وإن كان غير المحسوس مما يعسر إحصاؤه من أفراد هذه القضايا. فإن كنت تعد أحكام هذه القضايا حسية فإن أحكام قضايا الإلهيين أشد ارتباطا وأكثر تشابكا بالمحسوسات فإن جميع المحسوسات الحادثة المشاهدة في العالم تستلفت العقل بالبداهة إلى الحكم بحاجتها إلى موجد هو واجب الوجود. وتستلفته بإتقان صنعها وارتباطها بالغايات الثمينة الباهرة إلى أن موجدها وهو واجب الوجود عالم بالغايات أوجدها لأجل غاياتها. وقد أشير إلى ما ذكرناه في كتاب الهدى صحيفة 3 و 4.
تسويلات أبيقورس
رمزي: قد كتبوا في الصفحة المائة والعشرين من مجلة الحرية البغدادي قولي أبيقورس في الالحاد وهو (إن الإله أما أنه رغب في أن يمحي الشر ولا يقدر أو يقدر ولا يريد أو لا يقدر ولا يريد أو يقدر ويريد أما الفروض الثلاثة فغير متصورة في إله جدير بهذا الاسم فإن صح الفرض الرابع فلماذا الشر باق إلى الآن.
عمانوئيل: هل تدري يا رمزي ماذا يريد أبيقورس من لفظ الشر الذي جعله في كلامه؟
رمزي: الشر معروف، كل إنسان يعرفه فلماذا تسأل عنه.
حتى إن الزاني يجعل منعه عن الزنا شرا ورد عليه. وقاطع الطريق إذا صده أحد عن قطع الطريق وحرمه من نهب أموال الناس فإنه يعد ذلك شرا ورد عليه. وكافر النعمة إذا ابتدأته بالانعام والتفضل عليه زمانا ثم قطعت نعمتك عنه لحكمة أو لا لحكمة فإنه يعد قطعك لذلك الأنعام شرا كبيرا أوردته عليه وفعلا ذميما صنعته معه فينالك بلسانه ويرميك بسهام لومه ويكفر بنعمتك عليه. تلك النعمة الابتدائية التي لا استحقاق له في أقل قليل منها. هل أنت لا تدري بنعم الله على خلقه؟
أفلا تدري بأن المخلوق مغمور بنعم الله خالقه. فإن كنت غافلا عن جلالة هذه النعم وعظم مواقعها في العقول وفي النفوس فإنا نشير إلى بعض منها.
هذا النوع الانساني مع علمه بأن حياته العادية في هذه الأدوار لا تتجاوز الثمانين سنة مع أنها مهددة بالانقطاع فيما قبل ذلك انظر إليه كيف يرغب في حياته هذه مع قصرها وتهديدها وكيف تجدها محبوبة ثمينة عنده بحيث لا تستطيع أن تقدر محبوبيتها العظيمة عنده ولا مغالاته بقيمتها. تراه منهمكا بالاستعداد وتهيئة الأسباب لاستدامة حياته هذه والتمتع بنعمها. يسعى لها بأنواع السعي والحرص والظلم والتكالب وإن انحطت قواه وقلت ملاذه وفقد أنفع حواسه وثروته وعزه وشرفه وولده الوحيد.
كل هذا لكي يتمتع بنعمة الحياة وما بقي من ملاذها بحرص وعظيم محبة وانهماك بحياته وإن أيقن بقصر المدة. وبهذا الميزان تكون نعمة الحيوان في حياته وقيمتها في شعوره وابتهاجه بتمتعه بها. وانظر إلى العلماء كيف يجدون حياتهم في العلم نعمة لا يستطاع تقديرها ولا تحد محبوبيتها.
وكذا من عجز عن تحصيل المراتب العالية من الملاذ ومطامح الشهوات.. وانظر إلى من قنعت نفسه الكريمة ورضيت بما عنده كيف يتلذذ ويتمتع بما يجده ويعده نعمة ثمينة محبوبة في حياة رغيدة، لكن يا للأسف إن الانسان الأثيم إذا فقد مرتبة عالية من النعم التي علق بها طمعه وحرصه فإنه يعد فقدانها شرا صنع معه.
وإن النعمة المفقودة كانت حقا لفضيلته الموهومة وملكا لدوام استحقاقه. فأوضح لي وفسر لي ماذا يريد أبيقورس في كلامه من لفظ الشر؟.
رمزي: يريد ويعني ما ملأ العالم من دواهي الموت والأمراض والأوجاع والفقر والبلايا والمحن وفقدان الأحبة والانحطاط بعد الرفعة والذلة بعد العزة.
هذه الشرور التي لم تدع في العيش صفا ولا هناء.
عمانوئيل: هذا ما نبهتك عليه إذ قلت لك إن كافر النعمة يعد بجهله قطعها شرا كبيرا صنع معه. ولقد سبق التنبيه على هذا في كتاب أنوار الهدى صحيفة 61 - 73. كل إنسان في العالم لا استحقاق له في شئ من الوجود والحياة والصحة والثروة والعز والأولاد والأحبة وجميع ما يرغب فيه. ولا يدخل شئ منها تحت قدرته ولا مساس لتأثيره بها. بل إنها كلها نعم ابتدائية تفضل بها عليه واهبها من دون استحقاق للانسان لأقل قليل منها.
يكفر بالنعم السابقة ويسخط على المنعم ويتجرأ عليه إذا قطعها لحكمة. وإن الكثير من نوع الانسان لا تراه يعترف بما ذكرناه من الحقيقة الواضحة إلا إذا أنعم على إنسان تفضلا وابتداء من دون استحقاق ثم قطع نعمته فصار ذلك الانسان يشكوه وينسب له الاساءة والإيذاء بقطع النعمة ويعد ذلك عليه شرا مذموما. فترى المنعم حينئذ تتجلى له حقيقة ما قلناه ويوبخ هذا الشاكي على لؤم الحرص وكفران النعمة ونقص الجهل ورذالة الطمع وخسة الأخلاق.
الآلام والأوجاع
إن تنعم النفس بالنعم الجسمانية ومنها وجود الجسم وصحته إنما هو بخلق الرابطة الأكيدة والعلقة الوثقى بين النفس وجسدها وبجعل تلك الرابطة طبيعية على ناموس مستقر لكي يتم للنفس نعيمها وتنعمها بآلية الجسد بتلك النعم التي لا تحصى ولكي تكون مسخرة في حفظ الجسد من الفساد وواسطة في تدبير صحته.
ومن أجل هذه الرابطة وهذه العلاقة تتألم عند فقد الانسان صحته وعند اختلال مزاجه حينما يريد المنعم بتقديره وحكمته قطع بعض النعم عنه موقتا أو دائما.
فما عروض الآلام إلا أثر طفيف لتلك العلاقة التي تقوم بناموس إيصال النعم العظيمة إلى النفس وشعورها بها.
ولا ينحجب عنها الألم إلا بقطع علاقتها حينئذ من الجسد وفي ذلك يفوت تدبير النفس لنظام الجسد في ذلك الحين وتبطل مدافعتها لأسباب الآلام طلبا لاسترجاع الصحة. إذن فليست الآلام والأوجاع شرا يجب على الإله أن يمحوه.
من فوائد خلق الانسان والحيوان على هذا النظام
كم ترى في الادراك والشعور من مجد وكرامة وإشارة إلى السعادة إذن فاعلم أن أشرف علوم الانسان وأكرمها والذي يكون وسيلة للسعادة الأبدية وموصلا إلى المدنية الحقيقية والاجتماع الراقي السعيد إنما هي معرفته لإلهه وواهب حياته وولي نعمته ومالك أمره.
ألا وإن خلق العالم على هذا النظام باب لتلك المعرفة وملفت للنظر نحوها ودليل هاد في جميع الأحوال إليها. إذا التفت الانسان إلى دوام التوالد والفناء والحدوث والتغير والنمو والتحليل والصحة والمرض والعجائب في تراكيب الحيوان وغايات أجزائه وكيف يجري ذلك كله على نواميس منظومة الدوران متناسقة الآثار متماثلة الغايات فإن هذا الالتفات يتكفل بالهداية لمن لم يستأسر للهوى ولم يساعد الجهل بالتغافل والانهماك بالشهوانية والغرور ويضمن له الارشاد إلى أن لهذا العالم العجيب النظام خالقا ومدبرا هو واجب الوجود عالم بالحوادث والغايات إذ أنشأ عجائبها وقدر فوائدها وربط متماثلاتها بنواميسها على نسق دائم في أدوارها وجعل اللاحق يحذو السابق على نظام متقن وتقدير باهر. رمزي: أما ترى طغيان الطاغين وفساد المفسدين وظلم الظالمين وتمرد المتمردين.
أليس هذا شرا. أو ليس قد أظلم به العالم وكدر صفاء الانسانية. أفلا يجب على الإله المستحق لهذا الاسم أن يمحوه. فلماذا الشر باق إلى الآن.
عمانوئيل: إن هذا الذي تذكره له جهتان لكل منهما وجهة من الكلام جهة من حيث وقوع الظلم والعدوان على المظلوم وتضرره بذلك.
وجهة من حيث وقوع الاعتداء والظلم والتمرد من الفاعل. إذن فيلزم أن نكلمك في كل واحدة من الجهتين. ونستفتي فيها الشعور الحر والمبادي المعقولة فنقول.
من ذا الذب يوجب على الإله إدامة نعمه والمحاماة عن دوامها. أي مبدأ معقول وأي أدب مستقيم وأي شعور حر يوجب ذلك؟
الإله العالم هو واهب النعم ابتداء وتفضلا وهو محددها فلا شر في تحديدها سواء كان ذلك التحديد لحكمة معلومة من معلوماتنا القليلة أو مجهولة من مجهولاتنا الكثيرة الكبيرة أم قلنا بجهلنا وغرورنا إن تحديد النعمة لا لمحض أن لا يتمرد المتمرد بهواه مع وضوح الحجة له وتتابع المواعظ والارشاد والزواجر عليه.
أفلا يكفي المتمرد ما يتضح له في بديهيات إدراكه وفطريات وجدانه من حسن اختياره للصلاح والأعمال الصالحة وما في ذلك من الفوائد العظيمة وما يتضح له من قبح اختياره للأعمال الردية وضرر نتائجها السيئة مع زاجر العقل والأنبياء والكتب الإلهية والوعاظ وتهديد الشريعة بتأديبها فهل بعد قيام الحجة بهذه الأمور يبقى للتمرد أهلية لشئ من العناية. فكيف يتحكم إذن إبيقورس وأتباعه على الإله بأن يعتني بهذا المتمرد الخسيس ويحابيه بإلجاء الانسان وسلب اختياره وحرية قدرته وإرادته بحيث يسد على الصالح بل على المتمرد أيضا باب النعمة والرحمة واللطف.
خلاصة الكلام
يا رمزي إن الإله يقدر على إدامة نعمه ولكن لا يجب عليه أن لا يجعلها محدودة بأمور عادية أو اتفاقية. لا يخرجها التحديد عن كونها نعمة ولا يكون تحديدها من الشر الذي يجب على الإله أن يرغب عنه ويرفعه. وإن الإله يقدر على رفع التمرد من المتمردين ويرغب في صلاحهم باختيارهم لكي يكونوا كاملين سعداء وقد ساعدهم على أفكارهم بالحجج والبيان والترغيب والزجر ولكنه بحسب رحمته ولطفه لا يرغب في رفع تمردهم بإلجاء الانسان وسلب اختياره وقدرته وحرية إرادته.
فهل يخفي على الشعور الحر أنه لا يحسن في رحمة الله ولطفه أن يحابي المتمردين الساقطين بأن يسد عليهم وعلى الصالحين باب النعمة والرحمة واللطف..
فليسقط قول أبيقورس (فلماذا الشر باق إلى الآن).
شبهة الجبر
الدكتور: هل يحسن في جلال الله وقدسه أن يساعد الانسان الأثيم على فعل الإثم أو يكون الإله هو الخالق لذلك الفعل وهو الذي يلجأ الأثيم إليه ويضله.
عمانوئيل: لا. وكلا. وحاشا. الدكتور. إذن أرى الكثيرين من أصحاب الأديان يقولون بما أنكرته وأرى جملة من الكتب المنسوبة إلى الوحي الإلهي تجاهر بهذا القول.
عمانوئيل: إن أقوال البشر المضطربة لا ينبغي أن يلقى ثقلها على عاتق الحقائق ولا تكون وسيلة للخدشة في شرف الحق والصواب.
فكم ترى الأهواء تلاعبت بأقوال البشر ومزاعمهم مع أن مجد الحقيقة محفوظ لها مهما ثارت، زوابع الاختلاف.
رمزي: هذه كتب العهدين. وهذا القرآن.
متشابهات القرآن وشبهة الجبر ومحكماته وإيضاحها
عمانوئيل: لتلتفت إلى بيان مجد القرآن فإنا لا نجد فيه ما يخالف المعقول ولا ما ينسب إلى الإله شيئا ينافي قدسه..
لا يخفى أن القرآن جرى في العربية على أسلوب البلاغة وحسن التصرف والتفنن بالاستعارة والتمثيل ومحاسن المجاز.
ومن أجل الغفلة عن ذلك وقصد الاغفال فيه تكثر عثرات الجاهلين حكمة فيه. فليس لابيقورس وأتباع مزاعمه من هذه الجهة أدنى تشبث خيالي.
وأما الجهة الثانية الراجعة إلى خلق الانسان مختارا في أعماله فإن مزاعم أبيقورس وأتباعه تتلاشى فيها بالالتفات إلى حكمة إتمام الإله لنعمته على الانسان وإكرامه له بحرية الإرادة والقدرة لكي يتهيأ له السبيل إلى معارج الكمال والسعادة باختياره محاسن الأفعال وتحصيل مكارم الأخلاق واستحقاق المدح وثناء الشرف لكي يتنعم بإدراكه للذة الصلاح الاختياري ورفعه الكمال التحصيلي والارتقاء لكرم الأخلاق الكسبية واستحقاق المدح.
هذا في هذه الدار الدنيا وقبل الجزاء العظيم والنتيجة الكبرى في الدار الآخرة ومقام السعادة العظمى والنعيم الدائم والجزاء الخالد. تلك النشأة التي لا تقدر كرامتها العظيمة ولا تحد، لا يشمخ في أهوائه سن يجحد الدار الآخرة فإن ما أشرنا إليه من الفوائد في دار الدنيا كاف في الحكمة والنعمة بخلق الانسان حر الإرادة والقدرة.
وإن هذا لهو الروح لنعمة وجوده والمظهر للذة حياته في الابتهاج بكماله ورقيه في فضيلة الصلاح. أتم الإله على الانسان هذه النعمة والكرامة بأن جعل في بديهيات إدراكه وفطريات شعوره معرفة لفضيلة الأخلاق الفاضلة والأعمال الصالحة وأسباب الكمال وحسن ذلك وكرامة نتائجها الراقية الفاضلة المحبوبة.
وأكد ألطافه في ذلك بشريعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتأديب الرياسة الدينية التي جرت السياسات الزمنية على معقولها وإن تفاوتتا أحيانا بالتطبيق.
أفلا تدري أن الأفعال التي يفعلها الانسان في الشرور هي من نوع الأفعال التي يفعلها الانسان في تنعماته المباحة وترقيه في الكمال وإنما تختلف الأفعال بالعناوين والاضافات. وإن القدرة وأسبابها على الفعل القبيح هي القدرة وأسبابها على الفعل القبيح هي القدرة وأسبابها على الفعل الحسن.
أم أنت لا تلتفت إلى أن الناس منهم من يختار اتباع الهدى وفعل الخير فيرتقي بذلك إلى مراقي الكمال ومكارم الأخلاق والسعادة ومنهم من يختار التلوث بذميم الأفعال ورذيل الأخلاق وخسة السقوط وسيأتي إن شاء الله لهذا زيادة إيضاح في الكلام على المعاد وصحة مسؤولية الانسان.
فهل يريد أبيقورس بتحكمه أنه يجب على الإله أن يسلب اختيار الانسان وإرادته وقدرته ويسد عليه باب الرقي في الصلاح والكمال ويجعله كالحجر الذي لا يفعل الشر.
هل يكون هذا من رحمة الله ولطفه بعبده؟؟ وهل يجب هذا الحرمان على الإله فيقاوم رحمته ولطفه وجوده ومخادعات الزيغ والأهواء.
وقد نبه نفس القرآن على ذلك بقوله في سورة آل عمران 7 (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات) جارية على الصراحة في المعاني الحقيقية المؤيدة بحكم العقل واقتضاء السياق فتندحر عنها احتمالات المجاز في الشعور المستقيم. فقد أحكمت عباراتها بأن حفظت من الاحتمال والاشتباه بحسب أهل اللسان المستقيمين في الشعور والمبرئين من غواية الأهواء وفلتات الجهل.
ومن ذلك قوله في الآية الثالثة بعد المائة من سورة الأنعام المكية (لا تدركه الأبصار) هذا القول الذي يعتضد معناه الحقيقي المحكم بدلالة العقل على أن الإله ليس ماديا تدركه الأبصار.. وكقوله في مقام الانكار على الأشرار في الآية الثامنة والعشرين من سورة الأعراف المكية (إن الله لا يأمر بالفحشاء)... وقوله في الآية التسعين من سورة النحل المكية (إن الله يأمر بالعدل والاحسان وإيتاء ذي القربى حته وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون) والآيات المحكمات (هن أم الكتاب) وأصله الحاكم الذي ترد إليه الحكومة حتى في المتشابهات (و) منه آيات (أخر متشابهات) في بادئ الأمر يحتاج فهم معانيها إلى القرائن العقلية أو الحالية أو المقالية لكون تلك الآيات جارية على مقتضى البلاغة العربية وأسلوب كلام العرب الراقي في التفنن في محاسن المجاز والتمثيل والاستعارة والكناية فتشتبه الاحتمالات فيها بادئ بدء في أول النظر إلى معانيها (فأما الذين في قلوبهم زيغ) وانحراف عن الهدى والاستقامة (فيتبعون قلوبهم ما تشابه منه) ويتشبثون به في مقام الاضلال وتأييد الأهواء (ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله) وحمله على مغالطات الأهواء رغما على دلالة القرائن من محكمات القرآن ودلالة العقل والقرائن.
وإن الله يختم على قلوب الضالين بمعنى يطبع عليها كما في سورتي البقرة 7 والجاثية 23.
الشيخ: هذا من المتشابه الذي أشار إليه القرآن. لماذا لم تعرف أن المراد من الاضلال في هذه الموارد هو قطع العناية عن المتمرد في جذبه إلى الإيمان والصلاح وذلك لأجل خروجه بتمرده عن كونه أهلا للعناية والتوفيق. فيوكل إلى انهماكه بتمرده بعد ما قامت عليه الحجج ووضحت له الدلالة على طريق الصلاح والنجاة والسعادة. ولأجل أن عناية الله بالتوفيق لها المداخلة الكبيرة في جذب الانسان إلى الصلاح والاهتداء - ومقاومته للهوى والأميال الردية.
كان انقطاع العناية عن المتمرد والخذلان له مما يستحسن أن يستعار له لفظ الاضلال إشعارا وإلفاتا إلى نعمة العناية وكبير أثرها في الاهتداء.
فلا يتشبث بسطح اللفظ من دون التفات إلى ما توضحه القرائن الكثيرة من المراد بحسن الاستعارة ونكات التفنن في البيان.
إذن فأين يكون تقديس الله وتمجيده. أما أن هذا الكلام المتقدم في الآيات إذا سمعته من بشر يتكلم به لم يسوغ لك شرف الفهم وأخذ النتيجة من مجموع كلام المتكلم وشؤونه إلا أن تقول: إن المراد من الاضلال هو رفع العناية والتوفيق هذا وإن لم نلتفت إلى القرينة بدلالة العقل ونفس القرآن على قدس الله. إن الإله الذي يتمجد بأنه لا يأمر بالفحشاء وأنه ينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي ويعظ الانسان هل يمكن أن يخبرنا بأنه يساعد على الضلال أو يلجئ الانسان إليه أو يخلقه فيه؟
أفلا يكون ذلك التمجد دليلا على أن المراد من الاضلال معنى لا ينافي ذلك التمجد؟
أفلم تعرف ما ذكرناه من قوله في الآية السادسة والثمانين بعد المائة من سورة الأعراف (ومن يضلل الله فلا هادي له ويذرهم في طغيانهم يعمهون) وأن الاضلال هو أن يترك المتمرد يعمه في طغيانه وترفع عنه عناية التوفيق لخروجه عن اللياقة للطف بعد ما وضحت له الدلالة وقامت عليه الحجة بالمواعظ والزواجر.
أفلم يتضح ذلك أيضا من قوله في الآية الثالثة والعشرين من سورة الجاثية (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه) هذا الذي لم تنفع به دلائل العقل والمواعظ والزواجر بل انهمك باتباع هواه على علم منه بالحق وبإدباره عنه بهواه وسوء فعله فجعل هواه إلها له في الانقياد إليه هذا الذي قد رفع الله عنه عناية التوفيق فتركه الله وهواه وطغيانه واستعير لذلك لفظ الاضلال فلم يوفق سمعه الانتفاع بما سمعه من النصح ولم يوفق قلبه للإذعان بما ينفعه كل ذلك على علم بما ينفعه وما يضره وعلى معرفة بالصالح والفاسد فتركه الله وهواه فكأنه ختم على سمعه وقلبه فلا يدخل إليهما بعناية التوفيق ما ينفعه.
____________
1 ـ سورة البقرة: الآية / 28.
2 ـ سورة آل عمران. الآية / 71.
3 ـ سورة آل عمران: الآية / 99. (*)