ومنها موازنة تأثيراته ونوره الضعيف في المسكون. ومنها تقليل اتفاق الخسوف والكسوف. ولولا ذلك الميل لوقع الخسوف والكسوف في كل شهر، ولينظر الفلكيون المكتشفون لأقمار المريخ، والمشتري، وزحل ويعتبروا بالحكمة التي راعت أبعادها عن الشمس فمنحتها بالأقمار التي تعكس إليها نور الشمس فتزين لياليها ببهجة النور وبهائه وكبير نفعه وعظيم أثره. وقد وازنت الأقمار على الابعاد فجعلت لأرضنا قمرا واحدا. وللمريخ الزائد على أرضنا بالبعد جعلت قمرين. وللمشتري الزائد على المريخ بالبعد جعلت أربعة أقمار، ولزحل الزائد على المشتري بالبعد جعلت ثمانية أقمار أو أكثر. فياله من عطاء يراعي الحاجة ويجري على الحكمة. هذا ما يعرف من غايات الصنع ومواقع الحكمة في العالم العلوي البعيد عنا.
النظام الأرضي وعجائب غاياته
وهلم إلى النظام الأرضي وانظر إلى ما فيه من الغايات الكبيرة والعجائب الباهرة التي لا تخضع إلا إلى سلطان القدرة ومواقع الحكمة.
البحار وعجائب غاياتها
وانظر أولا إلى البحار وبديع التصرف بها بنحو يبهر العقول. إذ جعلت بحيث لا يعتريها التعفن ولا التغير بالمؤثرات كما يتغير الماء المحقون ويتعفن في أيام يسيرة.
وأعجب من ذلك أن المد والجزر السائدين على عموم البحار لا سيادة لهما على البحر الأبيض المتوسط بحر الروم الممتد من بوغاز جبل طارق إلى بوغاز القسطنطينية. ولا على البحر الأسود الممتد من فوق باطوم إلى الباسفور. ولا على البحر البالتيك مما بين فرنسة وكرينلاندا إلى سويدن وفينلند مع اتصال هذه الأبحر الثلاثة بالمحيط بل إن البالتيك لا يمتاز عن المحيط الاتلنتيك بمضيق وبوغاز يحده. أفلا تعجب من البحر الابيض المتوسط إذ يجري فيه تيار كبير من بوغاز جبل طارق على الدوام ويجري إليه البوسفور من البحر الأسود ومع ذلك لا تجد لمائه زيادة. فهل أنت تقول كغيرك إن ما يجري فيه يخسر مثله بالتبخير. أفلا تدري أن جاره البحر الأسود يفند هذه المزاعم ويوبخها بالنقد إذ يقول بلسان حاله أنا جاره وتبخيري مثل تبخيره وأمطار مياهي مثل أمطاره ولا مدد لي من تيار ونحوه بل إني دائم الجريان على البحر الأبيض فماذا يجبر خسراني؟!! هل ظهر علي النقص؟ إن فوق أوهامكم تدبيرا. ووراء الطبيعة البكماء حكمة.
وانظر إلى بحر الاتلنتيك وهو ما كان غربيه أمريكا وشرقيه أورپا وإفريقيا وربما يبلغ عرضه أربعة آلاف ميل. وانظر إلى استقامة الرياح فيه ولزومها لمهب مستقيم. فهو فيما بين الدرجة الثلاثين من العرض الشمالي ومثلها من الجنوبي تكون رياحه مشخصة معلومة. ففي شمالي خط الاستواء لكون ما بين الشمالي والمشرق، وفي جنوبيه ما بين الجنوب والمشرق، وفيما يقرب من خط الاستواء تكون من المشرق. وانظر إلى المحيط الباسفيك وهو المحيط الحليم الهادي وهو ما تكون أمريكا في شرقه وآسيا واستراليا في غربه. ويمتد من نحوالدرجة السادسة والستين من العرض الشمالي إلى الثامنة والخمسين من العرض الجنوبي. وهو على هذه السعة غالب الهدو والسكون واستقامة الريح حتى قيل إن السفن لا تحتاج فيه إلى تغيير وضع الشراع. وما تاهت فيه سفينة ولا تضررت - فكأن العناية لحظت طرق المواصلة بين أمريكا والقارات في الشرق والغرب في الباسفيك والاتلنتيك فرفعت في لجج هذه البحار العظيمة أخطار العواصف والزوابع.
وانظر إلى تيارات البحار التي لم يحص العلم عددها وشعبها ومواقع سيرها والتقائها ورجوعها وإنما ذكر منها ما بلغه الاكتشاف المتشتت. فمن ذلك التيار الاستوائي في البحر الهادي الذي يخرج من شواطي أمريكا الجنوبية فيما بين مملكتي (بيرو) و (شيلي) جنوبي خط الاستواء ويسير بنحو الاعتدال إلى الغرب إلى نحو جزائر (ماليزا) الواقعة في شمالي استراليا ويخرج منه عند أول الجزائر فرعان أحدهما يسير إلى الشمال الشرقي موازيا لجزائر الياپان وما بعدها من آسيا إلى بوغاز (بهرنج) في أول المنقطعة الباردة في طول 174 غربي پاريس تقريبا. والفرع الثاني يتوجه إلى الجنوب نحو (زيلاندا) الجديدة إلى المنقطعة الباردة. ومن ذلك التيار الاتلانتتكي الخارج من سواحل إفريقيا الاستوائية من خليج (غينا). فيسير بنحو الاعتدال إلى نحو رأس (سان روك) من أمريكا الجنوبية فتسير شعبة منه إلى الجنوب مع شواطي أمريكا الجنوبية إلى طرفها تقريبا فيما دون الدرجة الستين من العرض الجنوبي وترجع من هذه الشعبة شعبة إلى رأس الرجاء الصالح ثم نميل إلى الشمال إلى خليج غينا. ويرافقه في طريقه الشمالي بينه وبين الشاطي شعبة من التيار البارد الجنوبي - وتسير الشعبة الأخرى من نحو سان روك أيضا مائلة إلى الشمال الغربي إلى جزائر (أنتيله) في خليج (المكسيك) وهناك يقوى التيار فيسمى بالتيار الخليجي ويسير محاذيا لشطوط الولايات المتحدة مائلا إلى الشمالي الشرقي إلى شواطي الأرض الجديدة قرب الدرجة الخمسين من العرض الشمالي وهناك يندفع بعضه في تيار قطبي وبعض يتوجه إلى الشرق فتسير شعبة في البالتيك مارة على سواحل (كرينلاندا) و (أيسلاندا) وإنكلترا ونروج وشعبة تسير مع شاطئ البرتغال إلى شاطئ إفريقيا ويدخل البحر المتوسط من بوغاز جبل طارق شعبة منه، وهناك شعب أخرى من التيارات الاستوائية. ومن التيارات التيارات القطبية التي تحمل الماء البارد إلى المناطق المعتدلة والحارة. ألا تنظر إلى الغايات الكبيرة والحكمة الباهرة في هذه التيارات.
ألا ترى أن العناية بالغايات قد لحظت السير في أقطار الدنيا لعموم العمران فشرعت للسائرين جادات منتظمة محدودة دائمة تتكفل بحسن الدلالة وراحة السير وعموم المواصلة وربط القارات بعضها ببعض والأمان من أخطار التيه وغيره. فكأن العناية تنادي يا من يريد السفر إلى أميركا اسلك بسفينتك الجادة المشروعة للدلالة والأمان وهو التيار الذي في خليج غينا وسر على استقامة الجادة وحدودها إلى رأس (سان روك) في أميركا. فإن كنت تريد أميركا الجنوبية فخذ جادتك الأمينة في الشعبة الجنوبية إلى أي شاطئ أردت. وإن كنت تريد أميركا الشمالية فخذ جادتك الأمينة في الشعبة الشمالية فاسلك في الشعبة الموازية لجزائر (أنتيلة) إن كان قصدك إلى الممالك المتحدة والأرض الجديدة وكندا. وإن كان قصدك إلى بلاد المكسيك والشواطي الواقعة على خليج المكسيك فاسلك في الشعبة الداخلة إلى الخليج الخارج مما بين (كوبا) ورأس (فلريدا) وإن كنت تريد الرجوع إلى إفريقيا فاطلب الشعبة الراجعة إلى غينا.
وإن كنتم تعدون من فوائدها ضغط البخار لكي يتصاعد فينعقد سحابا ماطرا فاعرفوا شرف هذه الغاية. ألا وإن اختصاص التيارات بمجاريها من جنوبي خط الاستواء، ولزومها لها ودوامها على حالها وتشعها في نقاط مخصوصة ورجوع بعضها من الغرب إلى الشرق وذهاب بعضها إلى الجنوب بميلة إلى الغرب كالمار بشواطي البرازيل إلى آخر أميركا الجنوبية. وميل بعضها إلى الشمال الشرقي كالمار من خليج المكسيك إلى الأرض الجديدة والمار من جزائر ماليزا إلى بوغاز بهرنج ووجود التيارات القطبية المتوجهة إلى جهة خط الاستواء لا إلى الغرب هذا كله مما يعرفك الخطأ في الوجوه التي ذكروها لتعليل التيار بأمور طبيعية.
بحيث لا يقف زيف هذه الوجوه أمام النقد العلمي على رعم الصدقة العمياء الممشوقة والطبيعة البكماء المحبوبة. ألا: تعجب ممن يعرض عن البحث عن غاية الكائن ولا يجد السير في اكتشاف فوائده النافعة في الحياة والعمران. ومع ذلك يتقهقر إلى أوهامه في تعاليل الصدفة العمياء فيضطهد شرف الغايات ويصرف عنها الأنظار لولا بقية روح علمي بقي من تأسيس السلف يحرك على طلب الفوائد والغايات فيما ينفع البشر.
الأرض اليابسة
وانظر إلى مسكننا الأرض كيف قد مهد الكثير منها للسكنى والزراعة واختلفت أوضاع الباقي للقيام بلوازم العمران ودوام الراحة في المسكون وتعديل لوازمه، وكيف جعل تفجر العيون من الأعالي لكي يتهيأ عموم الري، وأمدتها الأمطار لإكمال النفع. أفلا تنظر إلى سيول الأمطار وذوبان الثلوج وجري الأنهار الكبيرة، كم تحمل من الجبال والوهاد في سيلها الجارف من الأطيان والصخور على مر الدهور والأحقاب وتقذفه في البحار على وجه لو أهملت العناية إصلاح هذا الحال وتداركه لاضمحلت الجبال والهضبات وملأ الطين أعماق البحار والخلجان فاستولى الماء على المسكون. وها أنت وكل الناس تعلمون أن الجبال. والهضبان، والبراري والوديان والبحار والخلجان على حالها منذ زمان يبلغه التاريخ بجهده. وهذه الآية الكبيرة التي يكفي العاقل فيها أقل تنبيه قد أشار إليها القرآن الكريم واستلفت العقول إلى أعجوبتها وحجتها بقوله تعالى في سورة الذاريات المكية في الآية الثامنة والأربعين (والأرض فرشناها فنعم الماهدون).
وهي فوهات في أعالي كثير من الجبال تخرج منها النار بأحوال عجيبة ترشد إلى الحكمة الباهرة. ومع ذلك فقد أبقت الآيات أثرا للاعتبار وإشارة إلى الموعظة وعظيم المنة وذلك أن هذه النار السائرة قد تزيد على مجاريها أو تكثر في مكان لأجل تأديه أعمالها فتحاول أن تخرج من قشرة الأرض فتحصل الزلازل الخفيفة أو الهائلة وربما يتعقبها الانفجار أو الخسف وفي ذلك ألطف استلفات إلى النعمة العظيمة والغاية الكريمة في خلق جبال النار (البراكين) وسائر الجبال الجاذبة للنار والمثبتة لقشرة الأرض. وإلى ذلك أشار القرآن الكريم في الآية الخامسة عشر من سورة النحل المكية بقوله تعالى (وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم) ونحوه في الآية الواحد والثلاثين من سورة الأنبياء والعاشر من سورة لقمان المكيتين. ولولا هذه الجبال الراسية بالحكمة والمصرفة للنار لاستولى الميدان والزلزال على الأرض.
وانظر إلى أجزاء الأرض وقطعها المتجاورة فإنك تراها مختلفة اختلافا كثيرا لم تجر على قياس مطرد، فترى في المنطقة الحارة فيما يقرب من البحر أو ما يبعد عنها أرضا طينية زراعية، وأرضا صخرية نارية، وصخرية كلسية، وأرضا رملية بينها طبقات مستحجرة، وترى ذلك في المنطقتين المعتدلتين والمنطقة الباردة الشمالية. وانظر إلى الثمار التي تنبت في أرض واحدة وتسقى من ماء واحد وهي متساوية في مهب النسيم وإشراق الشمس وتأمل في حكمة اختلافها في الأوضاع والخواص والطعوم واللذات.
إحتجاج القرآن الكريم
وقد جمع القرآن الاحتجاج بهذا كله في سورة الرعد المكية في الآية الثالثة والآية الرابعة بقوله تعالى: (وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهارا ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين يغشى الليل النهار إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون) في خصائص هذا الكون وآثاره فيعرفون دلائل القدرة وآثار الحكمة (وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضه على بعض في الأكل إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون) لزوم تعليل الحادث وآيات قصد الغايات. وقد أوضع القرآن ما بلغه سير العلم بعد جهد جهيد من أن كل ثمرات التوالد ونتاج التوليد الذي يبقى به النوع من الحيوان والنبات جعل فيها ذكورة وأنوثة زوجين اثنين للتلقيح وأثمار النتاج. وأنظر إلى ما يبث في الدنيا من دابة. وتأمل في عجائب الخلق فيها ومواقع الحكمة. وانظر أقلا إلى الإبل وتسخيرها لمنافع الانسان في المفاوز المعطشة والمسافات البعيدة، تصبر على العطش وتقنع بالحطب، وانظر إلى الحكمة كيف راعت أحوالها مع الأحمال الثقيلة ونظرت إلى جسر ظهرها الطويل، وضعفه عن معاناة الحمل الثقيل وصدمه ارتجاجات الأحمال وزياد ثقلها عندما تنهض للقيام وعندما تبرك. فجعل لها السنام لكي تكون كيفية تحميلها على نحو يتوجه فيه الثقل من الأحمال وارتجاجاتها إلى قوائم يديها ورجليها. فتكون قوائمها هي الدعائم المقاومة للثقل الكثير.
وجعل لها في صدرها ثفنة تعتمد عليها عند النهوض وتسهل تحريك يديها للقيام وتقي عظام صدرها من ضغط الحمل وثقل ارتجاجه. وراعت الحكمة طول أعناقها فجعلت تركيبها عموديا لكي تخف وتعين بخطرانها على المشي، وجعلت أخفافها عريضة لينة مراعاة لعلوها وكبر جثتها وثقل أحمالها. وقد استلفت القرآن الكريم أنظار الناس إلى التبصر بعجائب هذا الحيوان المألوف وما في خلقته من أنواع الحكمة التي تتساهل بها الألفة فقال تعالى في سورة الغاشية المكية في الآية السابعة عشر (أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت) فيعرفوا من درس خلقتها مواقع الحكمة. وأكد الحجة بقوله تعالى في آية 18: (وإلى السماء كيف رفعت) سواء قالوا بأنها طبقات شفافة تتضمن الكواكب النيرة من سيارة وثابتة أو أن المراد منها أجرام الكواكب القائمة في مراكزها والسائرة في مداراتها على هذا النظام العجيب (وإلى الجبال كيف نصبت * وإلى الأرض كيف سطحت)(1) هذه الأشياء التي هي نصب أعينهم ألا ينظرون إلى خلقتها وثباتها على مواقع حكمتها وغايات إيجادها. وانظر إلى (الكونغو) أو (الكانكور) الحيوانات الكيس. كيف قد راعت الحكمة والرأفة ضعف أولادها حيث يولدون على الحالة الجنينية بحيث لا تتحمل الآثار الخارجية والحر والبرد فجعلت للأم من جلدها كيسا في أسفل بطنها تحضن أولادها فيه في حال ضعفهم فهم فيه ورؤوسهم إلى ناحية أثدائها يرتضعون وهم في مهد تربيتهم أو الرحم الثاني إلى أن ينالوا القوة. وانظر إلى السمك الرعاد وعجيب خلقته التي تنادي أيها الناس تنبهوا واكتشفوا من هذا الخلق العجيب جهاز التلغراف، الجهاز الكهربائي الذي يشابهه الجهاز الكلفاني، حتى قيل إن بعضهم عد في
____________
1 ـ سورة الغاشية، الآيتان: 19 و 20. (*)
يا صاحبي فأين أنت عن النظر في عجائب هذا العالم وإتقان غاياته وجمال حكمته الفائقة ونظامه الباهر. وما ذكرنا لك من ذلك إلا قطرة من بحر وقليلا من كثير. فكيف تسمح بذلك كله لطبيعة فاقدة الشعور.
ما هي الطبيعة؟ هل هي الفرد أو النوع أو الجنس؟ هل لها وجود غير موجودات العالم؟ أم ليست هي إلا انتزاع وهمي ينتزعها العقل ويفترضها من تماثل الموجودات؟ يا صاحبي هذه الآلات الصوانية التي ذكرناها صحيفة 57 والمدنية التي ذكرنا مثلها صحيفة 106 إنها تقصر ولا تقاس بنظام خلقة الحيوان فضلا عن غيره. وأراك وجميع الناس لا تسمحون بأن تكون من صنع الطبيعة العديمة الشعور وقلته الصدفة. فكيف تسمحون بأن هذا العالم العظيم العجيب وغاياته الشريفة المنتظمة في دهوره ومواليده كله يكون بصدفة الطبيعة البكماء. ما أعجب حالك وحال أصحابك مع طبيعتكم، فتارة تستحقرونها ويأتي وجدانكم أن تسمحوا بأن تنسبوا إلى صدفتها واحدا حقيرا مما ذكرناه من الآلات الصوانية ومثال المدينة والمغارة. وتارة تفرضون لها وجودا أصيلا وتسمحون لصدفتها بما لا يحصى من عظائم العالم في دهوره ومواليده. أين وجدانكم الذي تحكمون به في أمر القطع الصوانية ومثال المدينة والمغارة؟ ما أقوى يد تغمض عيون الوجدان في شأن العالم وصنعه!! أي يد مبرقعة هذه؟ ماذا يعينها وبأي نشاط تعمل أعمالها. ما أعجب هذه اليد المبرقعة، قد شابكت يد العلم فلوتها، وغطت على عين الوجدان فأسقطت حسها، لم يكن في الحسبان أن بذر أبيقورس للاستراحة الشهوانية ينمو هذا النمو في الأذهان مهما دملتها الأهواء بشهوانيتها. لا إخال لسانك يستطيع أن تقول كما يقوله بعض الشهوانيين العديمي العلم والشعور والذين لا بضاعة لهم ولا حجة إلا تبسم الاستهزاء وقولهم أين صانع العالم العليم الحكيم هل هو في آسيا أو أورپا أو إفريقيا أو أميركا وفي أي بلد هو إنا لا نراه بأعيننا ولا نلمسه بأيدينا ولا نسمع له صوتا. ألا تقول لهم قولوا ما هي الطبيعة، وأين هي، ولا نطالبكم ببيان وجودها الحقيقي الفعال في الموجودات وإعطائها الوجود الأصيل الحقيقي، أين رأيتم الجواهر الفردة؟ ولا نعارضكم بامتناع فرضها. كيف رأيتم مدارتها، وإلى أي جهة كانت تدور.
وما هو مقدار حركتها في السرعة؟ أين عصفت عليكم زوابع الأثير. وأين رأيتم الأثير وكيف وجدتموه. لا نطالبكم بهذه الافتراضات الموهومة. ولكن هل رأت أبصاركم أو سمعت آذانكم أو لمست أيديكم أشياء لا شك في وجودها وتحققها. منها هذا الشعور والادراك الذي يمتاز به الحيوان ويفتخر بكماله الانسان. ومنها هذه النفوس التي هي ملكة الأبدان وسلطان الحياة والشعور وعروس الوجود. هل أحسستم بها بحواسكم؟ ومنها روح الحقيقة ومظهر النعمة ولباس الزينة ومنشأ انتزاع الطبيعة وهو ذات الوجود الذي تزينت به الموجودات العالمية وتحققت حقائقها وأزهر ببهجته العالم. هل يرى أحد ذات الوجود أو يحس به بحواسه؟ لا تقل نعم. فإنك إنما تحس الموجود المحسوس لا بذات الوجود. أين الحواس من إدراكه؟
فترى المولود حين خروجه من بطن أمه كأنه تلميذ أكمل دروسه وتلقى علمه وأذى امتحانه وصارت له نوبة العمل في أعمال معيشته ولوازم حياته.
قد كان في الرحم ولم يألف في حياته هناك إلا ظلمات وأحشاء ومشيمة تبعث إليه من الحبل السري غذاءه وتأخذ فضوله من دون طلب منه ولا سعي في أمره. لم يعرف تغذيا بفم ولا غذاء من ثدي ولا طلبا للمعيشة ولا سعيا للرزق ولم يعرف أما ولم يألف لها حنانا. فتراه في أول ولادته ينادي بطلب غذائه ويسعى جهد قدرته في معيشته. فترى طفل الانسان إذا وضعته أمه على الثدي أول مرة يحاول الامتصاص ويدير فمه على الثدي باستعجال يطلب طريق رزقه فكأنه قد ألفه دهرا وقضى في لذته وطرا وأنس به زمانا حتى إذا التقم الحلمة سكن بكاؤه وقر قراره وصار يمتص اللبن بإقبال والتذاذ وسكون واستعجال. كأن له في هذه الأمور سابق تدريس وعلم وامتحان وتجربة ومحبة وألفة. ولقد شاهدت شاة حين ولادتها فرأيت جنينها زار الأرض مخرجا رأسه من كيسه طالبا للفرار منه كأنه يعرف أن هذا الكيس قد صار في دورة الولادة سجن الضيق والضرر والفقر بعد أن كان بيت الراحة والحماية والكفاية. فصار ذلك القادم الجديد الغريب يرغو بلجاجة ويتحرك باستعجال متوجها إلى ناحية رأس أمه الذي لم يره قط. يزحف مرتعشا ويتحرك مستعجلا متكلفا حتى إذا وصل إلى رأس أمه وتمكنت من لحس ما عليه من الرطوبات سكنت حركته واطمئن في مربضه فكأنه يقدم أعضائه إلى أمه لكي تلحس رطوباتها. أيها القادم الجديد هذه الرطوبات كانت ثوبك المألوف في دور الجنينية فلماذا تساعد على نزعه.
____________
1 ـ سورة الانفطار: الآية / 6 - 8.
2 ـ سورة إبراهيم: الآية / 10.
3 ـ سورة الملك: الآية / 14. (*)
الشيخ: هذا الكلام عجيب غريب منك ومن أمثالك. فإنا نقول لك: (أولا): إذا قادك العلم والوجدان إلى الاعتراف بوجود الموجود فهل يسوغ لك في شرف الشعور والأدب أن تجحد وجوده لأنك لا تعرف حقيقته من أجل قصورك عن إدراكها؟ إنك إذا رأيت شيئا تقصر عيناك عن تمييز حقيقته فهل يسوغ لك أن تقول لا وجود لهذا الشئ. إنك لا تعرف حقيقة النفس للحيوان ولا مائز العقل للانسان فهل يسمح لك الشعور بأن تقول ليس للحيوان نفس يمتاز بها عن الحجر وليس للانسان عقل يمتار به عن سائر الحيوان. فعليك أيها الدكتور أن تتبع العلم وحجته ودلالة الوجدان إلى حيث يوصلانك وتقف حيث يقفان. وثانيا. إن اختلاف الناس وتيه كثير منهم في أمر الإلهية هو عادة جارية للجهل المركب الذي يقتحم على كل حقيقة. فهل يسوغ إنكار الحقائق لأجل اختلاف الناس فيها وضلالهم عن سبيلها في متاهات الجهل والقصور. هل يوجد في الحس ما هو أجلى وأظهر من النور. أفلا تدري باختلاف الطبيعيين فيه حيث قال بعضهم: إنه مادة وذرات تنتشر من الجسم المنير بواسطتها تدرك العين المرئيات. وقال بعضهم: إنه حاسة يحدثها نقر تموج الأثير على عصب البصر. التموج الصادر من الأجسام المنيرة. فما أبعد ما بين هذين المذهبين.
ومما يزيد في خفاء حقيقة النور ويجعل الآراء فيها عرضة للنقد والتزييف ما كشفت عنه التجارب من النور الغير المرئي. كالنور الأحمر من الحل الطيفي لنور الشمس. وكالنور الغير المرئي من النور للكهربائي الذي اكتشفه (رونتكين). ومما يزيد في خفاء حقيقة النور ما يوجد من الاختلاف الكبير بين النورين، فإن نور الشمس لا ينفذ إلا من الجسم الشفاف وإذا حل على مكان ينكسر. والنور الكهربائي لا ينكسر، وينفذ من الأجسام الكثيفة ما عدا الفلزات. والمأمول من العلم أن يظهر من اكتشافاته ما يجعل العقول حائرة في حقيقة النور. وهذه الكهربائية التي أعملت في الأفاعيل الكبيرة قد قال قوم فيها إنها عبارة عن قوتي سيالين يكونان ممزوجين متكافئين في الأجسام الغير المكهربة. وبتفريق هذين السيالين تظهر الكهربائية وتهيج وباتحادهما تتفرغ ويبطل التهيج. وقال قوم قوة واحد في الأجسام متوازن، وبزوال الموازنة تتكهرب الأجسام، وبعود الموازنة تتفرغ ويبطل التهيج. ما هي حقيقة السيال؟ وكيف يكون جاذبا، وكيف يكون دافعا، وأين يذهب إذا تفرغ، وأين يذهب إذا انقطعت دائرته، هل يختص بسطح الجسم، ولماذا يختص، وكيف يتكهرب الهواء والفضاء، ولماذا تختص الكهربائية برؤوس المروس أو تزيد فيها؟ لا زالت زوابع الجهل المركب تذهب بالأفكار في كل متاهة. قد قحمتها في ضلال إنكار الوجود بعد العدم ودعوى امتناعه، مع إنك وكل أحد ترون وتجدون في كل ساعة ألوفا وألوفا مما حدث بعد العدم.
إن مثلك لا ينبغي أن يخفى عليه أنه يلزمه النظر الصادق في أمر الحقيقة واتباع الحجة الواضحة والدليل الهادي لكي ينجو من تيه الضلال، ويتمسك بما وصل إليه من العرفان. فانظر هداك الله في أمر الإلهية بعين البصيرة وأثبت أقدامك في مراكز اليقين. فإذا تجلى لك أمر الإله وعلمه وحكمته فهل يقبل شرف إنسانيتك أن تفر فرار العبيد فتجحد الإله لمحض خوفك من الخضوع لنير تعاليم متدلسة باسم الدين. أليس من اللازم عليك أن تنظر في أمر التعاليم التي تدعر، إليها. فما عرفته أنه من التعاليم الإلهية الحقيقية أخذت به وأرشدت بني نوعك إليه. وما عرفته أنه من الأهواء المتدلسة باسم الدين أعرضت عنه وأوضحت لبني نوعك ضلاله. فإن هذه التعاليم المتدلسة كما قلت أنت هي نير الشقاء وغل الضلال والعناء. وثقل الخسران الباهض. ولكن هل يخفى عليك أن التعاليم الإلهية الحقيقية هي من رحمة الله للبشر وهي تاج الشرف وزينة الكمال وفخر الأحرار يستريحون إلى كمالها وعدلها وإصلاحها من عبودية الشهوانية البهيمية ونير الأهواء الخسيسة. فيا للعجب من فضيلتك أيها الدكتور أراك تحيد عن الحجة الساطعة في أمر الإلهية والمحجة الواضحة في العلم وتعلل بهذه التشبثات الباردة.
الدكتور: ألا تجري يا شيخ في الاحتجاج على المعارف الإلهية لكي أعيد النظر وازداد في البصيرة. الشيخ: مهما اختلفت الأهواء وتشعب الجهل فإنها لا تثنى فطرة الانسان الأولية عن حكمها بلزوم تعليل الكائن والنظر في علته وإن اقتصر بعض المغفلين والقاصرين على ما يهمه في حاله الحاضر وحاجته الوقتية الطفيفة. ولكن جميع النفوس في نظرها إلى هذا العالم وما يحدث فيه كل آن من الموجودات التي لا تحصى لا زالت تطلب الوقوف على مصدر هذه الكائنات ومبدأ وجودها. كانت الأهواء ههنا قد عملته أعمالها بدسائسها. فكان نوع الناس بجامع الفطرة الانسانية قديما وحديثا ينظرون إلى العلة الفاعلة في إيجاد الموجودات مدرجين مادتها في لفيف الموجودات الحادثة. إذ يجدون بفطرتهم وإحساسهم وبرهانهم إمكان وجود المادة بعد عدمها وخضوع وجودها للقدرة الفعالة.
فخيلوا أنهم قد أصابو الموقف العلمي في التعليل ومركز اليقين الثابت. ولكن يا صاحبي يا حضرة الدكتور إن ثوب الأزلية لا يكون بحياكة آرائنا وخياطة ألسننا لكي نلبسه لمن نشاء بل إن صفة الأزلية صفة حقيقية لها لوازم مقومات. ولها منافيات لا تجتمع معها في شئ واحد. كيف تكون الجواهر الفردة أو الأثير أزلية يوقف عليها بالتعليل وهي ليست واجبة الوجود. وكيف تكون واجبة الوجود وهي لا تزال متغيرة الكيان بتقلبها باختلاف الصور والحقائق وتقلبات الحركة كما تزعمون؟ وكيف يكون الأثير واجب الوجود مع أنكم افترضتموه مركب المقدار محتاجا إلى أجزائه وإلى فاعل يوجدها ويؤلفها بالتركيب. وكيف تكون الجواهر الفردة واجبة الوجود مع أن فرضها غير متجزية مستحيل وبحسب فرصكم لاشتمالها على قوتي الجذب والدفع وأن لها حركات مختلفة الوضع والأمكنة والجهات وكونها متجزية يستلزم تركبها في المقدار فتكون محتاجة إلى أجزائها وإلى فاعل يوجد أجزاءها ويؤلفها. هذا كله في المادة وقد مر مشروحا.
العلة الأولية الأزلية الفاعلة للإيجاد
وأما العلة الفاعلة للإيجاد فمهما تساهلتم في أمرها وحاولتم صرف الأنظار عنها ألجأتكم الضرورة إلى أمرها فقلتم إنها صدفة الحركة. الحركة هي أكوان متتابعة ينعدم الأول فيحدث الثاني. ما هو العلة الفاعلة لهذه الحركة.
هل نخادع عقولنا ووجداننا ونقول إنها أزلية. ما هو الأزلي منها. هل هو الكون المنعدم أو الكون المتجدد؟ أم نذهب بالتسلسل إلى غير النهاية رغما على بداهة العلم في بطلانه وخصوص حجتك المذكورة صحيفة 69 و 70.
كرامة القرآن في حجته
وتوبيخه وقد احتج الله على المتغافلين عن خالق العالم فقال جل شأنه في الآية الخامسة والثلاثين والسادسة والثلاثين من سورة الطور المكية (أم خلقوا من غير شئ) يخلقهم ويوجدهم بعد عدمهم. هل يمكن في الشعور أن يقولوا بذلك (أم) يقولون إنهم (هم الخالقون) لأنفسم هلى يتحملون شناعة هذا القول (أم) يقولون إنهم (خلقوا السموات والأرض) هذا العالم الكبير هل خلقوه وهم عدم وقبل وجودهم؟ إذن يا صاحبي لا محيص للعلم وشرف الشعور والانسانية عن الانتهاء بالتعليل لفاعلية الايجاد إلى الفاعل الأزلي ولا يمكن وصفه بالأزلية إلا أن تعترف له بوجوب الوجود والاستغناء في نفسه عن الموجود. ولا نقدر أن نصفه بوجوب الوجود ما لم نعترف له بلوازم وجوب الوجود ونلتزم بها. وما لم تنزه ذاته المقدسة عن منافيات وجوب الوجود. وقد أسلفنا دلالة الفطرة وحكم الشعور والوجدان السليم على أن هذا الواجب الموجد للعلم لا بد من أن يكون عالما قد أوجد موجداته لأجل غاياتها التي يعلمها ويقدرها بعلمه قبل وجودها كما رسمناه من صحيفة 101 إلى 133 وستسمع بعون الله دلالة العلم والوجدان على أن موجد العالم لا يمكن إلا أن يكون موجدا بإرادته وعلمه بالمراد. وهذا التكرار الملخص تذكار لما تقدم. وتأسيس للكلام في مطلوبك من الجري في الكلام على المعارف الإلهية.
واجب الوجود العالم
يلزم في وجوب الوجود أن لا يكون الواجب مركبا في الماهية والمقدار. فإن المركب محتاج إلى أجزائه وإلى فاعل يركبها ويؤلف بينها والمحتاج لا يكون واجب الوجود. إذن فلا يكون الواجب ماديا فإن المادي مهما فرض له من البساطة في الماهية لا بد من أن يكون مركبا في المقدار وقد مر امتناع فرض الجزء الذي لا يتجزأ: وأيضا فإنه إما أن يكون ساكنا في مكان خاص فيلزم أن يكون فيه مع جوهريته وماديته المطلقة جهة تقتضي سكونه في المكان الخاص.
وإما أن يكون متحركا فيلزم أن يكون فيه أيضا مع ماديته المطلقة جهة تقتضي حركته الخاصة. فيكون مركبا محتاجا إلى أجزائه وإلى فاعل يؤلفها فلا يكون واجب الوجود. وإن كان السكون في المكان الخاص أو الحركة الخاصة من تأثير فاعل آخر يتصرف فيه لم يكن واجب الوجود وانتقل الكلام إلى ذلك الفاعل المتصرف. الدكتور: كيف يمكن أن نتصور موجودا غير مادي. الشيخ: إن وجود الماديات وتعليلها المستقيم دليل يقودنا إلى الاذعان بهذا الموجود الغير المادي ويجبرنا على الاعتراف به. فإنه لا بد من تعليلها بواجب لذاته ولا يمكن أن يكون واجب الوجود ماديا. إذا شهدت بوجود الموجود آثاره وأعماله المحسوسة بكثرة مدهشة فلا يصح لنا جحوده أو التوقف عن الاعتراف به لمحض قصورنا عن تصور حقيقته. ولماذا لا نلتفت بذلك إلى قصور أفكارنا عن معرفة جملة من الحقائق.
نرى أعمال النفس في الحياة والشعور ولا يمكننا درك كنهها. نعم قد تسرع بعض الناس في البحث عن ماهيتها فصار هذا يقول هذا رأيي هكذا، وهذا يقول رأيي هكذا آراء مجردة وفتاوى كأنها مقدسة لكن ذات النفس تشمئز من أوهامها وتضجر. ما هي القوة وما هو كنهها، ما هي ماهية النفس والشعور، ما هو الوجود؟ هذه الأمور كلها غير مادية فكيف اعترفتم بوجودها؟ أليس ذلك لأجل مشاهدة أعمالها. إذن فماذا يمنعكم عن الاعتراف بوجود واجب الوجود مع مشاهدة أعماله في هذا الكون الذي لا بد من تعليله به. يا من يفترضون الأثير افتراضا مزعوما ويربطون به التعليلات الطبيعية قولوا إنه في غاية اللطافة والبساطة ولكن ما هي حقيقته. هل هو مادي؟ ألستم تزعمون أن المادة من نتائج زوابعه أو تكاثفه. قد أذنتم لكثير من الحقائق أن لا تكون مادية ولا بظهر لعالم الماديات والحواس إلا أعمالها فماذا يصدكم عن الاذعان بذلك لواجب الوجود؟ أم تريدون أن نتقهقر في التعليل إلى ما لا يمكن أن يكون واجب الوجود. أليس من شرف الانسانية أن لا تتلون في أفكارها. أليس من شرف العلم أن يجري في نهج مستقيم عادل؟ ألا تنظر إلى غفلات الأهواء، هذه الغفلات والطفرات التي يسمونها شجاعة أدبية. أنظر إليها كيف فعلت أفاعيلها.
الدكتور: هل يمكن معرفة شئ من شأن هذا الواجب الوجود. الشيخ: نعم من الأمور ما تكون معرفته ضرورية للإذعان بوجوب الوجود. فقد تكرر فيما مر أن واجب الوجود لا يكون مركبا لا في الماهية ولا في المقدار. لأن التركيب بجميع وجوهه يضاد وجوب الوجود. أليس المركب محتاجا إلى أجزائه وإلى فاعل يؤلفها؟ فأين يكون وجوب الوجود. ومن ذلك يتضح أن واجب الوجود يلزم أن يكون في غاية البساطة والقدس في التركيب من جميع الوجوه.
الدكتور. يا غبطة القس ويا عمانوئيل هل أنتم مذعنون بما ذكره الشيخ من الدعوى والاحتجاج.
القس: هل يمكن العدول. عن جادة الحق اليقين والحجة الواضحة. الدكتور: إذن فأسألكم عن التثليث والأقانيم التي يقول بها أصحابكم النصارى كما قال بها البراهمة والبوذيون وكثير من الأمم الوثنية. هل هذه الأقانيم الثلاثة ترجع إلى التركيب في الماهية والجوهر بحيث تكون الأقانيم عبارة عن أجزاء هذا المركب، أم ترجع إلى أن الإله الواجب متعدد في الوجود بحيث تكون الأقانيم أفراد جنس الإله الواجب كأفراد الانسان؟ القس. قل ما تعرفه في هذا المقام يا عمانوئيل.
(وعليهم ثالث) أن يوضحوا صراحة الكتاب في أمر الأقانيم والثالوث صراحة مفيدة في تأسيس التعليم وإعلان الديانة. يا عمانوئيل هل هذه الأمور الثلاثة مستطاعة لأصحابك.
عمانوئيل: أحب تأخير الكلام في هذا حتى يتضح لنا الحال في أمر توحيد الإله وحكاية تعدده وتجسده وحينئذ تتم مباني الكلام وتتمهد أساسياته.
إمتناع تجسد الإله
الدكتور. هذا الإله الواجب هل يتجسد وهل يلبس الطبيعة البشرية لكي يرفع قدرها ويظهر مجده وقدرته. كما بقوله البراهمة والبوذيون وكثير من الرومان والأمم والنصارى. الشيخ: أفا كونه تعالى شأنه جسدا من الأزل بمعنى كونه ماديا من الأزل فقد تقدم امتناعه على الواجب الوجود فإنه يلزم من كونه جسدا كونه مركبا في المقدار أو في الماهية ومقدورا لمن يلجئه إلى السكون في المكان الخاص أو الحركة الخاصة. وأما حدوث التجسد له وتغير كيانه الأول فقد مر في كلامنا وكلامك أن واجب الوجود لا يمكن أن يتغير كيانه. ولزيادة الايضاح نقول إن قد ذكرنا أن واجب الوجود لا بد من أن يكون منزها عن التركيب وفي غاية البساطة من كل جهة.
فذلك الكيان بتلك الحقيقة البسيطة هو واجب الوجود ومن وجوب وجوده يلزم كونه أبديا. فمن الواضح إذن أنه يستحيل أن يتبدل هذا الكيان إلى كيان آخر وإن كان بسيطا فإن الكيان الأول يخرج عن كونه أبديا وواجب الوجود وأما الكيان الثاني فهو حادث بالضرورة فلا يكون واجب الوجود. بل يجري نحو هذا البيان حتى لو فرضنا الكيان الأول لواجب الوجود مركبا فإنه بفرض تغيره إلى كيان آخر مركب أو بسيط يخرج عن فرض كونه واجب الوجود. وهذا بديهي وقد ذكرته أنت في صحيفة 363. ويا للعجب من قولك (ويظهر مجده وقدرته) أي مجد وقدرة يظهر أن بالتجسد. هل يظهران بالخضوع لفقر البشرية وحاجتها إلى الطعام والشراب. أم بذلة الآلام والاضطهاد. أم بالصلب والاستزاء والقتل كما ابتلى به من زعم الناس أنه إليه متجسد مثل بوذا. وكرشنا. واندرا. والمسيح. وغيرهم ممن ألهه المكسيك والرومان وغيرهم.
الدكتور: هله تفتخر يا عمانوئيل بوجود هذا الكلام وهذه الحجة في العهد الجديد وهل تجعله دليلا على سداد العهد الجديد في تعليمه في الإلهية.
عمانوئيل: إني أعرف مواقع إشاراتك في هذا الكرم. ولا تحسب أني أخضع لأسماء الكتب وكل ما انطوى فيها. وإنما أخضع للتعليم الصحيح حيثما أظهر مجده بحجته الواضحة بالسير العلمي. لا بطفرة الشجاعة الأدبية. ولا تحسب أنا في غفلة عما تشير إليه فإنا قد انتقدنا على أناجيل متى، ومرقس، ولوقا، وكتاب أعمال الرسل تعليمها بتعدد الأرباب وجعل البشر ربا وأشرنا إلى تحريفها وسقوط حجتها، كما انتقدنا على إنجيل يوحنا تعليمه بتعدد الآلهة وأشرنا إلى تحريفه للمعنى وسقوط حجته. فانظر إلى الأول في صحيفة 72 و 73 و 170 - وننتقد أيضا على كتاب أعمال الرسل قوله في شأن المسيح في العدد السادس والثلاثين من الفصل العاشر (هذا هو رب الكل) - وعلى رسالة رومية قولها في العدد الخامس من الفصل التاسع (ومنهم المسيح حسب الجسد الكائن على الكل إلها مباركا إلى الأبد) - وعلى رسالة العبرانيين قولها في العدد الثامن من الفصل الأول في المسيح (وأما للابن كرسيك يا الله إلى دهر الدهور - 10 وأنت يا رب في البدء أسست السموات والأرض هي عمل يديك) - وهل ترانا لا ننتقد على رسالة فليبي قولها في الفصل الثاني (المسيح يسوع 6 الذي إذ كان في صورة الله لم يحسب خلسة أن يكون معادلا لله لكنه أخلى نفسه آخذا صورة عبد صائرا في شبه الناس) - أولا ننتقد على إنجيل يوحنا قول في أول الفصل الأول: (في البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله وكان الكلمة الله - 14 والكلمة صار جسدا) أو لا ننتقد على رسالة تيموثاوس الأولى قولها في العدد السادس عشر من الفصل الرابع (الله ظهر في الجسد).
إمتناع الحلول والاتحاد
الدكتور: هذا الإله الواجب الوجود الذي يمتنع أن يتغير كيانه هل يتحد مع شئ فيكون هو وذلك الشئ واحدا. الشيخ: ما هو معنى الاتحاد هل يتغير كيان واجب الوجود إلى كيان ذلك الشئ، أو يتغير كيان ذلك الشئ إلى كيان واجب الوجود، أو يتغير كيان الواجب وكيان ذلك الشئ بالاتحاد فيحدث كيان آخر؟ إذا كان يمتنع أن يتغير كيان واجب الوجود أو يكون الشئ الحادث بالتغير واجب الوجود فكيف يمكن أن يقال بأحد الوجوه الثلاثة. إذا هان التنقض على الأهواء فإنه لا يهون على النفس الشريفة والعقول المستقيمة. الدكتور: هذا الإله الواجب الذي يمتنع افتقاره إلى غيره ويمتنع أن يتغير كيانه هل يحل في الأجسام الحادثة مطلقا كما يقوله بعض الوثنيين أو يحل في بعض البشر كما يقول بعض النصارى بحلوله في يسوع (عيسى) المسيح. أو كما يقول بعض المتصوفة بحلوله في أبدان العارفين منهم.
الشيخ: ما هو معنى الحلول الذي يقول به هؤلاء؟ هذا الحلول الذي يخصونه ببعض الأجسام دون بعض هل يمكن أن يكون مع تقدس واجب الوجود عن كل ما يضاد وجوب وجوده. هل يحل الإله حلول البياض بالجسم والعرض بالجوهر. ألا تدري أن البياض الذي هو عرض لا يتقدم بنفسه ولا يمكن أن يكون له تحقق ووجود بدون الجسم بل هو مفتقر في تحققه ووجوده إلى الجسم. أم هل يحل حلول الصورة بالمادة. ألا تدري أن الصورة مفتقرة في وجودها إلى المادة. هل يكون واجب الوجود مفتقرا في وجوده إلى غيره. إذن فأين وجوب وجود! ماذا كان واجب الوجود قبل هذا الحلول الموهوم.، هل كان متقوما بنفسه غير محتاج إلى غيره ثم تغير كيانه إلى الحال الذي يفتقر إلى غيره. إذن فأين يكون وجوب وجوده. الذي يتغير كيانه كيف يكون واجب الوجود أم تقول: إنه لم يكن متقوما بنفسه بل كان منذ القديم محتاجا إلى التقوم بغيره. إذن فأين يكون وجوب الوجود؟ أم تقول: إن حلوله في البشر الخاص يكون من نحو تعلق النفس ببدن ذلك البشر. فنقول إذن فتكون أعماله وعلومه عند الحلول متوقفة على آلية البدن كما هو الشأن في نفس الانسان المتعلقة ببدنه. هذا التوقف في أعماله وعلومه هل كان من اقتضاء كيانه منذ القديم؟ إذن فلا يكون هو العلة الأولى في الخلق ولا يصح الوقوف عليه بالتعليل. وبماذا نعلل وجود البدن وآليته، هل البدن هو واجب الوجود؟
عمانوئيل: قد تكلمنا في صحيفة 72 من الجزء الأول على أن إنجيل يوحنا ينسب إلى المسيح (وحاشاه) تعليمه بتعدد الآلهة واستناده إلى تشبث تحريفي واه. فهل من بعد هذا أحمل مسؤولية من أجل إنجيل يوحنا. وأيضا لا ينبغي أن ننظر إلى مسألة الحلول من إنجيل يوحنا. بل ينبغي أن ننظر إلى إنجيل يوحنا من مسألة الحلول. وأيضا إن إنجيل يوحنا ومطلق كتب العهد الجديد قد تقلبت واضطربت في أساليب الكلام إذن فلا يؤخذ منها نتيجة في كلام ولا استقامة في مبدأ. فإن إنجيل يوحنا يوسع نطاق الاتحاد والحلول ويذكر في الفصل السابع عشر عن لسان المسيح في شأن التلاميذ والمؤمنين (21 ليكون الجميع واحدا كما أنك أنت أيها الأب في وأنا فيك ليكونوا هم أيضا واحدا فينا 22 ليكونوا واحدا كما أننا نحن واحد 23 أنا فيهم وأنت في) وفي الفصل الرابع من رسالة يوحنا الأولى (8 ومن لا يحب لم يعرف الله لأن الله محبة 16 الله محبة ومن يثبت في المحبة يثبت في الله والله فيه) فلا يعرف من هذه الكلمات فساد المبدأ أو تشويه الكلام بالتعبيرات السخيفة. ومن ذلك ما في الرسالة الأولى لأهل كورنتوش في العدد السادس عشر من الفصل الثالث (أما تعلمون أنكم هيكل الله وروح الله يسكن فيكم) ونحوه ما في العدد الثاني والعشرين من الفصل الثاني من رسالة أفسس. لكن تقف تشبثات التأويل عند العدد العشرين من الفصل السادس من رسالة كورنتوش الأولى في قولها (وفي أرواحكم التي هي الله).
الإله لا يلد
الدكتور. هذا الإله الواجب الوجود الذي لا يتجزأ لا في الماهية ولا في المقدار ولا يتغير كيانه هل يلد أو هل ينبثق من جوهره وكيانه الإلهي موجود آخر نسميه إلها مولودا من الإله. الشيخ: ما هو معنى الولادة التي تقولها؟ هل هو أن ينفصل جزء من الإله ويدخل أرحام النساء فيكون إنسانا؟ فكيف يكون هذا مع أن واجب الوجود لا يتجزأ ولا يتغير كيانه: وما هو معنى قولك (ينبثق من جوهره وكيانه الإلهي) هل تريد مثل ما ينبثق الثمر من الشجر فتكون أجزاء الشجر ثمرا بسبب تقلب النمو وتطورات أجزاء الشجر بالتغير؟ كيف يكون هذا مع أن واجب الوجود لا يتجزأ ولا يتغير كيانه. الدكتور. ماذا تقول أنت يا عمانوئيل في هذا الشأن.
عمانوئيل: قد عرفت الغرض الذي ترمي إليه. وإني قد تتبعت الكتب المنسوبة لنبوات الديانة الإسرائيلية والديانة النصرانية فوجدتها مضطربة المبدأ قلقة الكلام في معنى الولادة من الله - (فتارة) يلوح منها أنها تريد بالنبوة لله والولادة منه معنى جائزا وإن تشوهت عبارته بسخافة المبالغة.
تريد بذلك محض ارتباط الملة أو الشخص بالإيمان والتوحيد والصلاح وامتيازه بذلك عن البشر فتشير بذلك إلى امتياز هؤلاء بالارتباط بالله بالإيمان وصلاح الطاعة كامتياز الولد بالارتباط والانقياد لأبيه وشرف مكانه عند الأب. وربما يكون من ذلك ما يحكى عن قول الله في شأن بني إسرائيل. في التوراة في العدد الثاني والعشرين والثالث والعشرين من رابع الخروج وفي أول الفصل الحادي عشر من كتاب هوشع (إسرائيل ابني البكر - أطلق ابني) (لما كان إسرائيل غلاما أحببته.
الدكتور: هذا الإله الواجب الوجود الذي لا يتجزأ ولا يمكن أن يكون مركبا لا في الماهية ولا في الوجود ولا في المقدار. هل يلزم أن يكون واحدا مقدسا عن الشريك في الإلهية. أو يجوز تعدد الآلهة والشركاء في الإلهية. كما خبطت به أفكار الكثير من المتدينين بالإلهية. الشيخ: لما لزم الاعتراف للإله الذي هو العلة الأولى للكائنات بأنه واجب الوجود ولا يمكن أن يكون متجزيا ولا مركبا لا في الماهية ولا في الوجود ولا في المقدار فكيف يتعدد الإله. ولأجل تشريح الكلام وتوضيح البيان وتتبع الأوهام في متاهاتها نقول إن تعدد الإله لا بد فيه بعد الاشراك في الإلهية أن يمتاز كل واحد بمميز له عن الشريك الآخر بحيث يتحقق التعدد ويصح الحكم به.
فهذا المائز هل هو بجعل فاعل متصرف. وبتصرفه وتكوينه ميز كل واحد عن صاحبه. إذن فالإله الذي هو الفاعل الأول وواجب الوجود الذي قلنا به هو ذلك الفاعل الذي ميز بتكوينه هذه الأفراد التي تكون بذلك أفرادا عالمية فلا يكون وصفها بالإلهية ووجوب الوجود إلا من أغلاط الضلال والجهل - لا تقل إن هذا الفاعل المتصرف متعدد. فإنا ننقل هدا الكلام بعينه إليه. فإلى أين تذهب وعلى ماذا تقف بالتعليل. أم هل تقول إن المؤثر في إمتياز كل واحد من الأفراد المتعددة هو طبيعي فيه.
فنقول لا بد من أن يكون المائز في امتياز كل منها هو غير الجهة المشتركة بينها من الطبيعة الإلهية ووجوب الوجود كما هو واضح. فيكون كل من الأفراد مركبا من الطبيعة المشتركة - ومائزه الطبيعي فيكون محتاجا إلى أجزائه وإلى فاعل يؤلفها ويركبها فلا يكون كل منها واجب الوجود. لا أراك تقول كما قيل إن المائز بين الأفراد هو نفس الطبيعة المشتركة بينها. ألا تدري أن الذي يتراءى سرابه للخيال من هذا الفرض الموهوم هو فرص شدة القدر المشترك في بعض الأفراد وضعفه في البعض الآخر قياسا فاسدا على مثل امتياز السوادين بالشدة والضعف وامتياز كثير الشيئين من قليلهما. كيف يخفي عليك أن تحقق الأشدية والأضعفية والاختلاف بهما يتوقف على امتياز الأفراد ولو من حيث المكان والمقدار والحدود ثم يتحقق الامتياز بالشدة والضعف.
أو هل تقول: إن المائز بين أفراد الآلهة المتعددة إنما هو معلول لأمر طبيعي. فنقول من الواضح الجلي أنه لا بد من أن يكون في التعليل الطبيعي ارتباط طبيعي بين وجود العلة الخاصة ومعلولها الخاص فلا بد إذن من أن تكون علة المائز في هذا الفرد غير علة المائز في الفرد الآخر فيلزم على فرض التعدد أن يكون في كل واحد من المتعددين جزء هو القدر المشترك بين الآلهة المتعددة وجزء يعلل بطبيعته لكل فرد مائزه الخاص به. فيكون كل واحد من الأفراد مركبا محتاجا إلى أجزائه وإلى فاعل يؤلفها. إذن فكل واحد من الأفراد لا يكون واجب الوجود. بل نقول. إن كل واحد من أجزاء الماهية محتاج في وجوده إلى الجزء الآخر فلا يكون شئ من ماهية الآلهة المتعددة واجب الوجود. فيا للعجب من الانسان. تراه يتقهقر ويضل وأعلام الطريق له واضحة وأنوار الحقيقة ساطعة. فها هو يضطره شعوره إلى تعليل الكائنات تعليلا مستقيما يستقر على موقف علمي يثبت فيه الأقدام. وبأوليات شعوره يقدر مبدأ تعليله قديما أزليا.. حينما تكون فطرته العلمية التي تنبهه من الغفلات تناديه بأن القدم والأزلية والوقوف بالتعليل لا تستقيم ولا تخرج عن الأوهام المستحيلة إلا بالاعتماد على واجب الوجود وحينما يعرفه وجدانه واعتباره في الكائنات العالمية التي تهتف باسم غاياتها إن هذا الواجب الوجود الوجود يوجد الخليقة على الحكمة والعلم بالغاية فاعترف به إلها وسماه في كل لغة باسم خاص مقدس. وحينما يناديه الشعور العلمي بأن وجوب الوجود ينافيه تركيب الموجود بجميع صور التركيب. كيف لا ينافيه؟! والتركيب تلزمه الحاجة إلى الأجزاء والحاجة إلى فاعل يؤلفها. وينادي بأن الأفراد التي يدعى اشتراكها في الإلهية لا بد من أن تكون مركبة. فيا أيها الانسان لماذا تقهقرك أوهام الأهواء عن الحقيقة رغما على أساسياتك التي لا محيد لك عنها في شرف العلم وناموس الشعور. تتقهقر وتجعل الإله آلهة متعددة فلا تقدر حينئذ أن تصف واحدا منها بوجوب الوجود الذي هو الأساس في الإلهية وعليه يبتني عرفانها.. لماذا عدلت عن الحقيقة إلى المستحيلات ونكصت عن الجادة إلى التيه وعن المنهل إلى السراب. أين أساسياتك في الإلهية. أم أين الاستقامة في الشعور؟