حرب بني المصطلق
وفي السنة الخامسة أو السادسة صار بنو المصطلق يستعدون لحرب (محمد) فغزاهم وظفر بهم.
صلح الحديبية
وفي ذي القعدة من سنة ست قصد مكة للحج والطواف بالبيت ومعه من أصحابه نحو سبعمائة رجل. وقدموا ذبائح العبادة سبعين بعيرا جعلوا عليهم علائم الهدي لكعبتهم ورسوم العبادة ولكي يطمئن أهل مكة بالسلم، فصده أهل مكة واستعدوا لحربه وطلبوا رجوعه، فسمح لهم بما طلبوا وتساهل معهم بالصلح حسبما يقتضيه حب السلم ونحر في مكانه هديه للكعبة ورجع.
حرب خيبر
وإن بني النضير الذين نزلوا بعد جلائهم في خيبر وخضع لهم أهلها لم يزالوا يسعون في حرب (محمد) وقطع أثره. وهم الذين سعوا في حرب الأحزاب ولم يزالوا على إثارة الفتن فغزاهم في أواخر السنة السادسة ففتح حصونا لبني النضير. منها. حصن ناعم. ومنها القموص حصن بني أبي الحقيق. ومنها حصن الصعب بن معاذ، وباقي حصون خيبر، إلا حصنين (الوطيح، والسلالم) فإن أهلهما طلبوا من (محمد) أن يسيرهم ويحقن دماءهم فسمح لهم بذاك.
فتح مكة
وقد كان في صلح الحديبية أن خزاعة دخلت في حلف (محمد)، وبني بكر دخلت في حلف قريش. فعدت بنو بكر وقريش على خزاعة بالحرب العدواني. فجاء مستصرخ خزاعة إلى (محمد) فتوجه في سنة ثمان بجيشه إلى مكة في عشرة آلاف بعدة كاملة. ولما خافت منه قريش وأحلافها وضعفوا عن مقاومته لم تحمله سوء أفعاله على الانتقام منهم. بل دخل مكة بأرأف دخول وأكرم معاملة. فكأنه ساق إلى قريش جيش العفو وامتنان الرحمة وكرم الأخلاق.
حرب هوازن
ولما سمعت هوازن بفتح مكة جمعت جموعها لحرب (محمد). فقصدهم وحاربهم وغنم أموالهم وذراريهم. فوفد رجالهم عليه بعد أن أسلموا في هزيمتهم طوعا. فاسترحموه، فخيرهم بين رد السبي ورد الأموال. فاختاروا رد السبي، فاسترضى المسلمين في ذلك فأجابوه، فرد السبي وكان نحو ستة آلاف ما بين امرأة وطفل. وقد كانت ثقيف من جملة المنهزمين من جيش هوازن فرجعوا إلى الطائف وتحصنوا بحصونهم لحرب (محمد) فوجه إليهم بعض جيشه.
حرب مؤتة . وحرب تبوك
وأما بعثه الجيش إلى الشام حيث حاربوا حيش الروم والعرب والرومانيين في (البلقا) شرقي بحيرة لوط. ومسيره بجيشه إلى تبوك فكان الداعي لذلك أن هؤلاء تظاهروا بالعداوة للاسلام و (محمد) واستخفوا بحرمته وقتلوا رسله الذين أرسل معهم كتبه لدعوة التوحيد. مع أن العادة المستمرة أن الرسول حامل الكتاب محترم لا يقتل. ولا يقتله إلا من تجاهر بالطغيان والعداوة لمن أرسله، فإن (محمدا) كاتب ملك الروم في الدعوة إلى صلاح الاسلام وتوحيده الحقيقي حينما كان قيصر راجعا مع جيشه من انتصاره على الفرس. فتجرأ شرحبيل الغساني على قتل الرسل حامل الكتاب، واستعد الروم وأتباعهم لعداء (محمد) وحربه فاستعد لدفاعهم وعدم الخضوع لجرأتهم التي تهدد دعوة التوحيد والاصلاح.
سراياه وتجريداته
وأما سرايا (محمد) وتجريداته فكلها كانت دفاعية. يرد بها كيد الغادرين ويدافع بها من يستعد لحربه، ويسعى في الفساد والبغي، ولم تكن فيها مهاجمة ابتدائية على هادئ مسالم كما يشهد بذلك معلوم التاريخ.
سيرة محمد في دفاعه
وقد كانت حروبه الدفاعية محدودة بالحدود الصالحة فيما قبلها وما بعدها. وكانت محدودة فيما قبلها بالدعوة إلى التوحيد الحقيقي ومدنية العدل. والكف عن عوائد الظلم والوحشية ثم بالدعوة إلى الصلح وحفظ السلام، والمعاهد والهدنة، ومحدودة في آخرها بقبول للعدو لدعوة التوحيد والعدل، أو طلبه للصلح أو الهدنة. وقد كان (محمد) في جميع ذلك يشدد النهي عن قتل النساء والأطفال والمشائخ العاجزين والرهبان المعتزلين. وكان يجمع بين الرحمة وحقوق أصحابه المجاهدين فيسمح برحمته بكل ما يسمح به أصحابه من السبي والغنائم، ويرعى للأسير الشريف حرمة شرفه، ويطيب قلوب الأسرى بلسانه وقرآنه، ويوصي أصحابه بهم ويرغبهم في عتقهم حتى إن العتق في شريعته من العبادات الواجبة في بعض المواضيع.
هذا ملخص سيرة (محمد) في دعوة الاسلام.
دعوة المسيح
يا والدي ألا ترى أن دعوة المسيح في بني إسرائيل لم يكن فيها ما يبهضهم في أصول ديانتهم وعباداتهم وناموس شريعتهم. بل كان أساس دعوته هو الحث على لزوم التوحيد وحق العمل بالشريعة وحفظ وصايا التوراة، والتعليم بمكارم الأخلاق وحسن العدل. وهذا مما يرتاح له نوع بني إسرائيل، ولم يكن في دعوة المسيح إلا أنها كانت تتعرض لرياء الكهنة والكتبة وجبروتهم في الرياسة الدينية، وأكلهم الدنيا باسم الدين وهذا أيضا مما ترتاح إليه نفوس العامة. ولكن لمحض ذلك قامت قيامة الكهنة والكتبة وأنصارهم، وجرى من أعمالهم مع المسيح والمؤمنين به ما تسمعه من التاريخ والأناجيل من أنواع الاضطهاد مع أن قدرتهم كانت محدودة بالسياسة الرومانية لا يستطيعون أن يعملوا شيئا إلا بالمحاكمة والتطبيق على قوانين السياسة بالاستعانة بالكذب وشهادة الزور وبذلك صالوا على المسيح والذين من بعده من أصحابه. فكيف حال الدعوة الإسلامية التي سمعت حالها مع العرب والوثنيين المتوحشين الذين شرحنا لك حالهم. فهل يمكن في العادة أن تستقيم بدون دفاع؟ وهل يصح في حكمة الاصلاح الديني والاجتماعي أن لا تعتز هذه الدعوة بالدفاع؟ وهل يجوز أن تسلم أمرها بالوهن إلى التلاشي بعدوان أضدادها.
إستعداد المسيح للدفاع بالسيف
يا سيدي إن الأناجيل قد ذكرت وهن التلاميذ وضعفهم عن الصبر على الشدائد. وتفرقهم عن المسيح عند هجوم اليهود عليه كما أخبرهم به المسيح قبل ذلك. وقد أحصى هذا كله من الأناجيل في الجزء الأول من كتاب الهدى صحيفة 30 و 31 فراجعه فإنك تعرف أن ألوفا من أمثالهم لا يقومون مقام واحد من أصحاب (محمد) في الصبر والثبات على الإيمان والتفادي في سبيله. ومع ذلك فإنجيل لوقا يذكر في العدد السادس والثلاثين من الفصل الثاني والعشرين أن المسيح أراد من تلاميذه الاستعداد للدفاع بالسيف وقال لهم: (من ليس له فليبع ثوبه ويشتر سيفا) ولكن يا للأسف لم يحيوا أمره المؤكد لهم جميعا بالسمع والطاعة. بل قالوا قول المتثاقل المتشبث بالمعاذير (ههنا سيفان) فلم ير المسيح في جواب تثاقلهم إلا أن يقول: (يكفي) وظاهره أن جوابكم يكفي في بيان وهنكم. يا والدي إن اليهود والنصارى يعتقدون أن التوراة الموجودة هو كتاب الله جاء بشريعة الله في كلام الله لموسى رسوله. وقد كثر في هذه التوراة الأمر بالمهاجمات الحربية الابتدائية في الحروب القاسية الآمرة بذبح الأطفال والنساء. والتوراة وكتاب يشوع (يوشع) يذكر أن موسى الرسول ويشوع مختار الله قد عملا بهذا الأمر القاسي على أقسى وجوهه كما مر في الجزء الأول في صحيفة 69 مع أن التوراة وكتاب يشوع لم يذكرا أن ذلك كان لأجل الدعوة إلى التوحيد والإيمان والاصلاح. بل لم تذكر التوراة غاية لهذه الحروب القاسية إلا انتهاب الأرض من سكانها المطمئنين بها وإعطائها لشعب بني إسرائيل الذين لم يستقروا على التوحيد والشريعة والطاعة جيلا واحدا. يا والدي فهل من الصواب وشرف الانصاف أن نغض الطرف عن هذا كله ونعترض على الاسلام دين التوحيد الحقيقي والاصلاح والمدنية حيث اضطرته الأحوال إلى أن يدافع عن صلاحه عدوان الوثنية وفساد الوحشية.
يا والدي إنك إذا تأملت في فلسفة الاصلاح الديني الاجتماعي بل وعواطف الاجتماع رأيتها بوجدانك تسوغ لمحمد في عصره المظلم بالظلمات المتراكمة أن يبتدئ بالمهاجمة في سبيل إصلاحه. فكيف نعترض عليه إذا سلك أرقى مسلك في الاصلاح. ألا. وهو الدفاع الجميل الذي تقوم به الحجة، ويحدده الصلاح وعواطف الرحمة بأكرم الحدود وأشرفها.
خلاصة الكلام في دفاع الاسلام
يا والدي: وفي آخر الكلام أقول لك إنك إذا نظرت إلى التاريخ نظر حر تجد أن الذين نالهم السيف من الذين دافعهم (محمد) لا يبلغون عشر الذين آمنوا به بالطوع والرغبة وفدوا أنفسهم وكل غال دون دعوته الكريمة. وإن هؤلاء الذين انقادوا إلى الاسلام بالسيف لما تشرفوا بنعمة الاسلام صار (محمد) أحب الناس إليهم. وذلك لما وجدوه من صلاح دعوته وحسن سيرته في تبليغها وإجراء شريعتها فيما عاملهم به من التحمل والملاينة. وجميل الدفاع وعواطف الرحمة وكرم المروءة وحسن الخلق وحسن الولاية، وإن حروبه معهم وإن كانت لأجل أشرف الغايات لم تكن إلا دفاعا جميلا لحماية الاصلاح الديني والمدني مقرونة بحسن المعاملة وجميل الصفح وعظيم المن وأيادي الرحمة مما لا يتصور من محارب مظفر معتز بنصيحة أصحابه وتفاديهم في سبيل نصره. نعم كان كثير من النائين عن مركز (محمد) ينتظرون بإسلامهم قوة الاسلام وارتفاع الموانع بينهم وبينه. ولأجل ذلك تقاطرت إليه قبائلهم بالطوع والرغبة عندما ارتفعت الموانع.
اليعازر: إن من أنعم النظر في التاريخ وفلسفة الحقائق لا بد له من أن يعترف بما تقول وإن كان النصارى الغربيون يودعون في أذهان العوام أن (محمد) كان على أعظم جانب من القساوة الحربية والتهاجم العدواني وأن دينه لم ينتشر إلا بالسيف العدواني القاسي. وأن ديانته وثنية وحشية ولكن لما تقدم في النظر إلى التاريخ وتحققت في دين الاسلام وجدت الحقيقة على ما شرحه ولدي عمانوئيل، وأن توحيد الاسلام هو التوحيد الحقيقي. ولكني قلت ما قلت لكي أرى ما يقوله عمانوئيل ويرتضيه سيدنا القس لأكون على ثقة وبصيرة من معلوماتي.
الاسلام والمسيح
عمانوئيل: يا والدي وأما قولك في أسباب نفرتك من الاسلام (خصوصا إذا كان يقطع علاقتي بالدين المسيحي ويكدر صفاء إيماني بالسيد المسيح ويشوش محبتي له واعتصامي به) فمهلا يا سيدي إن الاسلام لا يقطع إلا علاقتك بالتثليث، وسر الفداء، وحمل آثامنا ولعنات الناموس على سيدنا المسيح وحاشاه كما مر في الجزء الأول في صحيفة 84 إلى 88 فهل تريد يا والدي أن تعبد إلها مثلثا متجسدا. وتنادي (المسيح افتدانا من لعنة الناموس إذ صار لعنة لأجلنا) ألست نفرت من هذه التعاليم في بحثنا فيها. نعم يا والدي ويقطع الاسلام علاقتك بما نسبته الأناجيل إلى المسيح وحاشاه من القول بتعدد الأرباب. وتعدد الآلهة بتلك الحجة الواهية والتحريف الصريح للفظ المزامير ومعناها كما مر في الجزء الأول في صحيفة 72 و 73 و 74. يا والدي إن الاسلام بقرآنه وبيانه يمجد رسالة المسيح، وينادي بقدسه، وطهارته، وبره، وكماله، ويبرئه عما لوثت به الأناجيل قدسه فكيف يكدر صفاء إيمانك به.
نعم إن الاسلام ينفي ألوهية المسيح. فهل أنت تريد الإيمان بألوهية البشر المضطهد. ولعلما ينقدح في نفسك أن الاسلام اضطهد الكنيسة الشرقية الزاهرة، فاعلم أنه لم يرد منها إلا أن تتنزه عن شرك التثليث البرهمي وعبادة الصور والأيقونات، وزخرف التسابيح الموسقية، وخداع الغفرانات وتأثيراته التي تعرفها، وهل كانت زهرة الكنيسة إلا بهذه الأمور المظلمة. يا والدي ألم تعلم أن الاسلام جعل للكنيسة أن تبقى على صورتها بضمان حمايته بشرط أن تعطيه عهدا على السلم وعدم الغدر وأن لا تتجاهر بالمنكرات وشرب الخمر ومضادة الاسلام. ألم تبق الكنيسة في الشرق حين قوة الاسلام الحربية آمنة مطمئنة يصدع ناقوسها مع أذانهم ويجلس قسوسها محترمين مع علمائهم، تجري في أعيادها ومواسمها على رسومها.
النظر في دين الاسلام ورسالته وقرآنه
اليعازر: كفانا ما مر من النظر في العهدين والديانة اليهودية والديانة النصرانية. فهلا ننظر في دين الاسلام، ورسالته، وقرآنه، ونرى معارف القرآن. القس. لا بد لنا من ذلك، ولكن لا بد لنا من أن نحضر معنا مسلما عارفا بالقرآن والاسلام لكي يجري البحث والكلام على الحقوق.
اليعازر: إن القرآن كلام عربي ونحن قد تربينا في بلاد العرب وعرفنا لسانهم. القس. إن الذي لا يتخذ القرآن أساسا لتعاليمه بل ينظر إليه نظرا سطحيا لا يعطيه حقه من فهم معانيه، ولا يدري بما في زواياه من المعارف، ولا يستحضر ما فيه من الفوائد، وإن الانصاف لا يسمح لمن ينظر إلى القرآن نظر مستخف أن يجري حكوماته وتحكماته فيه.
عمانوئيل: يا سيدي لأصحابنا النصارى على القرآن اعتراضات كثيرة. وربما الناظر إليها في أول الأمر يراها ثمينة قوية وها هي الاعتراضات مذكورة في كتاب هاشم العربي. وكتاب جمعية الهداية والكتاب المسمى حسن الايجاز. وغيرها من كتب النصارى. ولكن لما نظرت في كتاب الهدى. وكتاب نفاحات الإعجاز(1) عرفت ببيانهما أن تلك الاعتراضات في غاية الوهن، واتضح أن القرآن في موارد هذه الاعتراضات تتدفق منه ينابيع البلاغة والفصاحة. وتشرق أنوار الحقائق السامية، والمعاني الراقية، بحيث صارت اعتراضات أصحابنا النصارى سببا لأن يلفت كتاب الهدى وكتاب نفحات الإعجاز أنظارنا إلى فضيلة القرآن في مطالبه العالية، وسلامته من كل اعتراض. والاعتراضات وأجوبتها المسكتة والمقنعة لذي المعرفة ها هي في كتاب الهدى في الجزء الأول من صحيفة 321 إلى 382 وفي الجزء الثاني من صحيفة 2 إلى 243.
اليعازر: إذا أحضرتهم معنا مسلما فإني أخشى أن يطول الجدال وتهيج العصبية ويكثر القيل والقال، فتخفى بذلك علينا الحقيقة، ويلتبس علينا الطريق ويطول السير.
عمانوئيل: إنا نبحث لنجاة أنفسنا وننظر بنور عقولنا مستندين إلى إرشاد سيدنا القس. وقد رفضنا كل عصبية وتقليد. فإذا لم يوافق طريقتنا ذلك المسلم تركناه واستبدلنا به غيره ممن نرضى طريقته وعلمه.
____________
1 ـ للعالم الكبير والمتحلي في شبابه بفضيلة المشائخ سيدنا السيد أبي القاسم الخوئي النجفي دام فضله. (*)
مثلنا الشيخ (محمد علي) عن ناحية القرآن والاسلام
عمانوئيل: يا شيخ إنكم معاشر المسلمين تقولون إن التوراة الموجودة محرفة بحيث سقطت عن الاعتبار. مح أن قرآنكم الذي تؤمنون بأنه كلام الله يصدقها ويعتبرها كتابا إلهيا نبويا فماذا تقول؟ الشيخ: يا أصحابنا إن بيان الحق في هذا الموضوع ربما يصعب عليكم فهل تسامحونني فيما أقوله: القس. يا شيخ قرآنكم يقول: (وجادلهم بالتي هي أحسن)(1) ويقول في مقام آخر: (أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة)(2) وإذا تأدبت بآداب القرآن فلا عليك إذا اغتاظ المتعصب. بل قل ما عندك من الحق فلعلك تصادف نفسا كريمة وقلبا نقيا. الشيخ. لا يخفى على من نظر في القرآن بنظر حر أنه جرى بكرامة منهجه على حقيقة الحكمة واللطف في الدعوة إلى حقيقة التوحيد وشريعة العدل والمدنية اللذين هما المقصود الأصلي والمطلب الأساسي. فسلك في أمرهما أحسن مسلك في الحجة فلم يهاجم في الأمور الثانوية العرضية بصراحة تثير العصبية فتكون معثرة في سبيل المقصود الأصلي وروح الاصلاح مهما أمكن البيان لأولي العقول بنحو جميل. وليس من حكمة الدعوة لأهل الكتاب أن يجاهرهم بالصراحة بأن كتبهم التي بأيديهم قد كثر فيها التحريف والتبديل والكفر الوثني والخرافات الكثيرة والتناقض الظاهر. إذ لا يخفى أن المجاهرة بذلك تهيج داء العصبية المهلك وتنفر عن الاقبال إلى الإيمان الصحيح وتصرف عن الاصغاء إلى بيان الحق.
____________
1 ـ سورة النحل، الآية: 125.
2 ـ سورة النحل، الآية: 125.
عمانوئيل: هذا شئ في غاية الحكمة بحسن الارشاد. لكن يا شيخ أين موارد ذلك في القرآن. فأوضحها. الشيخ: إني عرفت دراستكم في كتب العهدين وعرفت أخذ التوفيق بأيديكم والتفاتكم إلى ما نبه عليه القرآن من خلل العهدين الرائجين حتى إنكم كتبتم ذلك وطبعتموه في الجزء الأول. ولأجل الاختصار أشير بحسب صحائف المطبوع إلى ما ذكرتموه من الانتقاد وكرامة القرآن الكريم في تنزيه الحقائق وحسن التنبيه على الخلل. فمن ذلك ما مر في الجزء الأول في صحيفة 14 - 17 قصة آدم والشجرة والحية والكذب. وما مر في صحيفة 18 من كرامة القرآن في نقل القصة الواقعة على حقيقتها المنزهة. وأما ما مر في صحيفة 19 - 23 من خرافة التمشي والاختباء والسؤال، والمحاذرة من آدم لأنه صار كواحد من الآلهة. وكذا ما مر في صحيفة 31 من خرافة برج بابل والمحاذرة من ذرية نوح. وفي صحيفة 67 ومن خرافة مصارعة يعقوب مع الله وما فيها من الكلمات الوثنية فإن القرآن يوضح بطلان هذه الخرافات بما تضمنته معارفه وتعاليمه بحقيقة التوحيد وجلال الله وقدسه وأنه الواحد القهار. ومن ذلك ما مر في صحيفة 41 - 42 من أن هرون صنع العجل الوثني لكي يتخذه بنو إسرائيل إلها ويعبدوه من دون الله وصنع أمام العجل مذبحا لعبادته.
مع أن الله في ذلك الحين كان يكلم موسى في تقديس هرون بالكلام الطويل لرياسة الدين والشريعة. وإن الله كلم هرون في أمور الدين والشريعة مع موسى ومنفردا قبل واقعة العجل وبعدها. وقد مر في صحيفة 29 و 30 أن القرآن ينسب عمل العجل والدعوة للشرك إلى السامري (الشمروني) من عشيرة شمرون ابن يساكر ابن يعقوب الذين كان منهم مع موسى الوف - كما مر في صحيفة 33 إن القرآن يبرئ هرون من أمر العجل ويوضح أنه نصح بني إسرائيل ونهاهم عن عبادته وأخبرهم بفتنتهم وضلالهم. فالقرآن أوضح حال الخرافة الجامعة بين نبوة هرون وتقديس الله له والدوام على تكليمه وبين كون هرون يدعو إلى الشرك ويصنع العجل الوثني ويبني له مشعر العبادة. وقد مر في صحيفة 53 - 54 حكاية شك إبراهيم صريحا في وعد الله له بأمر ممكن عادي الوقوع. ومر أيضا ذكر العلامة التي يقول كاتب التوراة الرائجة إن الله أعطاها لإبراهيم لكي يعلم بصدق الوعد ويرتفع شكه. وهي العلامة التي لا يعلم أحد محصلها ولا ربطها بالكلام. ومر أيضا أن القرآن يذكر أن إبراهيم طلب أن يرى بعينه إحياء الله للموتى ليؤكد بذلك إيمانه بيوم المعاد ويطمئن قلبه بهذه الحقيقة بسبب تعاضد الحس والوحي. فجرى القرآن على الحقيقة المناسبة لإيمان إبراهيم خليل الله. وجلال الله في إعطاء العلامة المعقولة. وقد مر في صحيفة 55 - 56 حكاية الذين جاؤا إلى إبراهيم وإلى لوط واضطراب التوراة الرائجة في عددهم وفي أنهم الله أو ملائكة. وذكرت أنهم أكلوا من طعام إبراهيم ولوط. ومر في صحيفة 69 وبيان كرامة القرآن في ذكره لهذه القصة على الوجه المعقول.
وقد عرفت مكالمتكم الكريمة في ذلك في صحيفة 59 و 60 ومر أيضا في صحيفة 77 قول التوراة الرائجة أن موسى وهرون وابنيه وسبعين من شيوخ بني إسرائيل رأوا الله وتحت رجليه شبه صنعة العقيق ولم يمد الله يده إليهم بل رأوه وأكلوا وشربوا. وذكرتم أنتم في صحيفة 77 أيضا من آيات القرآن ما يكذب هذه الحكاية ويسفهها، مضافا إلى أن القرآن الكريم يكذب خرافة رؤية الله المتكررة في التوراة والعهد القديم. بقوله تعالى في الآية الثالثة بعد المائة من سورة الأنعام المكية: (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير) يا أصحابنا وإن العهد القديم والعهد الجديد قد نصا على نبوة يعقوب وموسى وهرون وداود وسليمان وأرميا والمسيح عليهم السلام وأنهم أكرموا بالوحي والقداسة والأمر بإرشاد للناس. ومع ذلك ينسب العهدان إلى هؤلاء الأنبياء الكرام ما ينافي مقام النبوة والامامة في الناس للارشاد والتعليم. وقد أشار القرآن الكريم إلى كذب هذه النسبة الساقطة بقوله تعالى في الآية الرابعة والعشرون بعد المائة من سورة البقرة: (وإذا ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن - (كما تقتضيه الحكمة وجلال الله وقدسه). قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين) فإن الكذب، والخديعة، والجرأة وسوء الأدب مع الله، وخيانته، وعدم الإيمان به، والاستهزاء بوعده، ونسبة الخداع والكذب إليه، والزنا الفاحش بالمحصنات، والغدر بالمؤمنين، والدعوة إلى الشرك بالله، وعبادة غيره وبناء مشاعر الأوثان، والقول بتعدد الأرباب والآلهة. والتحريف هذه كلها من أقبح الظلم، ومرتكبها من الظالمين، والعقل والوجدان يقبحان ائتمان الظالم على الرسالة والنبوة وإمامة الدين والتوحيد والشريعة. كما مر في المنال المذكور في صحيفة 44 فالقرآن بجميل إشارته ووضوح حجته يشير إلى كذب جملة من منقولات العهدين الرائجين. منها ما مر في صحيفة 64 و 65 من أن يعقوب عليه السلام خادع أباه إسحاق وكذب عليه مرارا لكي يأخذه منه البركة. وفي صحيفة 73 في ذكر ما نسب إلى موسى عليه السلام من الجرأة على الله بالخطاب والشك في وعده. وفي صحيفة 41 و 42 في ذكر هرون وعمل العجل. وفي صحيفة 84 من أمر موسى بقتل الأطفال وجعله شريعة جرى عليها خليفته يشوع (يوشع). وفي صحيفة 80 و 81 في قول التوراة الرائجة عن الله جل شأنه أن موسى وهرون عليهما السلام لم يؤمنا بالله وعصياه وخاناه. وفي صحيفة 69 من الإشارة إلى ما ذكره الفصل الحادي عشر من صموئيل الثاني في نسبة الزنا بامرأة أوريا إلى داود (عليه السلام) مع الغدر بأوريا المؤمن المجاهد الناصح. ويا لها من نسبة شنيعة. وفي صحيفة 41 فيما نسب إلى سليمان عليه السلام من اتباع الأوثان وعبادتها وبناء مشاعرها. وفي صحفة 81 من أن أرميا نسب الخداع والكذب إلى الله جل شأنه. ومنها ما مر في صحيفة 89 من أن إنجيل يوحنا ينسب إلى المسيح (عليه السلام) قوله بتعدد الآلهة مع الاحتجاج الساقط والتحريف الواهي.
وإن أناجيل متى ومرقس ولوقا تنسب إلى المسيح القول بتعدد الأرباب مع الاحتجاج الساقط والتحريف الكبير. ومنها ما مر في صحيفة 159 - 160 فيما تذكره الأناجيل في أحوال تلاميذ المسيح مما لا ينفك عن الظلم ولو بمحض خذلانهم للمسيح ونكولهم عن مواساته التي طلبها منهم مرارا بالتأكيد. فالقرآن بآية العهد المتقدمة يوضح أن الأناجيل قد خالفت الحقيقة بأحد أمرين. أما بوصف التلاميذ بما مر من صفات الذم. وأما بإرسال المسيح للتلاميذ بعده ليعلموا جميع الأمم ويعظوا العالم أجمع بالإنجيل وأنه أرسلهم كما أن الله أرسله. كما مر في صحيفة 160 وهذا هو الإمامة في الناس. وقال للتلاميذ أيضا إن كل ما يربطونه على الأرض يكون مربوطا في السموات وكل ما يحلونه على الأرض يكون محلولا في السموات. مت 18: 18. وكيف يجتمع في كتاب الوحي أن المسيح يقول لبطرس إذهب عني يا شيطان أنت معثرة لي لأنك لا تهتم بما لله بل بما للناس مع قول المسيح له أنت بطرس وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي وأعطاه إمامة الحل والربط في الديانة كما تقدم لسائر للتلاميذ أنظر مت 16: 16 - 24. ومنها ما مر في صحيفة 208 و 209 من أن بولس كان ضدا للكنيسة وكان يهجم على البيوت ويجر المؤمنين بالمسيح نساء ورجالا إلى السجن ويقتلهم ويعاقبهم ويضطرهم إلى التجديف (الكفر بالمسيح وشتمه) وكان مجدفا ومضطهدا ومفتريا. وكيف يجتمع هذا مع ما يذكره العهد الجديد في أعمال الرسل والرسائل المنسوبة إلى بولس أن بولس صار رسولا وإماما. بل كان النفوذ لإمامته في النصراني فقد قالت رسائله ما شاءت من إبطال شريعة التوراة وعيبها وذمها كما مر في صحيفة 118 و 119 فالقرآن يوضح أن التلاميذ وبولس إن كانوا رسلا وأنبياء وأئمة فوصفهم بما يؤدي إلى كونهم ظالمين كاذب.
بر المسيح بوالدته المقدسة والأناجيل
وأيضا إن أناجيل متى 12: 47 - 50 ومرقس 3: 31 - 35 ولوقا 8: 19 - 21 تقول إن المقدسة أم المسيح جاءت إلى خارج البيت الذي فيه المسيح وتلاميذه فأرسلت إليه تطلب منه أن يخرج إليها لكي تراه حسب شوق الأمهات الحواني فقال من هي أمي ومد يده إلى تلاميذه وقال. ها هي أمي لأن من يصنع مشيئة الله هي أمي. فالأناجيل تقول: إن المسيح عليه السلام استهزأ بأمه وبطلبتها ولم يرأف بلهفة حنوها ولم يبرها. بل قد قدح بقداستها وفضل عليها التلاميذ الذين ذكرتم حالهم في صحيفة 126 و 127 - والقرآن يشير إلى مخالفة الأناجيل فيما ذكرت للحقيقة ويقول في سورة مريم المكية عن قول المسيح المعجز في طفوليته في الآية 32 (وبرا بوالدتي). يا أصحابنا فالقرآن الكريم بقصصه وقانونه المعقول في الإمامة الدينية يوضح أن القسم الكبير من العهدين الرائجين مخالف للحقيقة والمعقول. فكيف تقولون أنه يصدقهما. غاية الأمر أنه أوضح ذلك بألطف إيضاح من غير تهاجم يثير العصبية بصراحة التكذيب.
ما هو معنى كون القرآن مصدقا لما مع أهل الكتاب
عمانوئيل: إن القرآن تكرر منه التصريح بأنه مصدق لما مع أهل الكتاب، كما في الآيات التاسعة والثلاثين،، والثالثة والثمانين، والخامسة والثمانين، والخامسة والتسعين من سورة، البقرة، والخمسين من سورة النساء. الشيخ. هذا الكلام في الاحتجاج على أن القرآن يصدق العهدين الرائجين قد رأيناه في كتاب لغريب ابن العجيب في صحيفة 12 وهو من مثل الغريب غير غريب. ولكنه غريب منك يا حر الفهم والضمير.
القرآن مصدق لما بين يديه من الكتاب ومهيمن عليه
عمانوئيل: إن القرآن أيضا يصرح بأنه مصدق لما بين يديه من الكتاب ومهيمن عليه كما في الآية الثانية والخمسين من سورة المائدة.
الشيخ: لا يخفى أن الشئ الذي يكون له مكان يتحيز هو فيه كزيد والبيت فإنه يصح أن يقال: (بين يديه) بمعنى إمامه وقدامه من المكان. فيراد من الذي بين يديه هو ما كان مقارنا له في الزمان وقدامه وأمامه في المكان.. وأما مثل القرآن الذي هو كلام الله المنزل على رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) فلا يكون له قدام وأمام وخلف بحسب المكان. فلا يكون معنى قوله تعالى (بين يديه) إلا بمعنى التقدم في الزمان. فالكتاب الذي بين يدي القرآن هو ما تقدم على زمان نزوله على الرسول (صلى الله عليه وسلم). والقرآن يصدق الكتاب الذي أنزل على موسى (عليه السلام) والذي أنزل على المسيح (عليه السلام). وأين هذا من تصديقه لخصوص النسخ المجتمعة معه في زمان نزوله التي تسمى باسم التوراة والانجيل.. بل إن القرآن قال: (مصدقا لما معهم، ولما معكم) على الاجمال ولم يقل ما معهم من نسخ الكتاب ولما نص على تصديق الكتاب خص التصديق بالكتاب الذي بين يديه أي قبله في الوجود. وهذا كله حياد عن تصديق النسخ الموجودة في زمانه مع غض النظر عن الصراحة المزعجة بتكذيبها.
ما معنى كون القرآن مهيمنا على ما بين يديه من الكتاب
عمانوئيل: هل يمكن أن نقول: إن اليهود والنصارى قد حرفوا كتابا جاء القرآن مهيمنا عليه وقد قال المفسرون: إن معنى (مهيمنا) رقيبا على سائر الكتب يحفظها من التغيير ويشهد لها بالصحة والثبات. فهل يمكن لك أن تقول. إن اليهود والنصارى حرفوا تلك الكتب بالرغم من محافظة القرآن عليها.
الشيخ: يا عمانوئيل هذا الكلام الذي تقوله أنت قد رأيناه في كتاب الغريب ابن العجيب في صحيفة 10 و 11 وقد أخذه ممن قبله. فهل أنت لا تدري بأن القرآن كلام منزل فيه بيان الهدى أنزل على الرسول (صلى الله عليه وسلم) بعد المسيح بنحو ستمائة سنة.
وليس القرآن رجلا بيده سيف وهو متجرد للمراقبة إلى زمان نزوله من زمان القضاة لبني إسرائيل، وفي أيام ملوكهم، وعند ارتداداتهم عن التوحيد. وعند تخريبهم لبيت المقدس وتنجيسه وجعله بيتا للأصنام، وعند مهاجمات المشركين على الأمة الإسرائيلية، وعند نهب مقدساتهم. وعند إحراق بيت المقدس وبيوت أورشليم. وملاشاة الأمة بالقتل والأسر، وعند تفرد حلقيا وعزرا بإظهار التوراة. وبعد سبي بابل. وبعد زمان المسيح. وحينما كانت كتب العهدين محجوبة في كل أدوارها ونشأتها عن أعين العموم بسبب استقلال الروحانيين برؤيتها. فيكون القرآن ذلك الرجل الشاهر سيفه المتجرد للمراقبة، مترصدا في جميع تلك الأوقات والأحوال يقطع يد كل من يمد يده إلى كتب العهدين بالإعدام أو تجديد الولادة أو التحريف. يا عمانوئيل هل تقول: إن القرآن إذا كان مهيمنا على التوراة والانجيل فلا بد من أن يعمل بسيفه كما ذكرناه قبل نزوله في مدة ألفي سنة.
عمانوئيل: لا يا شيخ لا يمكن أن أقول ذلك ولا يقبله شعوري فإن لي والحمد لله من الشعور ما أعرف به أن القرآن كلام هدى وبيان لا سيف قدرة أو سلطان. وإنما يكون مهيمنا وحافظا ببيانه في زمان وجوده. لكن يا شيخ أليس من اللازم عليك أن تبين معنى معقولا لكون القرآن بعد نزوله مهيمنا على ما تقدم عليه من نوع الكتاب المقدس. الشيخ: إن القرآن الكريم بحكمة بيانه ولطائف إشاراته لأولي الألباب قد قام لكتب الوحي الحقيقية بحماية ومحافظة كبيرة فكان مهيمنا عليها ببيانه بعد نزوله لئلا تتلوث معارفها الإلهية وقدس أنبيائها وكرامة قصصها بخرافات الشرك وتعاليم الوثنية وسخافة الاختلاف والتناقض.
فذكر قصص آدم وإبراهيم وواقعة العجل على حقيقتها المعقولة وأشار بذلك إلى براءة كتب الوحي مما أدخل على هذه القصص وشوه صورتها. وذكر قول الله جل اسمه لإبراهيم في الإمامة والرياسة الدينية (لا ينال عهدي الظالمين) وأشار بذلك إلى براءة الكتب الحقيقة مما لوثت به الكتب الرائجة قدس لوط ويعقوب وموسى وهرون وداود وسليمان والمسيح (عليهم السلام) هؤلاء الأنبياء الكرام الذين شهد القرآن أيضا بنبوتهم وقدسهم وصلاحهم. وقال في الآية الثانية والثمانين من سورة النساء: (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) وأشار بذلك إلى براءة الكتب الإلهية الحقيقية من وصمة الاختلاف والتناقض كما يوجد في التوراة والأناجيل الرائجة وغيرها. فانظر أقلا الجزء الأول من كتاب الهدى في صحيفة 197 إلى 234. وقال في الآية الرابعة والستون من سورة أل عمران: (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا) أي لا نتخذ من البشر أربابا. وقال في الآية التاسعة والسبعين والثمانين من سورة آل عمران أيضا: (ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي... ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر) فالقرآن بهذا الكلام يبرئ المسيح (عليه السلام) وإنجيله الحقيقي ممات تقدم ذكره في الجزء الأول في صحيفة 73 عن أناجيل متي ومرقس ولوقا من نسبتها إلى المسيح قوله بتعدد الأرباب واحتجاجه بالتحريف للمزامير. وقال في الآية الثالثة عشر من سورة التغابن المكية: (الله لا إله إلا هو) وفي الآية الثانية والعشرين والثالثة والعشرين من سورة الحشر المكية: (هو الله الذي لا إله إلا هو) وفي الآية المائة وثلاث ستون من سورة البقرة: (وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو) وأيضا في الآية الخامسة والخمسين بعد المأتين منها: (الله لا إله إلا هو) وقد تكرر هذا في القرآن الكريم أكثر من أربعين مرة. وقال في سورة النمل المكية في الآية الحادية والستين إلى الخامسة والستين في مقام التوبيخ الشديد خمس مرات (أإله مع الله، بل أكثرهم لا يعلمون - قليلا ما تذكرون - تعالى الله عما يشركون) والقرآن بمثل هذا وبشهادته برسالة المسيح وقدسه يشير إلى براءته وبراءة الانجيل الحقيقي من القول بتعدد الآلهة والاحتجاج الواهي له مع تبديل معنى المزامير كما مر في الجزء الأول في صحيفة 73.
كما مر في الجزء الأول في صحيفة 53 و 62. يا أصحابنا فالقرآن ببيان هذه الأمور وهداه بإشاراته خير مهيمن على كتب الله الحقيقية وخير حافظ لشرفها من أن يلصق باسمها هذا الذي ذكرناه إذا وجه التوفيق العقول السليمة إلى المقابلة بين القرآن الكريم وبين العهدين في المعارف الإلهية وقدس الأنبياء والقصص التاريخية.
لا مبدل لكلمات الله
عمانوئيل: إن القرآن شهد بآيات عديدة أن التوراة والانجيل كلام الله لا يبدل كما في سورة الأنعام، ويونس والكهف، وغير ذلك من الآيات الشاهدة بأن كلام الله لا يمكن تبديله ولا تحريفه لفظيا. الشيخ: لم يقل القرآن إن كلام الله لا يمكن تبديله وتحريف. وإنما قال: إن كلمات الله في وعده وتقديره تقع وتتم كما وعد وقدر، لا تتبدل ولا مبدل لها. وقال في الآية الرابعة والثلاثين من سورة الأنعام: (ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا (أي فاصبر على التكذيب والأذى ولك البشرى بالنصر كما نصر الله الرسل من قبلك (ولا مبدل لكلمات الله) أفلا ترى يا عمانوئيل أنه لا يناسب في الآية الشريفة إلا أن تقول لا مبدل لكلمات الله في وعده لرسله بالنصر وظهور الحق. - وفي الآية الخامسة عشر بعد المائة من سورة الأنعام أيضا: (وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته) وهل يناسب هذه الآية إلا أن تقول: إن كلمات الله في وعده وتقديره الذي لا بد أن تتم ويظهر صدقها لا مبدل لها. ومن ذا الذي يبدلها - وفي الآية الرابعة والستين من سورة يونس في شأن المؤمنين المتقين: (لهم البشري في الحياة الدنيا وفي الآخرة لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم) وهل يحسن أو يمكن في هذه الآية إلا أن تقول: لا تبديل لوعد الله بالبشرى. وفي الآية السابعة والعشرين من سورة الكهف المكية: (واتل ما أوحي إليك من كتاب ربك لا مبدل لكلماته) والمعنى أنه قد قال الله: لك ووعدك البشرى في الآية الرابعة والتسعين والخامسة والتسعين من سورة الحجر المكية: (فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين) المكذبين لك والمستهزئين بك ولا تخش ضياع الدعوة باستهزائهم وتكذيبهم (إنا كفيناك المستهزئين) ووعدك الله بأن يظهرك (على الدين كله ولو كره المشركون) كما في الآية التاسعة من سورة الصف المكية.
فاتل ما أوحي إليك من كتاب ربك فإنه قد وعدك بالكفاية والنصر وظهور الدين ولا مبدل لكلماته في وعده وبشراه. يا عمانوئيل وإنك أشرت إلى هذه الآيات اتباعا للغريب ابن العجيب فيما لفقه في رحلته في صحيفة 13 وتبعته في قوله أخيرا (إلى غير ذلك من الآيات الشاهدة بأن كلام الله لا يمكن تبديله وتحريفه لفظيا. يا عمانوئيل أين هذه الآيات الشاهدة لدعواك. ألا تدري أن الاتباع الأعمى يكسر ظهر الشرف.
عمانوئيل: الشيخ غريب ابن عجيب قال في رحلته الحجازية صحيفة 13: قال الإمام البخاري في صحيحه في تفسير الآية (يحرفون الكلم عن مواضعه)(1) يزيلون وليس أحد يزيل لفظ كتاب من كتب الله ولكنهم يحرفونه أي يأولونه على غير تأويله. ونقل الشيخ غريب في رحلته في صحيفة 13 - 17 عن البيضاوي والرازي ما يؤدي إلى أن التحريف إنما هو بالتأويل. وفي صحيفة 18 و 19 عن ابن تيمية أن للعلماء في التحريف قولين: الأول: تبديل الألفاظ. الثاني: تبديل المعاني واحتج للثاني. وعن الزرقاني أن الفقهاء اختلفوا في أن التحريف للتوراة والانجيل هل هو بالزيادة والنقص أو بالتأويل والتفسير على غير المراد. فماذا تصنع يا شيخ بهذه الأنقال.
الشيخ: أما ما نقله عن البخاري في صحيحه فإني تتبعت صحيحه في كتاب التفسير وتصفحته فلم أجد لهذا النقل أثرا. بل إن البخاري في صحيحه في أواخر كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة روى مسندا عن ابن عباس أن رسول (صلى الله عليه وآله وسلم) حدثهم أن أهل الكتاب بدلوا كتاب الله وغيروه وكتبوا بأيديهم الكتاب وقالوا: هو من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا. فهل البخاري يفسر برأيه مضادة لما يرويه هو في صحيحه.
____________
1 ـ سورة النساء، الآية: 46. (*)
عمانوئيل: يا شيخ إنك تدري بما كتبناه وطبعناه في الجزء الأول من هذا الكتاب عند دراستنا في التوراة والانجيل بحيث كشفنا للعيان والوجدان أن أكثر الموجود في العهدين لا تعقل نسبته إلى وحي الله لأنبيائه وأن القسم الباقي لا نقدر أن نجد له سندا يوصله إلى الأنبياء والوحي. ولكني الآن أحب أن أعرف الوجه فيما ينقل عن البيضاوي وابن تيمية وبعض المسلمين من دعوى كون التحريف بالتأويل. وكيف يذهبون إلى ذلك.
الشيخ. يا عمانوئيل هل يخفى عليك أن كتب العهدين كانت مخفية بسيطرة علماء الدين منكم ومن اليهود مستورة حتى على عامة اليهود والنصارى ولم تظهر وتنتشر باللسان العربي والفارسي إلا قبل قرن أو قرنين بعناية الپروتستنت وإصلاحهم ولم يكن لها أثر في بلاد الاسلام في زمان هؤلاء الذين ينقل عنهم الغريب ابن العجيب ولم يكن لهم نصيب من معرفة أمرها إلا السماع باسمها. فلم يكونوا يدرون بما فيها من كثرة مخالفة المعقول والقرآن والاختلاف الكثير والتناقض الكبير حسبما شرحناه فكان يخيل لهم أنها بريئة من ذلك فأخذتهم الشبهات إلى القول بالتحريف في التأويل وحجبتهم عن التبصر بما ذكرناه من رواية البخاري عن ابن عباس وغيرها من الروايات.
ولم يلتفتوا إلى قوله تعالى: (يحرفون الكلم عن مواضعه) وقوله تعالى في الآية الحادية والتسعين من سورة الأنعام: (قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا) فإن القرآن يبين أن اليهود يبدون من التوراة ما يوافق أهواءهم ويظهرونه على القراطيس ويخفون كثيرا..
التوراة فيها حكم الله
عمانوئيل: يا شيخ إن القرآن يقول في الآية الثالثة والأربعين من سورة المائدة. (وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ثم يتولون من بعد ذلك) فالقرآن يصرح بأن التوراة التي عند اليهود في عصر نبيكم فيها حكم الله. الشيخ: نعم إن الذي يسميه اليهود توراة فيه شئ من أحكام الله التي جاءت في التوراة الحقيقية.
والقرآن ينص في الآية التاسعة والأربعين من سورة المائدة أن الحكم المشار إليه وهو قصاص النفس بالنفس مما نزل في التوراة الحقيقية وكتب على بني إسرائيل وها هو موجود في العدد العشرين من الفصل التاسع عشر من التثنية. ولم ينص القرآن على أن الكتاب الموجود عند اليهود في ذلك العصر هو كتاب الله الحقيقي المتكفل بأحكام الله في شريعة موسى. بل سماه التوراة لأن اسم ذلك الكتاب عند اليهود توراة فجاراهم في التسمية لكي يجادلهم بالتي هي أحسن. وعلى هذا النحو من المجاراة بالتسمية جاء قوله تعالى في الآية السابعة والخمسين بعد المائة من سورة الأعراف: (الذين يتبعون النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والانجيل) يشير بذلك إلى ما في الفصل الثامن عشر من التثنية كما مر في الجزء الأول في صحيفة 71 إلى 76 وإلى ما في العدد السادس والعشرين من الفصل الخامس عشر وفي العدد السابع إلى الخامس عشر من الفصل السادس عشر من إنجيل يوحنا وهو اللفظ اليوناني (پير كلوطوس) الذي تعريبه فيرفلوط بمعنى أحمد أو محمد. كما يدعيه النصارى ويصححونه (پيرا كلى طوس) ويعبرون عنه (فار قليط) كما عن التراجم المطبوعة في لندن سنة 1821 وسنة 1831 وسنة 1841 وفي مطبوعة وليم واطس في لندن سنة 1857 على النسخة المطبوعة في رومية سنة 1664 وفي الترجمة العبرانية للأصل اليوناني المطبوعة سنة 1901. وأبدله بعض التراجم بالمعزى والمسلي. أو يشير إلى التصريح الكثير باسمه الشريف (محمد) في إنجيل برنابا الذي حرمه الباب جلاسيوس الأول الذي نال الباباوية سنة 492 م أو كما يقول البستاني في دائرته في ترجمة برنابا حرمه جلاسيوس الثاني الذي نال الباباوية سنة 1118 م وقد سلف في الجزء الأول في صفحة 187 إلى 190 بعض الكلام في إنجيل برنابا.
ما هو الذكر الذي يحفظه الله
عمانوئيل: إن القرآن قد سمى التوراة بالذكر حيث قال في الآية الخامسة بعد المائة من سورة الأنبياء: (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر) وسمى التوراة والانجيل بالذكر حيث قال في الآية الثالثة والأربعين من سورة النحل والسابعة من سورة الأنبياء الآية: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) - وقال في الآية التاسعة من سورة الحجر الآية. (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) فقد وعد الله بحفظ الذكر من التبديل والتحريف والزيادة والضياع وهو إخبار بحفظ التوراة والانجيل من ذلك. الشيخ: المراد من الذكر في آية الحفظ هو القرآن لقوله تعالى قبل ذلك في نفس سورة الحجر في الآية السادسة: (وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون) فالذكر الموعود بحفظه هو القرآن وهو الذكر المعهود في الآية السادسة. ويشهد لذلك ما تقدم في مكالمتنا من أن جملة من قصص القرآن وكثيرا من آياته تشهد بأن التوراة والانجيل لم يحفظا من الزيادة والتحريف والتبديل والضياع. وأيضا يا عمانوئيل ليس المراد من أهل الذكر في الآيتين السابقتين من سورتي النحل والأنبياء هم أهل التوراة والانجيل. بل هم الراسخون في العلم من أهل القرآن.