الصفحة 221

رسائل بولس

عمانوئيل: يا والدي إن الرسائل المنسوبة لبولس قد رفعت مشكلة التناقض ووحدت الدعوة لرفض الناموس والأعمال وأخذت بمذمة المشائخ والتلاميذ الذين يدعون إلى حفظ الناموس والأعمال الصالحة وأباحت حتى الدم والمخنوق وما ذبح للأوثان باشد مجاهرة وقد أحرز تعليمها بالنفوذ والسيادة على تعاليم الرسل والمشائخ.

لماذا ساد التعليم المنسوب إلى بولس بإبطال الشريعة

اليعازر: عجبا كيف يسود التعليم المنسوب لبولس على تعاليم الرسل والنصارى العبرانيين مع شدة اهتمامهم بحفظ الشريعة والأعمال الصالحة كما يذكره كتاب أعمال الرسل ورسالة يعقوب حتى إن الرسائل المنسوبة لبولس تشهد باهتمام الرسل والنصارى العبرانيين بحفظ الشريعة.

فهل تعرف يا عمانوئيل سببا لذلك وكيف غلبت التعاليم المنسوبة لبولس على تعاليم المسيح بحفظ الناموس والعمل بتعاليم الكتبة لأنهم على كرسي موسى جلسوا وغلبت على تعاليم الرسل والنصارى العبرانيين.


الصفحة 222
عمانوئيل: يا والدي لا يحسن في أدبي أن أتكلم في جواب سؤالك بحضرة سيدنا القس.

القس: يا عمانوئيل إن كنت تجد في نفسك معرفة للسبب الذي سئل عنه أبوك فتكلم.

عمانوئيل. يا سيدي فهل تسعدني ألطافك بأن تزجرني حينما أنحرف عن الصواب؟

القس: يا عمانوئيل لك ذلك.

عمانوئيل: يا والدي لا بد من أنك عرفت من كتب العهد القديم سرعة ميل الإسرائيلين إلى الأهواء الباطلة وأضاليل الوثنية وشدة تمردهم على الشريعة من زمان موسى النبي إلى سبي بابل بحيث لا تردعهم الآيات العجيبة ولا الانتقامات العاجلة نعم عرفهم سبي بابل وما قاسوه من الذل أنهم لا سبيل لهم إلى أن يستعيدوا شيئا من مجدهم إلا بجامعتهم القومية المرتبطة باسم الديانة الإسرائيلية فأورثهم ذلك تعصبا شديدا في اللزوم لصورة الدين الإسرائيلي في الرسوم العمومية مع تفرقهم وراء أهوائهم في الأعمال الشخصية.


الصفحة 223
اليعازر: نعم إني أجد نوع اليهود في الجيل الحاضر يحافظون في الظاهر على صورة أعيادهم ومواسمهم ورسومهم العمومية ولكنهم ليس لشخصياتهم كثير التزام بالشريعة كما نراه شايعا منهم في أكل اللحوم ومخالطة الأمم وشيوع المنكرات المنهي عنها في الدين.

وهذا يشهد لنا بتاريخ متسلسل في أجيالهم.

عمانوئيل. يا سيدي الوالد ولما صارت اليهود تحت سلطة الروم انتشر اليهود في بلادهم في آسيا الصغرى ومقدونيا وبلاد اليونان حتى إلى رومية وكان يصعب عليهم فيما بين الأمم التزامهم بالشريعة اليهودية.

ويمنعهم تعصبهم لجامعتهم الإسرائيلية الدينية أن يخرجوا بالصراحة عن صورة ديانتهم.

فكانوا من أجل ذلك في عناء شديد تتجاذبهم فيه صوبات الخلطة وميل الأهواء وشدة التعصب للجامعة القومية.


الصفحة 224
ولما بلغتهم دعوة المسيح وكراماته ارتاحوا لها لأنها دعوة إسرائيلية توافق تعصبهم القومي وخيلت لهم آمالهم أنهم يستفيدون من تجديد هذه الدعوة ونهضة اتحادها فائدة قومية أو سياسة. ولم تكن لهم رياسات يأكلون بها الدنيا باسم الدين كالكهنة والكتبة الذين في بلاد اليهودية لكي تثقل عليهم دعوة المسيح.

بل ربما اغتنموا منها الاستراحة من تلك الرياسات التي يدعون أنها ريائية. فكانت الدواعي لرغبتهم في الدعوة المسيحية كثيرة جدا.

يا والدي وهؤلاء اليهود الذين آمنوا على البعد بالمسيح لما اختلفت عليهم التعاليم باسم الدعوة المسيحية وكان من جملتها ما يوافق أهوائهم في المساهلة ورفع القيود ويهنأ لهم العيش بين الأمم ويصفي لهم موارد الخلطة معهم.

وهو هذا التعليم المنسوب إلى رسائل بولس فس الضروري أن يكون هو التعليم المقبول الذي تحسنه الأهواء للنفوس وتجذبها إليه وتجعله هو التعليم السائد بنفوذه. يا سيدي الوالد وقد ساعد ما ذكرته لك من السبب وأعانه على التأثير انتشار الرومانيين واليونانيين في سوريا وفلسطين وارتباط سوريا مع المملكة الرومانية بالروابط السياسية والتجارية فإن ذلك اقتضى أن تشيع فضيلة سيدنا المسيح في تعليمه بالفضائل الروحية ومعجزاته النبوية على وجه لا يسترها إلا عناد التعصب فمن الضروري أن تهش إلى الإيمان به كثير من النفوس.

ولكن تحول دون ذلك صعوبات شديدة من ألفة الناس لأديانهم وعوائدهم فلما جاءهم التعليم المنسوب إلى بولس في الرسائل سهل عليها أمر الإيمان سهولة كبيرة حيث كان تعليم الرسائل لم يغير شيئا من عوائد اليونانيين ولم يقيدهم بشريعة تخالف شرايعهم. ولا اعتقاد يخالف ثالوثهم والولادة من الله وغاية ما وجدوه في هذا التعليم من تجديد الدين المسيحي هو أن يدرجوا المسيح في عداد الآلهة المتجسدة وأبناء الله.


الصفحة 225
فينالوا البر والنجاة والغفران بهذا الإيمان البسيط.

فكان من الضروري أن يرغب في هذا التعليم كل من تحن نفسه إلى الإيمان بالمسيح وتصده صعوبات الشريعة المخالفة لمألوفاته يا والدي فتعاضدت الأسباب على سيادة التعليم المنسوب إلى بولس إلى أن تلاشى التعليم المخالف له.

يا والدي وقد سهل هذا التعاضد وأزال عنه كل صعوبة أنه لم يبرز بين الناس من المسيح كتاب معلوم النسبة له قد دونت وفيه أصول تعاليمه وأساسيات دينه ليكون هو المرجع واللسان المترجم عن المسيح في زمانه وبعده بل كان بيان تعاليم المسيح أصولا وفروعا موكولا إلى الانقال المرتبكة في معارك الأهواء. ومن الضروري أن تكون السيادة في هذه الأحوال لما يوافق الهوى.

اليعازر: يا عمانوئيل أراك كأنك تشكك في نسبة هذه الرسائل وهذه التعاليم إلى بولس.

عمانوئيل: يا سيدي الوالد أشك في ذلك من أجل أنه لا يمكن الوقوف على سند متصل لنسبة هذه الرسائل وهذه التعاليم إلى بولس فلا تحتمل ذمتي أن اقطع بنسبتها إليه، وأما حقيقة حاله فعلمها عند الله. وإني على ثقة تامة بقدس تلاميذ السيد المسيح وكمالهم في الإيمان وثباتهم على حقيقة تعليمه المقدس. وبالختام نقول بما هو رأينا من أول الأمر إن كلامنا من الأول إلى الآخر إنما يتعلق بما نجده مكتوبا من دون نظر إلى شخص معين وكاتب معين. وإن ذكرنا بعض الأسماء فإنما كان ذلك على سبيل الاتباع للتسمية.


الصفحة 226
ومن ذلك قولنا. الانجيل. إنجيل متى. إنجيل يوحنا. فلان. من هو متي. من هو يوحنا فإنا لم تتحقق عندنا نسبة كتاب من كتب العهدين وغيرها مما اعترضنا عليه. ونسأل الله التوفيق إلى الهدى والسداد والصلاح لنا ولجميع البشر.

وليكن هذا آخر الجزء الأول. والحمد لله أولا وآخرا وله المجد والعظمة قد تم والحمد لله في سادس شهر ربيع الثاني سنة 1347.


الصفحة 227

الجزء الثاني


بسم الله الرحمن الرحيم

وله الحمد كما هو أهله وهو المستعان والصلاة والسلام على رسله وأنبيائه وأوليائه.


الصفحة 228

دين الاسلام والقرآن

اليعازر: يا سيدي القس إني ربما التفت إلى دين الاسلام فأكاد أن استحسنه حينما انظر إلى صفاء توحيده.

ونزاهة عرفانه. واستقامة تعاليمه. وسلامة كتابه مما ذكرناه من كتب العهدين وأزعجنا بمنافياته لجلال الله وقدس الأنبياء.

ولكن يا سيدي إذا نظرت إلى قيامه بقوة السيف وغلبة القسوة نفرت منه. خصوصا إذا كان يقطع علاقتي بالدين المسيحي.

ويكدر صفاء إيماني بالسيد المسيح. ويشوش محبتي له واعتصامي به. فهل يسمح لي سيدي بأن ننظر في دين الاسلام. ونخوض في أمره وأمر كتابه.


الصفحة 229
وهل يسمح لي سيدي بأن يجاهر في الحقيقة بصريح البيان.

القس: يا اليعازر قد جئت في هذا الكلام بفصول كثيرة. كل فصل منها يحتاج إلى إيضاح وتحقيق.

وربما كان الوقت والحال لا يسمحان ببيان بعض الفصول.

اليعازر: يا سيدي لي الثقة بأن عندك علما كبيرا يضمن لنا إيضاح روح الحقائق. ويثبت أقدامنا في موقف الحق اليقين. ولكن يا للأسف أراك تحيد عن المجاهرة بالبيان. وإني لا أتهم قداستك بكتمان الحق والإغماض عن إرشاد الجاهل ولكني أراك تنتظر الفرصة في تعليمنا وإرشادنا. يا سيدي والعمر قصير فهل أعلل نفسي بالفرصة بعد الموت. فإن كنت تحذر من هيجان التعصب فينا. فلك علينا كل عهد وثيق أن نضع كل تعصب تحت أقدامنا.

القس: يا اليعازر أما ما ذكرته من صفاء توحيد الاسلام.


الصفحة 230
ونزاهة عرفانه واستقامة تعاليمه. وسلامة كتابه فهو أمر لا يكفي في جوابه (لا أخطأت) ولا (نعم. أصبت وأحسنت) بل يحتاج إلى أن ندرس معارف الاسلام من القرآن والتاريخ بكل إتقان علمي. وليس من الحسن أن نخوض في معارف القرآن وحدنا. بل لا بد من أن نحضر معنا واحدا من علماء المسلمين لكي ينبهنا على ما يخفيه علينا الجهل بالقرآن. وأما الأمور التي اقتضت نفرتك من دين الإسلام فإنه يمكن البحث فيها فلسفيا وتاريخيا بسهولة.

ملخص تاريخ الاسلام
من بدء دعوته إلى حين انتشاره

يا عمانوئيل: هل لك اطلاع على تاريخ الاسلام من أول دعوته إلى حين انتشاره.

لكي تذكر لأبيك شيئا يتعلق بغرضه. على شرط أن تذكر ما هو معلوم ومتفق عليه من التاريخ لا ما يختص به واحد دون واحد.


الصفحة 231

دعوة الاسلام

عمانوئيل: هل يخفى على سيدي أن بلاد العرب كانت على أقبح جانب من العبادة الوثنية الأهوائية، والعوائد القاسية الوحشية، وخشونة الظلم والجور وإدمان الحروب والغارات. قد امتازت كل قبيلة بجبروت رياستها، واستقلت بعصبية قوميتها، حتى إن كل قبيلة اختصت بصنم معبود، لئلا تخضع إلى قبيلة أخرى، واستمروا على ذلك أجيالا متعددة تتراكم عليهم فيها ظلمات الوحشية.

وضلالات الوثنية، وعوائد الظلم، وقساوة العداوة، والحروب المبيدة الفظيعة - بل كانت الدنيا بأسرها مرتبكة بين العبادة الأوثانية الصريحة.

وبين التثليث وتجسيد الإله والسجود للأيقونات (الصور والتماثيل) وإن جرى لفظ التوحيد على بعض الألسن لفظا بلا معنى، حتى إنك رأيت معارف التوراة الدارجة في الإلهيات وعرفت أنها من مبادئ وثنية يجب أن ينزه عنها جلال الله. وعند تراكم هذه الظلمات والضلالات، وهيجان براكينها الهائلة نبغ صاحب دعوة الاسلام والتوحيد الحقيقي (محمد) وأعلن بين العرب بادئ بدء بدعوة الاسلام التي هي أثقل عليهم من الجبال، فدعاهم جهارا إلى رفض معبوداتهم من الأوثان، وترك عوائدهم الوحشية، وإلى الخضوع لعدل المدنية، والتجمل بالأخلاق الفاضلة والآداب الراقية، واستمر على هذه الدعوة في مكة نحو ثلاثة عشر سنة.

وفي السنة الثالثة من دعواه الرسالة أعلن بدعوته لعامة الناس إعلاما تاما. وصار ينادي بدعوته في جميع أيامه في المحافل والمواسم بجميل الموعظة، وقاطع الحجة، والانذار بالعقاب والبشرى بالثواب، وحسن الترغيب والترهيب، وتلاوة القرآن. والإعذار بالنصيحة.


الصفحة 232
لم يهب في دعوته طاغوتا ولم يستحقر فيها صعلوكا. يدعو الشريف والحقير والمرأة والعبد. وقد آمن في خلال هذه الدعوة بدعوته الثقيلة على الأهواء من كل وجهة خلق كثير من أهل مكة وضواحيها من قريش وغيرهم، واحتملوا في سبيل ذلك أشد الاضطهاد والهوان والجلاء عن الأوطان إلى الحبشة وغيرها.

فكم من شريف في قبيلته عزيز في أهله وقومه صار بإسلامه مهانا مضطهدا، وكل هذا لم يصد الناس عن الاسلام لا يصد الضعيف ما يقاسيه من العذاب ولا يصد الشريف العزيز ما يلاقيه من الهوان.

يرون الاسلام هو العز والشرف والحياة والسعادة. ففي السنة الخامسة هاجر إلى الحبشة من جملة المؤمنين اثنان وثمانون رجلا من معاريف قريش وأتباعهم وذوي العزة ومعهم مثلهم أو أكثر منهم من النساء المسلمات الشريفات وبقي كثير من المؤمنين في مكة وغيرها، يقاسي أكثرهم سوء العذاب.

وكل هذا لا يصد الناس عن إظهار الاسلام. وقد أقبل على الإيمان بدعوة (محمد) وهو بمكة قبائل الأوس، والخزرج، وغفار، ومزينة، وجهينة، وأسلم، وخزاعة. ولا يخفى أن محمدا كان عزيز قريش من بيت سيادتها وعزها تسميه قريش (الصادق الأمين) يودع عنده مشركو قريش والعرب ذخائرهم إلى حين هجرته.

ومع ذلك كان يقاسي الأذى الشديد من المشركين والاستهزاء والتكذيب لدعوته والحبس مع بني هاشم في الشعب.


الصفحة 233
وهو مع ذلك متمسك بالتحمل والصبر الجميل وهدو السلم لا يفتر عن دعوته ونشرها وبث تعاليمه الفاضلة، وحماية التوحيد وإبطال الوثنية. حتى إذا اشتد عليه الاضطهاد وتعاقد المشركون على قتله عزم على أن يقطع مادة الفساد ويحافظ على دعوة التوحيد والاصلاح ويعتزل عن بلاده وهيجان المشركين للشر. فهاجر إلى المدينة لنشر دعوته. وجمع المسلمين في حماية جمعية واحدة.

فانتظم له في هجرته زيادة على من ذكرنا إسلامه إسلام كثير من العرب بالطوع والرغبة ومن جملتهم قبائل اليمن. وحضرموت. والبحرين. بل ما من قبيلة من القبائل التي حاربته إلا ويذكر التاريخ المعلوم أن أناسا منها أسلموا بالطوع والرغبة. فمنهم من تجاهر بإسلامه ومنهم من تستر به إلى حين.

حروب رسول الاسلام

يا والدي وأما حروبه التي تشير إليها في كلامك فإن أساس التاريخ الذي يذكرها يقرنها بذكر أسبابها التي يعلم منها أنه لم يكن حرب من حروبه ابتدائيا لمحض الدعوة إلى الاسلام. وإن جاز ذلك للإصلاح الديني والمدني، وتثبيت نظام العدل والمدنية، ورفع الظلم والعوائد الوحشية الجائرة القاسية. لكن دعوته الصالحة الفاضلة تجنبت هذا المسلك وسلكت فيما هو أرقى منه وهو الدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن.

كما جاءه هذا التعليم الأساسي في الآية السادسة والعشرين من سورة النحل المكية. وقد استمرت سيرته الصالحة على ذلك.


الصفحة 234
فكانت حروبه بأجمعها دفاعا لعدوان المشركين الظالمين عن التوحيد وشريعة الاصلاح والمسلمين. ومع ذلك فهو يسلك في دفاعه أحسن طريقة يسلكها المدافعون، وأقربها إلى السلام والصلاح، يقدم الموعظة ويدعو إلى الصلاح والسلام ويجنح إلى السلم ويجيب إلى الهدنة ويقبل عهد الصلح. مع عرفانه بأنه المظفر المنصور.

وهاك ما ينادي به التاريخ من أسباب حروبه وغزواته.

حرب بدر - وأسبابها

فأول حروبه المعروفة بعد هجرته هي حرب بدر وهي في السنة الثانية من الهجرة.

وسببها أن المشركين من قريش اشتد اضطهادهم للمسلمين ومن يريد الاسلام بمكة. ومنعوهم عن الهجرة والفرار بدينهم حتى ضيقوا عليهم بقساوة الاضطهاد والحبس لكي يردوهم إلى شرك الوثنية وعوائد الضلال. فإنهم عرفوا من سيرة (محمد) أنه لا يحب إثارة الحرب فزاد طغيانهم لما أمنوا جانبه، فأراد أن يرهبهم بالقوة والمنعة، ويهددهم بالتعرض لسبيل تجارتهم إلى الشام لكي تلجئهم الضرورة الاقتصادية وحاجتهم لتجارة الشام إلى الكف عن ضلالهم في اضطهاد المؤمنين بمكة ومنعهم عن الهجرة والفرار بدينهم. فندب إلى ذلك بعض أصحابه فنهض منهم ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا على أضعف عدة لم يكن معهم إلا سبعون بعيرا يتعاقبون عليها وأسياف قليلة.


الصفحة 235
فقصدوا قافلة قريش المقبلة من الشام. فسمع بذلك رئيس القافلة أبو سفيان وأرسل إلى مكة يستصرخ قريشا لتخليصها فخرجوا بعدة كاملة من الخيل والسيوف والدروع وكانوا نحو ألف رجل. واتفق أن قافلة قريش نجت من أصحاب (محمد) ولكن قريشا لم يكتفوا بنجاة قافلتهم، بل قصدوا محمدا وأصحابه اغترارا بكثرة عددهم وقوة عدتهم. وقد منعهم عقلاؤهم عن قصد (محمد) فلم يقبلوا حتى اجتمعوا مع المسلمين في مكان يسمى (بدرا) وابتدأوا بالقتال.

فانتصر المسلمون انتصارا باهرا وقتلوا من صناديد قريش سبعين وأسروا سبعين ورجعت قريش إلى مكة بالانكسار.

غزوة بني القينقاع

ولما قدم (محمد) في هجرته إلى المدينة رأى موقع الاسلام والمسلمين بين اليهود خطر، فإنهم كانوا محدقين بالمدينة وهم بنو النضير وبنو قريضة، وبنو قينقاع، فكان أول أعمال (محمد) في هجرته أنه عاهد هؤلاء اليهود على السلم وأمانة الجوار وأن لا يكيدوا المسلمين ولا يخونوهم ولا يساعدوا عليهم عدوا. ولكن بني قينقاع غدروا بعد وقعة بدر وصاروا يكاتبون المشركين وأنشبوا حربا بينهم وبين المسلمين فغزاهم محمد وانتصر عليهم فطلبوا النجاة بالجلاء عن بلادهم فسمح لهم بذلك.


الصفحة 236

حرب أحد

ثم تجمعت قريش بعدتها وعديدها وغزوا (محمد) وأصحابه إلى المدينة في السنة الثالثة من الهجرة حتى وصلوا إلى مكان يقال له (أحد) وهو عن المدينة بأميال يسيرة.

تأكيد العهد مع اليهود وجلاء بني النضير

ورأى محمد أن اليهود لا يكادون يثبتون على عهدهم فقصدهم هو وأصحابه لتأكيد العهد وأخذ الميثاق منهم. فأبى بنو النضير فعدل عنهم إلى بني قريضة فأعطوه عهودهم مجددا على أن لا يغدروا بهم ولا يساعدوا المشركين عليهم.

فرجع عنهم إلى بني النضير وحاصرهم على إعطاء العهد فاختاروا الجلاء عن بلادهم فسمح لهم بذلك حفظا للسلام بين البشر فحملوا كل ما يقدرون على حمله.


الصفحة 237
ونزل أكثرهم في (خيبر) لكي يكيدوا محمدا عن قرب.

حرب الأحزاب

ثم جمعت قريش في السنة الرابعة من الهجرة جموعها منها ومن أحلافها من القبائل، وكذلك (غطفان) وأهل نجد وتحزبوا على قتال (محمد) وأصحابه، وكان الساعي في هذا التحزب واجتماع غطفان وأهل نجد مع قريش على الحرب هم جماعة من يهود بني النضير الذين أجلاهم محمد ونزلوا خيبر منهم آل أبي الحقيق وغيرهم فقصدوا المدينة بجيش عظيم يعد بنحو عشرين ألفا فخندق (محمد) على المدينة وحاربهم. وقد كانوا كاتبوا بني قريضة على الغدر بمحمد والنهوض إلى حربه فخف بنو قريضة إلى الغدر ونقض العهد وبدا منهم الاعتداء فأرسل إليهم (محمد) حليفهم سعد بن معاذ رئيس الأوس مع جماعة من الأوس والخزرج فوجدوهم على أقبح الغدر. حتى صار بعضهم يغير على بيوت المدينة ومجامع العيالات.

غزوة بني قريضة

وحينما انكسرت قريش وانحل جيش الأحزاب عطف محمد وأصحابه على الغدرة بني قريضة فحاصروهم فجعل بنو قريضة حكمهم إلى سعد بن معاذ رئيس الخزرج لأنهم كانوا حلفائه قبل الاسلام وظنوا أن سعيدا يتساهل معهم فوافقهم محمد على ذلك ولم يصمم على حربهم. فحكم سعد بقتلهم فنفذ حكمه في الغادرين. ولو أنهم اختاروا الجلاء إلى حيث يؤمن غدرهم لسمح لهم (محمد) كما سمع لبني قينقاع وبني النضير ولو شفع فيهم سعد لتركهم له. فإن المعلوم من حال (محمد) أنه كان يحب السلم وصلاحة البشر والعفو إذا أمن من فساده. ولم ينصبغ العفو بصبغة الضعف والوهن.