أفلا تنظر إلى مجاهرة القرآن بقوله: (وقل الحق من بكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) (5) (اعملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصير) (6) (لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر) (7) (فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا) (8) (كلا إنها تذكرة * فمن شاء ذكره) (9). رمزي: إن الآية الثامنة والعشرين من التكوين متممة بقوله تعالى:(وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين) (10) والتاسعة والعشرين
____________
1 ـ سورة يونس. الآية / 35.
2 ـ سورة الانشقاق: الآية / 20.
3 ـ سورة المدثر: الآية / 49.
4 ـ سورة النساء: الآية / 39.
5 ـ سورة الكهف. الآية / 29.
6 ـ سوره فصلت: الآية / 40.
7 ـ سورة المدثر. الآية / 37.
8 ـ سورة النبأ: الآية / 39.
9 ـ سورة التكوير: الآية / 28.
10 ـ سورة المزمل: الآية / 19 وسورة الدهر: الآية / 29.
الشيخ: وأزيدك بأنه جاء في الآية الحادية عشرة بعد المائة من سورة الأنعام (ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله) (3) يا رمزي لماذا لا تلتفت إلى أن القرآن لم يقيد مشيئة الانسان للإثم بمشيئة الله. ولم يقل إلا أن يشاء الله في مقام ذكر العصيان ومشيئة الانسان له حتى إنه لم يقل ذلك بعد الثامنة والعشرين من الكهف ولا بعد الآية الأربعين من سورة فصلت ولا بعد الأربعين من سورة المدثر. أفلا تفهم من هذا أن الله لا يشاء ضلال الانسان وعصيانه.
أفلم يستلفت هذا ذهنك إلى أن الانسان بسبب أميال النفس وشهوانيتها وتزيين الشيطان المغوي يرجح جانب شهواته وشخصياته وبسبب نعمة العقل وهداية الله وإرشاده ولطفه وتوفيقه يرجح جانب الصلاح واتباع الحق والإيمان بالحقائق والتزين بالأخلاق المتكفلة بالسعادة والاستقامة وصلاح الاجتماع.
لماذا لا تعرف أن مشيئة الله المذكورة في الآيات الأربع إنما هي كناية عن هداية الله وإرشاده وتوفيقه.
هذه الأمور التي تبصر التفكير وتمهد له سبيل الهدى وتنور الإرادة الحرة فترجح جانب الاستقامة وأخذ السبيل إلى الله والإيمان به.
____________
1 ـ سورة التكوير، الآية: 29.
2 ـ سورة الانسان (الدهر)، الآيتان / 30 و 31.
3 ـ سورة المدثر / الآية: 56. (*)
كأنه ليس له إله يغير الأمور ويقدر عليه الموت والمرض والعوائق. ويستلفته بتعليمه الراقي إلى دوام الاعتراف بعجزه وأن بقاء قدرته ومتعلقات إرادته ومواضيع فعله إنما هو بقدرة الإله العظيم المتصرف في العالم وبمشيئته. فالمقصود إلا أن يشاء الله بقاءه وبقاء قدرته على الفعل وبقاء مواضيع الفعل ومتعلقات الإرادة.
وهذا أيضا معنى مشيئة الله للفعل أن أبيت إلا تعليق المشيئة في الآية بالفعل. ولعمري إن سوق الآية وتعليمها ليوضح ما قلناه فضلا عن دلالة العقل والقرآن والدين على تقديس الله. رمزي. أليس في الآية السادسة عشرة من سورة الاسراء قوله تعالى: (وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها) أليست هذه الآية تدل على أن الله يأمر بالفسق.
الشيخ: من أين لك أن المراد أمرنا المترفين بالفسق ومن أين أتيت بهذا التفسير.
هل نسيت ما ذكرنا قريبا في قسم المحكم قول القرآن إن الله لا يأمر بالفحشاء.
كان ينبغي لك أن تجعل مجد الله وقدسه بين عينيك وملء ضميرك فتفهم أن المراد أمرنا المترفين بأوامر الصلاح والعدل والاحسان فخالفوا أوامر الحق وفسقوا فكيف بك والقرآن يصرح بأن الله لا يأمر بالفحشاء وينهى عنها وعن المنكر والبغي. لو كان مجموع هذا الكلام من إنسان لكانت القرينة فيه واضحة على أنه لا يأمر بالفسق بل يأمر بالصلاح فيفسقون. كأنك وأنت مسلم لم تسمع في شأن القرآن قوله في الآية الثانية والثمانين من سورة النساء (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) تفرض بأهوائك أن الله يأمر المترفين بالفسق مع أن القرآن لم يذكر بماذا يأمر المترفين.
وتعرض عن دلالة العقل والقرآن على أن الله لا يأمر بالفحشاء والمنكر والبغي. ولا تعرف أن الذي تزعمه بغفلتك يوجب اختلافا كبيرا في القرآن وكل هذا لم يعدل فكرك لماذا؟ ولماذا لم نعرف أن المراد من الآية أن أهل القرية إذا خالفوا بديهيات عقولهم في المعارف الإلهية وأعمال الصلاح والفساد وعبدوا أهوائهم واستحقوا النكال قطعا لدابر المفسدين وأراد الله بحكمته أن ينكل بهم فلا ينكل بهم إلا بعد تأكيد الحجة عليهم بأوامره الشرعية في واجباتهم من الأفعال والتروك كما في قوله تعالى في الآية الخامسة عشرة من سورة الاسراء أيضا: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) فيأمر المترفين في عموم أهل القرية يأمرهم باتباع الهدى والصلاح والعدل والاحسان ومجانبة الأميال الشهوانية والفلتات الغضبية فيكون المترفون عبيد الشهوات المألوفة لهم أسرع إلى الفسق بمخالفة أوامر الله فيعدي فسقهم وفجورهم غيرهم كما قيل (الناس على دين ملوكهم) ويتساهل الباقون في واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيفسقون بذلك أيضا فتتم الحجة على الجميع ويحق عليهم العذاب.
رمزي: قد جاء في الآية الثامنة والسبعين من سورة النساء (أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولون هذه من عندك قل كل من عند الله فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا) فالقرآن يصرح بأن الحسنات والسيئات وأعمال الإثم من عند الله. فماذا تصنع بهذه الصراحة. الشيخ: لماذا لا تفقه أن المراد من الحسنة ما يحسن عند الناس من نعم الدنيا كالنصر والفتح والغنائم.
والمراد من السيئة ما يسوء الناس من بلايا الدنيا.
لماذا لا تعرف معاني الألفاظ العربية وما يراد منها، فإنه يكون معنى السيئة هو ما يسوء الناس من البلايا كما تقدم في الآيتين ويكون من معانيها عمل الإثم وقد جاءت المجاهرة التي تزيل الأوهام وتجلو الحقيقة بجمالها الوضاح كما في الآية التاسعة والسبعين من سورة النساء أيضا (ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك) فيا للعجب ممن يرى هذه الآية ويشتبه الحال عليه في الآية الأولى. أليست هذه الآية تفصل القضاء وتوضح المتشابه ببيانها.
رمزي: ماذا تقول في الآية الخامسة والثلاثين من سورة الأنبياء (كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون) فالقرآن يصرح بأن الله يبتلي بالخير والشر لأجل أن يفتن الناس. الشيخ: ألم تعرف من صدر الآية أن المراد من الشر هو ما يكرهه الناس ويسمونه شرا وهو ما جرى عليه نظام العالم من انقطاع النعم وقد جارى الله الناس في تسميته شرا وإن تقدير النعم وانقطاعها حسب كرم الله وحكمته تظهر فيه حالات الانسان من الشكر والبطر والاحسان والطغيان والصبر والتسليم لله والكفر والاعتراض على الله. وبحسب ما يقارن الخير والشر من ظهور أحوال الناس يكونان ثانيا وبالعرض ابتلاء وامتحانا للانسان.
رمزي: قد جاء في القرآن إن الله خالق كل شئ كما ذكر في صفحة 16 عن سور الأنعام والرعد والزمر والمؤمن. وهذا يقتضي أن أفعال البشر حتى في الإثم مخلوقة الله وبقدرته لا مخلوقة للبشر ولا بقدرتهم.
الشيخ: ها هو القرآن يصرح بنسبة الخلق للبشر كقوله تعالى في الآية العاشرة بعد المائة من سورة المائدة في خطاب الله للمسيح الذي يعتبره القرآن بشرا (وإذا تخلق من الطين كهيئة الطير) وعن قول المسيح الرسول في الآية التاسعة والأربعين من سورة آل عمران (إني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير) فصرح القرآن بأن فعل المسيح وعمله لصورة
____________
1 ـ سورة القصص / الآية: 8.
2 ـ سورة التغابن / الآية: 15 (*)
فإنه يكفي في استلفاتك إلى هذه الحقيقة من مراد القرآن ما تكرر من تصريح القرآن بنسبة الخلق إلى البشر. ويكفي في استلفاتك أيضا ما كثر في القرآن من نسبة الفعل والعمل وأصناف الأفعال إلى البشر في مقام الأخبار والأمر والنهي والمدح والذم والتوبيخ والانكار والوعد والبشرى والترغيب والوعيد والزجر والتهديد..
ويكفي في استلفاتك أيضا ما كثر في القرآن من تهديد الآثمين ووعيدهم بالعذاب. فهل أنت لا تقدس الله ولا تنزهه عن العبث والظلم..
لو كان الله هو الخالق للأفعال الأثيمة أو أنها واقعة بقدرته لا بقدرة الانسان أو أنه يلجئ الانسان عليها الجاء لا محيد عنه.
إذن لكان من العبث واللغو نهيه للخاطئ الأثيم. وأيضا يكون من الظلم الفاحش توبيخ الانسان وذمه وعقابه على صدور فعل الإثم تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
الشيخ: من نظر فيما اتفق عليه التاريخ في حرب بدر يعرف أن المسلمين كانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا على أضعف عدة. نوع سلاحهم جريد النخل ولم يكن معهم إلا أسياف قليلة ولم يخرجوا بعزم حرب ولا استعداد لها بل خرجوا لتهديد قافلة قريش بما يعده المهدد الضعيف الذي يطلب دفع الشر بشئ من التهديد.
وكانت قريش نحو ألف رجل منتخبين على أكمل عدة من السيوف والرماح والدروع والخيل والمؤنة فكان انتصار المسلمين عليهم بذلك الانتصار الباهر في الموقف القصير مما هو على خلاف العادة وعلى غير فنون الحرب وقوته ولم يكن فيه قطع لخط الرجعة على قريش ولا استيلاء على مائهم ولا إعمال حيلة حربية ولا خلل في مركز قريش الحربي بل كان على نحو المصادقة التي يسود فيها جانب القوة والكثرة والعدة. ولقد بين القرآن في الآية السابعة وما بعدها من سورة الأنفال وأوضح إعانة الله للمسلمين بإجابة استغاثتهم يوم بدر وربطه على قلوبهم وإمدادهم بالملائكة وقذف الرعب في قلوب المشركين كما ذكر القرآن المسلمين بنعمة الله عليهم إذ قال لهم في الآية الثالثة والعشرين بعد المائة من سورة آل عمران (ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة) فكان استيلاء المسلمين في تلك الواقعة بذلك المجد الباهر العجيب هو أولى بالاستناد إلى الله المعين الناصر والمسبب بإعانته الخصوصة وعنايته لذلك الانتصار الخارج عن حدود العادات.
فالقرآن يقول: (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا) في المستقبل حربا و (زحفا فلا تولوهم الادبار) فرارا واحتقارا لقوتكم الحربية فإن الله ناصركم ومعينكم ولكم العبرة بانتصاركم على قريش في واقعة بدر فإنكم بحسب العادة لم تقتلوا المشركين ولم تأسروهم بقوتكم وكفاءتكم ورجحانكم في الاستعداد الحربي بل الله هو الذي سبب بنصره وإعانته قتلهم فكانت نسبة قتلهم إلى الله أولى - يا أيها النبي (وما رميت)
فالله المسبب لذلك التأثير الكبير هو أولى بأن تنسب إليه تلك الرمية ومجدها. ما أكثر ما يجري هذا التعبير المليح في المحاورات بكل لسان وخصوص اللسان العربي حينما يراد التنويه بمجد السبب أو المعين وكونه هو الدخيل في الأثر الكبير. وإن أسلوب القرآن الكريم في هذا المقام ينادي بوجه هذا الكلام في نفيه وإثباته إذ نفى الرمي عن الرسول من وجه حينما أثبته له حيث قال: (وما رميت إذ رميت ولكن الله رمي). (سورة الأنفال، الآية: 17) هذا كله فضلا عما ذكرناه من دلالة القرآن في محكمه وبديهة العقل والوجدان على حرية الانسان في إرادته وفعله وأنه غير مجبور عليه ولا ملجأ إليه..
وسيأتي إن شاء الله لهذا تتمة في بيان مسؤولية النفس في بحث المعاد.
في الحسن والقبيح العقليين
الشيخ: غير خفي أن لأفراد الانسان أميلا شخصية في الأفعال والتروك تحبذ جهة شخصيته ونفسيته ما يوافق تلك الأميال وتذم ما ينافرها تلك أميال تخص شخصه ونفسيته في قضاء أوطاره الشخصية في هذه الحياة وإن نفر منها غيره شخصيا أو نوعيا. ومهما خفي على الانسان من شئ فإنه لا يحسن بإنسانيته أن تخفى عليها الحقيقة المتجلية لشعوره بأوضح المظاهر وأسناها وهي أن له مبدأ إدراك يشترك به نوعه وتسمو به إنسانيته ويمتاز به فيها. ألا وهو العقل الذي تنكشف له الحقائق على ما هي عليه من الصفات فينادي الادراك الانساني بصفاتها تحسينا أو تقبيحا ويؤثر تأثيره في النفوس من وجهتها النوعية في الانسانية سواء وافقته الأميال الشخصية أم خالفته.
هذا الظالم الذي يريد بأهوائه ونفسيته أن يتوصل إلى ظلمه بالتزوير ورشوة الذي يحكم له يجئ إلى مرجع محاكمته فيبذل له الرشوة ويوفيه صورة الاحترام ويخضع له في الكلام والاستعطاف ويعده شكر الاحسان فإذا زاغ المرتشي عن العدل والحق فحكم للظالم بالجور الذي يلائم ميله ويحبذه بظالميته وشهوانيته فإن هذا الظالم يدرك بعقله وإدراكه الانساني قبح حكم الحاكم وانقياده إلى الجور ويراه منافرا لعقليته والشعور العقلائي والوجدان الانساني وإن لائم نفسيته ووافق مطلوبه الشخصي ويرى نقصان الحاكم بالجور واستحقاقه للمذمة وأنه ليذمه وينتقصه وإن وافق هواه.
وإذا أبى ذلك الحاكم إلا أن يحكم بالعدل والحق مهما تضاعفت الرشوة وزاد التملق ولم يرض لشرفه ودينه إلا الحكم بالحق والعدل فإن حكمه بالعدل ينافر ميل الظالم ويغضبه في نفسيته وأهوائه ولكن ذلك الظالم بذاته يقدر بعقله ووجدانه الانساني حسن عدل الحاكم واستحقاقه لكرامة المدح والثناء.
وهكذا الحال فيما إذا طلب الظالم من شخص أن يساعده على ظلمه بشهادة الزور فإن شهادة الشاهد زورا تلائم ميل الظالم ويحبذها بشهوانيته ولكنه يدرك بعقله وإدراكه الانساني قبح الشهادة من المزور وقبح انقياده إلى الزور ويرى ذلك منافرا لعقليته وشعوره العقلائي وإن لائم نفسيته ويرى نقصان شاهد الزور واستحقاقه للمذمة.
وأما إذا أبى المدعو لشهادة الزور إلا أن يجري على الحق فإن الظالم نفسه يقدر بعقليته حسن امتناع المدعو عن شهادة الزور ويراه مستحقا بهذه الفضيلة للمدح والثناء.
هذا كله وأمثاله في أعمال الناس مكشوف لكل أحد وعليه استمرار طريقة الناس في الأعمال طريقة فطرية لا يعتريها شك ولا يشوشها تشكيك شبهة. هذا كله يوضح للبداهة أن حسن الفعل غير منحصر بملاءمته للنفسية والميل النفسي ولا بموافقته للشرع. وإن قبح الفعل غير منحصر بمنافرته للنفسية والميل النفسي ولا بمخالفته للشرع.
بل إن الحسن والقبح صفتان ثابتتان للفعل بحسب العقلية المشتركة بين البشر يدركهما العقل مهما اختلفت النفسيات واضطربت الأميال الأهوائية.
ولا نمنعك أن تقول إن حسن الفعل عقلا هو ملاءمته للعقل المشترك بين البشر وإن قبحه عقلا هو منافرته للعقل المشترك بين البشر.
لكنا نقول لك إن هذه الملاءمة إنما هي أثر للحسن العقلي الذي هو الصفة الأصلية للفعل وكذا نقول في المنافرة وبحسب ما ذكرناه من طريقة الناس الفطرية المستمرة الجارية على البداهة والوجدان العام يتضح أن الانسان غير مجبور في أعماله لكي يبطل تحسينها وتقبيحها عند العقلاء.
التشكيكات في الحسن والقبح العقليين
رمزي: قد وجد في بعض الكتب بعض التشكيكات في هذه الحقيقة وها أنا أحب أن أذكرها.
قد قيل إن الفعل لا يمكن أن يتصف بالحسن والقبح وذلك لأن الفعل عرض والحسن والقبح من قسم العرض أيضا.
والعرض لا يعرض عليه عرض ولا يتصف بالعرض، فالفعل الذي هو عرض لا يمكن أن يتصف بالحسن والقبح اللذين هما عرض أيضا ولا يمكن أن يعرضا عليه.
هذا اللون شديد وهذا اللون ضعيف وهذا اللون حسن وهذا اللون قبيح فكيف جاز هنا أيضا عروض العرض على العرض واتصاف العرض بالعرض.
ما هذه التشكيكات التي تذكرها إلا شبهة في مقابلة البداهة ومغالطة لا تخدش في شرف الحقيقة المتجلية للوجدان. تشكيكات لا يقدر المشكك بها أن يتخلص من تراكم النقوض عليه تراكم يوبخه على هذا التشكيك
رمزي: إن النقوض التي تذكرها معلومة ووجدانية بديهية وكافية في دفع التشكيكات المذكورة ولكني أطلب دفع هذه التشكيكات بالحل العلمي الكاشف للحجاب.
الشيخ: قد اشتبه الحال بين العرض الوجودي والعرض الانتزاعي. والذي وقع الكلام من الفلاسفة في عروضه على العرض إنما هو العرض الوجودي كالبياض والسواد. وأما العرضي الانتزاعي كالحسن والقبح والشدة والضعف فلا يمكن للفيلسوف بفلسفته ولا لصاحب الحس والوجدان أن ينكرا عروضه للعرض واتصاف العرض به.
رمزي: وقيل أيضا ما معناه إنا إن سلمنا بثبوت الحسن والقبح العقليين في أفعال البشر فإنه لا يمكن أن نسلم بإمكان تحكم البشر والعقل على جلال الله مالك الملك فيقال هذا الفعل حسن بحيث يقبح من الله تركه فيجب أن يفعله. هذا الفعل قبيح فيجب أن يتركه.
من ذا الذي يكون له الحكم على الله مالك الملك الفعال لما يريد. أم يكون ذلك بقياسه على المخلوق المملوك المحكوم عليه بالأمر والنهي كيف يصح هذا القياس مع هذا الفارق العظيم.
الشيخ: إن الحسن والقبح لا يكونان بتحكم العقل بل هما صفتان حقيقيتان لازمتان للأفعال والتروك يدركهما العقل بنورانيته إدراكا ويدرك أن ارتكاب الفعل القبيح أو الترك القبيح صفة نقص تنافر الكمال أن يتلوث بصفة النقص والسقوط. لم يقبح فعل الانسان أو تركه ولم يقبح صدور القبيح منه لمحض كونه إنسانا مخلوقا مملوكا بل يقبح صدور ذلك منه لأنه نقص ومنافر للكمال وقد أنعم الله على الانسان بأن جعله مستعدا للكمال.
والجهة التي يدور العقل مدارها في التحسين والتقبيح هي صفة الفعل وكمال الفاعل ولذا لا يحكم على البهائم كما يحكم على الانسان بالنقص واستحقاق الذم بارتكاب بعض الأفعال والتروك. إذن فجلال الله وقدسه وكماله أولى بالتنزه من نقائص بعض الأعمال والتروك. وهل يعمى العقل فلا ينزه جلال الله وكماله من منقصة الكذب والخداع. وعن الغضب على مطيعه فاعل الحسن وتقبح فعله وعقابه عليه.