم السلام)، اعتقدوا بثبوت الولاية التكوينية لهم، ولكن بإذن الله تعالى ومشيئته، وكذا ثبوت المعاجز والكرامات لأئمة أهل البيت(عليهم السلام)وكلّ ما يتعلّق بأحوالهم وشؤونهم، وقد ثبت ذلك من خلال الأخبار الصحيحة والمعتبرة التي يرويها الثقات من أتباع أهل البيت(عليهم السلام) وغيرهم من المسلمين.

____________

1- صحيح الجامع الصغير: 1:482،ح2458.


الصفحة 422

ولذا لا يجوز بعد هذا القول في حقّ الشيعة الإمامية بأنّهم مغالون في حقّ أئمتهم، ويعتقدون بما ليس فيهم.

تبدّد غيوم الشبهات:

أدرك "أوس ايزمبا" أنّ الشّبهات التي تحوم حول عقيدة الشيعة الإمامية في كثير من المسائل، ومنها مسألة "الغلو" ما هي إلاّ هواء في شبك، فانكشف له في سير بحثه عن صحّة هذه العقيدة، وأنّ أتباع أهل البيت(عليهم السلام) بعيدون كلّ البعد عن التهم والافتراءات التي تنسب إليهم، فعرفهم أناس يمتلكون الموضوعية فيما يذهبون إليه ويعتقدون به، لا ستنادهم إلى أدلّة واضحة وصريحة في ذلك، وهي مستقاة من الكتاب الكريم والسنّة الصحيحة والعقل.

وأدرك أيضاً أنّ الشبهات العالقة في ذهن المسلم السنّي عن الشيعة الإمامية سوف تتبدّد حين يراجع موروثاته بحثاً عن الحقّ والحقيقة.

ومن هذا المنطلق أعلن "أوس ايزمبا" استبصاره بعد التوصّل إلى القناعة الكاملة بأحقية مذهب أهل البيت(عليهم السلام)، ثمّ توّجه ـ قدر وسعه ـ إلى نشر الحقائق الجديدة التي اكتشفها، وتبيين الواقع إلى أبناء منطقته.


الصفحة 423

(98) حسين سليمان كاكايره

(شافعي / أوغندا)

ولد عام 1394هـ (1975م) بمدينة "دجينجا"، ونشأ منتمياً للمذهب الشافعي، درس بعد إكمال المرحلة الثانوية مدّة سبع سنوات في المعهد الإسلامي بـ"دجينجا" على ضوء المذهب الشافعي، ثمّ اشتغل بالعمل التبليغي في قريته أثناء العطلة الصيفية، حيث كانت هوايته متوجّهة نحو استيعاب الفكر الديني، ومطالعة الكتب الإسلامية، والعمل في التوجيه الإسلامي.

بداية رحلته العقائدية:

يقول "حسين سليمان" تفاجئت ذات يوم بأنّ أحد أصدقائي وهو "عيدي حسن" أعلن اعتناقه لمذهب التشيّع، فدعوته إلى بيتنا لاستفسر منه عن هذا التحّول المفاجيء.

ودار الحديث بين حسين سليمان وصديقه حول الكثير من الأمور العقائدية، هذا يسأل وذاك يجيب، حتّى وصل الحديث إلى مسألة زيارة القبور وخصوصاً قبور النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة(عليهم السلام)، فسأل حسين صديقه: يقال إنّ الشيعة مشركون! لأنّهم يقصدون مشاهد وقبور أهل البيت(عليهم السلام)فيجعلونها وسيلة بينهم وبين الباري، وهذا شرك.

الصديق: ليس جعل كلّ وسيلة بيننا وبين بارئنا شرك; لأنّنا عندما نقصد الكعبة ـ مثلاً ـ ونطوف حول أحجارها، ونتقرّب بها إلى الله عزّ وجلّ، أو حين


الصفحة 424

نتوجّه إليها أثناء الصلاة، أنقصد بذلك عبادة الأحجار؟! فالكعبة هي مجرّد وسيلة للتقرّب إليه تعالى وليست غاية، وهكذا المساجد فهي بيوت الله تعالى، ونحن نتوجّه إليها فنجعلها مكاناً نتقرّب بها إلى الله.

ومن هذا القبيل مشاهد العترة الطاهرة، فهي بيوت أذن الله أن ترفع، ويذكر فيها اسمه، وقد ورد عن أهل البيت(عليهم السلام) استحباب زيارة قبورهم ومشاهد الصالحين، فعلينا أن لا نكون ضحية الروايات المحرّفة التي دسّتها أيادي بني أميّة وبني العبّاس، بغية الوصول إلى أهدافهم.

زيارة المشاهد الطاهرة عند مذهب أهل البيت(عليهم السلام) :

قال الشيخ المفيد حول زيارة القبور: "أجمع المسلمون على وجوب زيارة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، حتّى رووا من حجّ ولم يزره متعمّداً فقد جفاه(صلى الله عليه وآله وسلم) وثلم حجّه بذاك الفعل، وقد قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): "من سلّم عليّ من عند قبري سمعته، ومن سلّم عليّ من بعيد بلغته سلام الله عليه ورحمته وبركاته"، وقال للحسن(عليه السلام): "من زارك بعد موتك أو زار أباك أو زار أخاك فله الجنّة".

وقال أيضاً في حديث له(صلى الله عليه وآله وسلم): "تزوركم طائفة من أمّتي، تريد به برّي وصلتي، فإذا كان يوم القيامة زرتها في الموقف، فأخذت بأعضادها، فأنجيتها من أهواله وشدائده".

ولا خلاف بين الأمّة أنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) لمّا فرغ من حجّة الوداع لاذ بقبر قد دُرس، فقعد عنده طويلاً، ثمّ استعبر، فقيل له: يا رسول الله، ما هذا القبر؟ فقال: هذا قبر أمي آمنة بنت وهب، سألت الله في زيارتها فأذن لي.

وقد كان أمر في حياته(صلى الله عليه وآله وسلم) بزيارة قبر حمزة ـ عليه السلام ـ وكان يلم به وبالشهداء، ولم تزل فاطمة(عليها السلام) بعد وفاته(صلى الله عليه وآله وسلم) تغدو إلى قبره وتروح، والمسلمون


الصفحة 425

يثابرون على زيارته وملازمة قبره(صلى الله عليه وآله وسلم)(1).

السيّد ابن طاووس:

"من طرائف ما سمعت عن جماعة من مخالفي أهل البيت(عليهم السلام) أنّهم ينكرون زيارة قبور علماء أهل بيت نبيهم، ويعيبون شيعتهم في تردادهم لزيارتها، وقد رووا هؤلاء المنكرون في صحاحهم ضدّ ما أنكروه، وخلاف ما أظهروه.

فقد روى مسلم في صحيحه بإسناده عن أبي بريدة، عن أبيه، عن النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)قال: "نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، ونهيتكم عن ادّخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث فأمسكوا ما بدا لكم" الخبر(2)

ثمّ أضاف السيّد ابن طاووس: كيف يحسن من قوم يروون عن نبيّهم الأمر بزيارة كافّة القبور، ثمّ ينكرون على من زار قبور أهل بيت نبيّه، وهم من لحم رسولهم ودمه وبضعة منه؟!، وإنّ ادّعى أحد منهم أنّه ما ينكر زيارة قبورهم، فعلام ينقطع عنها، وينفر منها، ويتردّد إلى قبور أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل وجماعة من أتباعهم، وهؤلاء الأربعة أنفس قوم من عوام المسلمين لم يرووا عن نبيّهم في تسميتهم وفضلهم خبراً مأثوراً ولا وجدوا بذلك أثراً مسطوراً، وقد رووا في فضائل أهل البيت(عليهم السلام) وتعظيمهم في الحياة وبعد الوفاة ما قد ذكرنا عنهم بعضه في كتابنا هذا من صحاح أخبارهم، فهلاّ كان لعلماء أهل البيت(عليهم السلام)وصلحائهم أسوة بأحد الأربعة أنفس المشار إليهم؟!

والعجب أنّهم يقصدون محمّداً نبيّهم عند حجرته، ويلوذون بتربته ، ومع ذلك يتجنبون قبور أهل بيته وعترته! أين هذا من الوفاء لمّا أثبت عليهم نبيّهم من الأنعام، ما كان هذا جزاؤه من أهل الإسلام"(3).

____________

1- الفصول المختارة للشيخ المفيد: 130 ـ 131.

2- صحيح مسلم: 3: 65، دار الفكر، موطّأ مالك: 1: 321.

3- الطرائف ابن طاووس: 163 ـ 164.


الصفحة 426

يقول "حسين سليمان" استمرّت جلساتنا مدّة طويلة، وحيث أنّني كنت أرفض التعصّب من قبل فلم أقابل صديقي بعنف، بل أصغيت إلى كلامه، وفي آخر جلسة طلبت منه بعض الكتب الشيعية من أجل الإحاطة بعقائدهم فزوّدني بها، وكانت هذه الكتب بمثابة باب تعرّفت منها على الكثير من الحقائق، فاندفعت بعد ذلك للالتحاق بمذهب أهل البيت(عليهم السلام).

ثمّ انتسب "حسين سليمان" إلى مدرسة شيعية، وواصل دراسته فيها مدّة ثلاث سنوات، ثمّ اتجه للعمل التبليغي، وقد استبصر على يديه الكثير من الأشخاص بعد أن بيّن لهم حقيقة الشيعة وعقائدهم، وبذل قصارى جهده لتصحيح الفكر المشوّه، الذي يحمله أبناء مجتمعه اتجاه الشيعة. ويقول "حسين سليمان": "وأصبحنا جميعاً من شيعة عليّ(عليه السلام) وقد قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): يا عليّ أنت وشيعتك هم الفائزون"(1).

____________

1- أمالي الشيخ الطوسي: 551 ، حلية الأبرار 2: 331 ، بحار الأنوار 31: 380.


الصفحة 427

(99) حمزة عبد الله حسن

(شافعي / أوغندا)

من مواليد "أوغندا"، وينتمي إلى أسرة شافعيّة المذهب.

تعرّف "حمزة" على المذهب الشيعي من خلال أخيه المستبصر، الذي قام بدوره في إرشاد "حمزة" إلى جادّة الحقّ، حيث أوضح له أبعاد هذا المذهب وما يقوم عليه من أسس متينة، موافقه للكتاب الكريم والسنّة الصحيحة والعقل، وجرى بينهما حوار حول أحقّيّة الشيعة فيما يعتقدون، فكان من أخيه أن وضع بين يديه الكثير من الحجج والبراهين ، التي يستكشف الباحث من خلالها صحّة المفاهيم الشيعيّة المعتقدة، والتي تدعو من جانب آخر إلى التأمّل في المرتكزات المتوارثة عن الآباء والأجداد، والتي لا يوجد وراءها مستند ولا برهان.

وبعد التأمّل فيما دار بينه وبين أخيه من حوار، وإجراء المقارنة بين المعتقد السنّي والمعتقد الشيعي، من حيث صحة القواعد التي يعتمدان عليها، ومقدار موافقتها للمسلّمات والأمور القطعيّة المعتمدة لدى الفكرين، وجد "حمزة" ثمّة بؤر ضعف في أساسيّات الفكر السنّي، تجعله ينهار أمام الفكر الشيعي، بحيث لايستطيع معها أن يرتقي لمواجهته والصمود أمامه.

تبرير الفكر السنّي لبدعة عمر:

إنّ من الإشكاليّات المهمّة الواردة على الفكر السنّي هي احتضانه لـ"بدعة" عمر في صلاة التراويح جماعة، وجعلها من العبادات المهمّة في شهر رمضان.

فقد روى البخاري في صحيحه عن عبد الرحمن بن عبد القارئ أنّه قال: "خرجت مع عمر بن الخطاب ليلة في رمضان إلى المسجد فإذا الناس أوزاع


الصفحة 428

متفرّقون، يصلِّي الرجل لنفسه ، ويصلِّي الرجل فيصلِّ بصلاته الرهط ، فقال عمر: إنّي أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل، ثمّ عزم فجمعهم على أبي بن كعب، ثمّ خرجت معه ليلة أخرى، والناس يصلّون بصلاة قارئهم، قال عمر: "نعمَ البدعة هذه"، والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون، يريد آخر الليل، وكان الناس يقومون أوّله"(1).

وهنا يمكننا أن نوّجه سؤالاً لأصحاب التفكير السنّي، بأنّه إذا كانت الجماعة في صلاة التراويح بدعة كما صرّح بذلك عمر بن الخطاب، وكان قد وضعها في عرض الكتاب والسنّة والتشريع الإلهي المقدّس وليس في طولهما، وأنّ الرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله وسلم) قد تركها ولم يواظب عليها، كما صرّحت بذلك كتبكم، فلماذا إذن هذا التسامح في أمر الدين والتعدّي على ثوابت الشريعة الإسلامية المقدّسة؟!

فهل من الإسلام تصحيح بدعة أُحدثت في الشريعة الإسلامية، ولم تكن مدعومة من قبل الكتاب الكريم ولا السنّة النبوية لأجل جهة لا نمتلك حقّ التشريع والتقنين ولا أقلّ من ذلك؟! وكلّ هذا يجري على حساب الأمّة الإسلاميّة، بحيث غدت صلاة التراويح في شهر رمضان المبارك عبادة لها ثقلها ووزنها في نفوس المسلمين السنّة وهي في الحقيقة ليست إلاّ بدعة!

ألم يعلم أصحاب الفكر السنّي خطر البدع في الشريعة، وما لها من الآثار السلبيّة والخطيرة على المجتمع الإسلامي؟! أليست هي من الموبقات العظام التي دلّ على حرمتها الكتاب والسنّة.

ألم يعلموا بأنّ صاحب البدعة ينازع الشارع في خصائصه من التشريع، ووضع القوانين التي يعلم بملاكاتها الواقعيّة من مصالح أو مفاسد بحيث يقوم التشريع على أساسها؟ ويُحدث في الشريعة أمراً لم يشرّعه صاحبها، ثمّ يضفي عليه طابعاً شرعيّا ودينيّاً متجاوزاً بذلك على الله تبارك وتعالى ومستهزءاً به

____________

1- صحيح البخاري 1: 494 حديث 2010.


الصفحة 429

وبأحكامه!

البدعة في الكتاب والسنّة:

يقول تعالى: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَـذَا حَلاَلٌ وَهَـذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ}(1).

ويقول أيضاً : {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ}(2).

وقد شدّد الرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله وسلم) في خطاباته للمسلمين على الاهتمام بالشريعة الإسلاميّة، ووجوب صونها من البدع والمحدثات، وحَكَم على صاحب البدعة بالضلالة ودخول النار.

فقد روى النسائي في سننه عن جابر بن عبد الله، قال: "كان رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)يقول في خطبته يحمد الله ويثني عليه بما هو أهله، ثمّ يقول من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يُضلله فلا هادي له، إنّ أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمّد، وشرّ الأمور لمحدثاتها، وكلّ محدثة بدعة، وكلّ بدعة ضلالة، وكلّ ضلالة في النار"(3).

وروى مسلم في صحيحه عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): "أمّا بعد، فإنّ خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم)، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة"(4).

ووردت من طريق الشيعة الإمامية روايات كثيرة شدّدت على خطر البدعة وصاحبها، فقد روى الكليني في الكافي أن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، قال: "إذا ظهرت

____________

1- النحل (16) : 116.

2- الأنعام (6) : 21.

3- سنن النسائي: 3: 188.

4- صحيح مسلم 2: 496، ح867 .


الصفحة 430

البدع في أمتي فليظهر العالم علمه، فمن لم يفعل فعليه لعنة الله(1).

وقال أيضاً: "من أتى ذا بدعة فعظّمه فإنما يسعى في هدم الإسلام"(2).

خطأ تقسيم البدعة:

إنّ بعض علماء السنّة قسّم البدعة إلى قسمين: بدعة هدى، وبدعة ضلال! وإنّ هذا ممّا يعجب له، فهذا ابن الأثير يقول في النهاية: "وفي حديث عمر رضي الله عنه. في قيام رمضان (نعمت البدعة هذه)، البدعة بدعتان: بدعة هدى، وبدعة ضلال، فما كان في خلاف ما أمر الله به ورسوله(صلى الله عليه وآله وسلم) فهو في حيّز الذمّة والإنكار، وما كان واقعاً تحت عموم ما ندب الله إليه وحضّ عليه الله أو رسوله فهو في حيّز المدح"(3).

إنّ أساس هذا التقسيم عند علماء السنّة هو قول عمر "نعمت البدعة هذه". فلأجل تصحيح بدعة عمر، والخروج من مأزق حكم النبيّ الأعظم(صلى الله عليه وآله وسلم) بأنّ "كلّ بدعة ضلالة"، اتّبعوا منهج التنوّع والتقسيم في معنى "البدعة"، وجعلوا بدعة عمر في صلاة التراويح جماعة، في ضمن البدع الممدوحة!

هذا مع أنّه لم يرد في أقوال الرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله وسلم) التي تتحدّث عن البدعة، هذا التقسيم المتهافت، الذي لا يكمن وراءه إلاّ مسخ الحقيقة.

وهناك أمر آخر ينبغي الالتفات إليه، وهو أنّ كلمة "البدعة" التي وردت في أحاديث الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) لا يخرج معناها عن إطار البدعة المحرّمة، وهي الإحداث في الدين لاغير.

فإذا لاحظنا مقولة عمر "نعمت البدعة هذه" التي وردت في صلاة التراويح ـ وهي ـ أمر ديني وعبادي ـ نجد أنّها داخلة ضمن الإحداث في الشريعة، الذي

____________

1- الكافي 1: 54.

2- نفس المصدر السابق.

3- النهاية: 1: 106، مادة: بدع.