الصفحة 253

تعليم القرآن بالأخلاق الفاضلة

عمانوئيل: يا شيخ إن الأخلاق الفاضلة هي الحياة الانسانية وروح المدنية وناموس الاجتماع ومعراج السعادة والرقي. ولا يليق بالكتاب المنسوب إلى الوحي أن يخلو من التعليم بها. فهل تسمعنا شيئا من تعليم القرآن بالأخلاق الفاضلة وتشرح مراد القرآن فيما تقرأه. الشيخ: أما القراءة فاقرأ بعون الله. وأما الشرح فإني أحب أن يكون حضرة القس هو المتولي له بحسب ما يفهمه هو من لفظ القرآن وأسلوبه. الشيخ: فتحت المصحف الشريف فأطرق القس للإصغاء وابتدأت بالتلاوة من الآية الثالثة والستين من سورة الفرقان المكية وقرأت بسم الله الرحمن الرحيم (وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما). القس: عجبا يا أصحابنا ألا ترون كيف اشترط في الأبرار الذين يريدون السعادة بالانتساب إلى عبودية الرحمن والتحرز من عبودية الهوى والشيطان وأوضح أن الرقي إلى فضيلة عبودية الرحمن إنما هو للذين يمشون على الأرض هونا بحسن السلوك بالأخلاق الفاضلة وكريم الأدب مع النفس بتهذيبها ومع الناس بعدل المدنية وبحسن الاجتماع فيسلكون على هونهم في تحري الطريق ولزوم الجادة واتباع البصيرة، والتوقي من عثرة الاسترسال وورطات الجهل المركب والعجب والغرور من دون تسرع يورطهم في هفوات الشهوات وطفرات الغضب والظلم ويدنسهم برذائل العجب والغرور فيزل بهم تسرعهم عن النهج المستقيم، ويضر بسعادة أنفسهم وراحة بني نوعهم. فجمعت هذه الكلمة الواحدة للتعليم بكل خير وخلق فاضل يتكفل بالسعادة والعمران الحقيقي وراحة المجتمع الانساني، والتعليم باجتناب الهرولة إلى بطالة التقشف البارد ومسكنة العجز المضرتين برقي النفس في الكمال والمعاضدة في العمران. وإذا تعرض الجاهلون لهؤلاء الفضلاء بكلام الجهل أجابوهم بما فيه السلام حسبما تقتضيه الظروف والأحوال من الملاطفة بالارشاد أو الموعظة وما يصلح للجواب بالسلام: إقرأ يا شيخ جزاك الله خيرا. الشيخ: فقرأت: (والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما * والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراما * إنها ساءت مستقرا ومقاما)(1). القس: هذه هي المظاهر في الرابطة الحقيقية في عبودية الله والخضوع له وعبادته الخالصة، وحقيقة الرهبة منه، وهي الحقيقة المعقولة الجامعة بين الرغبة في طاعة الله وعبادته لأجل عظمته ومعرفة أهليته للعبادة الصادقة، وبين الرهبة بالالتفات إلى وبال المعصية، وبطلب المعونة من الله والتوفيق للخلاص من المعاصي واستحقاق عقابها

____________

1 ـ سورة الفرقان: الآيات / 64 - 66. (*)


الصفحة 254
الأليم. يا أصحابنا ما أجل قوله في وصف عباد الرحمن: (والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما) فإن هذا هو الاخلاص بالعبادة وفيه السلامة من الرياء الذي يسري في العبادة كدبيب النمل فإن بعض الناس لا تخطر المراءاة للناس في باله عند عبادته ولكنه ينشط للعبادة بين الناس ويكسل إذا خلا بنفسه. وهذا من داء الرياء الكامن. وأين هؤلاء من عباد الرحمن الذين يغتنمون الخلوات وظلام الليل فينهضون بالنشاط والاقبال إلى عبادة الله. ما أشرف هذا التعليم المحيي للروح. إقرأ يا شيخ:

الشيخ: (والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما)(1). القس: يا حبذا هذا التعليم الفائق في نظام المعاش وإعانة النوع ونظم أمر العيال ووضع الانفاق مواضعه حسبما تقتضيه الحاجة ومواقع الحكمة. وإنه يقول إن هؤلاء الكاملين ينفقون ويكون إنفاقهم مستقيما على الحكمة لا يميل به التقتير إلى التقصير واتباع رذيلة البخل والاخلال بواجبات النوع. ولا يميل به الإسراف إلى عبث السفه المؤدي إلى القصور عن الواجبات. وإلى ارتكاب الممنوعات. وإلى عادة تقلق على بني النوع نظام معيشتهم. إقرأ يا شيخ. الشيخ: (والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس

____________

1 ـ سورة الفرقان: الآية / 67. (*)


الصفحة 255
التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما * يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا)(1). القس: إن هذه الأمور كانت مندرجة فيما تقدم. ولكن أهميتها العظمى في العرفان ونظام الاجتماع أوجبت على الحكيم الهادي أن ينص عليها بشديد الموعظة والتهديد والوعيد. الشيخ: (إلا من تاب وآمن وعمل صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما * ومن تاب وعلم صالحا فإنه يتوب إلى ربه متابا)(2). القس: هذا هو التعليم الجاري على الحكمة والداعي إلى الصلاح والهادي إلى الرشد والدال على باب الرحمة والمبين لحقيقة التوبة بتطهير النفس بالأعمال الصالحة والمبشر بالنجاة والفوز والمعرف برحمة الله وجلاله وغناه، والمبين لوجه العفو وحسنة وأهلية التائب له. فإن من رجع عن كفره وفساده وندم على ما فرط منه ووطن نفسه وعاهد ربه على عدم التلوث بتلك الرجاسات وتطهر بالأعمال الصالحة ومنها الخروج من عهدة حقوق الناس فإنه يزكو ويرجع إلى الله رجوعا حقيقيا بالعبودية الصالحة ويندرج في زمرة الأبرار فهو الأهل للعفو عما سلف منه. إلا أن البيان يضيف عما في هذه التعاليم من كشف الحقائق وحسن الارشاد وسمو التعليم، وأن نورانيتها هي التي تهدي إلى كنوزها الفائقة. إقرأ يا شيخ. الشيخ: (والذين لا يشهدون الزور وإذا مروا باللغو مروا

____________

1 ـ سورة الفرقان: الآيتان: 68 - 69.

2 ـ سورة الفرقان: الآية / 70 - 71. (*)


الصفحة 256
كراما)(1). القس: إنه ليطربني قوله مروا كراما. فإنه يعلم بأداء الوظيفة الصالحة لذلك المرور حسبما يقتضيه الحال والمقام من الأعراض، والموعظة، والنصيحة، واللين، والشدة، والزجر، والتأديب، فإن العامل بالوظيفة كريم، والمهمل لها لئيم. إقرأ. الشيخ: (والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا)(2). القس: باكيا متضرعا اللهم لك الحجة البالغة فوفقنا ونور قلوبنا واشرح صدورنا وأعذنا من صمم الجهل والعناد وعماية العصبية والغواية.

الشيخ: (والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما)(3). القس: ما أكرم هذا التعليم لبقاء النوع الانساني ودوام الحنان العائلي وكف النفس عن الخيانة مع النساء الأجنبيات والتنزه عن رذيلة الحسد للناس. ومن أهم ما تقر به العين من الأزواج والذريات هو لزومهم لجادة التقوى والصلاح ومن ذلك ينشأ الخير والاستراحة بهم. وزاد في تأكيد ما مضى من التعليم الفاضلة أنه ينبغي لعباد الرحمن أن يسعوا في تكميل أنفسهم وتهذيب أخلاقهم بأن يطلبوا أن يكونوا بأقوالهم وأحوالهم وأعمالهم وأخلاقهم قدوة للمتقين وأدلاء على الخير والهدى..

____________

1 ـ سورة الفرقان: الآية / 72.

2 ـ سورة الفرقان: الآية / 73.

3 ـ سورة الفرقان: الآية / 74. (*)


الصفحة 257
زدنا يا شيخ من هذه الحكم الروحية والآداب المدنية والاجتماعية والتعاليم السامية. الشيخ: فقرأت من سورة المعارج المكية في صفات السعداء وأخلاقهم الفاضلة (الذين هم على صلاتهم دائمون)(1). القس: يريد أنهم يصلونها عن رغبة في الطاعة ومعرفة بعظمة المعبود وشوق إلى شرف مناجاته. لم تكن صلاتهم عن تكلف فيقطعها الكسل ولا عن رياء فيهملونها في الخلوات. الشيخ: (والذين في أموالهم حق معلوم * للسائل والمحروم)(2)

القس: يعني أن إعانتهم لذوي الحاجة من الناس لم تكن بتكلف تابع للسوانح الوقتية من دواعي الهوى والخجل والرياء فتكون اتفاقية تابعة لهذه السوانح إذا غلبت على الحرص والبخل. بل جعلوا في أموالهم لإعانة المحتاجين حقا معلوما حسب فرض الشريعة وفرض رحمتهم لا ينقصه الشح يعينون به السائل ومن حرمه الناس من المعروف لأجل عفته وعدم سؤاله. الشيخ: (والذين يصدقون بيوم الدين * والذين هم من عذاب ربهم مشفقون) (3)

القس: هؤلاء الذين نركن النفس إلى كمالهم باطمئنان فإن الانسان في هذه الدنيا لا يكمل له كرم الأخلاق في السر والعلن إلا إذا كانت نفسه دائمة الشوق إلى رفعة ونعيم عظيم باق تستحقر دونه زخارف الدنيا الفانية وأئمة الرهبة من عذاب تهون دونه مصاعب الدنيا المنقضية وشدائد محالفات الهوى والغضب وحب السمعة. وإن المصدق بيوم

____________

1 ـ سورة المعارج: الآية / 23.

2 ـ سورة المعارج: الآيتان / 24 - 25.

3 ـ سورة المعارج: الآيتان / 26 - 27. (*)


الصفحة 258
الدين هو من لا يتغافل عنه ولا يتناساه ولا يتساهل في أمر جزائه وثوابه وعقابه بل هو مشفق من عذاب ربه دائما. فهنيئا لهؤلاء الكرام. الشيخ: (والذين هم لفروجهم حافظون * إلا على أزواجهم أو ما ملكت إيمانهم فإنهم غير ملومين * فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون)(1).

القس: ما حال العادين على غير أزواجهم والمتعدين حدود الشريعة وشرف الانسانية. أما إن الزنا أضر شئ على المجتمع الانساني. وحياة النوع والحنان العائلي.

الشيخ: (والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون * والذين هم بشهاداتهم قائمون)(2).

القس: ما أكرم الراعين لأماناتهم في كل ما يؤتمنون عليه، ولعهودهم مع الله ومع الناس والقائمين بشهاداتهم على حقها وحقيقتها من دون كتمان ولا تبديل ولا تحريف. زدنا يا شيخ زادك الله من فضله.

الشيخ: فقرأت من سورة الحجرات الآية 10: (إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون).

القس: إن الاصلاح بين الناس هو قوام النظام وحياة الاجتماع. فليتق الناس ربهم من إهمال الاصلاح وليطلبوا رحمة الله بالنهوض إليه. الشيخ: الحجرات الآية 11: (يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خبرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا

____________

1 ـ سورة المعارج الآيات / 29 - 31.

2 ـ سورة المعارج. الآية / 32 - 33. (*)


الصفحة 259
منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون).

القس: أيها الساخر إن لم تكن لك تقوى تصدك ولا شرف يردعك فاترك السخرية حذرا من أن يكون من تسخر به خيرا منك عند الله وعند الناس فتجلب الهزء والفضيحة على نفسك. أيها العائبون للخلق لا تنبهوا الناس على عيوبكم فلا تلمزوا الناس بالعيب ولا تذكروهم بألقاب السوء.

الشيخ: الحجرات الآية 12 (يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم).

القس: لا ينهى عن ظن الخير الذي تحسن به الروابط وتتأكد به علائق الألفة ويصفو به الاجتماع ولكنه ينهى عن ظن السوء المؤسس للبغضاء والنفرة والمثير للشر. فإن بعض الظن إثم وخطأ وظلم للبرئ وسبب للتهجم بالبغضاء والأذى. وإن التجسس مثار الفساد ومنبع الشر والفتن ومقلق لنظم الاجتماع ومكدر لصفائه.

وإن الغيبة شر ما يغرس البغضاء، ويقدح بالشرف ويخدش العواطف ويكشف عن رذيلة المغتاب إذ يغفل عن عيوب نفسه ويذكر عيوب الناس. أفلا تنظرون إلى هذا المثل الفائق في المطابقة في التنفير والتوبيخ والاحتجاج إذ يقول أيها المغتاب إن الذي تغتابه أخوك وإن عرضه أمانة عندك. وهو في غيابه كالميت لا يقدر أن يحمي شرفه وعرضه من لسانك. فلماذا تملأ فمك من غيبته، وتنهش عرضه بأنياب كلامك أو لست تكره أن تأكل لحم أخيك الميت. فلماذا تفعل مثل ذلك بغيبتك لأخيك الغائب: زدنا يا شيخ من هذه التعاليم الروحية المدنية. الشيخ: إن تعاليم القرآن بالأخلاق الفاضلة كثيرة تحتاج إلى عقد فصل لها بالانفراد بعد ما نفرغ من تعاليم القرآن في الإلهيات والنبوة. القس: يا شيخ: ألا تذكر لنا ما في القرآن من المعارف الإلهية، وتبين من ذلك ما يحتاج إلى البيان. لكي ننظر فيما تذكره ونبحث عن الحقيقة.


الصفحة 260
الشيخ: ها أنا أذكر بعون الله ما جاء في القرآن الكريم من المعارف وما أورده من حججها بالنهج الواضح الذي يرتاح إليه الوجدان الحر، ويأنس به العامي والفيلسوف. ولكن هل تسمحون لي بأن أجري على طريقتي الإسلامية في احترام القرآن الكريم عند ذكره بتمجيده اللازم علينا. وأن أقول عند تلاوته (قال الله جل اسمه).

القس: لا نمنعك أن تقول ما تقتضيه ديانتك. ولكن هل تريد منا أن نقبل منك كل ما تدعي أنه حجة واضحة. وهل تجبرنا على أن نعترف لك بمجرد قولك. أليس من اللازم أن تكون الحجة معلومة صالحة لأن توصلنا إلى العلم بالشئ المجهول والدعوى المجهولة. الشيخ: لا بد من ذلك.

عمانوئيل: إني أرى بين أهل هذا القرن والذي قبله حججا لا زالت تقلقني لأني أجدها مبنية على تخمينات لا تبلغ أضعف مراتب الظن فيبنون عليها أمورا كبيرة. ومع ذلك يسمونها (العلم) العفو يا شيخ فإني أقول بحريتي وحرية وجداني الحقيقة إني أرجو أن لا تأتينا بمثل هذه الحجج. الشيخ: ألا تذكر هذه الحجج وتبين وجه انتقادك فيها. لكي نعرف أنك تصيب بالانتقاد، أو إنك تتهجم على الحجج الصحيحة بدعوى الخلل. فأوضح ما عندك.

مذهب داروين في أصل الأنواع

عمانوئيل: يا شيخ. ألست تسمع هذا الصوت العالي والدوي الهائل بين أهل العصر فيما أحدثه (داروين) من مسألة أصل الأنواع. وتحول بعضها إلى بعض، ورجوع جميع أنواع الحيوانات إلى أصل واحد، وكذا النبات، بحيث صار من المسلمات في هذه المسألة أن الانسان متحول من القرد المتحول عن غيره، وحين امتلأت أذناي بهذا الصوت وهذا الدوي قلت: إن شرف العلم وناموس الفضيلة وحق الحقيقة وحفظ الشرف تقتضي أن يكون ذلك مستندا إلى البراهين الكبيرة العالية المستندة إلى واضح الحس وبداهة الوجدان وعلم اليقين. إذن فلا يحسن للانسان أن يجهل أمرا يعتمد على هذه البراهين.. فتصفحت أقوال داروين وبخنر وغيرهما في ذلك فرأيت الذي ذكروه لذلك من التشبثات أمورا.


الصفحة 261

الانتخاب الطبيعي

الأول: الانتخاب الطبيعي بدعوى أن الطبيعة لا زالت تنتخب الأرقى فالأرقى من صفات النوع إلى أن يتحول إلى نوع آخر وهكذا (وقال أصحابهم) إلى أن بلغ الانتخاب إلى أرقى القرود ثم إلى الانسان الأسود ثم إلى الأبيض القوقاسي.

اليعازر: داروين ولد سنة 1809 وكل عمره ثلاث وسبعون سنة. فهل شاهد تحول الأنواع بعضها إلى بعض كتحول القرد إلى الانسان. وهل شاهد كون الطبيعة تنتخب الأرقى فالأرقى من صفات النوع من دون خضوعها للتأثيرات الخارجية التي تتجاذبها مرة إلى التقهقر والانحطاط ومرة إلى التحسين بحسب استعداد المؤثرات وفعاليتها كما هو المشاهد بالتجربة. إذن فمن أين علم الانتخاب والتحول سنة في الطبيعة وناموس في الأحياء.. ولو أن داروين شاهد التحول في بعض الأنواع مرارا.

وشاهد انتخاب الطبيعة بدون المؤثرات السائدة بناموسها في العالم ونقل له بالنقل القطعي أمثال ذلك مرارا. لما حسن منه في شرف العلم التجريبي أن يجعل ذلك سنة جارية في الطبيعة في جميع الأحياء من مبدأ نشئها. فإن هذه المشاهدات والمنقولات في بعض الأحياء لو كان لها حقيقة ودامت مائة قرن لما أفادت في دعوى داروين أضعف الظنون الاستقرائية. فإن من دون ذلك في قانون العلم وشرف الأدب عقبة لا يمكن عبورها. نعم، ربما يتوهم عبورها بطفرة وعدم المبالاة بالمسؤولية، ألا وإن من تلك العقبات جواز أن تكون تلك المشاهدات وتلك المنقولات التي افترضناها له إنما هي من تأثيرات روحية جارية على نواميس الخلق الخصوصي. حتى لو فرضنا الخلق الخصوصي الناظر إلى الغايات احتمالا تشكيكيا. فكيف به وهو الحقيقة الراهنة المتجلية للبرهان وبداهة الوجدان.

ومن العقبات أن تلك المشاهدات والمنقولات التي افترضناها له خياليا يجوز أن تكون ناشئة من تأثيرات زمانها الخاص وإن كان قرونا متعددة، تصادف فيها استعداد موجوداتها الخاصة مع المؤثرات المختص كيانها بتلك القرون. فمن أين يكون ذلك سنة جارية في الطبيعة. هذا كله لو فرضنا أن داروين شاهد في قرون كثيرة ما افترضناه له، ونقل له أمثال ما شاهد. ولكن من أين هذا الفرض ومن أين يكون خيال هذا الحلم.


الصفحة 262
يا عمانوئيل هل كتب داروين شيئا يستند إليه لهذه الدعوى الكبيرة المهولة. عمانوئيل. قد رأيت كتاب داروين (أصل الأنواع) فرأيته يستند إلى تربية الحمام ودراسة أحواله بعناية جمعيتين خصوصيتين في لندن. وقد أشبع الكلام في الكتاب المذكور في جهات التباين بين أقسام الحمام. وصرح بأن التباينات بينها متنوعة إلى حد يسوق إلى العجب. ومع ذلك قال (ومهما كانت الفروق بين تولدات الحمام ذات شأن فإني على تمام الاعتقاد بأنها متسلسلة من حمام الصخور (" الكلمباليفا)..

مع أنه قال أيضا (إننا لا نعرف من حمام الصخور سوى نوعين أو ثلاثة أنواع ليس لها شئ من صفات التولدات الأهلية) أي من أنواع الحمام الأهلي. ثم قال (قد آنست من نفسي زمان اشتغالي بتربية الحمام أن صعابا كثيرة تحول دون الاعتقاد بنشئها عن أصل أولي معين. لكن جملة من الناس على اعتقاد تام بأن التولدات المختلفة نشأت من أنواع أولية معينة). يا والدي إذا استدل الانسان بالوجدان والعيان على التباينات العجيبة بكثرتها، وأنه ليس لحمام الصخور شئ من صفات الحمام الأهلي.

فهل يصح منه في شرف العلم أن يطير بالنتيجة إلى القهقري والعكس ويقول أنواع الحمام متسلسلة من حمام الصخور. فانظر معرب أصل الأنواع صحيفة 67 إلى 79 وهل من شرف العلم أن يقتنع الناس في هذه الدعوى الكبيرة والنتيجة المعكوسة بقول داروين (إني على تمام الاعتقاد. جملة من الناس على اعتقاد تام).

ولو أن رجلا اقتصر على فتواه بأن أنواع الحمام الأهلي متسلسلة من حمام الصخور، ويدعي العلم بزمان تأهلها وتشعب أنواعها، والاطلاع على حالات اتصالها وتسلسل تولدها من تلك الحلقات ويكون ذلك بنحو الفتوى المقدسة ثم يفتي بعد ذلك بأن جميع الأحياء تنتهي إلى أصل واحد لكان أهون عليه من أن يتعب القلم بذكر المقدمات التي تعاكس دعواه.

اليعازر: إن الذي تساعد عليه التجربة، والمشاهدة هو أن الأنواع لها بحسب العوامل العرضية سنة التحسن والانحطاط المحدودين بأن لا تخرج أفراد النوع عن صفته. ومن جملة العوامل تأثيرات الصقع والغذاء والتربية وغير ذلك ومنها ما هو سريع التأثير ومنها ما يبطئ لأجل منازعته مع تأثير العامل الأول. فإن النسل الزنجي إذا تحول إلى بلاد القوقاس يبطئ تحسنه بمقتضى طبع الصقع إلى أجيال عديدة يتدرج فيها بالتحسن شيئا فشيئا، وقد يكون أسرع من ذلك بواسطة التزاوج. وكذا النسل القوقاسي إذا انتقل إلى بلاد الزنج فإنه يبطئ انحاطه التدريجي وقد يكون أسرع بواسطة التزاوج. وربما تكون تأثيرات بعض البلاد تتبدل في البلاد الأخرى إلى تأثيراتها في نحو جيلين. فقد شاهدنا رجالا مع نسائهم من بلاد سنتها علو مقدم الرأس على الجبهة وتثليث الرأس وهم على تلك السنة قد انتقلوا إلى بلاد سنتها استدارة الرأس واعتدال وضع مقدمه على الجبهة فأخذ نسلهم في هذه البلاد يتحسن بحيث يزيد الولد الثاني على الولد الأول في التحسن حتى صار الجيل الثاني على سنة هذه البلاد. وشاهدنا العكس أيضا. ومن المعلوم أن للأقاليم تأثيرا تمتاز به في الألوان فإنه لا يوجد في خيل بلاد العرب ما نصفه مثل أبيض خالص البياض والباقي أحمر أو أشقر أو أسود كما يوجد بكثرة في بلاد الترك.

القس. ويقول داروين في أصل الأنواع حسبما هو مذكور في تعريبه ص 60 إن الدواجن الحالية قد وجدت صورها في بعض النقوش المصرية القديمة وما عمر من البقاع حول بحيرات سويسرا وإن هذه الصور لا تكاد تختلف مع تولداتها الحالية اختلافا ما. إنتهى كلامه. وهذا الأمر كما يدل على قدم المدنية واقتناء الدواجن الأهلية فكذلك يكون من أقوى الأدلة على أن النوع لا تغير الأدوار الطويلة والتربية صفاته النوعية بالانتخاب الموهوم. نعم قد يقتضي التزاوج وبعض العوارض أن تتغير بعض صفاته تغيرا ما. ولكن بالتمادي على الاستقامة أو زوال العوارض يرده إلى صفاته الأصلية ناموس الوراثة النوعية بتقدير الله للتناسل فقد شاهدنا من تزاوج الحمام الأبيض والحمام الأحمر أن النسل الأول قد يخرج ملونا. ولكن النسل الذي يحصل بتولدات متعددة ترده الوراثة إلى لون واحد من أصوله. ومما يذكره التاريخ أن حمام الرسائل استعمل في حرب طروادة التي لها نحو ثلاثة آلاف سنة فهل وصل الانتخاب الطبيعي بحمام الرسائل إلى زينة الطاووس أو قوة النسر؟؟


الصفحة 263
وفي معرب أصول الأنواع ص 261 و 262 لقد تكلمنا في الفصول الأولى من هذا الكتاب في التغايرات وأثبتنا أنها كثيرة متعددة الصور متنوعة الأشكال في الكائنات العضوية إذ تحدث بتأثير الايلاف. وأنها أقل حدوثا وتشكلا إذ تنشأ بتأثير الطبيعة المطلقة وغالب ما نسبنا حدوثها للمصادفة العمياء على أن كلمة (مصادفة) اصطلاح خطأ محض يدل على اعترافنا بالجهل المطلق وقصورنا عن معرفة السبب في حدوث كل تعاير معين يطرأ للأحياء. إنتهى. وقال أيضا ص 279 و 280 وكثيرا ما تستغلق دوننا وجوه الرشد في اكتناه دستور محكم نسترشد بهديه في ظلمات هذه الأبحاث فقد لاحظ (جفروي) أن بعض التشوهات الخلقية الحادثة بالطبيعة كثيرا ما تتشارك في الوجود وأن غيرها يندر تشاركها كل ذلك ونحن غلف لا نعرف سببا ننسب إليه وجودها على تلك الحال. وأية حالة أبعد تشابكا في حلقات صلاتها من تبادل النسبة التام بين بياض لون السنانير وصممها.

عمانوئيل: يا سيدي فياليت هذه الاعترافات الحقيقية قد صدت داروين وأتباعه عن طفرة الإيمان الغيبي بمسألة تحول الأنواع وتسلسها عن أصل واحد، بل كان يكفيهم ما يحدده الحس والشعور التاريخي من أن لكل نوع حدا وسطا تتراوح عليه آثار التحسين والانحطاط بحسب أسبابها إلى حد محدود في الصورة النوعية. ويا ليتهم لم يتركوا الخيال قلقا من أوهام الحلقات المفقودة دائم الأسف عليها كأنها أنس بها دهرا ثم أصبح ثاكلا لها. وكم وقع الأساتذة في خجل الخيبة حينما خيل لهم الشوق المستعجل أنهم وجدوا حلقة من حلقات الاتصال. كما تجد ذكره في الصحف. أما آن لأهل العلم التجريبي أن يسلوا هذا الفقيد الموهوم، هب أنا وجدنا في قاع البحار حجرا متعضيا تعضيا طبيعيا لا صناعيا ولا بناموس استحجار الحيوان. أو وجدنا في شواطي البحار مادة جلاتينية تهتز بحركة حيوية لا ميكانيكية فلماذا نطفر ونؤمن دفعة بأن هذه من حلقات الاتصال في تسلسل الأنواع؟ ثم ننظم سلسلة طويلة وهمية من حلقات وهمية لا تحصى؟ ولماذا لا نقول: إن ما وجدناه نوع من الكائنات التي لا يحصي الاستقراء أنواعها. ولا نتعدى عن نوعيته حتى يتجلى لنا بالحس تحوله إلى نوع آخر فنثبت ذلك في دفتر العلم التجريبي ونقف بشرف العلم على هذه التجربة حتى يتجلى لنا بالحس تحوله أيضا إلى نوع آخر. وهكذا فنتكلم كلاما علميا تجريبيا. يا سيدي وفي معرب أصل الأنواع أيضا ص 132 (إن التفريق بين التنوعات والأنواع لا يصح إلا بشرطين: (أولهما): اكتشاف الصور الوسطى التي تربطهما) يا سيدي فمن أين اكتشفت الصور الوسطى الرابطة في التحول. هل يكفي افتراضها خياليا بتربية الحمام عشرين سنة. وأيضا ص 132. (ثانيهما): معرفة مقدار التغايرات المحدودة التي تقع بينها) ولم يأتي بشئ في هذا الشرط.. بل قال ص 133 بعد كلام هو أعرف بمحصله في الحجة (بيد أنا لا نفقة لها معنى ولا نكشف عطاء إذا اعتبرنا أن الأنواع قد خلقت خلقا مستقلا).

يا سيدي إذا قلنا إن الأنواع خلقت خلقا مستقلا على طبائع تجري على نواميسها في مواليدها فهل يتعذر على العلماء درس طبايعها وعوارضها وما يلائمها وما يضرها وما يصلحها فلا يفقه العلماء لها معنى ولا يكشفون عن أمرها بدرسهم غطاء؟ إذن فكيف درس العلماء طبايع الأحياء وأعضائها ودونوا طبها وطبيعياتها قبل مذهب داروين. وهل قلب مذهب داروين نظرياتهم السابقة إلى طب داروني وطبيعيات دارونية قد بنى فقهها وكشف غطائها على ارتباط الأحياء بالتسلسل من نوع واحد.

متى كان ذلك. أليس كل ما في العلم من طب وطبيعيات إنما هو من درس أولئك السلف من الأساتذة الذين لم يخطر مذهب داروين ببالهم. وعلى أساسهم بني الخلف وترقى في اكتشافاته. أم يريد داروين أن التشابهات لا يفهم لها معنى بالخلق المستقل للأنواع. فهل يمتنع حصول التشابهات في الخلق المستقل. وهل بالقول بتسلسل الأنواع الموهوم زاد فقها بالتشابهات وكشفا لغطائها وفاق به القائلين بالخلق الخصوصي سواء كانوا إلهيين أو ماديين؟


الصفحة 264

داروين والتنازع في البقاء لحفظ الصفوف العالية

اليعازر: ومما يجعلونه في احتجاجهم على تسلسل الأنواع وتحولاتها مسألة حفظ الصفوف العالية في التنازع في البقاء وارتباط هذه بمسألة الانتخاب الطبيعي وقد أشبع داروين فيها الكلام.

عمانوئيل: يا سيدي وهل ذكر في ذلك إلا ما هو السنة الجارية في الكائنات الحية من أن بعض الحيوانات يتغذى ببعض. وبعض الحيوانات يعادي بعضا آخر. وبعض النبات يحتاج في حياته وترقيه إلى محل صالح يتمتع به في نموه بحيث تضره في حياته ونموه مزاحمة النبات الآخر. وبعض النبات يكون ساما للنبات الآخر. وبعضه يكون مصلحا للآخر. وبعض أنواع الحيوان يبيد. وبعض النبات يترقى ويتحسن بعناية الفلاحة. يا والدي ولتملأ الصحف من أمثلة ذلك. لكن من أين يدل ذلك أن الغاية منه قصدا أو صدفة إنما هو حفظ الصفوف العالية. ومن أين يجئ اتصاله بالانتخاب الطبيعي. وبأي وجه يرتبط بتسلسل الأنواع. ألسنا نرى أقسام السباع تقتل الانسان وتأكله وتعاديه. والحيوانات السامة كالحية والعقرب تعادي الانسان وتقتله. وهذا المكروب بالاكتشافات الحديثة يقتل الانسان بالمهاجمات الوبائية. أو ليس الانسان الذي منه العالم والفيلسوف والقوقاسي هو أعلى صفوف الكائنات الحية. وقد شاهدنا في بعض البراري في أمكنة كثيرة سوادا متراكما في الأرض فقصدناه فوجدناه مشتملا على قسمين من النمل. القسم الأصفر النحاسي الصغار والقسم الأسود الكبار الطيار ذي الأجنحة.

وقد اجتمع النمل الصغار على الكبار بتهاجم كبير يتعلق بالنملة الكبيرة جماعة كثيرة من الصغار حتى تقتلها فكانت تلك القطعة مملوءة من النمل الكبار ما بين أسير، وفي آخر رمق، وقتيل، ومأكول بعضه. فهل كان ذلك لحفظ الصف العالي؟ وإن المنقولات من أصحاب الأحافير تفيد أن كثيرا مما وجدوه من الحيوانات البائدة هو من أعلى صفوف الحيوان في كبر الجثة وإتقان البنية كما أودعوا صورها في المتاحف.

ودع عنك ما لم يعثروا عليه. فمن ذلك (البرونتوزورس) ويقدر طوله بخمسة عشر مترا. ومنه. (الديبلودوكس) ويقدر طوله ببضعة عشر مترا وعلوه بخمسة أمتار. ومنه (مثلث القرون) من ذوات الأربع من نحو فرس البحر وقدروا طوله بثمانية أمتار، وعلوه بمناسبتها في ذوات الأربع. ومنه (الميلودون) وهو عظيم الجثة هائل قدروه بأنه يأخذ النخلة الكبيرة فيميلها إليه. ومنه (الكسلان) وهو قريب من الميلودون. ومنه (الموا) في زيلانذا وهو طير قدروا علوه بنحو أربعة أمتار وأكثر. ومنه (دينوسور) زحاف مجنح عظيم هائل. ومه (دينو سور) زحاف كبير قدروا طوله عشرة أمتار وعلوه من قمة رأسه إلى إبهام رجله نحو خمسة أمتار.

اليعازر: ومن الظرائف أن بعض الصحافيين والكتبة المنهمكين برأي داروين لما رأوا أن انقراض هذه الصفوف العالية من الحيوان قادح في مذهب داروين في التناحر في البقاء قال: إنها انقرضت بأسباب طبيعية اقتضاها الانتخاب الطبيعي وحل محلها حيوانات أصغر حجما وأضعف بنية ولكنها أقرب إلى حاجيات الناس. إنتهى. ويا ليت هذا الكاتب يبين أنه متى درس طبايع هذه الحيوانات المنقرضة فعلم أن الحيات، والعقاب، والسباع، والسبع المكلوب بطبعه هي أقرب إلى حاجيات الناس من هذه المنقرضة. ولماذا لم تجتمع المنقرضة في الوجود مع ما هو أقرب إلى حاجيات الانسان. هل تقول: إن علم هذا الكاتب عظيم كحكمة الانتخاب الطبيعي وشعوره الراقي؟


الصفحة 265
عمانوئيل: ومن حججهم على تسلسل الأنواع ما يجدونه من المشابهة في بعضها لبعض كمشابهة بعض القرود لبعض أصناف الانسان. هل ذلك لأنهم لم يأذنوا لصدفة الطبيعة العمياء أن لا توجد الأنواع متشابهة في بعض أجزائها؟ أو لم يأذنوا للخالق الحكيم بأن يخلق الأنواع متشابهة لكي يدل على قدرته الباهرة بجعل التباين العظيم بين الأنواع في الخصائص الكبيرة والآثار العظيمة مع الاختلاف اليسير في الأعضاء؟ أتراهم لم يعطوا امتيازا في إيجاد الأنواع إلا على نحو التسلسل؟ ومن حججهم أن بعض الأعضاء لا فائدة فيها فهي أثرية في هذا النوع المتحول قد بقيت من آثار النوع السابق الذي كان محتاجا إليها. ومثلوا لذلك في الانسان بعضلات الأذن، والزوائد الدودية في المعاء الأعور. يا ساداتنا وهذا من أدهى الدواهي المعرقلة للعلم عن سيره في البحث عن الحقائق واكتشاف أسرارها واستخراج كنوزها.

أما إن العلماء لا غيرهم يتمجدون باعترافهم بأن في الكون حقائق كبيرة كثيرة لم يكشف البحث عن نقابها فهم يمدون يد السير في العلم إلى رفع حجابها. فهل يجعل الجهل دليلا علميا؟ من أين علم أن عضلات الأذن تنحصر فائدتها بالتحريك فلا فائدة لها في الانسان لا في تعديل وضع أذنه ولا في حاجيات جهاز سمعه؟ من أين علم أن الزوائد الدودية ذات الصمام لا حاجة لحياة الانسان بها؟ لماذا لا يظن أن العناية بحياة الانسان قد وظفت الدودية بوضعها الخاص لأمر يعجز عنه الأعور البسيط. كما جعلت الأعور في البط أطول مما تقتضيه النسبة مع باقي الحيوانات. يا ساداتنا هذه حجج أصحاب تسلسل الأنواع. هل ترون قعقعتها تكون ظنا ولو من أضعف الظنون؟ هل ينفخ فيها روح العلم قول دارون (بيد أنا لا نفقه لها معنى ولا نكشف عنها غطاء إذا اعتبرنا أن الأنواع قد خلقت خلقا مستقلا)؟؟

القس: يا عمانوئيل كأني ببعض المنهمكين بالمذهب الداروني يقولون لك في جواب كلامك وبحثك (عذرك جهلك) كما كتبه شبلي شميل لبعض العلماء الباحثين في هذا الموضوع.

عمانوئيل: يا سيدي إن ناموس العلم قد أدبني على أن أعترف بالجهل بكثير من الحقايق التي لا أهتدي لها سبيلا بنور الحجة العلمية الكافية. وما نقص الانسان إلا بالجهل المركب ووهن الحجة ولئن قال: لي قائل (عذرك جهلك) كما قيل لبعض العلماء الباحثين بتحقيق حينما أعي القائل جوابه فإني أرجو من سماحة هذا القائل لي أن يعلمني ولا يضطهد الانسانية والعلم بهذا القول السهل علي.. والصعب على الشرف.

مذهب داروين ومزاعم الأعضاء الأثرية

القس: إنهم يتشبثون لمزاعمهم في التحول ببعض أجزاء الانسان وبعض الأجزاء من كثير من الحيوان التي يسمونها (أثرية) كالعضلات الأذنية. وكالزوائد الدودية في المعاء الأعور. وكالثديين للمذكور من كثير من الحيوان.

عمانوئيل: من أين علموا أن هذه الأجزاء لا حاجة فيها ولا عمل لها لا في حياة الشخص ولا في بقاء النوع حتى إنهم من أجل علمهم هذا حكموا بأنها أثرية أي أثر باق من التحول عن النوع الذي كان ينتفع بها؟ من أين علموا أن فائدة العضلات في البدن منحصرة بالتحريك لكي يقولوا إن الانسان لا يحتاج إلى تحريك أذنيه فيستنتجوا من ذلك أن عضلات أذنه أثرية باقية من تحوله عن الحيوان الذي يحتاج إلى تحريك أذنيه؟ إذن فماذا يقولون في العضلة الهرمية على عظم أنف الانسان. والعضلة الضاغطة للأنف. وماذا يقولون في عضلات الحياة الآلية التي لا تتعلق بالإرادة والتحريك كالتي تكون في الحوصلة المرارية والقناة الصفراوية المشتركة. وفي كؤوس الكلية، وحوضها، والحالبين وفي طبقات الشرايين، والأوردة - وماذا يقولون في العضلة الهدبية الموضوعة على الوجه الظاهر للطبقة المشيمية للعين، وفي العضلة الركانية في باطن الأذن. وأما العضلات الخاصة بالحياة الارادية التي يسمونها عضلات الحياة الحيوانية فإن جملة كثيرة منها ليست لأجل موافقة الإرادة بتحريك العضو بل هي لإرجاع العضو إلى وضعه أو مركزه بعد تحريكه بالإرادة أو بالقسر. وذلك كالمحيطة الجفنية، والشاذة للجفن، والخافضة للأنف، والعضلة الباطنة للأضلاع. ولماذا لم يحتملوا أو يظنوا أقلا أن الفائدة في عضلات الأذن الكبار والصغار هو حفظ مركز الصماخ وصورته عندما تطرأ عليه الحركات القسرية فتكون بانقباضها الطبيعي بمنزلة المرونة التي ترد الجسم المرن إلى مركزه وصورته كالعضلات الباطنة للأضلاع. هب إن العلم سامحهم في جميع ذلك فلماذا لم يقولوا إن عضلات الأذن جزء لا فائدة فيه كما قالوه في الغدة الدرقية وبعض الغدد الوحيدة. ولماذا يحكمون بأنها أثرية انهماكا بمذهب داروين أو ليس الواجب في شرف العلم أن الجزء الذي لا نعرف فائدته يوكل أمره إلى مستقبل العلم التجريبي عسى أن يوقف الناس في معرفة فائدته على قدم ثابتة. فإنه يوجد في مركز الشبكية عند النقطة التي تقابل محور العين أثر مستدير مرتفع مائل إلى الصفرة يقال له بقعة (سويمرين) وفي مركز الأثر انخفاض يقال له الحفرة المركزية. وإلى الآن لم تعرف فائدة هذا الأثر.


الصفحة 266

الزوائد الدودية في المعاء الأعور للانسان

ومن أين علموا أن الزوائد لا حاجة للانسان إلى وضعها الخاص في جهاز هضمه حتى حكموا بأنها أثرية من طول المعاء الأعور في سائر الحيوانات قد خرجت عن وضعها الطبيعي لاستغناء الانسان عن مقدارها من الأعور. فكأنهم لم يعرفوا تفاوت الحيوانات الفقرية في جهاز الهضم بحسب حاجاتها الخاصة في طبيعتها النوعية. فالحيوانات المجترة جعل لها الكرش بدلا عن المعدة وهو وعاء عظيم بالنسبة إلى المعدة من الانسان خشن صلب ويليه بطون أخرى صغار من فوق إلى تحت مضاعفة الحجب والصفاقات والسبب في كثرة بطونه احتياج هذا الحيوان لزيادة الهضم فإن نهمته وكثرة أكله لا تدعه يمضغ مأكوله جيدا حينما يظفر به وهذا عمله في أكله الرطب واليابس فتخزن هذه البطون مأكوله وتهضمه ليعيد عليه المضغ بالاجترار عند استراحته. ومعاء هذا الصنف من الحيوان أعظم من معاء ما لا يجتر مع حفظ النسبة بين الحيوانين في مقدار الجسم، والفيل ليس له كرش ولا معدة بل له معاء كثير التشبك والالتفاف وبعده معاء الدفع. وبعض الحيوانات لها مرارة وبعضها ليس لها مرارة قيل ومنها الإبل والبغل والفرس. وبعض الحيوانات الفقرية ليس لها طحال. وبعض الطيور لها حوصلة لهضم الشئ الصلب. وبعضها له بدل الحوصلة فم معدة واسع عريض. وبعضها له حوصلة وفم معدة. وبعضها لا حوصلة له ولا فم معدة بل له معدة مستطيلة. ولكثير من السمك والطير شعب تتشعب من معاها.

والمعاء الأعور من البط طويل بحسب نسبته مع باقي الحيوانات وقيل إن قسما منه يكون أعوره أطول من سائر البط. يا سيدي ولما كانت وظيفة الأعور هضم ما يقذفه اللفائفي وتطهيره من المواد المضرة المحتاجة إلى الهضم لكي يقذفه إلى القولون خالصا من تلك المواد فتمتص منه الأوعية كيلوسا نقيا فربما كانت الزوائد الدودية تتناول من الأعور ما يعجز عن هضمه بسرعة فتهضمه بطبعها وضغطها له. وربما تكون مخزنا للإفرازات المضرة إلى أن تكسر عاديتها ثم تقذفها إلى المستقيم في نوبة لا يندس منها شئ في أوعية الغذاء وإن صمام الزوائد وإن كان ناقصا يشهد بأن لها عملا كبيرا وأنها نشوء ابتدائي فإنه ليس في المعاء الأعور في غير الانسان إلا صمام واحد في أوله وإن صمام الزوائد يرد القول بكونها أثرية فإنها إن كانت جزءا من الأعور قد خرج عن طبيعته فمن أين جاء الصمام؟ بل إن غلظ جدرانها يشهد بأن لها عملا كبيرا فإن كل معاء يكون أكثر عملا يكون أغلظ جدرانا. بل إن كثرة الغدد الوحيدة فيها كالأعور تشهد بأن لها عملا تحتاج لأجله إلى وجود الغدد وامتصاصها.

وإذا كانت الزوائد الدودية خرجت عن حالها الطبيعي فلماذا توجد فيها جميع أوعية الحياة العضوية على الوجه التام كما في الأعور وسائر الأمعاء. ولماذا لم تخرج هذه الأوعية عن حالها الطبيعي؟ هب إنا جهلنا فائدة الزوائد في حياة الانسان فلماذا نقتحم وننفي فائدتها ولا نرجو كشفها في مستقبل العلم إذا لم يعرقل في سيره ولماذا نقتحم دعوى الأثرية فيها مع أنا نرى التفاوت والاختلاف الكبير في أعضاء الحيوان وخصوص جهاز هضمه بحسب حاجاته. فهل يمتنع في نظام الأعضاء وأعمال الهضم أن يحتاج الانسان إلى وضع الزوائد الدودية.