هذا حال الانسان الأثيم وقد احتج عليه إله الحق ووبخه على التقهقر التعيس في النكوص إلى تيه الضلال من نصف الطريق الواضح. فقال جل اسمه في الآية السابعة والثمانين في سورة الزخرف المكية: (ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله) جريا على فطرتهم في الوقوف بتعليل الخلق على واجب الوجود الذي اسمه المقدس الخاص به في العربية (الله) كما يسمى في كل لغة باسم خاص به مقدس. فإنه مهما غاب عن الانسان شئ فإنه لا يغيب عنه كونه حادثا بعد عدمه ينادي وجود مجموعه وأجزائه بخلقته على الحكمة وقصد الغاية. فلا بد له من تعليل وجوده بخلقة الله إذن (فأنى يؤفكون) ومن أين جاءهم إفك الضلال بتعدد الآلهة وكيف يجمعون بين الانخداع لإفك الشرك وتقديس الله بوجوب الوجود والكمال الإلهي: وقال تعالى في سورة العنكبوت المكية الآية 61 و 63: (ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله فأنى يؤفكون) (ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها ليقولن الله قل الحمد لله) على نعمه وظهور الحق وقيام الحجة ولله الحجة البالغة (بل أكثرهم لا يعقلون). وجاء نحو هذا الاحتجاج أيضا في الآية الرابعة والعشرين من سورة لقمان المكية، والتاسعة والثلاثين من سورة الزمر المكية..
وقال جل اسمه في سورة النمل المكية من الآية التاسعة والخمسين إلى السادسة والستين (الله) الذي يعرفونه ويعترفون بأنه الإله الخالق (خير أم ما يشركون) ويجعلونه إلها مع الله مما لا يقدرون أن يجعلوه واجب الوجود. بل ينتج من ضلال شركهم وقولهم بتعدد الآلهة أنهم لا يقدرون أن يصفوا واحدا بوجود الوجود. هذه المخلوقات التي تشركون بها هل تدعون أو تقيمون الحجة على أنها خلقت شيئا. أو أفادت في العالم نفعا (أمن خلق السموات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة) بعد أي كانت أرضا قفراء موحشة و (ما كان لكم) وبطافتكم (أن تنبتوا شجرها) أفليست الحجة قد دلت على أن الخالق العليم هو الله واجب الوجود. واعترفت الناس وأقرت به. إذن فكيف يشرك المشركون وأنى لهم بوجوب الوجود مع الاشتراك (ءإله مع الله بل هم قوم يعدلون) عن الحق إلى الباطل وعن العلم إلى الجهل وعن سداد الحجة إلى وهن الأغاليط (أمن جعل الأرض قرارا وجعل خلالها أنهارا وجعل لها رواسي) من الجبال تنفذ منها النار السيارة في الأرض لمنافعها فتكون الرواسي بحكمتها واقية للأرض من الميدان بالزلزال ومخففة لوطأته (وجعل بين البحرين حاجزا) من القدرة يبقى معه العذب على عذوبته والملح على ملوحته والتيار على جريانه والراكد على ركوده. أفلا يعترف المشركون أن الجاعل لذلك هو الله الواجب الوجود بل أنهم ليعترفون. إذن فكيف يشركون (إله مع الله بل أكثرهم لا يعلمون) ولا يهتدون إلى رشدهم في العلم وأتباع الحجة، تشذ بهم الأوهام وتقلبهم التقاليد على أعقابهم. ألا، وإن لكل بشر حالات وأوقات تفر بها نفسه إلى الله مولاها فتلتجئ به في حاجاتها وشدائد اضطرارها وكثيرا ما يفرج عنها وهي عارفة بنجاح التجائها وإجابة سؤلها حتى إذا تمتعت بالفرج زمانا نسيت النفوس ذلك التوجه وذلك الالتجاء وتلك الاجابة.
أفلا يعتبر المشركون بتلك الحالات إذ يرون نفوسهم تفر إلى مولى واحد لا تنزل حاجتها إلا بساحة رحمته ولا ترى نجاحها إلا منه. فما الذي أغفلهم عن ذكر ذلك والتبصر به في جميع الأحوال. أفلا ينظرون إلى من تلتجئ نفوسهم عند شدائد الاضطرار (أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض) في طبقات خلقكم وفنائكم تتعاقبون خلفا بعد سلف تقعدون مقاعد الماضين وتتمتعون بأموالهم التي كدوا فيها ومنازلهم التي تعبوا في عماراتها ورياساتهم التي اغتروا بها (إله مع الله) ولو أحسنتم التذكر والتبصر في جميع أوقاتكم بحالات نفوسكم عند اضطراراتها ونجاح التجائها رغما على الأسباب العادية وصدق عرفانها بمولاها في تلك الأحوال التي تتخلص فيها النفوس من أسر الأهواء وتتوجه بحرية فطرتها إلى الله لما اختلجت في عرفانكم الشكوك ولا طمعت فيكم غواية الأهواء وأوهام الشرك ولكنكم (قليلا ما تذكرون * أمن يهديكم في ظلمات البر والبحر) بدلالة الكواكب التي خلقها (ومن يرسل الرياح بشرى بين يدي رحمته) يسخر بها السحاب ليغيثكم برحمة مطره أفلستم تعرفون الله (أإله مع الله تعالى الله عما يشركون) وتقدس بوجوب وجوده وكماله الإلهي. ويا أيها الذين يؤمنون بالمعاد والقيامة بعد الموت (أمن يبرأ الخلق) كما ترون حدوث الكائنات في الخلق طبقة طبقة وفنائها طبقة طبقة (ثم يعيده) في أنواع الكائنات على أحسن تماثل وأتم تناسب في طبقاتها ومواليدها ويعيدها في أشخاص الانسان من بعد الموت كما تعترفون به وتنسبون الخلق إلى الله واجب الوجود (ومن يرزقكم من السماء والأرض) ما به قوام حيوتكم (أإله مع الله) الذي تعرفونه
وتعترفون به وبأنه الخالق وكاشف الضر ومدبر الأمور فأين تذهب بكم الأوهام (قل) لهم يا مجادلهم سامحناكم عن كون تعدد الآلهة من الأوهام المستحيلة وأن الإلهية وكمالها ووجوب الوجود منافية لتعدد الآلهة. لكن ما هي حجتكم على شرككم وإلهية من تدعونه شريكا لله؟ ولا نطالبكم بأن كلما تدعونه إلها مع الله هو رهن لدلائل الحدوث والحاجة إلى الإله الخالق. نغض الطرف عن ذلك لكن هل تكون دعواكم مقدسة لا يسأل عن برهانها. هيهات (هاتوا ببرهانكم إن كنتم صادقين) وما هو برهانهم. هل يقدرون أن يقيموا الحجة الكافية على أن من يدعونهم آلهة مع الله قد خلقوا خلقا بقدرتهم الذاتية الإلهية في مقابل قدرة الله وخلقه. من أين تكون لهم الحجة على ذلك. قال الله جل اسمه في الآية الأربعين من سورة فاطر المكية (قل أرأيتم شركاءكم الذين تدعون من دون الله أروني) بعلم اليقين (ماذا خلقوا من) عالم (الأرض أم لهم شرك في) عالم (السماوات) وخلقه (أم أتيناهم كتابا) يكون لهم وثيقة بالاعتراف باشتراكهم في الخلق في خلق شئ من الأرض والسموات (فهم) بهذا الكتاب وهذه الوثيقة الاعترافية بالاشتراك في الخلق (على بينة منه) وأين يكون ذلك؟ بل (إن يعد الظالمون بعضهم بعضا) في واهيات الشرك وخرافاته (إلا غرورا) وجاء نحو ذلك في الآية الثالثة من سورة الأحقاف المكية والآية السابعة عشر من سورة الرعد المكية. هؤلاء الآلهة المتعددون بالفرض المستحيل ماذا تفرضون لهم أيها المشركون من الحال بالنسبة إلى خلق العالم وتدبيره وارتباط مخلوقاته وأطواره، وانتظامه في
والمفروض أنهم ليس لكل منهم كمال إلهي تام يوحدهم. ولا عليهم سلطة سياسة تنظم أمرهم، ولا تسديد من تسديد إله كامل في الإلهية فوقهم، ولا حاجة في كيانهم وبقاءهم إلى مخلوقهم واستقامة نظامه وبقائه لكي يحافظوا على ذلك فيتنازل كل منهم عن معلوماته وأمياله وإراداته وأعمال قدرته ورحمته وغضبه فينقاد إلى جهل صاحبه وضعفه وتساهله أو شدته. ولا تهديد يلجئهم إلى هذا التنازل لأجل التحزب وعقد الجمهورية الزمنية للمحافظة على كيان اجتماعهم من خطر التهديد المحدق بهم. وعلى هذا فإن فرضناهم مشتركين في خلق جميع العالم وجميع مخلوقاته وتدبيره في أطواره وانتظامه في أدواره لم يستقم للعالم نظام ولا للموجودات بقاء ولا للطبائع والجبلات ناموس. وهذا هو مرمى الاحتجاج بقوله تعالى في الآية الثانية والعشرين من سورة الأنبياء المكية: (لو كان فيهما) يعني السماء والأرض (آلهة إلا الله لفسدتا) أي غير الله يكونون آلهة مثله وفي قباله بدون أن تكون عليهم سيطرة خالقية إلهية (فسبحان الله رب العرش عما يصفون). وإن فرضنا اختصاص كل واحد بقسم من المخلوقات في خلقه وحفظ بقائه وتدبيره شؤونه في أطواره وأدواره لم يستقم للعالم أيضا نظام ولا للمخلوقات بقاء ولا للطبايع والجبلات ناموس.
فإنا نرى اشتباك العالم بالعلائق وارتباط الموجودات بالتأثير واقتران الطبايع في النواميس وتشابكها في التوليد وتركب الموجودات في الخلق. وهذا هو مرمى الاحتجاج في قوله تعالى في الآية الواحد والتسعين من سورة المؤمنون المكية (ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق) حسب ما يقتضيه علمه وإرادته وميله وقوته وغضبه وعدم الموحد له مع الآلهة الأخرى في الرأي والعمل كما ذكرنا فينحل نظام الكائنات ويبطل ناموس التكوين (ولعلا بعضهم على بعض) فإنه لا داعي لتنازل العالم للجاهل والقوي للضعيف والمغضب للراضي والراضي للمغضب في كل موارد الاختلاف والاختصاص (سبحان الله) وتقديسا وتنزيها لشأنه العظيم (عما يصفون) بأوهامهم من نسبة الولد والشريك له، فإنه وصف لا يبقى معه للإلهية شرف ولا كمال ولا معنى معقول ولا لوجوب الوجود حقيقة، ولا لنظام العالم بقاء.
ولا تحسب أن من يؤله الجماد والحيوان وأجرام الكواكب يقول بإلاهيتها بما هي جماد لا حياة فيه أو بما هي حيوان ناقص الشعور بل يجعل لها مما وراء الحس شيئا من صفات الإلهية من الحياة والعلم والقدرة والتصرف والتدبير كما هو شأن الوثنيين. فالقرآن الكريم جاري بحجته هذه بساطة أفهامهم التي يستلفتها من جانب المحسوسات والتجارب في الطباع المحجوبة بنقص الجسمانية والمادية عن الكمال التام الإلهي حيث لا يكون لها تعليم موحد ولا مانع عن الاختلاف. وبقيام الحجة على أن القرآن الكريم كلام إلهي يتجسم هذا البرهان في الحس والوقوع. فيقال إن هذا إله ينفي شركاءه فلو كان هناك شريك لثار الجدال والانتصار للشرف والدفاع عن الحقوق فاستولى الفساد والانحلال على العالم في هذه الحرب العمومية الإلهية. يا عمانوئيل يطول تعجبي من أصحابك النصارى.
هذه كتبهم التي اتفقوا على أنها وحي الله تصرف بأن المسيح عيسى (ع) مخلوق لله ففي صراحة العدد الخامس عشر من الفصل الأول من رسالة كولوسي إنه بكر كل خليقة وفي العدد الرابع عشر من الفصل الثالث من رؤيا يوحنا إنه بداية خليقة الله.. وإنه يلتجئ إلى الله في مهماته ويدعوه ويتضرع له. فانظر العدد الرابع عشر والخامس عشر من الفصل الحادي عشر من إنجيل يوحنا. ويستغيث إلى الله في دفع الموت عنه. أنظر في الفصل السادس والعشرين من متى والرابع من مرقس والثاني والعشرين من لوقا. وفي السابع والعشرين من متى والخمس عشر من مرقس أنه استغاث بالله على الصليب قائلا إلهي إلهي لماذا تركتني.
عمانوئيل: التناقض ليس من أصحابنا وكتاب مغني الطلاب فقط بل جاء هذا التناقض في كتب العهدين. فإن نفس التوراة تؤكد تعليمها بوحدة الله وتأكيد النهي عن تسمية غير الله إلها ففي العدد الثالث عشر من الفصل الثالث والعشرين من سفر الخروج عن قول الله (ولا تذكروا اسم آلهة أخرى ولا يسمع من فمك) وفي العدد الخامس والثلاثين والتاسع والثلاثين من الفصل الرابع من سفر التثنية (لتعلم أن الرب هو الإله ليس آخر سواه. إن الرب هو الإله في السماء من فوق وعلى الأرض من تحت ليس سواه) وفي العدد التاسع والثلاثين من الفصل من سفر التثنية) أنا هو الرب وليس إله معي). ومع ذلك تذكر التوراة عن قول الله لموسى في العدد السادس عشر من رابع الخروج في شأن هرون (وأنت تكون له إلها) وفي العدد الأول من سابع الخروج (أنا جعلتك إلها لفرعون وهرون يكون نبيك) - وجاء في العدد السادس والثامن من الفصل الرابع والأربعين من أشعيا عن قول الله (أنا الأول وأنا الآخر ولا إله غيري، هل يوجد إله غيري) ومع ذلك يذكر في أشعيا عن وحي الله في العدد السادس من الفصل التاسع (يولد لنا ولد، ويدعى اسمه إلها قديرا أبا أبديا).
وهلم الخطب في العهد الجديد إذ يعلم تارة بتعدد الأرباب وتعدد الآلهة كما مر في الجزء الأول في صحيفة 88. وتارة يحمل المسيح إنسانا مضطهدا يتألم ويجوع ويحزن ويبكي ويتصرف به إبليس. ويعترف بأن الله إله، وأنه عبد الله وفتاه، وتارة يجعله إلها كما مر في صحيفة 59 و 61.
كرامة القرآن في حججه وتعليمه
قال الله تعالى في الآية الرابعة والستين من سورة آل عمران: (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم) وهي كلمة التوحيد توحيد الإله. الكلمة التي تلهج بها ألسنتنا وألسنتكم وكتبنا وكتبكم فكانت هذه الكلمة في مبدأ التعليم وأساس الديانة وصراحة الكتب سواء بيننا وبينكم. فلماذا تحيدون عن ذلك وتهدمون أساس التوحيد وتشوهون التعليم الحقيقي بل تعالوا إلى التمسك بحقيقة كلمة التوحيد و (ألا نعبد إلا الله) الذي نعرف إلهيته ونعترف بوحدانيته فلا ندعو معه إلها آخر ولا ربا آخر (ولا نشرك به شيئا) كما ذكر في فلتات كتبكم، التوراة الرائجة، والكتاب المنسوب إلى أشعيا، والأناجيل الرائجة، والرسائل المنسوبة إلى بولس (ولا يتخذ بعضنا بعضا) من البشر (أربابا من دون الله) الذي نعترف بإلهيته وقدسه فلا نجري على تحريف الأناجيل وتعليمها بتعدد الأرباب (1) واتخاذ البشر ربا من دون الله الذي خلقه. فإن اتخاذ البشر ربا يرجع في الحقيقة إلى الجحود لشرف الإلهية وجلال الله في حقيقة الربوبية (فإن تولوا) ولم يأخذوا بحظهم من الهدى والرشد والسلامة من التناقض ولم يقبلوا النصيحة ولم يصنعوا
____________
1 ـ كما مر ذلك في الجزء الأول صحيفة 73. (*)
____________
1 ـ قد كثر في الأناجيل الرائجة ذكر اعتراف المسيح بذلك فانظر أقلا لو 22: 39 ويو 11: 41 و 42. و 17: 2 - 22. (*)
____________
1 ـ أنظر إلى التوراة في سفر الخروج من الفصل الرابع إلى الخامس عشر فيما ذكر من آيات رسالة موسى. العصا. وضربات مصر. وشق البحر. وانظر - إلى معجزات إيليا واليشع مما ذكر في الفصل السابع عشر والثامن عشر من الملوك الأول. والفصل الأول والثاني والرابع إلى الثامن من الملوك الثاني ومن ذلك إحياء الأموات وشفاء المرضى والبرص.
2 ـ أنظر الفصل الثاني من التوراة.
3 ـ كما ذكرناه صحيفة 391 من صراحة العهد الجديد بذلك.
4 ـ فكما قال الله جل أسمه في شأن آدم في الآية التاسعة والعشرين من سورة الحجر المكية والثانية والسبعين من سورة ص المكية: (ونفخت فيه من روحي) المخلوقة بالقدرة قال جل اسمه في شأن المسيح وأمه في حملها به في الآية الحادية والتسعين من سورة الأنبياء والثانية عشر من سورة التحريم (فنفخنا فيها من روحنا) (فنفخنا فيه من روحنا) وكنى بالنفخ عن إيلاج الروح في البدن رعاية للطافة الروح كالريح التي تولج الأجسام بالنفخ. (*)
____________
1 ـ وقد ذكرنا في صحيفة 160 موارد ذلك من الأناجيل فراجع.
قد رأينا ما يتشبث به أصحابكم من كلمات العهدين وجمعت في رسالة قد ردتها رسالة التوحيد والتثليث المطبوعة في صيدا في مطبعة العرفان سنة 1332 وفندت مزاعمها بتشبثاتها من حيث اللغة العبرانية ومواضيع العهد القديم ودلالته وربما نعترض لذلك وزيادة فيما يأتي بعون الله. ولكن لا بأس بمراجعة الرسالة المذكورة عاجلا فإنها مبذولة لمن يطلبها. الدكتور: يا شيخ ما هذه الضوضاء في الغلط الكثير من الإلهيين إذ يشركون ويؤلهون الجماد والحيوان والبشر. مع أن الذي يعترف بالإله يكون إشراكه وتأليهه للبشر من خرافة الأغاليط: فلماذا كان ذلك؟ الشيخ: إنك ترى الناس إذا أسلسوا قيادهم للهوى، أو للجهل المركب والتقليد الأعمى، أو للتشامخ والكبرياء كيف تذهب بهم هذه الدواهي مذاهبها وتقحمهم في ورطات الإفراط والتفريط فيتعامون عن بديهياتهم ودلائل وجدانهم ومحكمات أساسياتهم فتسهل عليهم لأجل ذلك مصاعب المستحيلات وتستحكم في أذهانهم خيالات الواهيات. ألا تنظر إلى الماديين لما علقت فكرتهم بالمبادئ المادية كيف ورطهم انهماكهم بها في إنكار الوجود بعد العدم حتى صاروا يغالطون في العبارة ويقولون يستحيل (حدوث الوجود من العدم) لكي يوافقهم الغر الغافل الذي يحسب أنهم يريدون من هذه العبارة أن الوجود لا يكون العدم مادته ولا فاعله. ألا تراهم كيف كابروا في هذا الانكار وجدانهم ومشاهداتهم التي لا تحصى.. وورطهم في فرض قديم أزلي لا يصفونه بوجوب الوجود حذرا من مطالبتنا لهم بلوازم وجوب الوجود. فأوقعتهم هذه الورطة بين محاذير المستحيلات وهي التسلسل إلى غير النهاية: أو الدور. أو افتراض أزلي لا يمكن تصور أزليته وافتراض الوقوف عليه بالتعليل ولا يؤدي تكلف هذا الافتراض وتحمل مسؤوليته للعلم إلا إلى حيرة الجهل وموقف الحيرة. وها هم قد قلقوا في مزاعم هذا الافتراض الموهوم ودارت بهم زوابعه بين نظريات الجواهر الفردة وزوابع الأثير أو تكاثفه.. وورطهم انهماكهم هذا أيضا في تعليل وجود هذا العالم (بالصدفة) والإيجاد بلا شعور ولا قصد للغاية. فراغموا وجدانهم فيما لهذا العالم وأجزائه من الخصائص الجليلة والحكم الباهر والمقاصد الكثيرة والنظام العجيب المتقن في أحواله وأدواره ومواليده هذه الأمور التي تنادي بالخلق على الحكمة وقصد الغاية. ولا يرضون بالصدفة لما دون ذلك كما مر في صحيفة 57 و 58 و 102 و 103 و 128 يتشامخون في غرورهم بالعلم والشعور لأجل اكتشاف يسير من نواميس الخلق. ويفرطون بجحود العلم والشعور لخالق العالم ونواميسه التي لا يكون سير العلم البشري في ميدانها الأقصر خطوة.
وأما المتدينون فمنهم من أقحمه جهله فيما لا سبيل إليه من معرفة الحقيقة الإلهية إذ كان السير في جادة الدلائل الحقيقية يحدد معلوماته ويعرفه قصوره عن الخوض في لجج هذا التيار العظيم بما عنده من مقدمات العلم البشري الصحيح فغالطته أوهامه بخيالات دلائل تقحمه أخطار الجهل المركب وتمنيه زورا بالامتياز بالوصول إلى أسرار العرفان فخبط وتاه ورجع القهقرى في لوازم مزاعمه عن قوله بوجوب الوجود وعلم الله وخلقه بالإرادة وحقيقة توحيده. ومن الناس من يتدلس باسم التدين ويمشي وراء غروره وتشامخه ولا ترضى غواية تكبره إلا بدعوى مقام الألوهية. فيغالط بمقدمات أسسها غيره لكي يبني عليها دعواه من الحلول والاتحاد والولادة من الله. ومنهم من لا يطمع في تأسيس دعوى لنفسه ولا يقدر أن يدلس نفسه إلا بتابعية غيره من الناس فيغالي بمتبوعه ويرفعه إلى مقام الإلهية لكي يتشامخ هو إلى أعلى مراتب البشر من الرسالة والنبوة ونحوهما. الدكتور: اللازم على الإلهيين في سيرهم على جادة وجوب الوجود أن يكون الإله الواجب الوجود في منتهى ما يتصور من بساطة الذات وعدم التركيب بجميع ما يتصور من أنحاء التركب فليس فيه جهة تعدد أصلا لا من حيث الأجزاء ولا من حيث الأفراد فهو واحد من جميع الجهات المتصورة.
الشيخ: نعم وهل يمكن العدول عن هذه الجادة والاضطهاد لهذه الحقيقة. لا، لا يمكن لا في الشعور العلمي ولا في الشعور الفطري. الدكتور: هل يخفى على ذي شعور أنه يجب في التعليل الطبيعي. أن يكون بين العلة ومعلولها الخاص مناسبة وارتباط طبيعي. الشيخ. من الواضح أنه يجب ذلك فلا يمكن أن تتعدد المعلولات مع وحدة الجهة التي تعللها تعليلا طبيعيا. فالبسيط الواحد من جميع الجهات لا يمكن أن يعلل طبيعيا إلا مثله بسيطا واحدا من جميع الجهات.
الدكتور: إذن يا شيخ هذا العالم الكبير المشتمل على ما لا يحصى من الطبايع المتباينة وكل طبيعة مشتملة على ما لا يحصى من الأفراد المتباينة في الوجود.
هذا كله كيف تجعلون علته واجب الوجود الذي يلزم من وجوب وجوده أن يكون في منتهى ما يتصور من البساطة والوحدة من جميع الجهات. أفلا يلزم أن يكون لكل فرد من موجودات العالم جهة وجودية في واجب الوجود تناسب ذلك المعلول ولا تناسب غيره. إذن فأين البساطة وأين الوحدة وأين وجوب الوجود.
العقول العشرة - والفلاسفة
لا أخالك تقول مثل بعض الفلاسفة إن الواجب صدر منه العقل الأول بتعليله الطبيعي وهو واحد بسيط ولكن العقل الأول باعتبار إمكانه ووجوبه بالغير وتعقله لذاته ولغيره تكون له جهات بها صلح أن يتعدد معلوله ويعلل أشياء متعددة ولأجل ذلك صدر منه العقل الثاني مع فلك ونفس. وهكذا يتدرج صدور القول والأفلاك بالتعليل إلى العقل العاشر وهو العقل الفعال مع الفلك التاسع وهو فلك القمر. يا شيخ، هل تدري كم على هذه المزاعم من النقود والردود. سامحناهم في بناء مزاعمهم على مزاعم الهيئة القديمة ودعواهم انحصار العالم العلوي بالأفلاك التسعة. وانتهائهم في عدد العقول بانتهاء عدد الأفلاك - ولكنا نقول لهم: (أولا): إن الجهات المذكورة إنما هي اعتبارات محض وانتزاعات صرفة ليس لها وجود أصيل حقيقي فلا تصلح لأن تكون معللة للموجود بالوجود الحقيقي ولا يخرج بها الواحد البسيط عن كونه لا يعلل إلا واحدا بسيطا مثله (1).
____________
1 ـ قد كتب هذا قبل الاطلاع على ما كتبه العلامة الأوحد المحقق نصير الدين الطوسي (قدس الله نفسه) في مختصره فصول الاعتقاد. وبعد الاطلاع آثرنا التبرك بذكر كلامه طاب تراه في هذه الطبعة الثانية تنويرا للأفكار بأشعة تحقيقه مع مزج كلامه بشئ من شرحه وإيضاحه فقال في مطبوع مصر سنة 1341 في الصحيفة ال 10 و 11 (قالوا لا يصدر عن الباري تعالى بلا واسطة إلا عقل واحد والعقل فيه كثرة، وهي الوجوب بالغير والامكان الذاتي وتعقل الواجب وتعقل ذاته ولذلك (أي ولأجل الكثرة فيه بهذه الأمور) صدر
=>
____________
<=
عنه عقل آخر ونفس وفلك مركب من الهيولى والصورة. ويلزمهم (أي على مبناهم في هذه المزاعم من أن الواحد لا يصدر منه إلا واحد مثله إن العقل الأول واحد لا يصدر إلا واحد مثله وهكذا في جميع المعلولات ولازم ذلك) إن أي موجودين فرضا كان أحدهما علة للآخر بواسطة أو بغير واسطة (إذ يمتنع عل مبناهم أن يكون الموجودان معلولين لعلة واحدة وبطلان اللازم بديهي) و (أما زعمهم في التخلص عن هذا الالزام أن العقل الأول فيه كثرة كما ذكرناه فيرد عليه) أيضا (إن) التكثرات التي (زعموها) في العقل الأول (وتشبثوا بموهومها) إن كانت وجودية صادرة عن الباري جل اسمه لزم صدورها عن الواحد (وهو نقض لمبناهم وهو أنه لا يصدر منه تعالى شأنه إلا الواحد) وإن صدرت عن غيره لزم تعدد الواجب (إذ لا بد من انتهاء الممكن في التعليل إلى الواجب وقد أوضحنا أن واجب الوجود لا يتعدد) وإن لم تكن (تلك التكثرات) موجودة لم يكن تأثيرها معقولا) كما ذكر في الأصل في الاعتراض الأول. (*)
واجب الوجود خالق الكائنات بقدرته وإرادته
الشيخ. الواجب الوجود الذي هو في منتهى ما يتصور من البساطة والوحدة إذا كان يعلل الموجودات بالخلق والإرادة لا بالتعليل الطبيعي فهل تقول بأنه يلزم أن يكون معلوله ومخلوقه بالإرادة واحدا مثله وبسيطا مثله.
الدكتور: لا. لا يلزم بل يجوز أن يخلق الكثير المتعدد والمركب.
الشيخ. إذن فإنا نقول بما هو الحق المعقول من أن الواجب يوجد جميع الكائنات بالخلق والقدرة والإرادة، وإن دعوى الواسطة في الخلق بين الله والكائنات غير معقولة. ومن أدلتنا على ذلك نفس ما ذكرته أنت ههنا من الردود على دعاوى الفلاسفة في أن الواجب يعلل بذاته تعليلا طبيعيا وفي افتراضات العقول وتوسطها في التعليل وافتراض العقل العاشر الذي يسمونه العقل الفعال - فإنا نقول إنه لا بد من تعليل الكائنات بواجب الوجود. ولو كان تعليله لها طبيعيا بنفس ذاته لا إراديا للزم ما ذكرته أنت من المستحيلات ومخالفات المعقول. إذن فلا بد من أن يكون تعليل الواجب إنما هو الخلق والقدرة والإرادة. فإن التعليل لا يخلو من أن يكون على أحد الوجهين. ومن بطلان كون تعليل الواجب طبيعيا نعلم أن تعليله إنما هو بالقدرة والإرادة وإنه خالق جميع الكائنات بقدرته وإرادته. فسبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين
الجزء الثالث
وله الحمد كما هو أهله وهو المستعان والصلاة والسلام على رسله وأنبيائه وأوليائه.
اليعازر. يا شيخ إني أحب أن تزيدني من احتجاج القرآن في المعارف الإلهية.
عمانوئيل: وأنا أحب أن يكون بنحو يوافق أفهام العوام بحسب شعورهم الفطري ويدقق مع الفيلسوف بحسب موازين العلم وهذا هو الذي ينبغي أن يجري عليه؟
الكتاب الإلهي الموحى لهداية البشر كافة. الشيخ: إن من الأمور ما يجعلها القصور معرضا للشك والجحود ومنها ما لا شك أو يشك فيها إلا فقد الشعور أو من ضحى شرف إنسانيته لهواه. ولكن القرآن الكريم قد قطع المعاذير وجارى بإيضاح الحجة قصور الناس ووساوس أهوائهم. ومن ذلك قوله تعالى في سورة العنكبوت المكية 19 (أولم يروا كيف يبدئ الله الخلق ثم يعيده إن ذلك على الله يسير) 20 (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الله الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة إن الله على كل شئ قدير). فكأن القرآن الكريم يوبخ كثيرا من أهل القرن الحاضر الذين أغفلتهم الدواعي فيقولون ويكتبون من غير التفات ولا مبالاة (يستحيل إخراج الوجود من العدم.
رمزي: الذي يحدث من ذلك بعد عدمه وينعدم بعد حدوثه إنما هي الصور النوعية وأما المادة فهي أزلية لم تحدث بعد عدمها وأبدية لا تنعدم.
عمانوئيل: من أين لك أن المادة الأزلية لم تحدث بعد عدمها. أليست هذه الأمور الحادثة من الحيوان والانسان والنبات نراها قبل حدوثها لا نعرف لها مادة ولا صورة ثم تبرز للوجود وتبلغ غاية كبرها ثم يعتريها النقصان والذبول ثم تنمحي من الوجود فلماذا لا تقول: إن مادتها كصورتها تحدث وتنعدم.
رمزي: إني لا أرى هذا الحدوث في الشمس وسائر الكواكب والأرض فلا أقدر أنها تنعدم.
عمانوئيل: وإنك لم تر حدوث أبيك وأمك وأسلافك فهل تقول إنهم قدماء منذ الأزل. وإن كثيرا من شجر الزيتون لم تدرك حدوثه وليس لك من العمر ما يبلغ زمان انعدامه. فهل تقول وتفتي بأنه أزلي أبدي. أين أنت يا رمزي وأين نشأت ألم تسمع من الذين تتبع آراءهم أنهم يكتبون ويقولون إن الشمس والكواكب والأرض قد حدثت بتقلب الأحوال وهي خاضعة لسلطان الانحلال والعدم متى ما انتهى أمدها واستعدادها المقدر لها.
عمانوئيل: لا تليق هذه الدعوى إلا من أزلي أبدي يحيط علمه بكل شئ في العالم بأجمعه في جميع الأحوال والازمان. من أين لك أن كل جزء يوجد في الحيوان والنبات هو مادة قديمة أزلية تحولت صورتها إلى الحيوان أو النبات.
ومن أين لك أن كل جزء ينعدم منهما هو مادة باقية أبدية تحولت صورتها إلى غيرهما. هل يدلك الحس على ذلك في جميع الحوادث؟ أو لأنك تقول إني لا أقدر على إحداث المادة وإعدامها ولا أقدر على إحداث أرض ولا على إعدامها ولا أقدر على إحداث مدفع ضخم بمادته وصورته ولا أقدر على إعدامه بمادته وصورته؟؟
مهما ركنت لقول فلان وفلان ومهما أصغيت إلى المسموعات فإن الاكتشافات الجديدة تنادي بحدوث المادة وانعدامها. ألم تسمع الخطباء يخطبون والكتاب يكتبون إن الراديوم يتحول إلى القوة ولا يزال هذا التحول يبعث في الفضاء كهربائيته وحرارته ونوره حتى قدروا أن الغرام منه يتحول نصفه في ألف وخمسمائة سنة تحويلا تاما ووجدوا أن غازه إذا وضع في قارورة مسدودة ينعدم بعد مدة ثم يحدث بدلا عنه غاز الهليوم.
هذه اكتشافات الذين لا زلت تخضع لآرائهم وتستعبدك كلماتهم مع أنهم وجدوا أن الراديوم أبطأ العناصر انحلالا ولكن لأنهم وجدوا أنه ينحل إلى حركة وحرارة ونور لم يستطيعوا أن يقولوا: إن مادته تكتسب صورة أخرى. ألم تسمع هذا الدوي الكبير من الاكتشافات التي أوجبت الانقلاب العلمي والتي تبشر بملاشاة التخمينات الملفقة للمذهب المادي، ألا وهو دوي مذهب الدقائق الكهربائية وهو (أن المادة متكونة من دقائق الكهربائية) بل إن البحث المادي قد تقهقر عن تقحمه في القول بقدم المادة حتى صار المهم فيه هو التهجس على أنه هل في الكون مادة ابتدائية نشأت عنها جميع المواد؟
يا رمزي إن العقل في غنى عن هذه الاكتشافات فإن عنده من القضايا الوجدانية الفطرية البديهية والمشاهدات الحسية ما يكفيه في فصل القضاء في هذه المسألة.
فقد تقدم في الجزء الثاني مبينا صفحة 93 أن ما لا يكون واجب الوجود لا يكون أزليا بل لا بد له من أن يكون حادثا محتاجا إلى موجد يوجده وأن المادة الخاضعة لتغيرات الكيان وتبادل التقلبات بالحقائق النوعية لا تكون واجبة الوجود بل هي حادثه لا بد لها من موجد يبدعها ويوجدها بعد عدمها.
ومهما تغافلنا عما نحسه من حدوث الأجسام وتجدد وجودها فإن علينا الحجة الجلية بما لا ينكره أحد من حدوث الصور النوعية فإن ذلك يرغم مكابراتنا على الاذعان بأن إبداع الموجود بعد عدمه أمر معقول مشاهد محسوس. رمزي: لا يمكننا أن ننكر حدوث الصور النوعية بعد عدمها بل لا نزال نشاهد صورا حادثة والكثير منها ما لا يذكر له التاريخ مثالا بل إن المذهب الداروني مذهب تسلسل الأنواع مؤسس على أن الأنواع تتجدد حقائقها على غير مثال سابق.
ولكن شعوري المتنور لا يذعن بإبداع المادة ووجودها بعد عدمها.
عمانوئيل: هل تقدر أن تفسر لي كلامك هذا.
فماذا تقول وماذا تريد بقولك هذا؟ رمزي: ما علي إذا قلت إن المادة تتحول وتصير صورة وهذه هي السنة في الصورة فإنها لا تكون إلا من تحول المادة.
عمانوئيل: لا أحمل كلامك هذا على عاتق أهل العلم. ولكن لك أقول يلزمك على كلامك هذا أن تقول بانعدام المادة شيئا فشيئا بسبب تحولها إلى الصور إلى أن ينتهي الحال إلى انعدامها بالمرة. والذي ينعدم ولو تدريجا ولو بالتحول لا يكون أزليا فإن الأزلي عند أهل العلم لا بد من أن يكون أبديا، وما ليس أزليا لا بد له من علة تعلله وموجد يبدعه. وأما قولك إن الصورة لا تكون إلا من تحولها من المادة فإنك قلته وكأنك لا تدري بأن المادة لا تكون في الوجود بلا صورة.
فماذا تقول في أول صورة كانت للمادة فقل لنا هذه الصورة الأولية المقارنة للمادة في الوجود واللازمة لها من أين تحولت؟؟