رمزي: إن الصورة لا تكون بلا مادة فلا يكون حدوثها إبداعا.
عمانوئيل: الابداع هو إحداث الوجود بعد العدم وهو لا شك في تحققه في الصور النوعية ومن ذا الذي اشترط في معنى الابداع أن يكون عبارة عن إيجاد الشئ منفردا بالوجود غير مرتبط بشئ آخر كارتباط المادة بالصورة والصورة بالمادة إن كانت لك نفرة مع الابداع حتى صرت تتحكم فيه وتشترط فيه ما ليس بشرط فدعه وتكلمك في خلق الشئ وإيجاده بعد عدمه. دع عنك الخلق والايجاد بل نكلمك في وجود الشئ وحدوثه بعد عدمه.
يا رمزي إن حدوث الصورة من أوضح الأدلة على حدوث المادة فالمادة ملزومة للصورة ولا يعقل في العلم والوجدان وجود مادة بلا صورة.
وإذا كانت الصورة حادثة بواضح الحس فلا بد من أن تكون المادة حادثة أيضا لأن ملزوم الحادث حادث بلا شك. هل يمكن أن تقول بقدم المادة مع كونها ملزومة في الوجود للصورة الحادثة أم هل يمكن لأحد أن يقول إن الصورة قديمة؟ رمزي: إن الصورة الأولية مقارنة للمادة في الأزل هي أزلية كالمادة غير حادثة.
عمانوئيل: إن أهل العلم بأجمعهم يعترفون بما يحكم به العقل والوجدان من أن الأزلي لا بد من أن يكون أبديا لا ينعدم وقد يجري هذا الاعتراف على لسانك سواء كان عن شعور بحقيقة أو عن تقليد للمسموعات وها هي الصورة تنعدم وتخلفها في الوجود صور أخرى لم يكن لها سابقة قي الوجود فكيف تكون أزلية.
يا رمزي لا يخفى على ذي حس وشعور كون الصورة والمادة متلازمتين في الوجود. هل تكون مادة في الوجود بلا صورة؟
إذن فكيف تكون المادة أزلية قديمة مع أن الصورة اللازمة لها خاضعة للتغير والعدم والحدوث بعد العدم. رمزي: إن العلم يبين أن العالم مضت له ملايين كثيرة من السنين ومادته تتقلب بها الصور وتتوارد عليها التغيرات فكيف يمكن أن نقول بحدوث المادة.
عمانوئيل: عجيب قولك هذا يا رمزي فهل أنت تنسى أول الكلام أم تتناساه.
متى قبلنا افتراضات بعض الماديين في أن المادة بجميع أقسامها هي منذ الزمن القديم إلى الآن لم يطرأ عليها العدم ولم تحدث بعد العدم. وكيف تستند في دعواك هذه إلى بيان العلم مع أن الاكتشافات الجديدة من الماديين وغيرهم قد أوضحت في العلم السائد أن المادة تنعدم وتحدث وأيضا هل سمعتنا نقول إنه لم يكن لنوع المادة وجود قبل سبعة آلاف سنة أو ثمانية. فلماذا لا تدري بأن الذي نقوله بحكم العقل والوجدان هو أن المادة ليست أزلية لأنها لا يمكن أن تكون واجبة الوجود وما لا يكون واجب الوجود لا بد له من أن ينتهي إيجاده إلى واجب الوجود الجامع لخصائص وجوب الوجود كما بيناه في الجزء الثاني وإن كان الايجاد قبل الملايين من السنين.
رمزي: ها هي التوراة تقول في أول سفر التكوين وما بعده من التاريخ ما يرجع بحسب تواريخها إلى أن مبدأ خلق العالم السماوي والأرضي لم يمض عليه أكثر من ثمانية آلاف سنة مع أن العلم يبين أن هذا الزمان لا يكفي في تكون طبقة من طبقات الأرض.
عمانوئيل: قد أجرينا بعض التحقيقات اللازمة في شأن التوراة الرائجة فانكشف لنا أنها غير التوراة الحقيقية فانظر إلى الجزء الأول من هذه الرحلة. فليس من الصواب أن تجعل مضامينها وسيلة لجدالك المبني على خضوعك للتخمينات.
وها هو ذا قرآن المسلمين يبين أن خلق الأرض وسكانها كان قبل خلق هذا النوع الانساني بمدة من الدهر وأن هذا النوع الانساني خلق خليفة بعد نوع أو أنواع منقرضة.
ولم يقتض المقام أن يتعرض لبيان ما مضى للمخلوف من الدهور والأحقاب. فانظر إلى قوله في الآية الثلاثين من سورة البقرة (وإذا قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة). رمزي: إن أقوال العلم العصري والرأي السديمي تفيد أن تكون الشمس والكواكب والأرض يحتاج إلى دهور طويلة وملايين عديدة من السنين والتوراة والقرآن يقولان إن السموات والأرض وما فيهما قد تم خلقها في ستة أيام.
وإن كنت من الإلهيين الذين خضعوا لتخمينات الرأي السديمي بالطفرة التي يسمونها بالشجاعة الأدبية فليس لك أن تعترض على قرآن المسلمين بل عليك أن تؤول الستة أيام المذكورة بستة دهور على طول افتراضاتك الخيالية فإن القرآن لا يأبى ذلك لأنه قد قدر بعض الأيام بمقدار دهري كمقدار ألف سنة وخمسين ألف سنة..
نعم إن التوراة الموجودة لا تساعد صراحتها على هذا التأويل فإنها تصرح في أولها من العدد الثالث إلى الحادي والثلاثين بأن اليوم من هذه الأيام الستة كان عبارة عن صباح ومساء ونور نهار وظلمة ليل.
التأويلات الموهومة
ومن الظرائف في هذا المقام أن جماعة ممن يتمجد بالروحانية المسيحية قد أشربوا في قلوبهم المذهب السديمي وافتراضاته ومذهب تحول الأنواع وافتراضاته ولأجل ذلك ارتبكوا في أمر الستة أيام في الأعداد المذكورة في التوراة فرأيت جرجي زيدان في صفحة 3 من كتابه عجائب المخلوقات يؤيد تأويلها بستة دهور ويذكر الاتفاق عليه ممن أسس آراءه على العلم الطبيعي وأنه نال الاستحسان عند عقلاء النصرانية في أنحاء العالم المتمدن. وهذا كله منهم يكون رغما على صراحة التوراة التي لا تقبل التأويل.. ورأيت في الكتاب المسمى (من أين جئنا) العربي المطبوع سنة 1912 والمكتوب عليه أن أصله تأليف الخوري (مورو) وعربه الخوري (لويس دريان) وأهداه إلى الذي طلب منه تعريبه وهو المطران بطرس شبلي رئيس أساقفة بيروت ما نصه في الصفحة 134 (لم يخطر على بال الكنيسة أن تحدد بنوع من الأنواع تاريخ وجود الانسان وحالة الانسانية وقد يعترض بقول التوراة (1) ولكن التوراة لا تدل على شئ من
____________
1 ـ وهو ما ذكرته في الفصل الأول من التكوين من أن السماوات والأرض وما فيهما والانسان خلقت في ستة أيام من يوم الأحد إلى الجمعة كل يوم عبارة عن صباح ومساء ونور نهار وظلمة ليل مع ذكرها للتاريخ من مبدء ذلك إلى موت موسى
=>
____________
<=
وهو ما لا يبلغ ثلاثة آلاف سنة.
1 ـ في الآية الخامسة من سورة الحج. (*)
إنتهى. ويا للعجب هل في آيات القرآن الكريم المذكورة أن الماء والدخان الموجودين قبل السماوات والأرض هما ليسا حادثين مخلوقين بعد عدمها المحض؟!!
وهل يلزم أن الشئ الموجود قبل السماوات والأرض لا بد من أن يكون أزليا؟ وكيف يكون الدخان هو المادة الأزلية بالنوع وخلق منها العالم فحدثت بالصورة؟ هل الدخان مادة بلا صورة. وهل يمكن وجود مادة بلا صورة.
____________
1 ـ نقله في صحيفة 15 في المقدمة لرسالة (بقاء النفس) المطبوعة سنة 1342 في مطبعة رعمسيس في مصر القاهرة.
2 ـ سورة هود، الآية: 7.
الصورة والمادة ومزاعم الجواهر الفردة
يا رمزي انظر إلى هيكلك الانساني وما فيه من الأجزاء والأجهزة وآلات الحواس والمشاعر ثم انظر إلى أقرب الكائنات إليك من مباديك وهي النطفة التي نزلت من أبيك في رحم أمك فتكونت منها. أو كما يقولون البيضة التي خرجت إلى رحم أمك من مبيضها.
فهل تقدر أن تقول إنك - في حالك الفعلي. بهيكلك الانساني هذا لا يمتاز وجودك عن وجود المني أو البيضة بشئ موجود؟ هل تقول. إن هيكلك الانساني هذا لا شئ ولا موجود وإنما أنت الآن مني أو بيضة الأنثى ولم يحدث في صورتك الانسانية وجود ولا شئ موجود؟!!!
الانسان الذي يشعر ولم يعرقل شعوره بالتقليد للمسموعات هل يمكنه أن لا يحس ولا يجد في أول المحسوسات والبديهيات بداهة حدوث الوجود والموجود بعد العدم. إذن فكيف يقول بعض الناس بملء فمه ويكتب بشجاعة قلمه (يستحيل خروج الوجود من العدم. يستحيل حدوث الأجود بعد العدم. يستحيل حدوث المادة بعد عدمها). أليست الانسانية في أفرادها شيئا موجودا؟ أليست الصور النوعية من جميع الأنواع الموجودة شيئا موجودا أو لم يحدث لكل فرد من هذه الأنواع والأجناس وجود بعد العدم.
أفلا تعتبر أفلا تتنبه إلى أن الافتراضات التي يلفقها الإلحاد بأهوائه لا زالت ولا تزال تلاشيها البداهة العقلية والاكتشافات التجريبية حتى ممن ذهب مذهب الالحاد..
وسدوا آذانهم عن نداء الحقائق المعقولة بأن الحركة واختلافها والصورة والشكل الهندسي من الدلائل على بطلان افتراضهم للجواهر الفردة والجزء الذي لا يتجزأ.
وجاء خلف ذلك السلف فقالوا: إن جواهرنا الفردة التي نفترضها هي أصغر من جواهر ديمقراط ولم يحتفلوا بنداء الحقيقة بأن الموجود المادي مهما فرض له من الصغر لا ينفك عن الصورة والصورة لا تنفك عن الشكل الهندسي والشكل الهندسي لا ينفك عن قبول التجزي.
حتى إذا جاءت الاكتشافات الجديدة وأوضحت أن افتراض الجواهر الفردة أعني الأجزاء التي لا تتجزأ من المادة إنما هو افتراض باطل موهوم. ومن تلك الاكتشافات اكتشاف الفيلسوف الأمريكي الدكتور (روبر ميليقان) فإن أصغر ما افترضوه من الجسم وسموه جوهرا فردا و (أتوم) فقد اكتشف هذا الدكتور أن أتوم الهيدروجين مركب من نواة فيها الكتريك مثبت والكترون يدور حول النواة فيه الكترون منفي. ولا تقل إن هذه النواة وهذا الكترون هي الأجزاء التي لا تتجزأ لا تقل ذلك فإنه وجدان ما هو يقدر أتوم الهيدروجين ينقسم إلى أكثر من ذلك من الكترونات كالثلاثة والاربعة والخمسة إلى العشرين فما فوق.
فها الاختبار زيادة على دلالته على انقسام ما يفرضونه الجوهر الفرد والاتوم يدل على انقسام مقدار الالكترون منه إلى أقسام لم يوقف على حدها ومع ذلك فكل ما يصلون إليه من الأقسام مرهون لبرهان العلم على انقسامه بأنه لا بد على الأقل من أن يكون له طرفان ينقسم إليهما كما هو لازم في كل موجود مادي. كما قد أوضحت الاكتشافات أن المادة تحدث وتنعدم. فتركت افتراضات الجواهر ونتائجهم منها ممحضة للامتناع كم استغفلت أهواء الالحاد من تشبث لمزاعمه بالتقحم الفارغ من ادعائهم أن في الانسان جملة من الغدد العديمة القنوات والغدد الوحيدة هي عديمة الفائدة في الحياة بل هي مضرة بها ومنها الغدة الدرقية الواقعة في العنق تحت الحنجرة.
فجاءت الاكتشافات الجديدة العلمية وفضحت تلك التقحمات والوسائل الفاسدة. جاء اكتشاف الدكتور كوخر السويري إذ نزع 150 غدة درقية فظهر له أن نزعها مضر بالدماغ جدا لأن المنزوعة منهم قد وقعوا في البلاهة التامة واكتشاف العلم التجريبي أنه عند عروض المرض للغدة الدرقية يحدث خمول في الذهن يشبه البله لا يشفى المريض منه حتى يحقن بخلاصة الغدة الدرقية من الفرس.
وجاء اكتشاف الهرمونات (المنبهات) التي تفرزها الغدد المذكورة وينشرها الدم في الجسد لكي تنظم حركه الجسم وتوازن عمل أعضائه وتسهله. هذه النظرية التي شاع الاعتقاد بها في هذه الأيام. كما وجدوا فوق الغدة الدرقية غدتين لا تزيد إحداهما عن رأس الدبوس إذا نزعتا من إنسان أصيب بتشنج ومات بعد ست ساعات.
وإن الغدتين اللتين فوق الكليتين إذا نزعتا مات الانسان في الحال وإنهما يفرزان سائلا يسمى (الأدرينالين) هو سبب حركة القلب.
فكانت هذه الاكتشافات الثمينة من جملة الزواجر للمستنتجين من الجهل بالحقائق جملة من افتراضاتهم الفارغة التي يعارضون بها الحقائق المعقولة - ودع وقوف دلائل العقل وبديهياته لهم في مرصاد التوبيخ.
القرآن الكريم ومزاعم المادة وخيالاتها
رمزي: يا شيخ ألا يمكن أن يكون بعض الآيات القرآنية مؤيدة لمزاعم من ينكر الحدوث الحقيقي وخلق الشئ بعد العدم المحض ومن لا شئ ويعنون بالشئ ما يسمونه الهيولي والعنصر الغير المصور. ألا يمكن أن يقال بأنه لم يثبت مخالفة القرآن لهذا الرأي بعد ما جاء فيه (أم خلقوا من غير شئ) (1)إذ الاستفهام إنكاري تحقيقا!! عمانوئيل: قد ذكر الشيخ هذه الآية والتي بعدها في الصحيفة التاسعة والثلاثين بعد المائة من الجزء الثاني.
وهل يخفى عليك وعلى العارف بالقرآن الكريم أن الآيتين المذكورتين إنما هما في مقام الحجة لوجود الإله الخالق وفي مقام الانكار والتوبيخ على عدم اليقين به لا للاحتجاج على أزلية المادة والهيولي الغير المصورة وخروجها عن دائرة مخلوقاته وإيجاده لها بقدرته بعد عدمها. فكيف نقول قولك هذا؟
هل يتمحل القرآن ويقول بغير المعقول ويفترض وجود مادة وهيولى غير مصورة ويسميها شيئا وهي أزلية غير مخلوقة ولا مسبوقة بالعدم ثم يخلق بعد ذلك فيها الصورة؟ هل يمكن أو يعقل وجود مادة بغير صورة؟ كيف والمادة إنما يتقوم وجودها بالصورة. هل هذا القائل لم يسمع من القرآن قوله إن الله. (خالق كل شئ) كما في سورة الأنعام 102 والرعد 16 والزمر 62 والمؤمن 62
____________
1 ـ سورة الطور، الآية: 35. (*)
وماذا يجديك في خيالك الموهوم كون الاستفهام إنكاريا بعد ما يعرف من سياق القرآن الكريم وجه الانكار بالاستفهام. ذلك الوجه الواضح.
الشيخ: لا أظنه قال ذلك عن اعتقاد بل على نحو بحث. كيف وأنه قد رد مزاعم ابن رشد في قوله إنه ليس في ظاهر الشرع ما يثبت أن الله كان موجودا بلا وجود شئ.
حيث قال (كيف وقد جاء كان الله ولم يكن معه شئ).
عمانوئيل. قد كان غنيا عن هذا البحث المتهافت الذي أوقع كلامه في التناقض وأوقعه في الغفلة عن المعقول وجلالة قرآنه واستقامة تعاليمه وفهم سوقه.
تتمة في احتجاج القرآن على الإلهية
الشيخ: إني ذكرت في الصفحة 116 من الجزء الثاني احتجاج القرآن الكريم في الآيتين الثانية والثالثة من سورة الجانية المكية وقد فاتني ذكر الاحتجاج بالآية الرابعة منها وهو قوله جل شأنه (واختلاف الليل والنهار وما أنزل الله من السماء من ر زق فأحيا به الأرض بعد موتها وتصريف الريح آيات لقوم يعقلون) ما في هذه الأمور من الآيات الباهرة والغايات العجيبة. ينظر العامي إلى موازنة اختلاف الليل والنهار المستمرة في الأحقاب والأدوار وما لهذا الاختلاف من الحكم والآثار فيعرف بفطرته أن هذا كله تدبير حكيم عليم قادر.
ويلتفت العارف إلى تدبير ذلك بسير السيار (الأرض أو الشمس) سنويا على منطقة البروج فيبهره هذا التدبير العجيب وهذا التسخير المتدفق بآيات الحكمة كما مر بعضه في الجزء الثاني صحيفة 346 و 118 ويتبصر العامي والعالم بالنظر إلى ما ينزله الله من السماء وجهة العلو من رزق الأحياء الذمي تجري منه الأنهار على تقدير متدرج. وبالمطر الذي يعم الأرض المرتفعة عن الأنهار فيحيي برزق الثلج والمطر موات الأرض ويقيم به معاش الأحياء في المطعم والمشرب والتنمية وتلطيف الهواء وتعديله بعد أن جعله عذبا سائغا ترتاح به الأرض والأحياء. فلا تدع هذه الحكمة الجلية مفرا لأحد عن الاذعان بأن ذلك من تقدير حكيم رحيم.
ويتبصر العامي والعالم بالنظر إلى تصريف الرياح حسب منافع الناس ومواقع احتياجهم في تلطيف الهواء وإثارة السحب وسوقها إلى مواقع نفع الأمطار، وفي إذابة الثلوج وتسيير السفن الشراعية ورفع العفونات الحادثة فتجري بتصريفها في نفع العموم على التناوب والتعديل والحكمة فالرياح المحلية تهب شمالية وجنوبية وشرقية وغربية ومن جهات متعددة مما بين هذه الجهات الأربعة والرياح التجارية التي تهب من جانبي خط الاستواء هذه إلى الشمال وهذه إلى الجنوب كما تهب من ناحية القطبين إلى خط الاستواء على ميل في هذه الرياح هذه إلى الغرب وهذه إلى الشرق لكي يساعد هذا الميل على السير في جهات متعددة بتغيير وضع الشراع.
ومن ذا الذي أمال هذه الرياح عن وجهها. هب أن حرارة خط الاستواء تمدد الهواء وتخففه وترفعه فلماذا يتوجه إلى القطبين؟
أين التعليل بالارتفاع؟ ألا ترى هذه الرياح الاستوائية ينتفع بها الشراع في قرب خط الاستواء كما ينتفع بها إذا بعد عنه على نهج متساو. ومن ذا الذي جعل الرياح الموسمية مختصة ببعض المواضع وتقسم السنة بفصلين - ومن ذا الذي حكم على رياح المحيط الهادي وبعده المحيط الأطلسي بالانتظام في الهبوب والسلامة من عصف الأعاصير التي تعصف أحيانا كثيرة في بحر الصين وبحر أنتيلة المقابل لأمريكا الوسطى.
فأين العقول عن مثل هذه الآيات المشرقة بدلائل الحكمة والقدرة الإلهية.
وقال جل اسمه في الآية السابعة والخمسين من سورة الأعراف المكية (وهو الذي يرسل الرياح بشرى بين يدي رحمته حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات) في كل بلد ما تقتضيه الحكمة وتوزيع النعم وتنسيق التجارة ومناسبة المحيط.
كرامة العقل وتسويلات الالحاد
رمزي: إن العلم لا يعتمد إلا على المحسوسات أو ما يرجع إلى الحس وكل ما تذكره في أمر الإلهية والإله يرجع ويبتني على مقدمات هي من العقل المجرد.
هذه مبانيكم. الموجود الحادث لا بد له من موجد. لا بد من أن ينتهي التعليل إلى واجب الوجود. موجد الموجودات المنتظمة في غاياتها عالم بالغايات أوجد الموجودات لأجل غاياتها. واجب الوجود لا يتعدد. لا يتجسد هذه المباني التي لا مساس لها بالحس بل هي من العقل المجرد.
الشيخ: إن خفي عليك فلا يخفى على أصحاب العلوم أن كل علم لا غنى له عن الرجوع إلى ممثل هذه القضايا العقلية الكلية الفطرية البديهية. بها يسير سيره وعليها تبتني أدلته وبراهينه. وهي الحجر الأساسي لبناء العلوم واستنتاج كلياتها النظرية المدونة فيه وتمشي أحكامها للموارد الجزئية في مقام استثمار العلوم. ولا يجدي الحس في أدلة العلم شيئا لولا هذه القضايا التي تمتاز بها فطرة العقل المجرد المشرف على الحقائق بنورانيته. لا يؤسس مجرد الحس قاعدة كلية تنفع في العلوم.
ولعلك تتخيل ذلك في الاستقراء. أتدري ما هو الاستقراء؟ وما هي فائدته؟ الاستقراء هو أن تنتبع غالب الأفراد وتشاهدها على حالة فتأخذ من ذلك كلية ظنية في كليتها وعمومها وتسري بواسطتها ظنا إلى الفرد النادر الذي لم تشاهده فتحكم ظنا على هذا الفرد بأنه متصف بتلك الحالة.
ألا ترى أن من أصوله البديهية حكمك بأن كل زوج ينقسم إلى متساويين من الصحاح. وكل فرد لا ينقسم. وكل ثلاثة وأربعة إذا جمعتها يكون مجموعها سبعة. وكل خمسة تطرح منها ثلاثة يبقي منها اثنان. إلى غير ذلك. هل تدعي أنك حصلت العلم بذلك من استقراء المحسوسات الغالبة!!! كلا ثم كلا.
هب أنك من زمان الطوفان إلى الآن قسمت الأربعة من أنواع الأزواج في ليلك ونهارك فهل تبلغ من أفراد الأربعة واحدا من ألوف الثلاثين. أو لاحظت الثلاثة من أنواع الفرد فوجدتها لا تنقسم إلى متساويين فهل تبلغ من أفراد الثلاثة واحدا من ألوف الملايين.. وكذا إذا جمعت من أفراد الثلاثة والأربعة. أو طرحت الثلاثة من الخمسة.
كيف ينفع الحس المجرد واستقرائه القليل مهما بلغت من العمر. وكيف يغنيك عن العقل مع هذا الاستقراء النزر الطفيف فتحكم حكما قطعيا بديهيا بقضية كلية لم تحس من أفرادها بواحد من ألوف الملايين. أليس ذلك الحكم القطعي البديهي لأجل حكم العقل الفطري المجرد بانقسام الزوج إلى متساويين بالنظر إلى طبيعته.
وعدم انقسام الفرد إلى متساويين بالنظر إلى طبيعته. وإن طبيعة الثلاثة والأربعة يلزمها أن يكون المجموع منها سبعة. وهكذا في بديهيات الحساب والهندسة والتشريح: نعم إن كان للحس تأثير ومداخلة فإنما هو بمدار استلفات العقل إلى طبيعات المحسوسات فيحكم ببداهة الفطرة بأحكام القضايا الكلية القطعية.