رسل السلام ونذير الحرب
قدم إلى كربلاء شمر الخارجي شرّ مقدم ـ إذ كان نذير الحرب وحاملاً من ابن زياد الى ابن سعد أسوأ التعاليم القاسية ـ وحسبه ابن سعد رقيباً عليه ومهدداً له، فاُقلبت فكرته إذ ذاك رأساً على عقب لكي يدرأ عن نفسه تهمة الموالاة للحسين (عليه السلام) طمعاً بإمرة الرّي. فنقل معسكره الى مقربة من الحسين على ضفاف العلقمي، وأوصد عليه باب الورد منه بمصراعيه، وعهد بحراسة المشرعة الى عمر بن الحجاج ـ كما فعله معاوية بجيش أميرالمؤمنين (عليه السلام) في صفين ـ وأخذ يتظاهر على الحسين (عليه السلام) تقرّباً الى ابن زياد، ويتشبه بغلاة الخوارج إرضاء لمن معه منهم، ولم يقنع بكل ما وقع حتى زحف بخاصّته على الحسين (عليه السلام) وتناول من دريد سهماً ووضعه في كبد قوسه ورمى به الى معسكر الحسين (عليه السلام) قائلاً: «اشهدوا لي عند الأمير أنني أوّل من رمى الحسين» ورأى المتزلفون هذه أسهل وسيلة الى نيل القربى من أولياء السلطة فتكاثرت السهام على معسكر الحسين، فقال حسين الجد لأصحابه: «قوموا يا كرام فهذه رسل القوم إليكم» يعني أنّ الخصوم بدؤونا بالنضال والنزال بدل النزول على حكم الكتاب والسنة ولا يسعنا في هذه الحال سوى استمهالهم الى حين، حين تهدأ فورتهم وإن أبوا إمهالنا فلابد من الدفاع عن مقدساتنا والذب عن النواميس والحرمات، أسوة بالكرام عند اليأس من السلام.
حول معسكر الحسين
بعدما أيقن الحسين (عليه السلام) أنّ أعداءه لا يتناهون عن منكر في سبيل النكال والنكاية به أخذ يستعد لدفاع الطوراىء عن أهله ورحله وانتظار قتله، لكنما وجد معسكره في أجرد البقاع عن مزايا الدفاع، وكان مع العدو رجالة سوء من أسقاط الكوفة تبعوا شمراً الضبابي لطمعهم في الجوائز المشاعة وجشعهم على بقايا موائد الرؤساء وشوقاً الى غنيمة باردة، ولا سلاح لدى هؤلاء سوى الحجارة والجسارة، فكان يُخشى منهم على معسكر الحسين (عليه السلام) من كل الوجوه، لا سيما وأنّ هؤلاء الأذناب لا يلتزمون بما تلتزم به رؤساء القبائل من اّداب العرب، فخرج الحسين من معسكره يتخيّر موضعاً مناسباً للدفاع.
وبعدما سبر غور الوهاد والأنجاد أشرف على سلسلة هضاب وروابي تليق حسب مزاياهم الطبيعية أن تتخذ للحرم والخيم، الروابي والتلال متدانية على شاكلة الهلال وهو المسمى «الحير» أو «الحائر» لكن هذا الحصن إنما يفيد من استغنى عن الخروج لطلب ماء أو ذخيرة أو عتاد وأمّا من لا يجد القدر الكافي منها كالحسين (عليه السلام) فإن تحصن في مثل الموضع فكأنّه يبغي الانتحار أو القاء أهله في التهلكة، لأنّ عدوه يتمكن من حصاره من فرجة الجهة الشرقية بكمية قليلة وإهلاك المحصور جوعاً وعطشاً في زمن قصير المدى.
عطاشى الحرب في الشريعة
لا يبرح البشر من احترام بعض الآداب في المحاربات مهما كان المحاربون وحوشاً وكفرة ـ كاجتنابهم قتل النساء والأبرياء ومنع الماء والطعام عنهما ـ وأصبحت حكومات اليوم تراعي هذه الأُصول بعين الاحترام وتعد ارتكاب هذه المظالم من أقبح الجرائم، وقد نهى شرع الإسلام كبقية الشرائع حصار الأبرياء والتعرّض بالنساء ومنع الماء والطعام عنهما أو عن المرضى والأسرى والأطفال، لأنهم برآء مما قامت به رجالهم المحاربون، وقد منعت الشريعة العاطفة ذبح الحيوان عطشاناً.
أما الحزب السفياني فقد ارتكب كل هذه المظالم والجرائم حنقاً على حسين الفضيلة وآله.
ولا ننسى ما حدث يوم الدار يوم ثار المهاجرون والأنصار فحاصروا الخليفة عثمان بن عفان وطالبوه أن يسلّم إليهم ابن عمّه (مروان) فاستغاث بعلي (عليه السلام) وشكا إليه العطش وغير العطش ـ وعلي يومئذ قد أغلق بابه ولازم حياده ـ فأرسل إليه مع ذلك ولديه الحسن والحسين (عليهما السلام) ومولاه قنبراً يحملون الماء وهو محصور، ويحامون عنه وعن بيته الجمهور، وتحملوا في سبيله الجروح
أمّا معاوية الدهاء فقد شيع الأمر في أهل الشام بالعكس مما كان بغرض بعثهم الى حرب أميرالمؤمنين، فنشر بينهم أنّ عثمان قتل عطشاناً وأنّ علياًمنع الماء عنه، لذلك سبق علياً في صفين الى استملاك المشرعة ومنع أهل العراق من ورودها، أمّا علي (عليه السلام) فأرسل من أبطال العراق من فتحوها ثم تركها مباحة للجانبين، فأبت نفسه الكريمة أن يقابلهم بالسوء قائلاً: «كلا! لست أمنع عنهم ماء أحله الله عليهم» فجدد ابن زياد هذه البدعة وأمر بمنع الماء عن الحسين ومن معه. وروّج أكذوبته فكتب الى ابن سعد: «حل بين الحسين وأصحابه وبين الماء، فلا يذوقوا منه قطرة كما فعل بالتقي الزكي عثمان»... الخ. مع أنّ الحسين (عليه السلام) هو الذي حمل الماء الى عثمان يوم الدار وعانى في سبيله المشاق، وحاشا حسين الفضيلة وعلي الفتوة ان يرتكبا منع الماء على ذي نفس، ولو فرض الأمر كذلك فعلى مَ تؤخذ عشرات النساء ولفيف من الصبية والأطفال والمرضى بذلك فيحرمون من الماء المباح،؟ كلا! فالإسلامية بريئة والإنسانية ناقمة من هذه المظلمة الفاحشة.
ترك ابن زياد ساقي الكوثر ممنوعاً من الماء المباح ثلاثة أيام ـ هو وصحبه وآله وعشرات من نسوته وصبيته ـ يعانون هم وخيلهم العطش في شهر اّب اللهاب بعراء لا ماء فيه ولا كلأ، والخيل تصهل طالبة الماء، والنسوة تعج لحاجتها الى الماء، والصبية تضجع وتنتنظر الماء، والرضيع يصرخ إذ جفت مراضعه، والماء يلمح جارياً بأعينهم والمانعون ينتحلون الإسلام. وكل هاتيك المظالم القاسية من أجل أنّ الحسين (عليه السلام) لم يضع يده في أيدي الظالمين على محو كتاب نبيه (صلى الله عليه وآله)، وقد كان لسان الحال من حسين العلاء: «أنّ في وسعكم ـ أيّها الأعداء ـ أن تضيقوا عليّ
اهتمام الإمام بالموعظة والنصيحة
سيرة الحسين (عليه السلام) سلسلة أدلّة على حسن ظنّه بالناس، وأنّ نفسه كانت مفعمة بآمال الخير فيهم لولا استقباله المزعجات في نواحي الكوفة وشواهد التحوّل في حالة البدو والحضر لأدنى طمع، حتى أفشى من صميم الحقيقة سرّها في كلمته الخالدة: «الناس عبيد الدنيا، والدين لعق على ألسنتهم، يحوطونه ما درّت به معايشهم، فإذا محّصوا بالبلاء قلّ الديانون» لكنّما المعهود من رسل الإصلاح وأئمة الهداية إقامة الحجج على الهمج والسذج «ليهلك من هلك عن بيّنة ويحيا من حيي عن بينة» ولئلا تبقى للعصاة عصاة. فلم يزل حسين الهداية يبذل قصارى الجهد في تنوير أفكارهم بالاحتجاجات وإقامة المظاهرات، ويستفرغ وسعه في إنذارهم وإخطارهم بالرسل والخطب، في حين أنّ جمهور خصومه كانوا من سفلة الشر وعبدة الطاغوت ـ أولئك الذين لا يقيمون للحق وزناً ولا يرون لغير المال والقوة شأنا ـ وعليه قام حسين الإيمان بمظاهرة باهرة بعد اليأس من سماح القوم له بالرجوع، فلبس عمامة رسول الله (صلى الله عليه وآله) ورداءه وتقلّد بسيف جدّه النبي وركب ناقته أو فرسه المعروفة وخرج الى العدو بهيئة جدّه النبي (صلى الله عليه وآله) وزيّه، وقد كان هو في ملامحه شبيه جدّه وكانت هذه الهيئة وحدها كافية لإعلان حقه في خلافة جدّه دون طاغية الشام لو كانوا يعقلون، فعرف شياطين القوم أنّ هذه المظاهرة
غير أنّ حسين المجد لم يضيع فرصته فاستنصتهم فأبوا أن ينصتوا له لجاجاً وعناداً، فنادى فيهم: «أيها الناس اسمعوا قولي ولا تعجلوا حتى أعظكم بواحدة وحتى اعذر إليكم، فإن أعطيتموني النصف كنتم بذلك سعداء وإلاّ فاجمعوا رأيكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إليّ ولا تنظرون، إنّ وليّي الله الذي نزّل الكتاب وهو يتولّى الصالحين».
فلما ساد الصمت وهدأ الضجيج خطبهم، فحمد الله وأثنى عليه ونعت النبي فصلّى عليه، فلم يسمع أبلغ منطقاً منه، ثم قال:
«أمّا بعد، فانسبوني من أنا؟ ثم راجعوا أنفسكم وعاتبوها فانظروا هل يحلّ لكم قتلي وانتهاك حرمتي؟ ألست ابن بنت نبيّكم؟ وابن وصية وابن عمه، وأول المؤمنين المصدق لرسول الله (صلى الله عليه وآله) وبماجاء من عند ربّه؟ أوليس حمزة سيّد الشهداء عمّي؟ أوليس جعفر الطيار في الجنة بجناحين عمي؟ أولم يبلغكم ما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لي ولأخي: «هذان سيّدا شباب أهل الجنة» فإن صدقتموني فيما أقول وهو الحق والله ما تعمدت الكذب منذ علمت أنّ الله يمقت أهله، وإن كذبتموني فإن فيكم من إن سألتموه عن ذلك أخبركم، سلوا جابر بن عبد الله الأنصاري، وأبا سعيد الخدري، وسهل الساعدي، وزيد بن أرقم، وأنس بن مالك يخبروكم أنّهم سمعوا هذه المقالة من رسول الله (صلى الله عليه وآله) أما في هذا حاجز لكم عن سفك دمي؟ الى أن قال: فإن كنتم في شك من ذلك أو تشكون في أنّي ابن بنت نبيّكم فوالله لا يوجد بين المشرق والمغرب ابن بنت نبي غيري، ويحكم أتطلبوني بقتيل منكم قتلته أومال لكم استهلكته؟» ثم نادى: يا شبث بن ربعي ويا حجار
لقد أسمعهم شبل علي (عليه السلام) خطاباً قويم اللهجة قوي الحجّة ـ لو كان ثمة منصف ـ لكنما القوم لم يقابلوه إلاّ بكلمة جامدة: «إنّا لا ندري ما تقول انزل على حكم بني عمك وإلاّ فلسنا تاركيك» كلمة مرّة طليت بالقحة وتبطّنت بالعجرفة والانحراف نحو الزور والغرور، فأجابهم حسين العلاء: «لا والله لا اُعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أقر لكم إقرار العبيد، يأبى الله ذلك لنا ورسوله (صلى الله عليه وآله) وحجور طابت وطهرت، فلا تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام» لكنما المظاهرة باحتجاجه لم تذهب سدىً وعبثاً فما مد الظلام رواقه حتى انجذب الى الحسين (عليه السلام) عديد من فرسان ابن سعد من ذوي المروءة والفتوة تائبين عند المخيم الحسيني.
الحسين ينعى نفسه لأخته
لزينب(1) ـ أُخت الحسين ـ شأن مهم ودور كبير النطاق في قضية الحسين (عليه السلام) وفي نساء العرب نوادر أمثالها ممن قمن في مساعدة الرجال وشاركتهم في تاريخهم المجيد، وقد صحبت زينب أخاها في سفره الخطير صحبة من تقصد أن تشاطره في خدمة الدين وترويج أمره، فكانت تدير بيمناها ضيافة الرجال وباليسرى حوائج الأطفال، وذاك بنشاط لا يوصف.
والمرأة قد تقوم بأعمال يعجز عنها الرجل ولكن مادام منها القلب في ارتياح
____________
1) لأمير المؤمنين (عليه السلام) بنتان بهذا الاسم وبكنية أم كلثوم، والكبرى هي سيدة الطف. وكان ابن عباس ينوه عنها بعقيلة بني هاشم. ولدتها الزهراء بعد شقيقها الحسين بسنتين، وتزوجها عبد الله ابن عمها جعفر بعد وفاة أختها في خلافة عثمان أومعاوية، وكانت قطب دائرة العيال في المخيم الحسيني.
وقد أفرغ لسان الملك ترجمتها في مجلد بها من موسوعته «ناسخ التواريخ».
وجاء في الخيرات الحسان وغيره: أنّ مجاعة أصابت المدينة فرحل عنها بأهل عبد الله بن جعفر الى الشام في ضيعة له هناك، وقد حمت زوجته زينب من وعثاء السفر أو ذكريات أحزان وأشجان من عهد سبي يزيد لآل الرسول (صلى الله عليه وآله) ثم توفيت على أثرها في نصف رجب سنة 65 هـ ودفنت هناك حيث المزار المشهور في القاهرة.
وقال جماعة: إنّ هذا لزينب الصغرى ـ كما هو مرسوم على صخرة القبر ـ وأنّ الكبرى توفيت بمصر ودفنت عند قناطر السباع حيث المزار المشهور بالقاهرة».
فكانت ابنة علي (عليه السلام) قائمة بمهمات رحل الحسين وأهله غير مبالية بما هنالك من ضائقة عدو أو حصار أو عطش، إذ كانت تنظر في وجه الحسين (عليه السلام) تراه هشاً بشاً فتزداد به أملاً ـ وكلما ازداد الإنسان أملاً ازداد نشاطاً وعملاً، وانّ في بشاشة وجه الرئيس أثراً كبيراً في قوة آمال الأتباع ونشاط أعصابهم ـ غير أنّ زينب باغتت أخاها الحسين (عليه السلام) في خبائه ليلة مقتله فوجدته يصقل سيفاً له ويقول:
يا دهر أف لك من خليل | كم لك بالإشراق والأصيل |
من صاحب أو طالب قتيل | والأمر في ذاك الى الجليل |
والمعنى: يا دهر كم لك من صاحب قتيل في ممر الإشراق والأصيل، فأفٍّ لك من خليل.
ذعرت زينب عند تمثل أخيها بهذه الأبيات، وعرفت أنّ أخها قد يئس من الحياة ومن الصلح مع الأعداء، وأنّه قتيل لا محالة وإذا قتل فمن يكون لها؟ والعيال والصبية في عراء وغربة، وألد الأعداء محيط بهم ومتربص لهم الدوائر. لهذه ولتلك صرخت أُخت الحسين (عليه السلام) نادبة أخاها، وتمثل لديها ما يجري عليها وعلى أهله ورحله بعد قتله وقالت: «اليوم مات جدي وأبي وأُمي وأخي». ثم خرجت مغشية عليها إذ غابت عن نفسها ولم تعد تملك اختيارها، فأخذ أخوها الحسين (عليه السلام) رأسها في حجره وسقط على وجهها من مدامعه حتى أفاقت وسعد بصرها بنظرة من شقيقها الحسين، وأخذ يسليها ـ وبعض التسلية تورية ـ فقال: «يا
ولكن في المقام سر مكتوم: فإن زينباً تلك التي لم تستطع أن تسمع إشارة من نعي أخيها وهو حي ـ كيف تجلدت في مذبح أخيها وأهلها بمشهد منها، ورأت رأسه ورؤوسهم مرفوعة على القنا وتلعب بها الصبيان، وينكت ابن زياد ويزيد ثنايا أخيها بين الملأ بالقضيب، الى غير ذلك من مصائب لا تطيق رؤيتها الأجانب فضلاً عن أمس الأقارب.
فليت شعري! ما الذي حوّل ذلك القلب الرقيق الى قلب أصلد وأصلب من الصخر الأصم؟ نعم، كانت شقيقة الحسين (عليه السلام) أخته بتمام معاني الكلمة، فلا غرو إنّ شاطرت سيّدة الطف زينب أخاها الحسين (عليه السلام) في الكوارث وآلام الحوادث، فقد شاطرته في شرف الأبوين ومواريث الوالدين خَلقاً وخُلقاً ومنطقاً.
وعليه فإنّها على رقة عواطفها وسرعة تأثّرها تمكّنت من تبديل حالتها، والاستيلاء على نفسها بنفسها، من حين ما أوحى إليها الحسين (عليه السلام) بأسرار نهضته وآثار حركته وأنّه لا بد أن يتحمل أعباء الشهادة وما يتبعها من مصائب ومصاعب في سبيل نصرة الملة وإحياء شريعة جدّه وشعائر مجده ـ لكنه سيار يطوي السرى الى حد مصرعه في كربلاء ـ ثم لابد وأن تنوب هي عن أخيها في إنجاز مهمته وإبلاغ حجته في تحمل الخطوب وإلقاء الخطب ومكابدة الآلام من كربلاء الى الكوفة ثم الى الشام قائمة بوظيفته، محافظة على أسرار نهضته، ناشرة لدعوته في كل أين وآن، منتهزة سوانح الفرص، وهو معها أينما كانت يباريها لكنه على عوالي الرماح خطيباً بلسان الحال كما هي الخطيبة بلسان المقال.
السباق الى الجنة
السباق الى النفع غريزة في الأحياء لا يحيدون عنها ولا يلامون عليها، وقد يؤول الى النزاع بين الأشخاص والأنواع ولكن التسابق الى الموت لا يرى في العقلاء إلاّ لغايات شريفة تبلغ في معتقدهم من الاهتمام مبلغاً قصياً أسمى من الحياة الحاضرة، كما إذا اعتقد الإنسان في تسابقه الى الموت نيل سعادات ولذات هي أرقى وأبقى من جميع ماله في الحياة الحاضرة.
ولهذه نظائر في تواريخ الغزاةوالمجاهدين ففي صحابة النبي (صلى الله عليه وآله) رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه وتسابقوا الى القتال بين يديه، معتقدين أن ليس بينهم وبين جنان الخلد والفردوس الأعلى سوى سويعات أو تميرات يأكلونها أو حملات يحملونها، هذا من أشرف السباق، وموته أهنأ موت، وشعاره أقوى دليل على الفضيلة والإيمان.ولم يعهد التاريخ لجماعة بداراً نحو الموت وسباقاً الى الجنة والأسنة مثل ما عهدناه في صحب الحسين (عليه السلام).
وقد عجم الحسين (عليه السلام) عودهم واختبر حدودهم، وكسب منهم الثقة البليغة، وأسفرت امتحاناته كلّها عن فوزه بصحب أوفياء وأصفياء، وإخوان صدق عند اللقاء، قلّ ما فاز أو يفوز بأمثالهم ناهض، فلا نجد أدنى مبالغة في وصفه لهم عندما قال: «أمّا بعد، فإنّي لا أعلم أصحاباً خيراً من أصحابي، ولا أهل بيت أبرّ وأوفى
أجل، كانت جماعة الحسين (عليه السلام) كؤوس رؤوسها مفعمة بشعور التضحية حتى إذا أذن لهم بذلك لبسوا القلوب على الدروع وأقبلوا يتهافتون كالفراش على المصباح لتضحية الأرواح، فكلما أذن حجة الله لأحدهم وادعه وداع من لا يعود، وهم يتطايرون من مخيمه الى خصومه تطاير السهام لانفاذ الغرض المقدّس بأراجيز بليغة وحجج بالغة من شأنها ازاحة الشبهات عن البعيد والقريب وعن الشاهد والغائب. لكن المستمعين صم بكم عمي فهم لا يعقلون قد غشيت الأطماع أبصارهم وغشت المخاوف بصائرهم، فلا يفكرون بسوى دراهم ابن
بل، إنما تجدي العظات في ظل المطامع، والحجّة تهدي تحت بارقة السلاح،، لذلك لم يجد رسل الحسين (عليه السلام) من عداهم الجواب إلاّ على ألسنة الأسنة والحراب وقتلوا تقتيلاً {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} أحياء بأرواحهم أحياء بتاريخهم المجيد،ولهم لسان صدق في الآخرين وأُسوة بالأولين.
مقتل عليّ شبه النبي (صلى الله عليه وآله)
لم يزل ولا يزال عرفاء الأمم من عرب وعجم يعتقدون إرث السجايا والمزايا بالتناسل والتناسب، وأنّ الولد يرث من أبويه ووالديهما مواهبهم العقلية أو سجاياهم الأخلاقية كما يرثهم أشكال الخلقة وطبائع الجسم وأمراض الأعضاء، وقد أكد الفن والحديث ذلك وأنّ التشابه في الخلقة لا ينفك عن التشابه الأخلاقي. فنجد العائلة بعد فقدان أكبرها تجمع توجهاتها في أشبه أفرادها بالفقد ـ توسماً بقيام الشبيه مقام الفقيد في إعادة آثاره لإجماع الغرائز ـ على أنّ الأعمال نتائج الأخلاق، وأنّ الطفل الشبيه بآبائه خَلقاً وخُلقاً يغلب أن يجدد مآثرهم ومفاخرهم. وكان آل محمّد (صلى الله عليه وآله) في أسف مستمر على فقدان النبي، وخسارة كل مجد في فقده حتى ولد للحسين بن علي ولد أشبه الناس بجدّه محمّد (صلى الله عليه وآله) خلقاً وخُلقاً ومنطقاً، فتمركزت فيه كل آمالهم وأمانيهم، وصاروا كلّما اشتاقوا الى زيارة النبي (صلى الله عليه وآله) شهدوا محضره وشاهدوا منظره. وسمّي شبيه النبي فترعرع الصبي وترعرع معه جمال النبي (صلى الله عليه وآله) ونما فيه الكمال، وأزهرت حوله الآمال وبلغ تصابي آل النبي (صلى الله عليه وآله) فيه مبلغ الوله والعشق، فكان إذ تلا آية أو روى رواية مثّل رسول الله (صلى الله عليه وآله) في كلامه ومقامه، وأضاف على شبه النبي (صلى الله عليه وآله) في الجسم شبهاً بجدّه علي (عليه السلام) في اسم كما شابهه في الشجاعة وفي تعصبه للحق،
غير أنّ الحصار والحزن ضيّقا على نفسه مجرى النفس، فلم يجد مظنة للخلاص منهما إلاّ في الموت، فجاء ليستأذن أباه لكنه منكسر الطرف، إذ يعلم مبلغ تأثر الوالد من هذا الكلام. وقد شوهد سيّد الطف في أقواله وأحواله على جانب عظيم من التجلّد لكن قيام هذا الفتى ضيّع جانباً من تجلده فصار كغيره لا يملك من التجلد شيئاً فيما يقول فيولده أو عن ولده. وأيم الله إنّه أذن له مثل من يريد أن يجرح عاطفة فتاة فأسرع علي نحو الأعداء، عين أبيه تشيّعه وترسل دموعها الحارة مصحوبة بالزفرات، والنساء على أثره تولول، وتعول أُمه بشجو فاقدة الاصطبار إذ فقدت مركز آمالها والإمام ينادي بأعلى صوته: «يا ابن سعد قطع الله رحمك كما قطعت رحمي، ولم تحفظ قرابتي من رسول الله».
أمّا الغلام فقد تجلّى على القوم بوجه رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعمامة رسول الله وأسلحة رسول الله وعلى فرس رسول الله ونطق بمنطق رسول الله قائلاً:
أنا علي بن الحسين بن علي | نحن وبيت الله أولى بالنبي |
أي أنا المثل الأعلى لرسول الله (صلى الله عليه وآله) فيكم بصورتي وسيرتي وحسبي ونسبي، فأنا تذكار جدّي علي، وأنا شبيه النبي، وأنّ أبي الحسين سبط النبي، وأنّ جدّي علياً أخو النبي ووصيه، فنحن جميعاً أولو قرباه وأهل بيته ـ الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، فاُولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ـ
بارز الغلام جيش الكوفة وشدّ عليهم شدّة الليث بالأغنام، وبعدما كرّ عليهم رجع الى أبيه قائلاً: «العطش قد قتلني» فيقول له أبوه: «اصبر يا حبيبي، فإنّك لا تمسي حتى يسقيك رسول الله بكأسه الأوفى» والغلام يكرّ الكرّة بعد الكرّة، فنظر اليه ابن مرّة العبدي فقال: «عليّ آثام العرب إن كرّ ومرّ بي لو لم اثكل أُمه» فبينا هو يشدّ على الجموع يرتجز إذ ضربه العبدي وصرعه فنادى: «يا أبتاه عليك مني السلام، وهذا جدّي قد سقاني بكأسه الأوفى، وهو يقرؤك السلام ويقول لك العجل العجل» ثم شهق شهقة كانت فيها نفسه فانقض إليه الحسين (عليه السلام) قائلاً: «يا بني! قتل الله قوماً قتلوك، ما أجرأهم على الله وعلى انتهاك حرمة الرسول؟! يا بني! على الدنيا بعدك العفا» ثم قال لفتيانه: «احملوا أخاكم الى المخيم» إذ كان أول قتيل من جيش الحسين، وحاذر على النساء وعقائل الرسالة أن يخرجن الى مصرعه حاسرات {إِنَّا لِلّهِ وإِنّا إِلَيهِ رَاجِعُونَ}.