أثداء الذكور
ومن أين علموا أن فائدة الثديين منحصرة بالرضاع منهما فتكون في الذكر أثرية باقية من التحول عن الأنثى. هب أنهم علموا أن أثداء الذكور لا فائدة فيها أصلا فلماذا لم يقولوا إنها من أجزاء الحيوان الزائدة كما قالوه في غيرها. وكيف جزموا بأنها أثرية. ومن ذا الذي وماذا الذي أعلمهم بانحصار فائدة الاثداء في الارضاع؟ ألا. وإنا نجد لها في أثداء الانسان مظاهر تدل على أن لها مداخلة كبيرة في بقاء الفرد والنوع. منها: أنها تعصر من الأطفال الذكور والإناث في أيام ولادتهم فيخرج منها سائل كثير يشبه ماء العنب. وهذا يدل على أن غدتها تمتص إفرازات كثيرة لكي تعمل فيها أعمالا حيوية.. ومنها: أنها تتهيج في ذكور الانسان عند بلوغهم وابتداء نشوء المادة المنوية فتكبر الغدة ويلوح التغير على لون الحلمة والهالة ثم تتراجع عن تهيجها تدريجا بعد ما يأخذ مني الذكر بالانفراز بالاحتلام أو الجماع. وهذا يدل على مداخلة كبيرة للاثداد في مادة التناسل وإنها من جهازه. ومما يدل على ذلك أيضا ما عرف من حال المخصيين في طفوليتهم حيث ذكر جملة منهم أنهم وصلوا إلى سن البلوغ وتجاوزوه ولم تظهر هذه المظاهر على أثدائهم من التهيج وغيره. ومما يدل أيضا على ارتباط الثدي بجهاز التناسل والولادة أن الأنثى إذا لم يظهر ثدياها على مقتضى الطريقة العادية تكون عقيما لا تلد. وفي ما ذكرناه كفاية. بل قيل إن بعض الذكور قطعت أثدائهم بعمليات جراحية فانقطع نسلهم. فهل أنت يا شيخ تأتينا بمثل هذه الحجج في دعاويك.
الآلات الحجرية الصوانية
الشيخ: وأيضا قد وجدت في الحفريات في طبقات الأرض قطع كثيرة من الصخر تشبه في الوضع والهيئة بعض الآلات الجديدية كالفؤوس والمناشير والسكاكين وأسنة الرماح ورؤوس السهام فجزم الناس بلا ريب بأنها آلات من صنع البشر قد صنعوها لأجل غايات مقصودة لهم في أعمالهم ونسبوها لعصر خاص كانت هي آلاته قبل إيجاد الآلات الحديدية وسموه العصر الصواني.. مع أن هذه القطع التي وجدوها لم يرها أحد مستعملة في غاياتها فلماذا لا يقول الناس: إن هذه القطع بهيئاتها الخاصة إنما هي من أعمال النواميس الطبيعة بسبب تأثيرات عوامل الاستحجار المقرونة بأوضاع معداتها التي تنتج هذه الهيئات الخاصة. كما هو في صغار الصخور والصوان التي يكثر فيها أن تكون على أشكال هندسية. كالمسطح المستدير، وما يكون مثل نصف الدائرة، أو قطعة منها، وكالمخروطي بقاعدة هلالية أو كنصف دائرة مع التناسب في سمكه، وكالكرة، والشكل البيضي، والاسطوانة بقاعدة هي كنصف كرة أو قطعة منها. إلى غير ذلك من الأوضاع والهيئات.
وقد شاهدنا في سوق (سامرا) ملح طعام مؤلف من قطع صغار هي كأظرف ما يكون من أوضاع الأواني الزجاجية بأشكال هندسية متناسبة المقعر والمحدب في السمك والوضع تكون مثمنة ومسدسة وغيرها وربما يتدرج تقعيرها وتحديبها بدرجات متناسبة محفوظة الوضع. إذن فمن أين علم الناس هذه القطع التي وجدت في الحفريات هي آلات صنعها الانسان لأجل غايات مقصودة له. هل رأى أحد ذلك بعينه. هل رءاها بخصوصها مستعملة في تلك. الغايات. أو ليست هذه الدعوى مثل دعوى تحول الأنواع لا حجة لها إلا التخمين.
دلالة المصنوعات على إرادة صانعها وعلمه بالغايات وقصده لها
عمانوئيل: لا يا شيخ. هذا لا يشبه ما ذكرناه من مسائل التحول. إن الانسان إذا رأى ألوفا من هذه القطع الكثيرة جارية على ناموس واحد في الصلاحية للغايات فإنه يجزم بعلمه حسب الفطرة السليمة والوجدان الحر بأنها مصنوعة بالاختيار لأجل غاياتها. وإن الذي ذكرته من أسباب الشك لا يعده العقلاء إلا سفسطة ساقطة لا تقف أمام علم اليقين. ألا ترى عقلاء العالم ممن رأى هذه القطع أو سمع بها لا يزالون ثابتي الاعتقاد بأنها صنعت اختيارا لأجل غاياتها وإن لم يرها أحد مستعملة في تلك الغايات. الشيخ: ماذا تقول أيها القس في هذا الذي قاله عمانوئيل؟ القس: إنه تحقيق فائق وإيضاح للحقيقة، وبيان لما عليه البشر في أمورهم، فإن جميع الأفعال والموجودات والمصنوعات حتى كلام المتكلم لا ميزان ولا طريق لليقين في معرفة كون الصادر منها صادرا عن إرادة الموجد وشعوره وحكمته في قصده الغاية في إيجادها إلا هذا الميزان وهذا الطريق الذي قاله عمانوئيل. وإنه لغريزة فطرية في البشر. فإن الطفل والشاب والكبير في جميع العالم يميزون ببداهة هذا الميزان العادل والطريق الواضح المستقيم. وإن كل موجود يرتبط وضعه وأجزاءه وتركيبه بالمقاصد والفوائد فإن ما يعرف منه من هذا الارتباط يكون بالبداهة دليلا على أنه صادر بإيجاد موجد مزيد له علم بالفائدة والغاية وقد أوجده بحكمته لأجل تلك الغاية. وكلما كثر ارتباط الوضع والتركيب والترتيب بالغايات زادت دلالته على علم الموجد وحكمته وضوحا وسناء إلى أن تصل إلى حد لا محل فيه لاختلاج الشك والتشكيك فضلا عن الجحود القبيح الذي لا يكون إلا ممن له غرض فاسد وليس له شرف أو حياء رادع.
اليعازر: الموجد وغيره يخبرنا بأن ما أوجده أوجده عن إرادة وعلم بالغاية وقصد لها. فلا يكون الميزان هو ما ذكره غبطة القس وعمانوئيل. القس: نقول لك. أولا. إن جميع البشر يعلمون من الأشياء والمصنوعات الموجدة لأجل الغايات أن موجدها أوجدها بعلمه وحكمته لأجل غاياتها من دون أن يخبرهم أحد بذلك كما في الآلات الصوانية المذكورة وغيرها مع أنهم لم يروا موجدها ولم يخبرهم أحد سمع من موجدها مع أن العقلاء على يقين لا يشوبه شك بأنها أوجدها موجدها لأجل غاياتها. وثانيا: بأي ميزان تميزان هذا المخبر الذي تذكره قد تكلم بخبره عن شعور وإرادة التفهيم وقصد للغاية. ولم يتكلم عن هذيان ومرض دماغي عرض له إذن فكيف يحصل لك العلم بقصده للتفهيم والاعلام من كلامه. أو ليس لأنك تجد كلامه منتظم التركيب مرتبطا بالغاية؟ وبعد ذلك يبقى في أخباره لك احتمال كذبه فمن أين يحصل لك اليقين؟! يا اليعازر، ليس لك في اليقين بمعرفة قصد الموجد للغاية وعلمه بها إلا ما ذكرناه من الميزان والطريق - فعليك به - تكن من المهتدين.
مقدمات احتجاج القرآن على وجود الخالق العليم
الشيخ: احفظوا لي أنت والعقلاء مثل هذا من العلم اليقين بحسب الفطرة السليمة والوجدان الحر على الميزان والطريق المذكور وإني أجعله.
عمانوئيل: لا بد من أن نحفظه لك وإن كابرناك فيه فإن الحقيقة تحفظه لك وشرف الانسانية والعلم يشهد لك.
المقدمة الثانية
الشيخ: (المقدمة الثانية) ما برح الانسان من ابتداء شعوره إلى آخر أمره يبحث عن علة الكائن وينظر فيها ويستنتج منها نتائجه. جبلة طبع عليها في جميع أموره حتى إن الطفل إذا مع جلبة أو صوتا غريبا فإنه يدير نظره ويتجسس عن علته لكي يستنتج منها نتيجة في رجاء أو حذره. وكذا الحيوان. بل ما سار العلم والتمدن سيرهما ورقيا رقيهما إلا على النهج الفطري بالنظر إلى علة الكائن وغايته لكي تستفاد الفوائد الكبيرة في المنافع ودفع المضار من معرفة العلة والغاية.
عمانوئيل. أقول بحضرة سيدي القس وسيدي الوالد إن هذا الذي تقوله طبيعي للانسان وضروري له في جميع أموره.
المقدمة الثالثة
الشيخ: ما برح الانسان أيضا في أجياله وأحواله محتاجا إلى شريعة ينظم بها اجتماعه في المجتمع الانساني. والمملكة والقطر والشعب والقوم والعائلة والبيت. ولم يزل ولا يزال حسب ما يقتضيه الامكان والهمة والاقتناع يتطلب شريعة تقرب من الصلاح والعدل والارتباط بالمصالح النوعية والشخصية.
مع علمه بأن الشرايع البشرية مهما أخذوا فيها بالتدقيق وجمع آراء العقلاء ورعاية الأكثرية فهي غير ضامنة لدوام الصواب فإن كل أحد يعلم أن علم البشر ومبلغ عقولهم مهما كان فهو محدود قد يكثر فيه الخطأ الكبير. مع أن بعض البشر غير مبرئين عن مداخلة الأهواء والتعصب في التشريع وغيره. فإذا احتمل الانسان أن له سبيلا ممكنا إلى تشريع مشرع كامل يحيط علمه بجميع الأمور ولا يخفى عاليه شئ وهو مقدس من كل هوى وعصبية فإن عقل الانسان وشوقه إلى صلاحه يلزمانه بالسعي إلى طلب هذا التشريع المقدس ولزومه.
المقدمة الرابعة
وأيضا لم يزل الانسان ولا يزال محتاجا إلى تعلم الأخلاق الفاضلة التي يبتهج بسببها بكماله ويفتخر بها ويحل بها المشكلات في حفظ شرفه وحسن اجتماعه مع أبناء جنسه طالبا لدرس هذه الأخلاق ومعرفتها لكي يتحلى بجميلها حينما يستغفل أهواءه الشخصية.
المقدمة الخامسة
وأيضا لم يزل الانسان ولا يزال منذ مبادي شعوره متحرزا من الوقوع في المضرة المحتملة طالبا للاطمئنان بالسلامة منها.
حتى إن الطفل يجري أيضا على هذا الناموس كما هو ظاهر، ولا يبقى الانسان مقدما على احتمال المضرة إلا أن يكون له هوى يغلبه أو حاجة لا يعتني العقلاء معها بتلك المضرة أو باحتمالها. وأما المضرة العظيمة التي لا يوازنها شئ ولا يوازن خوفها فإن الانسان مطبوع على عدم التقحم في خوفها وعلى عدم الاستراحة إلا بالاطمئنان بالسلامة من وبالها وبالأمن منها.
المقدمة السادسة
هل ينكر أحد أن أقطار العالم بأسرها قد امتلأت بالدعوة إلى الله جل شأنه وعظمته. وهو واجب الوجود. خالق العالم، ومدبر أمره، والعالم بكل شئ، والغني الحكيم المقدس، شارع الشرايع وقوانين الصلاح، ومعلم الأخلاق الفاضلة، والزاجر عن الرذائل ومواد الفساد والشر. والمتوعد بحكمته على جحوده ومخالفة أوامره ونواهيه وتعاليمه مهددا بالعذاب الشديد. هل ينكر أحل عموم هذه الدعوة على الأقل فيما بعد زمان موسى (عليه السلام). كلا بل إن الوثنية من أول أمرها ناظرة إلى هذا الأساس لكنها غلطت بتأليه المخلوق وما يترتب على ذلك من المفاسد. هذا مع أن العقل فضلا عن هذا النداء يجوز ما ذكرناه في المقدمات ابتداء ومن دون نداء بها. فيرى الانسان نفسه مهددة بفوات المصالح اللازمة وبالوقوع في المضار التي لا صبر له عليها.
عمانوئيل: يا شيخ قد أكثرت في إيضاح أمور واضحة تشهد بها الفطرة، وقد أكثرت اشتياقنا إلى غرضك من هذا البيان والإيضاح. الشيخ: الغرض من ذلك أن نوضح أن القرآن الكريم احتج على الإلهية بحجة أشار فيها إلى هذه المقدمات التي لا ينبغي للانسان أن يغفل عنها مع أنها مكشوفة له بحسب الفطرة والوجدان وعمله في جميع أحواله. وأتم القرآن احتجاجه ببيان الدلالة على أن موجد العالم وعلته عالم بالغايات قد أوجد الكائنات لأجل غاياتها على الحكمة الباهرة والنظام الفائق ونبه على جميع المقدمات بالانكار والتوبيخ على الشك الذي لا محل له مع هذه المقدمات الواضحة الوجدانية والمشاهدات العيانية. فقال جل وعلا في الآية العاشرة من سورة إبراهيم المكية. (أفي الله شك فاطر السماوات والأرض) ولماذا يشك الانسان. فهل يصح له أن يبقى على شكه لأنه أعرض بجهله عن النظر وطلب الحقيقة في أمر المعرفة.
كيف يعرض وهو مهدد بالعذاب الإلهي، وبفوات مصلحة الشريعة الإلهية ومصلحة تهذيب أخلاقه وتكميله، أو ليس من الضروري الفطري أنه لا ينبغي لذي رشد أن يستقر على خوف الضرر العظيم حتى يأمن ويطمئن بنتيجة النظر الصادق. وليس النظر في هذا الشأن محتاجا إلى نظم مقدمات وأقيسه متعددة كما ينظر الانسان في صحة إشكال المقالة الثالثة من أصول الهندسة لاقليدس. لا. وكلا. بل إن مقدمات هذا النظر مكشوفة لعيان الانسان ووجدانه في جميع أحواله بأوضح انكشاف يرغم النفوس الحرة على الاذعان بالحقيقة - فهل يغيب عن الانسان ما يشاهده بالعيان ويعرفه بعلم اليقين من عالم السماوات والأرض وما فيهما ووجود نفسه ونوعه وسائر الأنواع فكم يرى في العالم من شئ موجود بعد عدمه على أتقن صنع وأحسن نظام تبهر العقول حكمته، ويعجز العلم عن إحصاء غاياته الشريفة.
الشيخ. يا عمانوئيل إن جميع ما يتشبث به الماديون غير خفي عن أمثالك فلماذا لا نمثلك محاميا عنهم.
عمانوئيل: إن بعض دعاويهم وإنكاراتهم لا يدعني شرف وجداني أن أذكرها بصورة الجزم وأحامي عنها فالأحسن حضور أحدهم ليبين ما عندهم فإن كثيرا منهم يجاهر بما عندهم. ولكن يا شيخ يلزم أن يكون من نحضره له إلمام بنواميس العلم وقوانين الحجة وموازين الاستدلال لا من الجديديين الذين غاية حجتهم كتب السر فلان وخطب المسيو فلان وقال الدكتور فلان وذكرت جريدة المقتطف. ونقلت مجلة الهلال. ولا يعرف في مقابلة الحجة الواضحة إلا أن يقول هذه حجة من العقل العتيق، شعوري المتنور، هذا عصر الرقي والتنور، لا أعرف الامكان والامتناع ولا الدور هذه خرافات قديمة. الشعور الراقي لا يحتاج في حجته إلى موازين الاستدلال. فاللازم أن نختار ماديا من أهل العلم يراعي في كلامه شرف فضيلته.
القس: إني أعهد دكتورا كما تريدون فمثلوه. عمانوئيل. مثلنا الدكتور فقلنا له أيها الدكتور ألا تسمع ما يقول الشيخ ويذكره من احتجاج القرآن على الإلهية ضد المذهب المادي. الدكتور: اذكروا لي ما يقوله الشيخ بنصه ولفظه لننظر فيه فإن الحر من لا عداوة له مع الحق بل من يكون الحق قرة عينه وضالته التي يطلبها لكي يتشرف علمه بفضيلة الصواب ويبتهج برقيه في درجات الحقيقة.
عمانوئيل: ذكرنا كل ما ذكره الشيخ بنصه ولفظه. الدكتور: أما ما ذكره الشيخ في المقدمة الثانية فهو مسلم بالبداهة وعليه فطرة البشر كما ذكر. وبالنظر إلى علة الكائن سار العلم سيره ورقي رقيه وكذا ما ذكره في المقدمة الثالثة والرابعة والسادسة ولا يمكن أن ننكر ما ذكره في المقدمة الخامسة من النداء في العالم باسم الإله وشريعته وتعليمه دروس الأخلاق الفاضلة وتهديده على جحوده ومخالفته. ولكن يا للأسف إن العلم لم يوصلنا إلى معرفة هذا الإله الذي يذكرونه ولم يدلنا على لزوم وجوده لكي نبحث عن مدرسة شريعته وتعليمه الأخلاق فلذلك آمنا من خوف النداء المذكور في المقدمة الخامسة. الشيخ: أيها الدكتور إن مكالمتنا مؤسسة على الحرية المطلقة في سبيل الحقيقة وكلامك هذا مجمل فأوضح لنا مرادك بالصراحة لكي تجري مكالمتنا على الطريق الواضح والنهج الهادي فأجب بالصراحة. هل العلم أوصلكم إلى نفي الإله فصرتم تعللون الكائنات بما ليس بإله أو كما قلت إن العلم لم يدلكم على وجود الإله فوقفتم موقف الشك بحيث لا تدرون بم تعللون الكائنات في مبدأها. الدكتور: إذا أردت المجاهرة فإن العلم أوصلنا إلى نفي الإله الذي تقولونه فصرنا نعلل وجود الكائنات بحركة المادة الأزلية. الشيخ. إذن فحاصل كلامكم إن العلم أوصلكم بدلالته إلى اليقين بنفي الإله الذي نقول به وأوصلكم إلى أزلية المادة وحاصل كلامنا أن العلم أوصلنا إلى وجوب وجود الإله وأن المادة لا يمكن أن تكون إلا حادثة مخلوقة للإله. إذن فعلى كل من الإلهي والمادي أن يقيم الحجة على دعاويه لكي يعرف ما يوصل إليه العلم الحقيقي وقبل الخوض في ذلك قل ما هي المادة الأزلية التي أوصلكم العلم إليها وأوقفكم في التعليل عليها.
____________
1 ـ الزوبعة في اصطلاحهم أسرع الرياح جريا وقدروها بما يجري في الثانية ستين قدما وقد تجري في الأقاليم الاستوائية 300 قدم. والنسيم ما يجري عشرة أقدام في الثانية. (*)
الشيخ. أيها الدكتور إني أبدأ بالتعرض لكلمتك الأخيرة أعني قولك (فإن العلم العصري لا يسمح لنا بأن نؤمن بوجود غير منظور) ألا وإن هذه الكلمة مما يتبرأ منه العلم العصري وشرف الانسانية. كيف يقول ذلك إنسان أوليس جميع العالم مذعنا بوجود القوة الكهربائية فهل هي منظورة. أو ليست مشاهدة أعمالها وآثارها في الجذب والدفع والتحريك كافية في الاذعان بوجودها مع أن العلم لم يأخذ قراره في ماهيتها ففي القديم إنها كائن مقابل للمادة كامن فيها يهيج بأحد الهيجات المقررة، وفي الجديد إنها مرتبطة في المبدأ بالمادة تتولد من انحلال المادة إليها بأحد الأسباب المقررة كما أنها تتكاثف وتكون مادة. هل ينكر أحد وجود النفس للحيوان فهل هي منظورة أو ليست أعمالها الحيوية الشعورية تجبر الانسان على الاذعان بوجودها بعد أن يرى أن الجسم الذي تفارقه لا تأتي منه هذه الأعمال بل يكون كسائر الجمادات وإن خفي على العلم كنه النفس فتشبعت فيها الأقوال. أفي القوة الكهربائية شك مع مشاهدة الأعمال التي يحصرها العلم بتأثير القوة الغير المنظورة. أفي النفس شك مع مشاهدة أعمال الحياة التي يحصرها العلم بتأثير النفس. (أفي الله شك فاطر السموات والأرض) مع مشاهدة الأعمال الكبيرة في النظام الباهر والحكمة الفائقة في عالم الكون.
هذه الأعمال التي لا يمكن للعلم المستقيم إلا أن يحصر تعليل صدورها بواجب الوجود العليم الحكيم وهو الله جلت عظمته. أيها الدكتور، الجواهر الفردة وحركاتها اللولبية وزوابع الأثير والأثير هل رآها أحد أو رأى واحدا منها بالنظارات المكبرة أو المقربة. الدكتور: لا وكلا بل إنهم افترضوها افتراضا لتوجيه التعليل والانتهاء به إلى أصل يوقف عليه. الشيخ: لماذا التزموا بكون الجواهر المذكورة فردة لا تتجزأ وتعرضوا للنقد العلمي المبين لاستحالة وجود الجزء الذي لا يتجزأ. ولماذا التزموا بكون الأثير في منتهى البساطة. الدكتور: لأنهم إذا قالوا بتركب الجواهر من الأجزاء لم يمكنهم القول بأزليتها وكذا الأثير.
الشيخ: إذا كان التجزأ في المقدار تركيبا ينافي الأزلية فالأثير المفروض مهما فرضوا له من بساطة الذات فهو متجزئ في المقدار وله مادة وصورة فهو مركب إذن فكيف قالوا بأزليته. دع هذا إلى حين ولكن لماذا لم يقولوا بأن الجواهر والأثير متسلسلة من موجودات لا نهاية لها فيذهبوا بسلسلة التعليل إلى غير نهاية ولا يلتزمون بفرض موجود أزلي لا حجة لهم على أزليته. بل إنهم يثبتون له أوصافا تنافي الأزلية.
بطلان فرض التسلسل والدور
الدكتور: هل يمكن أن يدخلوا في هذه السلسلة ما يفرضونه عدما ولا شئ ولا موجود؟ وهل يمكن أن يدخلوا فيها ما لا يفرضونه موجودا.
الشيخ: لا. لا يمكن لأن ذلك يؤدي إلى التناقض الباطل بمبادئ الفطرة وبداهة الوجدان وكيف ينظمون سلسلة الموجودات من عدم ولا شئ بل لا بد أن يفرضوها مما يفرضونه شيئا وموجودا. وإن محل الفرض هو تسلسل الموجودات الحادثة التي ليس فيها موجود أزلي.
الدكتور: فالفكر الذي هو يفرض هذه السلسلة ويصور حلقاتها في معمل تصوره لا بد من أن يحد أجزاءها المفروضة بحد الوجود والحدوث لأن مبنى فرضه على ذلك ومختص به. الشيخ: لا بد من ذلك فإن الفكر في فرض هذه السلسلة قد عزل عنها المعدوم وأزلي الوجود فتمحضت أجزاؤها للموجودات الحادثة مهما بلغت من التسلسل. الدكتور: يا شيخ ويا أصحابنا إذن ففرض التسلسل إلى غير حد ولا نهاية باطل في نفسه وبحسب فرضه فإن الفكر إذا حد أجزاء السلسلة بالحدوث فلا بد من أن يلتفت إلى أن السلسلة مهما بلغت فهي محدودة بالعدم اللازم لحدوث أجزائها وإن ضاعفها بكثرة ما يفرضه أول مرة فإنه يلتفت إلى أن فرض التسلسل مستلزم لبطلانه. وببيان آخران الفكر إن أدخل الموجود الأزلي في هذه السلسلة فقد انتهت إلى الأزلي وإن أدخل العدم فقد انقطعت بالعدم وإن أخذ الموجودات الحادثة فإنه إن عجز في ترتيب فرض السلسلة عن تكرار فرض الموجود الحادث وتصوره فقد انقطعت بذلك العجز وإن لم يعجز فإنه يلتفت إلى أنه مهما فرض من الموجودات الحادثة بسعة إحاطته فإن فرضها بما هي حادثة يستلزم أن تكون سلسلتها محدودة بالعدم فيبطل الفرض وإلا خرجت عن كونها موجودات حادثة فيبطل الفرض أيضا.
وأيضا ما هي الغاية للعلم بفرض التسلسل فإن كان تقحم هذا الفرض الباطل لأجل أن يتحير العلم لعجزه عن إدراك السلسلة الغير المتناهية ويقف موقف المبهوت فليقف إذن على حيرته من أول الأمر بدون حاجة إلى كلفة هذا الفرض الموهوم وكيف يعجز العلم بسلسلة لو أمكنت لم تكن إلا بإحاطة صناعته لها وقدرته على فرض ترتيبها بتصوير حلقاتها بكنهها في معمل أعماله. الشيخ: قد عدلنا عن مسألة التسلسل ولكن لماذا لا تقولن إن الأثير أو الجواهر الفردة معلولة لما يصدر عنها وصادرة عنه.
حدوث المادة مهما كانت
ثم أيها الدكتور أنتم تقولون إن الجواهر الفردة أو الأثير أزلية. ونحن نقول: إن الجواهر الفردة لو صح فرضها وإن الأثير لو تحقق وجوده لا بد من أن تكون حادثة محتاجة إلى علة ثم ننظر في تلك العلة. فهل تكون الدعاوى من كل منا مقدسة في العلم. أو لا بد لكل مدع من حجة تشهد في العلم على صحة دعواه.
الوجود بعد العدم
الدكتور: لا تكون دعوى مقدسة بلا حجة. ولكنا قلنا بوجود الجواهر الفردة لأن فرضها ممكن. وقلنا بأزليتها لأجل أن نقف عليها بالتعليل. وأوجبنا أزليتها لأجل أنه يمتنع حدوث الموجود من العدم وكذا نقول في أزلية الأثير على الرأي الجديد. الشيخ: ما معنى قولك (يمتنع حدوث الموجود من العدم) فإنه محتاج إلى الايضاح. الدكتور: لا يمكن أن يكون الموجود ناشئا من العدم لأن العدم لا شئ ويستحيل وجود شئ من لا شئ. الشيخ. لم توضح ما يحتاج إلى الايضاح فإن الابهام باق على حاله فبين لنا ما معنى قولك (من العدم) و (من لا شئ). الدكتور: الموجود والشئ يستحيل أن يكون مادته العدم واللا شئ ويستحيل أن يكون فاعله العدم واللا شئ.
الشيخ: عجبا يا صاحب العلم التجريبي كيف تدعي هذه الدعوى وأنت في كل ساعة ترى ألوفا من الموجودات قد حدثت بعد العدم. ألا ترى الانسان. أو ليس أقرب عهوده أنه نزل منيا في رحم أمه ثم صار علقة دم ثم صار إنسانا ذا أعضاء وحواس وشعور وعلم أين كان المني الذي نشأ منه حينما كان جده وجدته منيا؟ أولا ترى سائر الحيوان أولا ترى الشجر والنبات كيف يحدث بعد عدمه. أولا ترى سائر الموجودات في العالم مما تعرف وجوده بعد عدمه. فكيف تقول: إن حدوث الوجود بعد العدم مستحيل. الدكتور: لا أقدر أنا وكل ذي شعور على إنكار ما تذكره وكيف يجحد ما هو مشاهد معلوم لكل أحد ومنه نعلم بالبداهة أنه ليس بين الوجود والحدوث مضادة ولكن خصوص المادة وهي الجواهر أو الأثير هذه يستحيل وجودها بعد عدمها فإنا لم نر المادة حدثت ولم نر أحدا قدر على إحداثها وخلقها ولم نرها انعدمت ولم نر أحدا قدر على إعدامها. فإن العلم يبين أن كل ما نشاهده من اضمحلال المادة ليس انعداما بل إنما هو انعدام الصورة الخاصة وتفرق دقايق المادة الصغار التي لا يدركها الحس فهي باقية في الوجود غائبة عن الحس.
الشيخ: أسألك أيها الدكتور هل قدر أحد من الناس أن يأخذ ترابا أو غيره من المواد فيخلقها إنسانا ذا نفس وشعور وعلم أو حيوانا ذا نفس وحركة أو شجر ذا نمو وفاكهة ويبدعها بغير النواميس المعهودة. أيها الدكتور فهل يحسن بالعلم أو بمن له شعور أن يقول: إن أفراد لانسان والحيوان والشجر أزلية لأن العلم التجريبي يشهد بأنه لا يقدر لانسان على إيجادها بإبداعه وخلقه لها. الدكتور: مهلا أيها الشيخ لماذا غاب عن شعورك أن العلم والحس والوجدان تشهد جميعا بأنه ليس كل ما هو حادث يقدر الانسان على خلقه وإحداثه. بل إن من الحوادث ما يقدر الانسان على خلقه وإيجاده كالمصنوعات البشرية ومنها ما لا يقدر على إيجاده كالانسان والحيوان والشجر. ويشهد أيضا بأنه ليس كل ما لا يقدر الانسان على إيجاده فهو أزلي غير حادث بل يجوز أن يكون له علة تبدعه وتحدثه هي غير قدرة الانسان فإن الانسان والحيوان والشجر لا يقدر الانسان على خلقه وإيجاده وهو حادث بالوجدان لأن له علة توجده وتحدثه بناموسها.
الشيخ: إن العلم مشتاق إلى هذا البيان الذي يزيل المعاثر التي جعلها الوقت في طريق الشعور. أيها الدكتور إذن فلماذا لا تقولون إن المادة يجوز أن يكون لها علة تحدثها وتوجدها وإن لم يقدر الانسان على إيجادها كما قلتم في إيجاد الانسان والحيوان والشجر. وكيف قطعتم بإنها أزلية؟ الدكتور: قلنا إن المادة أزلية لأنها لا تنعدم ولا يقدر أحد على إعدامها. لأنه كل ما يرى من اضمحلال المادة فإنما هو تفرق أجزائها وانحلالها إلى الجواهر الفردة التي لا تنعدم. فالمادة باقية أبدية وكل ما هو أبدي فهو أزلي. الشيخ: هل تمكن رؤية الجواهر الفردة بالنظارات المكبرة والمقربة لكي يحس بها الانسان ويحكم ببقائها بعد الانحلال والتفرق.
الدكتور: لا. لا تمكن رؤيتها. الشيخ: إذن فكيف حكمتم ببقائها؟ فإن قلت: إنا نرى في انحلالها صعوبات كثيرة قلنا فليكن انعدامها بعد صعوبات أكثر من ذلك. وأيضا إذا كان إعدامها صعبا على البشر فلماذا لا يمكن أن يكون في العالم فاعل غير البشر يسهل عليه إعدام المادة. وأيضا إن الرأي الجديد المقبول بين علماء أورپا ينادي بأن المادة تنعدم إلى القوة فمن أين لكم أن القوة لا تنعدم فهل تقولون إن القنينة الليدنية إذا تفرغت تبقى كهربائيتها دقائق أو أجزاء لا تتجزأ من أين ذلك؟ وهذه الحرارة الناشئة من زيادة القوة الكهربائية والنور الناشئ من زيادة هذه الحرارة فهل تقولون عند اضمحلالهما إنهما يبقيان دقائق أو، أجزاء لا تتجزأ من أين ذلك؟.
عبد الله الإباحي
الشيخ: المعنى الجوهري من هذا الكلام قد تقدم وتقدم منا نقده وأظنك رأيت نحو هذا الكلام للمتسمى عبد الله الإباحي ص 406 من كتاب المذهب الروحاني ولماذا نسيت أن الإلهيين يقولون إن الإله خلق المخلوق وجعله شيئا بعد أن لم يكن شيئا وموجودا بعد أن لم يكن موجودا ومن البديهي أن الانسان يكون إنسانا بعد أن لم يكن وكذا الحيوان والشجر والدائرة تكون بعد أن لم تكن والمثلث يكون بعد أن لم يكن ولا يقول ذو رشد بأن هذه برزت من اللا شئ وصدرت من اللا وجود ولا يقول إنها تكون وجودا وعدما في وقت واحد كما مثل الإباحي بالدائرة والمثلث فإن قال الإباحي إن الموجود بما هو موجود والوجود بما هو وجود يستحيل أن يحدثا بعد العدم فإن العيان والوجدان يستهزئان به بل يوبخه قوله في المقام (وفي كل دقيقة وإلى الأبد وجد ويوجد وسوف يوجد) وأظنه لا يعرف تناقضه إلا إذا ناجته روح (غاليلوس).
كلمات عصري وجوابها
رمزي: متنور عصري. العفو يا سيدي الدكتور إسمح لي بأن أقول كلمتي الذهبية وليسمح السادات بالالتفات إلى إحساسي في نظريتي ها هي كلمتي ونظريتي تهتف بها إحساساتي المتنورة وحرية وجداني. إن التنور الجديد قد أسقط الامكان والوجوب والامتناع والاستحالة فإنها من الخرافات القديمة للفلاسفة والمتكلمين التي يتعكزون بها في. حججهم. وها أنا أراك توافق الشيخ على الركون إليها. ألا وإني دخلت المكاتب والكليات وخرجت منها بالشهادات الكافية فلم أحتج في تنوري وعلمي العصري إلى إمكان أو وجوب أو استحالة ولم أعرقل فضيلتي وعلمي بهذه الأمور الفارغة.
يا ترى بعد اختمار الآراء واحتكاك الأفكار بدرس الحقائق من الأساتذة هل يتسنى لنا الارتكان إلى القديم الفارغ يا ترى. وها إن العلم في وسيطه ومحيطه قد نبغ توا نبوعا مدرسيا راقيا تجري كهربائيته في داخلية بيئته وخارجيتها. فإن كراسي المكاتب والارتقاء بالتحول إلى الكليات يضمنان حفظ الصفوف العالية من تنوعات العلم المركزي السائد والأدب المكرس لتوضيح المطالب الحيوية بحرارة فهل بعد ذلك تدار المسائل على محور أجنبي عن محيط العلم يا ترى. فمن الجهل يا سيدي أن نصغي إلى خرافات قديمة: إمكان، وجوب، إمتناع. إذا نظرنا إلى مقدار من الصوف فمن الضروري أنه يكون قطعة چوخ إذا جعله العمال في معمل الچوخ على الناموس الميكانيكي. ومن الضروري أنه ليس بچوخ ولا يصير چوخا وهو على الغنم. فالچوخ قبل العمل ميسور الحصول للعامل وعلى هذا الناموس تجري الأشياء. فما هي الحاجة للأمور الفارغة يا ترى.
عمانوئيل: يا حضرة الدكتور إني أرى في مخايل وجهك أنك تريد أن تجيب حضرة (رمزي) ولكن اسمح لي بالمهلة فإن عندي مشكلات أريد أن يتفضل بحلها علميا فإنه قد أبهجني بتمجيده لدراسة العلوم ونبوغه بين تلاميذ الكليات الراقية وقد أكد بذلك رجائي لأن يحل بفضيلته مشكلاتي بمحضر القس والشيخ والدكتور والوالد.
رمزي: قل كلمتك يا عمانوئيل.
عمانوئيل: كلمتي تنحل إلى سؤالات. الأول: قد وقعت التجربة الدائمة على أن المسافرين في البحر من البصرة إلى مكة في أواخر الربيع وأوائل الصيف يصبحون ساعات كثيرة من أتقن أصنافها مؤقتة على الساعات العربية. وكل يوم يسيرون فيه تختلف ساعاتهم على ميزان واحد فينطبق عقرب الساعات على الثانية عشرة في العربية بعد الغروب ويزداد هذا التأخر شيئا فشيئا على ميزان واحد إلى عدن ثم يأخذ هذا التأخر بالنقص الموزون شيئا فشيئا إلى حين وصولهم مكة ثم ينعكس الأمر عند رجوعهم. وبعكس هذا كله يكون إذا ساروا في أواخر الخريف وأوائل الشتاء فما هو المنشأ(1) في ذلك.
السؤال الثاني: إن الليل والنهار متساويان في خط الاستواء كل واحد منهما اثنتي عشرة ساعة. ولكما بعد البلد عن خط الاستواء أخذ ليله ونهاره بالاختلاف بالزيادة والنقصان وتبلغ الزيادة بالتدريج في أطول الأيام والليالي في عرض 8 درجات و 34 دقيقة نصف ساعة وفي عرض 16 درجة و 44 دقيقة نصف ساعة أخرى ثم تتدرج الزيادة إلى أن تبلغ في عرض 66 درجة و 32 دقيقة اثنتي عشرة ساعة ثم إذا زاد ثمانية وعشرين دقيقة أقل من نصف الدرجة تكون الزيادة خمسمائة وثمانية وعشرين ساعة. فما هو الوجه العلمي(2) في هذا التفاوت الفاحش في
____________
1 ـ هو اختلاف طول النهار في الزمان الواحد بحسب اختلاف البلدان بالعرض كما أشير إلى بعض أمثلته في السؤال الثاني.
2 ـ هو أن أفق هذا العرض يدخل في المنطقة الحارة الشمالية 28 دقيقة عرضية ويبعد عن مدار الجدي من الجهة الأخرى كذلك. فكل المدارات اليومية الواقعة على دقائق الدخول تتحد بالأفق أو تقع فيه. فلا غروب. وكل المدارات الواقعة على دقائق البعد. خارجة عنه. فلا أشراق. وبما أن سير السيار في الانقلابين يشبه الموازي للمدارات المذكورة تكون متقاربة وربما يتحد جملة منها تقريبا. ومن هذا المجموع ينتج ما ذكرناه. ومنه يعرف الحال في النصف الجنوبي. (*)
رمزي وعمانوئيل
رمزي: الذي درسته من العلوم في الكليات هو النتائج العلمية على مقدار الحاجة في عمليات الهندسة والحساب ومعرفة الجغرافية والهيئة بحيث أصلح لأن أكون مهندسا أو مدرسا في دار المعلمين لتدريس المعلمين في المكاتب الوطنية لكي أنفع وطني بأعمالي وأنفع
____________
1 ـ إشراق الشمس يحصل من اتجاه الأفق نحو سمتها بحركة الأرض الوضعية وذلك الاتجاه والحركة هما إلى يسار الأرض دائما بالنسبة لمستقبل القطب الجنوبي.
2 ـ جاءت من قوة الشكل السادس من ثانية الأصول لاقليدس وإن كل عددين يكون الحاصل من مربعيهما مع ضعف مضروب أحدهما بالآخر مساويا لعدد ثالث فإنهما إذا جمعا كان مربع مجموعهما مساويا لذلك الثالث نحو 3 و 4 بالنسبة إلى 49: و 5 و 6 بالنسبة إلى 121 وهكذا. (*)
عمانوئيل: ما أدري ماذا أعرض لحضرتك يا صاحبي فإن الاقناع شرطه مني ومن غيري.
الدكتور: إن سلوك عمانوئيل في تقرير هذه المشكلات يشهد عندي بأنه قادر على حلها علميا قدرة كافية. القس: يا اليعازر في أية كلية درس عمانوئيل هذه العلوم بهذا الدرس الراقي.
اليعازر: لم يدخل كلية من الكليات المعروفة ولا أدري أين درس هذه العلوم.
عمانوئيل: يا سيدي منذ نشأت كنت مولعا بالتفهم في درس العلوم وقد وجدت درس المكاتب يدور على النظر إلى رؤوس المسائل ولا أجد عند المعلمين بيانا بأكثر من التلقينات المسموعة. فتهيأ لي أن أدرس هذه العلوم عند واحد من طلبة مدرسة النجف أياما قليلة درسا علميا. وقد أفادني أن في النجف من الماهرين بهذه العلوم خلقا كثيرين ولكن لأجل أن الغاية المطلوبة لهم إنما هي علم الدين لم يظهر لدراستهم في هذه العلوم دوي ولا سمعة.
رمزي: ما علينا فإن اكتشافات الغربيين العجيبة تجعلنا على ثقة من صحة آرائهم ونظرياتهم الراقية وإن اللازم علينا في الأدب العصري أن نتناول من آراء الأساتذة ونعرض عن النقد والمحاماة عن الحقائق. وما هي الغاية من ذلك؟ هل ترى أنال ثروة ومالا أعيش به كما إذا كنت محاميا في الحقوق يا ترى. ألا وإن حرية النفس في هذه الحياة تحبذ هذه الآراء الجديدة التي تنال الانسانية بها محبوباتها في أميالها بلذة وراحة فكر من دون عراقيل وتهديدات.
هذه العراقيل والتهديدات التي تكدر صفاء المدنية السمحة. وليس من الهين أن نعتبر حياتنا هذه القصيرة مقيدة بقيود الشرايع ومهددة بأخطار الوعيد.
عمانوئيل: يا صاحبي (رمزي) لا يغيب عن درايتك أن الاكتشافات العجيبة والاختراعات العلمية النافعة في لوازم الحياة إنما كانت من إلهيين متدينين قد اتقنوا مبانيهم بالنظريات المحكمة الأساس فلماذا لم تتناول من آراء أولئك الأساتذة وكيف تختار رأيا من دون نقد للآراء الأخرى ولا محاماة عن الحقيقة. لا أذكر ذوي الشعور الراقي ولكن أقول: إن القاصرين من متوحشي السودان وغيرهم إذا اختلفت عليهم الآراء لا يركنون إلى واحد منها إلا بتحسينه ونقد ما عداه بما عندهم من الشعور في التحسين والنقد. نعم المعروف أن الماعز والضأن إذا طفرت إحداهن نهرا طفرت البواقي أيضا ولو على خطر أو عدم رجاء. لا أذكر لك في تنبيهك من غفلتك إلا وقوع الخطأ أو الاضطراب في آراء أساتذتك الذين حبذت مبدأهم وهملجت خلفهم. فإن ديمقراط يقول: إن الجواهر الفردة التي يفترضها افتراضا لها أشكال هندسية. وبخنر يقول: إن جواهرنا الافتراضية أصغر بكثير من جواهر ديمقراط.