الصفحة 283

ومرجع هذا الكلام إلى أن بخنر وأصحابه يخطئون ديمقراط بفرض الأشكال الهندسية لأن ذلك يناقض كونها لا تتجزأ. وديمقراط وليسوبوس وأصحابهم يقولون إن الجواهر الفردة تسبح بحركتها في الخلاء نظرا إلى إمكان الخلاء وعدم الحاجة إلى افتراض شئ آخر. وجاء طمسن وأصحابه فخطأوا ديمقراط وليسوبوس بدعوى إمكان الخلاء وقالوا بامتناع الخلاء فافترضوا الأثير مالئا للخلاء وجعلوا الجواهر الفردة أجزاء من الأثير تدور فيه كالزوابع. وجاء غوستاف لبون ومن اتبعوا آراءه فقالوا بحدوث الجواهر الفردة وإنها نشأت من تكاثف الأثير في قديم الزمان لسبب لا يعرف وإن المادة تنعدم وتكون قوة والقوة تنعدم وتكون أثيرا فخالف الذين قبله في قولهم إن المادة أزلية وأبدية. وأما قولك إن حرية النفس تحبذ إلى أخره. فإنه لا ينبغي لذي الرشد والشرف أن يغفل عن أن النفس لها شؤون.

فإن النفس إن ساد عليها شرف الانسانية ورقي الشعور نهضت بكل همتها لحفظ حريتها من استعباد الجهل الساقط السافل والأميال الشهوانية البهيمية وتجردت جهد وسعها لحماية شرفها ولحفظ مستقبلها من التهديد حتى تثق باطمئنانها من أخطار السقوط ورأت أن المدنية هو الناموس الذي ينتظم به اجتماع البشر في حفظ شرف الانسانية وحقوقها المعقولة. نعم إذا ساد على النفس شهوانيتها البهيمية حبذت الآراء التي تسهل لها اللذات الوقتية وتلهيها بإغفالها عن كل أدب روحي وكل فضيلة تمتاز بها عن البهائم. تلك الآراء التي تمنيها الأمان من أخطار التهديدات المهذبة المكملة. ولكن لتأسف كل الأسف أن حريتها الشهوانية المطلقة على مبدأ الآراء المذكورة هي معرقلة بالسلطة السياسية والقوانين البشرية مهما تساهلت. وإما دعارة الفوضوية ووحشيتها وهمجيتها فإن السياسات ضامنة لقطع الآمال منها فلا تمن نفسك بمدنية فوضوية موهومة تصفي لك اللذات على مبدأ الآراء المادية براحة وبدون عراقيل ولا خطر تهديد. فإنك لا بد لك من أن تخضع لنير السلطة وترزح شهوانيتك تحت قوانين الشرف والمدنية فانظر ما هو الأحسن هل هو التهذب بشرف القوانين الإلهية المكملة لك روحيا وأدبيا واجتماعيا أو هو التحرير بين الانهماك بالملاذ الشهوانية التي مناك بصفائها (ابيقورس) وبين الحذر من رادع القوانين البشرية في النظام المدني.

الدكتور: يا للأسف إن كلام رمزي وأمثاله من العصريين وأحوالهم وأفعالهم لتمثل للناس أن اختيار المذهب المادي لم يكن على أساس علمي بل على أساس شهواني وفرار باللذات الأهوائية والأخلاق البهيمية من سيادة الشرايع الإلهية وحدودها كفرار عبد يغمض عينية ويسد أذنيه ويقول لا أرى لي مولى ولا أسمع دعوته ولا تهديده فها أنا ليس لي مولي. أنا حر في أميال نفسي بلذة وراحة فكر قد أمنت من العراقيل والتهديد لا أفتح عيني ولا أذني إن شرايع السيد تكدر لذاتي.

عمانوئيل: لا يا أيها الدكتور إن هذا الذي تأسف منه ليس رأيا خصوصيا لرمزي وأمثاله من العصريين بل هو كلمة زعيم المذهب المادي (أبيقورس) فإنه قال: (إن راحة البال التي تقوم بها سعادة الانسان هي في اضطراب دائم من جري الريب الواقع من نسبة الانسان إلى الخليقة وإلى الله) - وإني لأحتشم محضر الدكتور من زيادة البيان.


الصفحة 284

الوجوب والامكان والامتناع

الدكتور: يا رمزي لنلتفت إلى كلمتك ونقدك موافقتي للشيخ في مبادئ الامكان والامتناع فهل تريد أن أهتك شرف وجداني وأتجاهل عن ناموس الفطرة الشعورية. ألا ترى أن الطفل يلتقم صفحة من ثدي أمه ثم يعدل سريعا حتى إذا التقم حلمة الثدي استمر على الرضاع فيجري في ذلك على مبدأ الامتناع والامكان. إذا أريت الطفل شيئا وأطعمته بأنه مرغوبه فإنه يتأمل فيه وينظر هل يمكن أن يكون هو ذلك المرغوب لكي يرجو أخذه أو يجب أن يكون هو فيطلبه أو يمتنع أن يكون هو فيعرض عنه وهكذا حاله إذا أريته شيئا وخوفته بأنه مما يؤذيه وعلى ذلك يجري شعور الحيوانات فيما ترغب فيه وتحذر منه. وإنك أنت بذاتك اعتمدت في كلامك وبيانك على الامكان والوجوب والامتناع في مثالك بالصوف والچوخ فإن الوجوب هو معنى قولك (ومن الضروري يكون) والامكان هو معنى قولك (ميسور) وإن ديمقراط وأصحابه بنوا نظرياتهم على إمكان الخلاء و (طمسن) وأصحابه بنوا نظرياتهم في الأثير على امتناع الخلاء. فهل لك يا رمزي عداوة شخصية مع الألفاظ والامكان والوجوب والامتناع. أفلا يلزم الانسان أن يكون حر العلم والكلام. رمزي. إنك إذا سمعت كلام الإلهيين في الإلهيات تضجر كثيرا من قولهم ممكن. واجب. ممتنع. إمكان عام. إمكان خاص. وجوب بالذات. وجوب بالعرض. إمتناع بالذات. إمتناع بالعرض. أما إني أضجر كثيرا إذ يكررون هذه الألفاظ. أما عندهم غير هذا يا ترى؟

عمانوئيل: إن لكل صناعة ولكل فن مواضيع وأدوات خاصة ولا بد لمن يتكلم في مباحث تلك الصناعة وعملياتها أن يكثر من ذكر آلاتها حسب اقتضاء العمليات فالنجار إذا تكلم في نجارته يكثر في كلامه. خشب. مسمار. فاس. منشار كبير. منشار متوسط. منشار صغير. منشار مظهر. مثقب كبير. مثقب متوسط. مثقب صغير. مثقب برغي. مبرد. رندة كبيرة. رندة صغيرة. وهكذا ولا تسمعه يقول في عملية النجارة سدا. لحمة. فحم. منفاخ - والكيمياوي إذا تكلم في العمليات الكيمياوية يكثر في كلامه تكرار قوله أكسجين. هيدروجين. نتروجين. كلور. كربون. صوديوم فصفور. غاز وهكذا ولا تسمعه يقول في عمليته بنك حوالة سعر القماش شعب مملكة. وزارة.

فاسمح لي إذا قلت إن البدوي الوحشي يضجر إذا حضر كلام النجار أو الكيمياوي في عملياته وسامحني إذا قلت إن الكيمياوي إذا أعرض عن فنه ومظهر علمه وكنز ثروته لمستقبلة وحبذا أن يضيع حياته الثمينة في مراسح اللهو ورقص الانسان وإدمان المشروبات وأحاديث الغرام ولذات المغازلة فإنه يضجر ويتألم إذا سمع الكيمياويين يتكلمون في، مواضيع فنهم ويقول ها قد كدروا لذتي بهذه الألفاظ الفارغة التي تهدد الأنس واللذة بتذكار سجون المعامل. يا رمزي إن المتكلمين في الإلهيات لا غرض لهم بخصوصيات الموجودات وإنما يجعلونها بأجمعها جملة واحدة في معمل النظر لكي يحللوها من طريق الامكان والوجوب والامتناع إلى المعلول وعلته الأزلية وكيفية التعليل وخواص العلة الأزلية والفاعل الأول. فالإمكان والوجوب والامتناع هي الآلات الثمينة في هذا التحليل فلا تضجر إذا فحصوها من حيث الذاتية والعرضية ولا تضجر من تكرار ذكرها فإنها هي الآلات الدخيلة في هذه العملية: هل رأيت كتاب أنوار الهدى ص 5 و 6 و 30 و 31 فإنه قد تعرض لمثل كلامك في الامكان والوجوب والامتناع. رمزي: لا. لم أره ولكني لست بعاطل عن مطالعة الكتب فإني كثيرا ما أطالع الجرائد الوطنية وكتب الروايات العصرية.

عمانوئيل: أسفا وأنت شرقي تطلب مجد الشرق ولا تنظر إلى كتاب شرقي عالم قد أودع فيه نظريات راقية ونقودا ثمينة وهو مبذول مجانا. هلا تطالعه للنقد عليه أقلا لو كنت تقدر. الشيخ: أيها الدكتور ألا نعود إلى كلامنا على المادة والأثير لأكشف لك عن حدوثها وامتناع أزليتها بحيث لا يصح الوقوف عليها بالتعليل. أعيان وتجار: العفو يا شيخ اسمح لنا بأن نقول كلمة ننفث بها عن قلوب حرا تتقلب على جمر الأسف والغيظ. إنا أناس مسلمون في بلاد الاسلام ولنا الأمل الوطيد بأن علمائنا يحمون اعتقاداتنا وديانتنا من عوادي الشبهات بالبيان الواضح المقنع ويدافعون عن الاسلام من تصدى للنقد عليه وحاول بإلقاء الشبهات والتشكيكات أن يبدل آدابه وشرايعه وأخلاق المسلمين وها هو الخطر والتهديد للاسلام بالنقود والردود محدق بنا.


الصفحة 285
وها هي البواخر تحمل إلى بلادنا من مصر وبيروت في كل شهر ألوفا من الكتب التي وجهت نيرانها إلى الاسلام وكتابه ونبيه عداء. يكفيك منها كتاب هاشم العربي مع تذييلاته. وكتاب الهداية المطبوع بمعرفة المرسلين الأمريكان ولا حاجة لذكر الكتب الصغار ككتاب تعليم العلماء وكتاب حسن الايجاز وكتاب أبحاث المجتهدين وكتاب رحلة الغريب ابن العجيب وغيرها من الكتب ولا زال المبشرون اليسوعيون يلقون علينا الشبهات بحرية تامة ونشاط. وهذا يهون بالنسبة إلى انتشار كتاب شبلي شميل في تأييد المذهب المادي والتنديد بالإلهيين ويعضده دخائل المقتطف ويؤيده غمزات بعض العصريين بتحسين مضامينه والرومانات بتلويحها وهناك أوبئة أخرى (قد تمشت في مفاصلها كتمشي النار في الفحم) يا شيخ إن أولادنا وشباننا كادت الشبهات أن تخرجهم من أيدينا فتراهم كالرمل السيال يثورون مع كل زوبعة.

هب إنا نعلم أن هذه الشبهات مغالطات لا مساس لها بالحقيقة لكن ماذا نصنع فيما لا نهتدي السبيل إلى دفعه وماذا نصنع بما يعلق بأذهان البسطاء والأغرار وماذا نصنع مع أولادنا وشباننا المغرورين فهل من الهين أن يقع هذا كله وأنتم ساكتون. أم تقولون لا ندري بذلك. لماذا لا تدرون؟ هل يرجى جلاء هذا الغبار وتمحيص هذه التمويه وشفاء هذا الداء ودفاع هذا التهاجم إلا ببركة علمكم. ولنا الثقة التامة بأن فيكم من يداوي هذا الداء في أسرع وقت بأوضح بيان يبتهج به الشعور ويثبت به اليقين بدلالة الحقيقة والعلم الراسخ فماذا يمنعكم والحرية مطلقة والارشاد واجب فإن مكالمتك ومكالمات عمانوئيل قد جلت عنا ظلمات كانت متراكمة علينا وأشعت في أفكارنا أنوارا تجلو لنا الحقائق رأي العين وتلاشى الشك باليقين. فهل من الجائز أن تحجبوا عنا هذه الإفادات وتتركونا نخبط في ليل الشكوك والشبهات فتذهب مساعي الرسول الكريم وأئمة المسلمين في الهدى ضياعا. الشيخ: يا إخواننا أما أولادكم وشبابكم فإنا تتبعنا أحوالهم فلم نجد عندهم صورة شبهة تزلزلوا من أجلها ولا مغالطة علمية تليق أن تشوش أذهانهم ولم نجد عندهم إلا الانهماك بالأفكار الغربية الجديدة من دون شعور علمي ولا حذق صناعي وغاية ما عند أحدهم أن يسمي نفسه متنورا وغاية بضاعته في ذلك أنه يطالع بعض الجرائد والمجلات فيتلقى منها الفتاوى بالتسليم سطحيا وليس له من علمياتها وصناعياتها إلا قراءة الألفاظ.

ومهما تكلمه لا يكون جوابه في الاحتجاج لخيالاته إلا الاطراء برقي الغرب والتوبيخ لانحطاط الشرق من دون أن يكون له من رقي الغرب. نصيب. يسمي طفراته في اتباع الأهواء شجاعة أدبية. وتقحماته في الشهوانية وخلع القيود تنورا. وإنا نحييه بكل ترحيب إذا طلب حل مشكلاته بالبيان العلمي والحجة الأدبية. وله ما يشاء من الملاينة. يا إخواننا وأما عتابكم لنا على السكوت فنقول لكم قد كتب الشيخ رحمة الله الهندي سابقا كتاب (إظهار الحق) وأجاد فيه وأفاد وكتب في هذا العصر (كتاب الهدى. ورسالة التوحيد والتثليث. وكتاب نصائح الهدى. وكتاب أنوار الهدى) وها هي مطبوعة فهل تدرون بها. وهل رأيتموها. وهل يوجد عندكم منها عشر معشار ما عندكم من الكتب الأجنبية العصرية في الروايات الرومانية. وهناك كتاب آخر هو أعم نفعا وأقرب لفهم العموم قد جاراهم في محاوراتهم المألوفة لهم. وقد تعرض للأديان وكتبها. ونظريات الماديين وكلماتهم وذكر معارف القرآن الكريم، وحججه، وأخلاقه، وآدابه، وصلاح شرايعه، ومدنيته، وإصلاحه، ووجوه إعجازه،. بطرز يؤنس المطالع وترتاح إليه النفس. ولكن مضت مدة وكاتبه وأصحابه يطلبون من يطبعه لنفسه طبعا تجاريا ولو باشتراك جماعة ولو بعد النظر إليه واستحسانه. ينادون بذلك في نصرة الدين فلا يجدون إلا نفوسا لاهية أو مواعيد كاذبة (عاد الدين غريبا) - نعم يسر الله طبعه بهمة العلماء العاملين واشتراكهم مع قليل من المتدينين الذين ربطتهم التقوى بأهل العلم جزاهم الله خير الجزاء. وفوق ذلك إنكم تعاتبوننا. سامحنا الله وإياكم ووفقنا لما يحب ويرضى يا إخواننا وهذا الحال مما يزيد البصيرة في كرامة دين الاسلام وعلو مقامه وبهجة إشراقه بنور الحق ووضوح الحجة. حيث أنه مع تقاعد المسلمين عن نصره يتقدم في سيره هذا التقدم الباهر على رغم المعاثر الأهوائية.

عمانوئيل: عد أيها الشيخ إلى كلامك مع الدكتور في حدوث المادة وإنه لا يصح الوقوف على الجواهر القردة لو أمكن فرضها ولم يبرهن العلم على امتناعها. وإنه لا يصح الوقوف بالتعليل أيضا على الأثير لو ثبت فرضه. الشيخ: نعم ولبيان ما نقوله في ذلك وجوه (الأول) إن الماديين قد اضطرهم تعليلهم للكائنات إلى أن يثبتوا للجواهر الفردة حركات مختلفة الوضع والمحل، وقوى مختلفة. وذلك يستلزم تركيبها من عنصر تشترك به في الجوهرية وعناصر تميز كل واحد عن الآخر باقتضاء المسير في الطريق الخاص به والحركة الخاصة به فيبطل كونها أجزاء لا تتجزأ من كل وجه بل تكون مركبة محتاجة إلى فاعل يؤلف أجزاءها.

وينتقل الكلام في التعليل إلى ذلك الفاعل فإن كان فاعلا بطبيعته لزم أن يكون مركبا أيضا يعلل جزء منه جزء الجواهر الذي تشترك به في الجوهرية ويعلل جز منه مميزات الجواهر بعضها عن بعض. فينتقل الكلام في تعليل هذا. وهكذا وإن كان ذلك الفاعل فاعلا بإرادته انتقل الكلام في التعليل إليه وعلى كل حال لا يصح الوقوف على الجواهر الفردة في التعليل. الدكتور: كيف قالوا بأن للجواهر حركات مختلفة الوضع والمحل، وقوى مختلفة. الشيخ. المعروف عن ديمقراط أن الجواهر الفردة لها بنظر بعضها إلى بعض حركة دائرة وحركة اصطدام مستقيمة. وعن (لوسيبوس) أنها تتحرك في الفراغ منذ الأزل والأشياء تظهر وتخفى بحسب ما تجتمع وتنفصل.


الصفحة 286
وعن (إبيقورس) أن الجواهر متحركة دائما في الخلاء الذي لا نهاية له بانحراف بعضها على موازاة بعفر بحيث تصطدم وتحدث حركة لولبية مخروطية كحركة الزوابع فتؤدي إلى تراكيب عديدة وصور متنوعة ومتغيرة. فيلزم من قول لوسيبوس وابيقورس أن تكون حركة الجواهر مختلفة الوضع لأن الحركة لو كانت واحدة في الجهة والسرعة لما اصطدمت الجواهر أبدا. هذا زيادة على كون الحركات مختلفة المحل والمسرى بحيث لا بد من تعليل اختلافها باختلاف مميزات الجواهر بعضها عن بعض. وقال (بخنر) أما حركة الجواهر عندنا فمن تضاد قوتي الجذب والدفع الذين نعتبرهما غريزتين في الجواهر. فنقول: إن أراد أن في واحد منها قوة الجذب وفي الآخر قوة الدفع لزمه تركب الجواهر المذكورة من جزء تشترك به الجواهر في الجوهرية ومن أجزاء تختلف غرائزها باقتضاء قوة الجذب وباقتضاء قوة الدفع.

وإن أراد أن الجوهر الواحد يشتمل على القوتين لزمه تركب الجواهر وانقسامها وتجزيتها إلى أجزاء بعضها يكون قطبه لقوة الدفع وبعضها يكون قطبه لقز الجذب. هذا مع غض النظر عن مباحث تجري ههنا من حيث تكافؤ القوى واختلافها. وحاصل الكلام أن الجواهر الفردة التي لا تتجزأ لو أمكن وجودها في نفسها (وهو مستحيل كما بينه العلم) لكانت باعتبار هذه الأقوال مركبة ذات أجزاء في الماهية والصورة تحتاج إلى علة تؤلف أجزاءها. وتجريها في حركاتها المختلفة، وتعين لها أمكنتها المختلفة. فلينظر إذن في حال هذه العلة ولا يصح لنا أن نقف في التعليل على الجواهر وقوفا علميا.

وأما الأثير فإنه منقسم إلى أجزاء يختص كل منها بمكان غير ما يختص به الآخر فإن كان هذا الاختصاص من طبع الجزء لزم أن يكون كل جزء مركب في الماهية من شئ تشترك به جميع الأجزاء في الأثيرية ومن شئ يقتضي بطبعه الحلول في المكان الخاص به فأجزاء الأثير إذن مركبة في الماهية تحتاج إلى علة لتأليف ماهيتها، زيادة على كونه في الصورة مركبا ذا أجزاء يحتاج إلى علة تؤلف أجزاءه الصورية. وإن كان اختصاص كل جزء من الأثير ناشئا من فعل فاعل هو غير طبع الأجزاء لزم الانتقال بالتعليل إلى ذلك الفاعل والبحث عنه. ثم إن المنقول من رأي (طمسن) هو إن الجواهر الفردة إنما هي حلقات زوبعية في الأثير أو الهيولى فالعالم مؤلف من سائل تام الاتصال مالئ للخلاء ومن هذه الحلقات الزوبعية المنتشرة وهي ليست سوى أجزاء هذا السائل المتحركة فيه. فنقول هذه الحلقات الزوبعية التي هي أجزاء السائل هل هي باقية على طبيعة السائل وصورته حينما هي جواهر فردة أم تغيرت صورتها؟

فإن تغيرت قلنا من هو وما هو الذي غيرها؟ لا يمكن أن يقال غيرها طبع الأثير أي أن طبيعة الأثير اقتضت أن تتغير بعض أجزائه إلى الجواهر الفردة وزابعها حينما لم يكن هناك كائن غير الأثير. كيف يمكن أن يقال ذلك وهو يستلزم أن يتغير الأثير بطبعه إلى الجواهر الفردة دفعة واحدة ويكون زوبعة واحدة والذي يفرضونه خلافه. وإن لم تتغير بل كانت على صورة الأثير وطبعه قلنا من هو وما هو الذي حركها؟ لا يمكن أن يقال حركها طبع الأثير. كيف يمكن وهو يستلزم أن يتحرك الأثير بأجمعه دفعة واحدة ويكون زوبعة واحدة والذي يفرضونه خلافه. أفلا يستلزم أيضا أن يكون العالم كله كتلة واحدة من نوع واحد لأن علة الحركة على الفرض واحدة بسيطة؟ وإن قالوا إن المغير والمحول هو غير الأثير قلنا فليجر النظر والتعليل في هذا المغير أو المحرك. هذا والمعقول عن رأي الدكتور (غوستاف لبون) أن الأثير تكاثف في الأزمان البعيدة بسبب لا نعلمه فصار مادة صلبة) أفلا يلزم النظر إلى تعليل هذا السبب الذي تكاثف به الأثير. هل تكاثف كل الأثير فلم يبق أثير. أم تكاثف بعضه؟

رمزي: يا شيخ ليس لك أن تحكم في مجلسك وأنت على كرسيك وتقول. (يلزم أن يكون هذا مركب الماهية ويلزم أن يكون هذا مركب الماهية) كما قلت في الجواهر والأثير. فإن الحكم بتركب الماهية إنما يقبل إذا شهدت به بوتقة الكيمياوي. ولا يقبل من الجالس على كرسي النظر المجرد.


الصفحة 287
الشيخ: إذا قيل لك عن قطعتين من الذهب بوزن واحد غطست إحداهما في إناء فيه ماء فصعد الماء إلى درجة معينة ثم أخرجت القطعة وغطست الأخرى فيه فارتفع الماء إلى درجة أعلى من السابقة فماذا تقول في القطعة الثانية. رمزي: أقول إنها مركبة من الذهب ومعدن آخر أخف منه في الوزن.

الشيخ: كيف شهدت باختلاف عناصر القطعة وحكمت بتركبها وأنت على كرسيك هذا. هل كرسيك بوتقة كيماوي.

رمزي: الشعور العلمي يقضي قضاءه ويحكم حكمه سواء كان على الكراسي أو في السيارات أو في المعامل. الشيخ: إذن فاسمح لشعوري أن يبدي نظرياته على الكرسي كما سمحت لشعورك أن يقضي قضاءه ويحكم حكمه. رمزي: إن الحركة هي التي كونت الجواهر الفردة في وسط الأثير وبها تتكون الصور والأشياء. وليس للحركة سبب سوى الحركة نفسها. فالحركة أزلية أبدية. عمانوئيل. إن كانت الحركة كونت الجواهر الفردة من الأثير فقد تغير كيان الأثير فلا يكون أزليا واجب الوجود. وإن قلت إن الحركة كونت الجواهر بعد عدمها لا عن مادة موجودة فقد أبطلت قول أصحابك الماديين بأنه لا يعقل حدوث شئ موجود بدون مادة موجودة وهدمت أساس ماديتهم. وأيضا إن الحركة أكوان متتابعة، ينعدم كون ويحدث بعده كون آخر. وهكذا. فما هو الأزلي الأبدي. هل هو الكون المنعدم أو هو الكون الحادث بعده الذي لا بد من أن ينعدم. رمزي: الحركة لها وجود دائم. ألا ترى أنك إذا أدرت شعلة النار إدارة سريعة قوية فإنها تحدث منها دائرة نارية متصلة.

عمانوئيل: يا رمزي يا صاحبي إن هذا الخيال الوهمي لا يموه إلا بقاء المتحرك في الأمكنة التي تحول عنها. وأما تبدل الأكوان وانعدام الحركة السابقة فهو مفروض كلامك في الإدارة القوية السريعة. ومع ذلك فإنك كأنك لم تسمع اتفاق العلم والوجدان من المتقدمين والمتأخرين على أن هذه الدائرة وهمية لا وجود لها ولا حقيقة. فالمتقدمون عللوا خيال هذه الدائرة ووهمها بوجود الحس المشترك الذي يحفظ خيال المحسوس بعد زواله عن آلة حسه.

والمتأخرون عللوه بأن الصورة التي ترتسم على الطبقة الشبكية في العين لا تزول عن الشبكة بزوال الشبح بل تبقى نحو عشر الثانية. هذا كله هين ولكن يا رمزي لم تضطهد العلم وتشوه جمال التعليل. هل سمعت قائلا يقول ليس للجدار سبب إلا الجدار نفسه. ليس للشئ سبب إلا الشئ نفسه. ليس للضحك سبب إلا الضحك نفسه؟؟ لا، لا تزعج العلم وأهله بمثل هذا الكلام. قل هذا الشئ الحادث لا علة له واسترح من حيث تعب أهل العلم. رمزي: هذا الكلام الذي قلته رأيته في الكتب المطبوعة للماديين. عمانوئيل. أقول لمن كتب هذا الكلام كما قلت لك.


الصفحة 288

لا يوقف بالتعليل إلا على واجب الوجود

الدكتور: يا شيخ ما هو الوجه الثاني المانع من الوقوف بالتعليل على الجواهر والأثير. الشيخ. هل يمكن أن نقف بالتعليل موقفا علميا على شئ نفرضه محتاجا في وجوده إلى علة. وهل يمكن أن نحكم بأزلية هذا الشئ مع احتياجه إلى العلة أو العلل الكثيرة السابقة عليه. هل عند تاريخ يدلنا على الأزلية. إذن ما هو مستندنا لدعوى الأزلية. هل هذه الدعوى مقدسة لا مسؤولية عليها؟ الدكتور: وأنت يا شيخ إذا أردت أن تصف شيئا بالأزلية وأنه العلة لجميع الكائنات فما هو استنادك في دعوى الأزلية. الشيخ: إذا أوصلني السير العلمي والدرس في كيان الكائنات إلى ما هو واجب الوجود لذاته، وغير محتاج في وجوده وكيانه إلى غيره فحينئذ أعترف له بالأزلية بشرط أن لا يكون يتأثر بغيره أو يتغير عن كيانه الأزلي. فإن الأزلية ملزومة للأبدية كما هو مسلم ومقرر في العلم في آرائه القديمة والحديثة. الدكتور: لماذا لا تقول. إن الجواهر الفردة واجبة الوجود لذاتها وإن الأثير واجب الوجوب لذاته.

الجواهر الفردة لا تكون واجبة الوجود

الشيخ: قد ذكرنا صحيفة 287 واحدا من أدلة العلم على امتناع الجواهر الفردة أعني الأجزاء التي لا يمكن عقلا تجزيها وهناك أيضا أدلة متعددة ترجع كلها إلى الاعتبار بالمحسوسات. وهب أنا أغمضنا النظر عن ذلك فما هو الدليل الذي يضطرنا إلى الاعتراف بوجود الجواهر الفردة مع أنها تفرض على نحو لا يدركها الحس. الدكتور: إن العلم بطبيعته وكيمياويته يضطرنا إلى الاعتراف بالجواهر الفردة. فإن الهيدروجين يتركب مع الأكسجين على نسبة اثنين إلى واحد فيكونان ماء. والكلور يتركب مع الصوديوم بنسبة خمسة وثلاثين ونصف إلى ثلاثة وعشرين فيكونان ملح الطعام. وأيضا لو لم يكن الجسم مؤلفا من الجواهر الفردة لم يمكن تعليل الخالات الطبيعية كالمسامية والانضغاط والتمدد والمرونة ونحو ذلك فلا بد من التسليم بالجواهر الفردة.

الشيخ: عجبا هل ترى الكيمياوي يعد الجواهر الفردة ويأخذ من حسابها التفصيلي وعددها هذه النسب التي تذكرها؟ فيعتمد على عده للجواهر الفردة في تركيبه وتحليله؟ ويقول هذه خمسة وثلاثون ونصف جوهر فرد من الكلور وهذه اثنان وعشرون جوهرا فردا من الصوديوم ويعدها واحدا بعد واحد؟ هل سمعت هذا من أحد من أهل الدنيا من الأولين والآخرين. ألا، وإن الكيمياوي إنما يأخذ النسبة بالوزن. وأما المزج والتركب فيكفي فيهما اختلاط أصغر الدقائق وتأثير بعضها ببعض تأثيرا كيمياويا. وأما تعليل الحالات الطبيعية المذكورة كالمسامية والانضغاط ونحوها فيكفي فيه الانفصال بين أصغر دقائق الجسم فإن الدقيقة تكون أصغر من جزء من مائة جزء من عضو من أعضاء الحيوان الذي قيل أن ملايين منه تعيش في نقطة الماء الذي يحمله رأس إبرة. أو جزء من مائة جزء من طعمة غذاء يتناوله هذا الحيوان. فمن الغريب في العلم أن الرأي الجوهري يدعي أنه ينتهي انقسام الجسم إلى حد محدود وهو الجزء الذي لا يتجزأ مع اعترافهم بأن التجزء لم ينته بالتجربة.


الصفحة 289
رمزي: إن العلم قد لوصل إلى استعلام أوزان الجواهر الفردة من كثير من العناصر وقاس نسبة الجوهر الفرد من هذا العنصر مع وزن الجوهر الفرد من العنصر الآخر. وأوضح أن الجوهر الفرد من الهيدروجين إذا كان وزنه واحدا فوزن الجوهر الفرد من الأوكسجين يكون ستة عشر، ومن النتروجين أربعة عشر، ومن الصوديوم ثلاثة وعشرين، ومن الكلور خمسة وثلاثين ونصفا، ومن الماء العذب الصافي المقطر اثنين وعشرين إلا عشرا ونصف العشر. وقد ذكروا القياس في جميع العناصر المشهورة بحسب جواهرها الفردة، ورسموا لذلك جداول في الوزن الجوهري.

عمانوئيل: عجبا هل قال واحد من أهل العلم الأولين والآخرين إنه وزن جوهرا فردا منفردا من كل عنصر وقاس وزن كل جوهر فرد منفرد مع الآخر؟ ألم تقرأ في الطبيعيات الابتدائية أن الجوهر الفرد لا يكاد يدركه التصور وإنما هو افتراض محض فكيف تقول قولك هذا؟ أفلا تدري أنهم يأخذون العناصر متساوية الحجم فيجدونها مختلفة الوزن في التركيب الكيمياوي فيزعمون أن جواهرها الفردة متساوية في العدد وبناء على هذا الزعم يجعلون التفاوت بأوزان الجواهر الفردة على نسبة يجعلون فيها الجوهر الفرد من الهيدروجين واحدا ويقيسون عليه وبهذا القياس يفسرون أحلام الجواهر الفردة ويجعلون لها أوزانا مختلفة.

عمانوئيل: أيها الدكتور إذا مزجنا مثقالا من ملح الطعام مع مائة مثقال من الماء المصفى وصار الماء مالحا فهل شاعت دقائق الملح في جميع الماء وانقسمت دقائقه على حسب دقائق الماء. الدكتور. نعم والتجربة خير شاهد.

عمانوئيل: هل يمكن للتصور أن يلحظ دقيقة من الملح تعادل عشرة آلاف جوهر فرد.

الدكتور: نعم لا بد من ذلك فإن صغر الجوهر الفرد إذا لم يمنع من تصوره وفرض وجوده وتأسيس المباني العلمية فكيف لا يمكن أن نتصور ما هو أكبر بخمسة آلاف مرة وكيف لا يمكن أن نحقق وجوده.

عمانوئيل: إذا أخذنا دقيقة ملح تعادل عشرة آلاف جوهر فرد ومزجناها في ماء يعادل هذه الدقيقة مائة مرة فإلى كم دقيقة انقسمت هذه الدقيقة.


الصفحة 290
الدكتور: تنقسم إلى مائة دقيقة كل واحدة تعادل مائة جوهر فرد. عمانوئيل. دقيقة الملح التي تعادل مائة جوهر فرد. قل لي كم جوهر فرد يكون كلورها وكم جوهر فرد يكون صوديومها بحساب أن النسبة في كلور الملح إلى صوديومه كنسبة خمسة وثلاثين ونصف إلى ثلاثة وعشرين أليس يجب في هذا لعملية التجريبية أن يكون في جواهر الكلور جزء وكسر من جواهره الفردة وفي جواهر الصوديوم جزء وكسر من جواهره الفردة. يا حضرة الدكتور إن العلم التجريبي يبين لنا نسبة أجزاء المركبات بعضها من بعض والتجارب توضح لنا انقسام الدقائق فيما هو أكثر منها. والتصور بهذا النحو من العمليات المختلفة الأشكال يتكفل لنا بقسمة كل ما تفرضونه جوهرا فردا إلى الكسور البسيطة والمركبة ويبطل فرض الجوهر الذي لا يتجزأ ويحكم بامتناع فرضه إذن فكيف تقول إن العلم الطبيعي يضطر إلى الاعتراف بالجواهر الفردة نعم يضطر إلى الاعتراف بقبول الدقائق للصغر العجيب والانقسام المدهش كما قيل في خيوط نسيج العنكبوت وانقسام قمحة من (الستركنين) في مقدار ألف وسبعمائة وخمسين ألف قمحة من الماء. ومقدار من الفضة في ملايين الملايين من أمثاله من الحامض النتريك.

الشيخ. لا شك أنا نرى في العالم في حيوانه ونباته وجماده أنواعا مختلفة وماهيات متباينة. مني، ودم، ولحم، وعظم، وعصب، وعروق، وأنسجة، وشعر، وصوف، وريش، إلى غير لك من أجزاء الحيوان المختلفة في الماهيات والألوان، والخواص وخشب، وأوراق، وأوراد وثمار مختلفة الألوان والخواص والماهيات وحجر مختلف بالألوان والخواص، ورمل، وتراب مختلفة الألوان ومعادن متباينة الماهيات مختلفة الألوان والخواص فأسألك أيها الدكتور هنا لكشف الحقيقة سؤالات ثلاثة. السؤال الأول. هل الجواهر الفردة لكل من هذه الأنواع كانت من الأزل على صفات النوع وخواصه فجواهر المني مني من الأزل، وجواهر الدم دم، وجواهر اللحم لحم. وهكذا بحيث تكون صفات الجواهر وماهياتها وخواصها متباينة منذ الأزل؟

السؤال الثاني: هل هذه الجواهر منذ الأزل وإلى الأبد هي على ما هي واحدة وصفة واحدة وخاصية واحدة لم تختلف ولم تتغير لا في الأزل ولا في الأبد لا في ماهيتها ولا صورتها ولا خواصها. السؤال الثالث: هل هذه الجواهر منذ الأزل على ماهية واحدة وصفات واحدة ولكنها بالحركة وأعمال الطبيعة تتغير ماهياتها وتتبادل صفاتها وخواصها مثلا تكون ترابا ثم تكون نباتا ثم يأكله الطير فتكون لحما ثم يأكله الانسان فتكون دما ثم تتحول منيا. وهكذا. الدكتور: ماذا تفيدك هذه السؤالات. إن أصحابنا يقولون إن الجواهر لا يلحقها تغير طبيعي ولا كيمياوي. الشيخ: ماذا يقول أصحابك في الجوهر الفرد هل يقولون بأنه يتغير عن كيانه الأزلي وخصائصه الأزلية؟ الدكتور: يقولون إن لكل جوهر من الجواهر شكلا ولونا وثقلا ونحوها وإنها تبقى على حالها إلى الأبد فلا يلحقها تغير طبيعي ولا كيمياوي.

الشيخ. هل يقول أصحابك إن في المادة والعناصر شئ موجود غير الجواهر الفردة. الدكتور: لا. ليس المادة الموجودة والعناصر إلا مجموع من الجواهر الفردة. الشيخ: أما قولك بأن لكل جوهر من الجواهر شكلا فيلزمه الاعتراف بأن الجواهر الفردة تتجزأ بالقسمة وهو واضح فيبطل قولكم إن الجواهر الفرد هو الجزء الذي لا يتجزأ. وأما قولكم إن لكم منها لونا وثقلا ونحوها وإنها تبقى على حالها إلى الأبد فلا يلحقها تغير طبيعي ولا كيمياوي فهو معارض بالعلم والوجدان واعترافكم. فإن من واضحات العلم والوجدان واعترافات أصحابك أن العناصر عند تركبها تفقد خواصها الأصلية وتكتسب خواص أخرى قد لا يكون بينها وبين الخواص الأولى علاقة ولا نسبة. فإن الكلور غاز سام والصوديوم جامد سريع الاشتعال بالماء الساخن ومن تركبهما يحصل ملح الطعام المصلح. ومن تحليل هذا الملح المصلح يحصل الغاز السام والجامد الذي يشتعل. وإن روح الملح سام للغاية وكذا الصودا الكاوية ومن مزجهما وإحمائهما يتولد الماء والملح وهو القوام في نفع الانسان لحياته.

وأمثلة هذا كثيرة وكلها تشهد بتغير الجواهر عن كيانها الأول وكيانها الثاني وهكذا مهما تواردت عليها الأعمال الكيمياوية. ودع ما نشاهده من التغير بأعمال الطبيعة مما لا يحصى بل عليه جرى ناموس الكون في جميع الآنات. انظر إلى مادة نشوء الانسان وأمثاله من الحيوان في الرحم سواء قلنا إن تلك المادة هي مني الذكر أو بيضة الأنثى. وتأمل واحسب كم يلحق أجزاء تلك المادة من التغيرات إذ تصير دما ولحما وعضاما ومخا وعصبا وأوردة وعروقا وعضلات وجلدا وشعرا وصوفا وأظفارا بأوصاف مختلفة وخواص مختلفة وألوان متعددة. وانظر إلى غذاء الانسان والحيوان إذ يتغير ويصير جزءا من الحيوان من أحد هذه الأجزاء المذكورة ثم يتحلل بالتبادل ويغير بتغيرات أخرى لا تحصى. ثم أنظر إلى بيضة الطير حينما ليس فيها إلا مايع أبيض ومايع أصفر فإذا بها تنفلق عن طير له أعضاء مختلفة وأجزاء متنوعة وألوان كثيرة مختلفة تترقى إلى ألوان ريش الطواويس. وانظر إلى هذه الحيوانات إذا ماتت كيف تتبدل أجزاؤها وتتبادل عليها التغيرات الكثيرة. وانظر إلى النبات من أول نشئه إلى أحوال كبره وورقه وورده وثمرته وبذره وأحوال فنائه فكم يلحقه من التغيرات والألوان والطعوم والخاصيات. وانظر إلى أحوال الأرض وما يتولد فيها من المعادن والصخور والأحجار وما يلحقها من التغيرات التي لا تحصى. وبالجملة كل ما تشاهد في عالم الماديات لا ينفك عن لحوق التغيرات له بكثرة مدهشة تفوق حد الاحصاء. تلك التغيرات المختلفة الجهات الكثيرة. وعلى قولكم إن عالم الماديات عبارة عن مجاميع من الجواهر الفردة نقول لك إن هذه المجاميع لا زال التغير يتبادل عليها حالا بعد حال فإنا نشاهد أن التغير لا زال يسلبها كيانا ويكسوها غيرها مما لم يكن لها. وهكذا وهكذا. ويقول أصحابك إن قوة الجذب وقوة الدفع غريزتان للجواهر الفردة وإن قوة الجاذبية في جواهر الجامدات أشد منها في السائلات. وفي السائلات أشد منها في الغازات ويلزم أن تكون في الجامدات مختلفة أيضا بمراتب الشدة. فإنه لا بد من أن تكون قوة الجاذبية في جواهر الحديد أشد من قوة الجاذبية في لب السيسبان مثلا وهكذا في نسبة بعض الجامدات إلى بعض.


الصفحة 291
وكذا السائلات. ومن المعلوم أن الأعمال الطبيعية والكيمياوية تحول الغازات إلى سائل وتحول السائل إلى جامد وتحول الجامد من نوع إلى نوع آخر أشد منه جاذبية. وتعمل العكس وتدور على المادة بأعمالها في التحويل طردا وعكسا حلا وتركيبا. فهل يمكن أن يقال ببقاء الكيان الأول للجوهر الفرد مع ما يطرأ من التغيير على قوته الغريزية. هذا التغيير المدهش بتبادله. أيها الدكتور إن الموجود لا بد أن يكون له كيان خاص في وجوده فإذا كان واجب الوجود كان ذلك الكيان واجب الوجود فلا يمكن إذن أن يتغير ذلك الكيان الواجب. إذن فالجوهر المتغير الكيان لا يكون واجب الوجود. الدكتور: لماذا لا نقول إن الأثير الأزلي هو واجب الوجود.

الأثير لا يكون واجب الوجود

الشيخ: الأثير الافتراضي لا يكون واجب الوجود فإن (غوستاف لبون) يقول (إن الأثير تكاثف في القديم بسبب لا نعرفه فصار مادة) فالأثير تغير كيانه إلى المادة المتغيرة على الدوام فلا يكون واجب الوجود. وأما على قول (طمسن) بأن الأثير سائل تام مالئ للخلاء والجواهر الفردة أجزاء ذلك السائل تتحرك فيه بحركات زوبعية فتحدث منها الصور المتنوعة) فنقول إن تلك الجواهر الفردة المتحركة التي هي أجزاء الأثير إن كانت أثيرا متحركا فقد تغير كيان إلى التحرك الزوبعي وتغير أيضا بتغير تلك المتحركات إلى الصور المتنوعة بالتغير الذي لا يحصى على مدى الدهور. وإن قلتم إن الأثير تغير كيانه فصار جواهر فردة متحركة تلحقها التغيرات التي لا تحصى. قلنا إن الذي يتغير كيانه لا يكون واجب الوجود. يا من ينتهي بتعليل الكائنات إلى افتراض الأثير المزعوم. هل عندك طريق في تعليلك لا يستلزم تغير كيان الأثير؟ كلا. لا تجد طريقا. الموجود المادي لا يكون واجب الوجود. ولا يمكن أن يوقف عليه بالتعليل للموجودات موقفا علميا مهما تحركت زوابع الدعاوى وتسلست أنواع المصادرات. الدكتور: هل بقي وجه يمنع من الوقوف بالتعليل على الجواهر الفردة أو الأثير.

موجد هذا الكون المنتظم عالم بغاياته

الشيخ: إن الذين يفترضون الجواهر الفردة أو الأثير يفترضونها عديمة الشعور. والذي يصح الوقوف عليه بالتعليل إنما هو موجد العالم والكائنات. وهذا الموجد الأزلي هو عالم يوجد على الحكمة والغايات المعلومة له. فإن كل ناظر إلى هذا الكون يراه في جميع عوالمه وأنواعه وأطواره وأدواره ومواليده منتظما على نظام فائق متناسب وحكمة باهرة وغايات كبيرة شريفة.


الصفحة 292
وكل جزء منه صغيرا كان أو كبيرا يراه مسخرا للغايات الجليلة معدا للفوائد الكبيرة مستعملا في الآثار الباهرة جاريا على حكمة فائقة. وكلما أمعن النظر وأحسن الجد تجلت له حسب استعداده من الغايات والحكم ما لم يكن يخطر على باله. وها هو العلم قد صار يكشف كل يوم عن أسرار وغايات لم تكن في الخيال. أسرار وغايات يرتاح لها الشعور ويعظمها العلم ويستزيد منها العالم المجد الحر. ألا، وإن الوجدان يحكم بأوليات حكومته وبديهيات قضائه أن الموجد لأمثال هذه الأمور التي تهتفت بغاياتها لا بد من أن يكون عالما بتلك الغايات قد أوجد موجوداته لأعمال غاياتها ونتائج فوائدها التي نعرف منها ما لا يحصى ويكشف العلم في كل حين عما يبهر العقول بحكمته وعظيم فائدة. هذه القطع الصوانية التي وجدها الحفريون في جوف الأرض على هيئة فاس ومنشار وسنان. كيف حكم الوجدان من أهل العلم وسائر الناس بأنها صنعها البشر قبل ألوف من السنين لأجل غاياتها وفوائدها التي كانوا يتصورونها. وهذه موجودات العالم بأجمعها في جميع أدوارها مرتبة على نظام الغايات مستعملة فيها على أتقن الحكمة كيف لا يحكم الوجدان بأنها صنع صانع أنشأها لأعمال غاياتها المعلومة لديه.

إذا وجدنا مدينة ذات شوارع متوازنة وبيوت شامخة وغرف منظمة وآلات للضياء وآلات لتعديل الحر والبرد وطلمبات تقسم الماء بميزان متقن إلى جميع مساكن البلدة ومعاملها وطلمبات تجذب فضلة الماء المتكدر بالعوارض وتأتي به إلى معمل يصفيه ويقذف بطلمبا إلى أخرى إلى طلمبا التقسيم وهكذا وعلى هذا تدوم دورات الماء. ووجدنا فيها تلفونا وتلغرافا ممدودين بأتم الأدوات وأحسن الاتقان. ومقادير وافرة من

قضبان المغناطيس واللوالب والبراغي ولفات من شريط النحاس وصفائح من الحديث اللين. وبطاريات بكؤوسها ومزيجها ومفاتيح وقوابل ورواقم وألواحا معدنية وأعمدة وشريطا وغير ذلك من الأدوات اللازمة. ووجدنا أيضا فونغرافا يعرفنا بكلامه كيف نتكلم بالتلفون وكيف نتخابر بالتلغراف. وكيف نركبهما من أجزائهما وكيف نصلح خللهما. ووجدنا كراسي على كرسي منها عدة نسخ كتب فيها مسائل أصول الهندسة والحساب بخط جيد وإتقان فائق في ترتيبها وأشكالها متساوية الوضع والكتابة والأشكال. وعلى كرسي آخر عدة نسخ كذلك كتب فيها مسائل الهيئة الجديدة وأشكالها. وعلى كرسي آخر عدة نسخ كذلك كتب فيها الفلسفة الطبيعية بأبوابها وأشكالها.

وعلى كرسي آخر عدة نسخ كذلك كتب فيها علم الكيمياء بأبوابه ورسوم أعماله. وعلى كرسي آخر عدة نسخ كذلك كتب فيها علم التشريح وفوائد الأعضاء وأشكال التشريح لكل جزء من أجزاء الحيوان منفردا ومجتمعا بماله من التشعب والانعطاف والاستقامة والاندغام والهيئة وشرح ذلك بالإشارات والبيان الكافي فهل يسمح الوجدان أن تتوهم أو تحتمل أن هذا كله من فعل الطبيعة البكماء بالصدفة العمياء حصل من مجرد حركة الجواهر الفردة وتجمعها على مرور الدهور. فصار مدينة عامرة وبيوتا ومعامل وأمكنة وتلفونا وتلغرافا وفونغرافا وأدواتها وكتبا متعددة على ما وصفناه. حصل هذا كله من دون صنع صانع ولا توسط شعور ولا قصد غاية.

هل يشك ذو شعور بأن هذه التي ذكرناها إنما هي صنع صانع. صنعت لأجل غاياتها التي يقدرها صانعها بعلمه. إذن فهذا العالم المنتظم وموجوداته التي تبهر العلم والعقل بغاياتها الكبيرة المستعملة فيها كيف يقال إنه بتأثير الطبيعة البكماء والصدفة العمياء بلا شعور بغاية ولا حكمة؟!! لماذا لا يقال ذلك فيما ذكرناه من القطع الصوانية. والمدينة وما فيها؟!


الصفحة 293

كرامة القرآن في حججه

يا أصحابنا وإن القرآن الكريم قد احتج على هذا الأمر بنحو العموم ووبخ العقول على غفلتها وغلبة الأوهام على وجدانياتها حيث أنها تقضي في الأمور الجزئية الطفيفة المستحقرة في جنب نظام العالم وتحكم بوجدانها بأن هذه الأمور الجزئية الحقيرة لا بد من أن يكون وجودها بإيجاد عالم بغاياتها أوجدها لأجل الغايات. ومع ذلك يخادعها الوهم في خلقة العالم الكبير وما فيه من الحكم والغايات فقال في الآية الرابعة عشر من سورة الملك المكية: (ألا يعلم من خلق) خالق هذا العالم بالنظام العجيب وموجده على الحكمة الباهرة هل يمكن أن يكون لا يشعر ولا يعلم بغاية خلقه ولم يوجده لأجل غاياته كلا. ولم يكتف في حجته بهذا الاجمال وإن كان كافيا لذوي العقول الحرة.

بل استلفت شعور الانسان إلى وجود لا يغيب عنه ولا يخفى عليه مهما خفيت الأشياء. ذاك هو خلق الانسان ونشؤه وتناسل نوعه وآلات نفعه وخصائص صورته فقال في الآية الخامسة والسادسة والسابعة من سورة الطارق المكية (فلينظر الانسان مم خلق * خلق من ماء دافق * يخرج من بين الصلب والترائب) وقال في الآية السابعة والستين من سورة مريم المكية (أولا يذكر الانسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا) متجليا بهذا الهيكل الانساني الجميل الراقي في حسن الخلقة العجيبة والشعور. وقال في الآية السابعة والثلاثين من سورة القيامة المكية: (ألم يك نطفة من مني يمنى) ويستهان به بالاستمناء باليد وجماع اليائس والزانية وفي اللواط (ثم كان علقة فخلق فسوى)(1) بعد أن كان علقة لا صورة لها إلا صورة الدم فخلق بأحسن حلقة وأتم صورة وأحسن نظام يحفظ شخصه ونظام يحفظ نوعه بأن خلق فيه جهاز التناسل وبقاء النوع بناموس الاجتماع والحنان والألفة التي تقوم بالتناسل والتوالد (فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى)(2) وجعل لكل منها جهازا خاصا يؤدي وظيفته في التناسل وبقاء النوع وجعل فيهما ميلا يضطرهما إلى الاجتماع والاقتراب لكي يسلم جهاز التناسل من الذكر وديعته إلى جهاز التناسل من الأنثى. ثم أحتج بالآلات الموجودة فيه التي يعرف عموم البشر عظيم نفعها في الحياة والمجتمع الانساني فقال في الآية الثامنة والتاسعة من سورة البلد المكية (ألم نجعل له عينين * ولسانا وشفتين) فإنه مهما جهل الانسان بمنافع أعضائه وأجزائه فإنه لا يجهل الأعجوبة من منافع العينين في الرؤية ومنافع اللسان والشفتين في الكلام. وإن اختلف الناس في مبلغ إدراكهم لعجائب هذه الأعضاء وكان الطبيب والمشرح يدركان ما لا يدركه سائر الناس من العجائب والأسرار الشريفة في خلقه هذه الأعضاء وعظيم نفعها في الحياة.

____________

1 ـ سورة القيامة: الآية / 38.

2 ـ سورة القيامة: الآية / 39. (*)


الصفحة 294
ثم احتجج بمبدأ الانسان وخلقه وبعض أقسام شعوره الآلي الذي يدرك كل أحد من الناس أنه الشعور النافع في الحياة والمجتمع الانساني فقال في أول سورة الانسان المدنية (هل أتى على الانسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا) المراد أفراد الانسان. ومن ذا الذي يقول (لا) كل أحد يعلم أنه وبني نوعه قبل مدة لم يكن شيئا مذكورا ومعروفا يعتنى به. أين كان الانسان قبل أن يولد بألف سنة هل كان شيئا مذكورا؟ ألا أقدم عهده بمبدأ نشأته وامتياز وجوده نزول نطفته من أبيه في الرحم (إنا خلقنا الانسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا) (1). ثم استلفت النظر والتدبر إلى صورة الانسان ووجهه وإتقانها واختلاف تراكيبها التي يعسر إحصائها وحدها مع قلة أجزاء الوجه التي هي جبهة وحاجبان وعينان وخدان وأنف وفم فقال في سورة الانفطار المكية (يا أيها الانسان ما غرك بربك الكريم * الذي خلقك فسواك فعدلك * في أي صورة ما شاء ركبك) (2) بحيث تمتاز من بني نوعك علي طبق الحكمة التي يقتضيها انتظام النوع الانساني فجعل كل واحد خلقا سويا معتدل التركيب بأجزاء متساوية النوع والعدد وقال في الآية السادسة والستين من سورة المؤمن المكية والآية الثالثة من سورة التغابن المكية (وصوركم فأحسن صوركم) بالانتظام والاتقان. فهذه الآيات وغيرها تقيم الحجة على الناس بحسب شعورهم المشترك وتؤكد الحجة على كل راق في الشعور بحسب رقيه في التنبه والعلم.

____________

1 ـ سورة الانسان: الآية / 2.

2 ـ سورة الانفطار: الآية / 6 - 8. (*)


الصفحة 295
وقال في الآية الثانية عشر إلى الخامسة عشر من سورة (المؤمنون المكية (لقد خلقنا الانسان) في بدء خلق هذه النوع الكريم (من سلالة من طين * ثم جعلناه) في تناسله بعد ذلك (نطفة في قرار مكين) من جهاز التناسل في الذكر وجهاز التنازل في الأنثى وكل منهما كاف في أداء الوظيفة في استقراره وصيانته في أحواله وأطوار تصويره إلى تمام نشؤه الرحمي (ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما) وقال في الآية والسابعة والثامنة والتاسعة من سورة السجدة المكية (الذي أحسن كل شئ خلقه وبدأ خلق الانسان من طين * ثم جعل نسله من سلالة) مستخلصة يتكون منها الانسان (من ماء مهين) مستقذر لا يعتنى به (ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون). وقال في الآية والثامنة والسبعين من سورة النحل المكية (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون). هذا ما يعرفه كل أحد من نعمة الخلقة فكيف إذا: نظر العالم إلى أسرار خلقته فينظر إلى عظامه التي هي دعائم لبدنه وحفائظ لأجزائه الشريفة ومعدلات لوضعه وأمخال لحركاته ومرتبات لأوضاعه وإلى ما جعل لها من الأغشية وأوضاع المفاصل والرباطات والغضاريف لحفظ كيانها وارتباطها وإمكان حركاتها. وإلى الجلد الذي غلف بدنه وجمع أوصاله وحسن صورته ووقى به الأنسجة الغائرة وأودعه حاسة اللمس وجعل منه البشرة بمنزلة القشرة بوضع محكم وجعلها سميكة صلبة في الأجزاء المعرضة للضغط كراحة اليد وأخمص القدم. ورخوة خلوية فيما بقي وجعل (الأدمة) باطن الجلد لدنة في الغاية متينة في درجة عظيمة في الموافقة لوقاية الأجزاء الباطنة من الآفات وجعل في الجلد منافذ تقوم بحاجات الانسان في بقاء شخصه ونوعه وجعل في الجلد أيضا مساما كثيرة جدا لإفراز فضول بدنه وامتصاص مروحات أعضائه. وجعل العين على كيفية وفي محل يمكنانها من مجال واسع للبصر ووضعها في التجويف الحجابي وقاية لها من الآفات واستخدم في وقايتها الحواجب والأجفان والأهداب زيادة على ما لهذه الأجزاء من الفوائد. وجعل العين من طبقات ثلاث ومياه ثلاثة.

فالطبقة الأولى: كرة مؤلفة من الصلبة والقرنية من أمامها. والصلبة خمسة أسداس الكرة والقرنية سدسها وزاد في تحديب القرنية لتكون أقوى على جمع النور وثقب الصلبة من الخلف لمرور العصب البصري الذي يحمل حس البصر إلى الدماغ. وعند هذا العصب تكون وريقة رقيقة غربالية تمر من ثقوبها خيوط العصب ويمر من أكبر ثقوبها الشريان المركزي ليزود العين بدورة الدم وهو مصحوب بوريد لرد الدم إلى القلب في دورة الدم ما عدا أوردة أخرى لإكمال هذه الوظيفة.

وحول الوريقة الغربالية ثقوب أصغر من الأولى تمر منها الأوعية والأعصاب الهدبية. والقرنية هي الجزء الشفاف ولها طبقات ووريقات وأعصاب وأجزاء يطول شرحها وتبهر العلم بفوائدها. والطبقة الثانية: مؤلفة من المشيمية إلى الخلف وهي خمسة أسداس الكرة ومن القزحية من الأمام وهي فاضل عضلي حلقي وراء القرنية في مركزه فتحة كبيرة هي الحدقة سميت قزحية لاختلاف لونها بحسب الأشخاص كالسواد والزرقة والشهل وجعلت بهذه الألوان لتمتص انتشار النور وهي والشبكية يثقبهما العصب البصري والشرايين والأوردة. الثالثة: الشبكية وهي غشاء عصبي لطيف قيل ترسم على وجهه صور الأجسام الخارجة.

وتأمل في الجهاز السمعي والأذن ظاهرها وباطنها وتركيبها وحكم أجزائها الباهرة وأجزائها العجيبة المدهشة كالصماخ ووضعه والدهليز والطبلة والعظيمات الثلاثة والحصى الأذنية وتيه الأذن والقنوات الهلالية وانتفاخاتها وانعطافاتها، والقوقعة وعصي كورتي والأعصاب السمعية والشريانات والأوردة. وانظر في وضع الفم العجيب وأجزائه ووظائفها والأسنان المرتبة على مقتضى الحاجة وأحكام وضع الطواحن الفوقانية بأن جعل لكل واحدة منها ثلاث شعب. وانظر إلى غدد الفم وما ذكر لها من الفوائد الباهرة. وتأمل في الجهاز الهضمي وما فيه من عجائب الحكم وإتقان التراكيب وتغليف الأحشاء بالبريتون المستقصي لحفظها بسيره وانعطافاته وانعكاساته. وانظر إلى المعدة ووضعها وما اشتملت عليه من الطبقات والأجربة والغدد والبواب والشرايين والأوردة والأعصاب لأداء الوظائف والغايات التي أدرك العلم بعضها.

وتأمل في الابيثيليوم الذي جعل لوقاية الأمعاء بمنزلة البشرة للجلد وتأمل في الأمعاء وحكمة تركيبها، ووضعها، وانعطافاتها، وانقسامها، وصماماتها، واختصاص كل منها بصمام يحبس ما فيه إلى أن يؤدي ذلك المعاء وظيفته من الهضم وغيره ثم يقذفه إلى غيره. فمنها المعاء الدقيق المتصل بالمعدة بواسطة البواب والمتلفف المشتمل على الطبقات والشرايين والأوردة والأعصاب والغدد والأوعية الرواضع الليمفاوية اللبنية. قيل وفيه يجتمع الكيموس وعصارة البنكرياس وإفراز الغدد المعوية، وفيه ينفصل بعض المواد الغذائية وهي الكيلوس عن المواد الثفلية. وينقسم إلى الاثني عشري وهو أوسع أقسام المعاء الدقيق وأكثرها ثباتا. وبعده الصائم وهو أوسع من القسم الذي بعده وجدرانه أغلظ ويسمى صائما لأنه يوجد في الغالب خاليا. وبعده اللفائفي وهو أضيق وأرق، وينتهي بابتداء المعاء الغليظ الممتاز بغلظه وتثبت وضعه وشكله المعقد وحزمه المتكفلة بأعمال كبيرة في الضغط والهضم والدفع. وينقسم الغليظ أيضا إلى الأعور وهو جراب في مبتداه. وتأمل في وضعه وسعته وصمامه الذي يمنع سيل ما فيه إلى اللفائفي ولا يمنع السيل من غيره إليه. وبعده القولون وهو محيط بالمعاء الدقيق وصاعد من ابتدائه عند ملتقاه مع اللفائفي والأعور ثم يستعرض في البطن من اليمين إلى اليسار ثم ينزل في المراق الأيسر ثم يتعرج وينتهي بالمستقيم الذي هو الجزء الأخير منه. ومن فوائد الغليظ هضم الطعام الذي ضعف عن هضمه المعاء الدقيق واستخلاص ما بقي من المواد الغدائية منه. ومهما أدرك العلم وفحص التشريح من فوائد هذا الجهاز العجيب وفوائد أجزائه وأوضاعه وأعمالها العجيبة فإنه قليل من كثير وهو مع ذلك يوقف الناظر موقف البصيرة ويعرفه آيات الحكمة الباهرة.


الصفحة 296
وتأمل في الدماغ والنخاع المسمى بالحبل الشوكي القائمين بأمور كبيرة في الحياة والشعور كيف قد روعى ضعف جوهرهما عن الصدمات فجعلا في المحافظ المتينة والعظام القوية. وغشيا بالأم الحنونة والعنكبوتية والأم الجافية. ولأجل حاجتهما إلى القوى والتغذية وإفراز الفضول قد أخذا نصيبهما من الدورة الدموية ووصلت عامة أجزائهما بما يحتاجان إليه من الشرايين والأوردة والأوعية والأعصاب. وتأمل في القلب وانقسامه إلى بطين أيمن وبطين أيسر وأذين أيمن وأذين أيسر.

وإلى دوامه على الانبساط والانقباض وانظر إلى هذه الأجزاء الأربعة للقلب مع صماماتها والشرايين والأوردة وصماماتها وكيف يتألف بواسطة ذاك الانبساط والانقباض طلمبات سحب وطلمبات ضغط تدبر الدورة الدموية فتكون الصمامات بمنزلة مصاريع الطلمبا على ناموس مصناريع طلمبا السحب ومصاريع طلمبا الضغط. وانظر إلى الشرايين وانبعاث جذعها من البطين الأيسر للقلب وكيف تتشعب من جذعها إلى عامة أجزاء البدن كتشعب الشجرة إلى الأغصان الكثيرة وإن موقع السطحية منها وما هو قريب من السطحي يكون غالبا في المواطن المحمية كجهات الانثناء في الأطراف.

ومن فوائدها أنها تحمل الدم الصالح من البطين الأيسر للقلب بواسطة جذعها وضغط البطين بانقباضه وتوصله إلى عامة أجزاء البدن. وانظر إلى صمامات الشرايين وفوائدها التي منها موازنة الدم في قنوات الشرايين ليؤدي الوظائف المطلوبة. وانظر إلى تفمم الشرايين وهو أن جميع أغصانها وفروعها تتواصل فيما بينها بقنوات عرضية شريانية لكي تقوم هذه التفهمات بالوظيفة الشريانية في إيصال الدورة الدموية وغيرها من مغذيات البدن وقواه عند ما يعرض لبعض أجزاء الفروع الشريانية من السدد والاختناق وشد الجراحين أو قطعهم للشريان وغير ذلك. وانظر إلى سير الشرايين فإنه في الغالب مستقيم لكنه قد يتعرج لموافقة حركة الأجزاء كالشريان الوجهي والشفويني وكذا الشرايين الرحمية رعاية لكبره عند الحمل وانظر إلى جعل الشرايين كنزة البناء متينة مرنة لكي تقوى على الدم المدفوع بالضغط وتقبل الاتساع عند زيادته أو عروض مزيج له. وهي أيضا قنوية الوضع لا تنخفض كالأوردة إذا خلت، ومتحركة دائما نابضة بالانبساط والانقباض.

والمظنون أن كل قناة بين صمامين تكون بانبساطها طلمبا جذب من التي قبلها من جانب القلب وطلمبا ضغط للقناة التي بعدها. وهذا يكشف عن أهمية محمولها في الحياة. وربما يكون منه النسيم اللطيف المسمى أكسجين الهواء لكي تحظى جميع أجزاء البدن بزيارته وتحيته بترويحه. وربما تكون لحركتها فوائد أخر لم يصل إليها العلم بعد. كما أنه لا سبيل إلى حصر محمولها الحيوي بمادة أو مواد معينة. وقد رؤي للشرايين العظيمة أوعية دموية تسمى أوعية الأوعية وهي شرايين تبعد عن نقطة توزيعها. ولها أيضا أوردة تأخذ منها الدم الوريدي إلى الأوردة المرافقة لها، ولها أعصاب تؤدي الوظائف العصبية. وانظر إلى الأوردة التي هي أغلظ وأكثر عددا من الشرايين وهي أيضا متشعبة في عامة أجزاء البدن تشعب الأغصان من جذعها المتصل بالبطين الأيمن من القلب. ومن فوائدها أنها تجمع الدم من جميع أجزاء البدن وترجع به إلى البطين الأيمن من القلب. ومن سير الدم في، الشرايين ورجوعه في الأوردة تكون الدورة العامة للدم. وانظر إلى الأوعية الليمفاوية، وانتشارها في الجسد، وصماماتها المانعة لسائلها عن التقهقر، أو لأن تجعل السائل متوازنا في أوعيته لكي تتوازن أعماله، أو لأن تقوم بعمل آخر. وانظر إلى تفهماتها ووضعها لكي تقوم بغاية التفمم الجارية في الشرايين والأوردة. وانظر أيضا فيما ذكر لها من الفوائد من امتصاصها الكيلوس والمواد السائلة (ليمفا) وحمل ذلك السائل الصالح أخيرا إلى الدورة الدموية. وإلى الآن لم يشخص العلم حقيقة هذ السائل لكي يعرف مقدار أثره في الحياة وحقيقته...

وإن لفظ ليمفا بمعنى سائل. وتأمل في وظيفة الرئة ودوام حركتها بالانبساط والانقباض وفي أوردتها وشرايينها. فإن الشريان الرئوي يخرج من البطين الأيمن للقلب فيحمل منه الدم الأسود الوريدي الراجع إليه من أجزاء البدن في الدورة الدموية العامة وينقله بفروعه وأغصانه إلى الرئة فتصفيه وتطهره من العناصر الضارة وتمده بما يلزم لقيام الحياة وتحوله إلى دم أحمر شرياني فيأخذه الوريد الرئوي ويوصله دما صالحا إلى البطن الأيسر مبدأ الدورة العامة وهكذا في كل دورة. وقيل في تصفية الدم في الرئة وإمداده بالمواد الحيوية إن الدم يأخذ من التنفس الداخل أكسجين الهواء ويفرز المواد الضارة أو الكربون فتخرج بالتنفس الخارج.


الصفحة 297
وانظر إلى الكبد وأجزائها ورباطاتها وأعصابها وشريانها وفروعه والوريد البابي والوريد الكبدي وفروعهما والقناة الكبدية والأوعية الليمفاوية وفي وظيفة الكبد في إفراز الصفراء من الدم وإرسالها إلى الحوصلة المرارية. وإلى ما قيل من أن الشريان الكبدي يحفل الدم الشرياني للكبد لأجل تغذيته. والوريد البابي يحمل الدم الممزوج بالصفراء لكي تصفيه الكبد. والوريد الكبدي يحمل الدم الصافي من الصفراء إلى القلب فيكون الكبد قائما بوظيفة دورة دموية صغرى لأجل تصفية الدم كما في الدورة الرئوية. أو كما قيل في الطب القديم من أن الكبد محل هضم الكيلوس وتمييز الاخلاط منه بعضها عن بعض وتقسيمها على مجاريها ومعادنها حسب وظائفها في قوام الحياة. وما عسى أن يقال في الأوعية البولية، وآلات التناسل، والأعصاب، والأغشية، والغدد، والعضلات، والرباطات، والغضاريف، ومواضع ملتقى العظام، وأوضاعها الموزونة بالحكمة، وأعمالها المدهشة وغاياتها العجيبة. ولا يخفى أن الذي أدركه علماء الطب والتشريح من فوائد أجزاء الحيوان وغاياتها في الحياة من كثرة سعيهم إنما هو قليل من كثير خفي عليهم. ولا زال العلم يجد في استكشاف الحقائق المجهولة فيتجلى له منها تدريجا ما يبتهج به ارتياحا. ثم أنظر إلى أجزاء الحيوان على اختلافه وامتيازاتها التي يقتضيها وضع الحيوان وحاجاته وما يراد منه.

فهل يكون هذا كله بلا موجد يعلم بالغايات؟ الغايات الكبيرة الشريفة التي أدرك العلم بعضها وذكرنا يسيرا من ذلك. هل يسمح الوجدان بأن يقال إن هذا كله من الصدفة العمياء والطبيعة البكماء؟ وكيف يغيب عن الشعور ما ذكر في صحيفة 57 و 58 و 59 وقد بنى القرآن الكريم احتجاجه في الإلهية على هذه المقدمة الفطرية البديهية التي عليها عمل البشر في جميع أدوارهم وأحوالهم فوبخ ذوي الأغراض على تغافلهم عن هذا الأمر الذي جعلناه في صحيفة 59 المقدمة الأولى فقال من جملة ذلك في سورة الملك المكية (ألا يعلم من خلق) كما ذكرناه صحيفة 331. أما أنه. لو سمح القصور بهذا القول للمغفل الغبي الجاهل فإن العلم والشعور الحر لا يسمحان به للعالم والعارف والطبيب والمشرح الملتفتين إلى عجائب أجزاء الحيوان وغاياتها الشريفة المدهشة بعناية حكمتها. رمزي: إن جملة من أجزاء الحيوان لا فائدة فيها ولا غاية. وذلك كالغدة الدرقية، والزوائد الدودية والغدد الوحيدة في سطح الأمعاء بل إن الغدة الدرقية والزوائد الدودية معرض للأمراض المهلكة.

عمانوئيل: يا صاحبنا يا رمزي. هذا الدكتور المتقدم في الطب والتشريح لماذا لم يقل مثل ما تقول؟ ولماذا لم يجعل مثل قولك اعتراضا علينا. أو تشكيكا في مقصدنا فإنه لا بد من أن يكون سمع ما تكلمت أنت به أو رآه مكتوبا كما رأيته أنت. ألا تعرف أن شرف علمه يمنعه من أن يعترض بمثل اعتراضك من أين علمت أن الغدد الوحيدة لا فائدة لها ولا غاية في وجودها؟ هل أعلمتك بذلك الطبيعة البكماء؟ هل أنت حينما كنت جنينا في بطن أمك رصدت الغدد الوحيدة في أمعائها وراقبت أحوالها بمهارة العلم وجودة الفحص وعلو الفطنة فكشف لك العلم الصحيح والتجربة عن أن الغدد الوحيدة لا غاية لوجودها ولا فائدة حتى في حفظ جوهر المعاء أو مساعدته في أعماله؟ وهل جرى لك مثل ذلك مع الغدة الدرقية؟ لا، يا صاحبي لا ينبغي أن نجعل جهلنا بالفائدة والغاية دليلا علميا على عدمها. هب أنا حالا لا نخجل من أجل ذلك من العلم.

ولكننا نندم كثيرا إذا قيل لنا إن الدكتور فلان انتزع الغدة الدرقية من جملة من المصابين بمرض الجواثر فوقعوا بالبلاهة التامة. حيث يكشف لنا العلم عن أن الغدة الدرقية لها المداخلة الكبيرة في حفظ الشعر واستقامته. بل إن كبرها في الأنثى عند الحمل يكشف عن أن لها مداخلة كبيرة في امتصاص المواد العفنة ومنعها عن التصاعد إلى الدماغ. وأما ظهور الأمراض الشديدة فيها فإنه يكشف عن أن لها عملا كبيرا في حبس المواد الضارة عن الوصول إلى الأعضاء الشريفة. ولكن تلك المواد قد تزيد على ما للغدة من القوة النوعية فيظهر المرض كما هو السنة في جميع الأعضاء فانظر إلى القولون والرئة. وبمثل هذا يجري الكلام في الزوائد الدورية. ثم يا رمزي إن الذي ذكرناه من الأجزاء وعجائب غاياتها ليكفي الوجدان الحر في حكمه بأن موجدها أوجدها لأجل تلك الغايات التي كان يعلمها. وهب أنه توجد أجزاء لا غاية لها كما تقوله أنت فغاية ما يدل ذلك على أن الموجد قد يخالف الحكمة ويوجد أشياء لا فائدة لها. إذا رضي لنا شرف العلم والأدب أن نقول إن هذا العضو لا فائدة فيه. وهيهات. رمزي: إن هذه الغايات المذكورة في كلام الشيخ هي التي أوجدت الموجودات التي تحصل الغايات منها. فإن الرؤية هي التي أوجدت العين التي تحصل منها على ناموسها وأجزائها، والسمع هو الذي أوجد الأذن التي يحصل منها، والشعور هو الذي أوجد الدماغ الذي يحصل منه. وكل غاية هي التي أوجدت العضو التي تحصل منه. وحياة الشخص هي التي أوجدت الأجزاء الحيوية لذلك الشخص. إذن فما هي الحاجة إلى موجد آخر عالم بالغايات المذكورة يوجد الموجودات لأجل غاياتها.

عمانوئيل: قد سمعنا هذا الكلام عن بعض الصحف العصرية كما رأيته أنت. ولكن أليس لنا في حقوق الشعور والخطاب أن نسألك عن المعنى الذي فهمته أنت من هذا الكلام واعتمدت عليه في كلامك، فهل تقول إن هذه الغايات صار علم الموجد بها داعيا له لإيجاد الموجودات التي تحصل منها الغاية. كما أن تصور النجار للجلوس على الكرسي يكون داعيا له لأن يصنع الكرسي. وبهذا الاعتبار نتسامح ونقول إن الجلوس التصوري أوجد الكرسي. بمعنى أنه صار داعيا للنجار الذي هو الموجد الحقيقي للكرسي. أو تقول إن هذه الغايات هي الموجد الحقيقي والفاعل للإيجاد فلا موجد سواها ولا علة فاعلية غيرها. يا صاحبنا يا رمزي إن القول الأول هو عين قول الإلهيين بأن الموجد للموجودات أوجدها لداعي علمه بغاياتها وحكمتها. وأما القول الثاني فهو قول غير معقول. يا صاحبنا إن الغايات التي تذكرها هي أعدام محضة قبل وجود الأجزاء التي تحصل عنها. فهل يقول ذو شعور بأن العدم والمعدوم يكون موجدا وعلة فاعلة للإيجاد. هل يقول أحد إن المعدوم يكون موجدا حقيقيا للموجود؟؟ أنت تقول إن الغايات تحصل بالأجزاء فكيف تكون موجدا وعلة فاعلية للأجزاء؟ أعيد سؤالي عليك وأقول لماذا لم يتكلم الدكتور بمثل كلامك مع أنه هو المترشح لمكالمة الشيخ. أتدري لماذا؟ لأن له علم وشعور يميز بهما ما يكتب في الصحف.


الصفحة 298

ومن حجج القرآن الكريم

الشيخ: وقال الله تعالى تأكيدا للحجة وقطعا للمعاذير في الآية الثانية من سورة الجاثية المكية: إن في السموات والأرض لآيات للمؤمنين) بالحقايق المتجلية، لا يغالط إيمانهم بها غمزات العصبية وفلتات التقليد الأعمى ومكابرة الوجدان الحر بعبودية الهوى وشكوك الوساس. فترى هؤلاء يهتدون بنور عقولهم ووجدانهم الحر في العرفان. كما يهتدون بذلك في سائر الأمور (وفي خلقكم) أيها الناس وما فيه من عجائب الغايات وإتقان للصنع وبدايع الحكمة الباهرة كما ذكرنا وذكر العلم منه قليلا من كثير (وما يبث من دابة آيات لقوم يوقنون) على نهج مستقيم في الاهتداء بأسباب اليقين ودلائل العلم. فلا تراهم يصرفهم الهوى عن اليقين مع وضوح الحجة أو يلوي أفكارهم إلى زخارف الأوهام. وفي الآية السادسة من سورة يونس المكية (إن في اختلاف الليل والنهار وما خلق الله في السماوات والأرض لآيات لقوم يتقون) وبال الجمود الأعمى، ونقائص الجهل المركب، ورذيلة اتباع الأهواء، ومكابرة الحجة الواضحة والوجدان الحر، ومضار الانحراف عن النهج الواضح، وهلكة الوقوع في تيه الضلال. لا حاجة لنا في أن نبهض الهيئة الجديدة بأن نقول إن السموات أفلاك تامة منضدة في غاية اللطافة والشفافية بحيث لا تحجب عن النظر شيئا.

ولا حاجة لنا أيضا في الطالبة بالحجة الكافية على أنه ليس هناك أفلاكا موجودة وسماوات منضدة وأنه ليس الموجود إلا أجرام الكواكب تدور سياراتها في الفضاء ويستقر مركز ثوابتها في الفضاء - ولا تحسب أنا نعتمد على الهيئة القديمة وما خيلته من دعاوى الأبعاد والأجرام والأفلاك الجزئية. فإن حجة القرآن الكريم لا مساس لها بشئ من ذلك. بل يمكن أن نجاري الهيئة الجديدة ونقول إن المراد من السماوات مراتب العلو المحددة بمدارات السيارات. وكيف كانت الحقيقة فانظر إلى ما في السماوات من الكواكب العجيبة من ثابتة في مركزها وسائرة في مداراها على نظامات مستمرة. هذه الثوابت لماذا لم تعمل بها جاذبية وبماذا لزم كل كوكب مركزه.

ولنتكلم على وفق الهيئة الجديدة، فانظر إلى حركة أرضنا وسيرها على منطقة البروج بمدار بيضي، أبعده عن الشمس يكون عند السرطان في نصف الكرة الأرضية الشمالي، وأقربها عند الجدي في النصف الجنوبي. وإن أردت أن تلتفت إلى ما في هذا الوضع من الغاية العجيبة والحكمة الباهرة في التعديل وموازنة الحر والبرد والقرب والبعد من الشمس بحسب اليابسة المسكونة فاعرف أن أقصى وصول اليابسة من أرضنا في جهة الجنوب إنما هو رأس القرن من أمريكا الجنوبية وهو لا يزيد على الدرجة الخامسة والخمسين من العرض الجنوبي مع قلة المسافة فيما بين المشرق والمغرب وقلة الساكنين.

واعرف أن اليابسة المسكونة من آسيا وأورپا وأمريكا الشمالية تمتد إلى نحو الدرجة الثمانين من العرض الشمالي مع كثرة المسافة جدا في ما بين المشرق والمغرب وكثرة الساكنين فالنصف الشمالي إن قرب من الشمس من حيث البروج بعد عنها من حيث المدار البيضي، وإن بعد عنها من حيث البروج قرب منها من حيث المدار البيضي. كل ذلك مراعاة لأهمية العمران في القسم الشمالي الواسع بحسن التعديل والموازنة. ثم انظر إلى دور الأرض على الشمس على منطقة البروج وحركتها اليومية على نفسها فكم ترى في ذلك من الغايات الكبيرة في موازنة الآثار، وتعديل العمران، وتوزيع المنافع، وأخذ كل جزء من الأرض حظه من النور بناموس مقدر على الدوام، وتعديل الحرارة والبرودة، وتنفس الاستراحة، واستنشاق النسيم الخالص، وموازنة الزمان، وحفظ التاريخ. وانظر إلى قمر أرضنا كيف تبع الأرض في دورها على الشمس واستقل بمداره على الأرض مائلا متحايدا عن منطقة البروج بهيئة مقدرة وحركة متوازنة. وانظر إلى ما في ذلك من الغايات الكبيرة التي منها جعل تاريخ شهري يعرفه العموم، وتوقيت تجريبي للناس في ليالي الشهر بحسب الطلوع والغروب والعلو والانخفاض ودليل هاد في غمرات البحار وفلوات البوادي.