الصفحة 378

وعن الرضا عن عاصيه المتمرد الناقص فاعل القبائح وتحسين فعله للقبيح وإثابته عليه كلا ثم كلا.

فالعقل بهذا الميزان ينزه جلال الله وقدسه وكماله عن بعض الأفعال والتروك فيقول هو والعقلاء هذا الفعل حسن وتركه قبيح فلا يتركه الله القدوس الكامل وهذا الترك قبيح فلا يصدر من الله القدوس الكامل. لا يحكم العقل ولا يتحكم على الله بل يفتخر بأنه يعرف جلال الله وقدسه فيعرف أنه جل شأنه منزه عن صدور مثل الفعل الفلاني ومثل الترك الفلاني. لا يلوث العقل نورانيته بالقياس بل لا يحكم إلا حيث تتجلى الحقيقة لنورانيته بأثبت من رأي العين ولمس اليد.

ها هو العقل والادراك يميز الأفعال والتروك بذواتها وصفاتها وإضافاتها ويصف حقائقها في صفوفها ويفصل بينها بحدودها وعوارضها وجهات صفاتها لا يتوقف في الحسن والقبيح على ملاءمة نفسية شخصية أو منافرتها. ينادي ببيانه ويوضح بتنسيق صفوفه أن العدل والانصاف حسن مطلقا. الظلم والجور قبيح مطلقا.

ترك العدل ممن هو قادر عليه قبيح مطلقا. ترك الظلم حسن لازم مطلقا. إذا رأيت يتيما من عائلة شريفة عاملة في حسن السياسة ومساعدة العمران ونظم الاجتماع وهو المرشح لأن يكون خلفا لعائلته في ذلك العمل الصالح ووجدته بعد أن كان هادئا جميل الأخلاق ملازما للتعلم قد مال لأهل الفساد الباطلين ذوي الأخلاق الفاسدة والأعمال الشريرة وعرفت أن ضربك له للتأديب برده إلى الصلاح والهدو والانكباب على العلم واللياقة لأن يقوم بأعمال آبائه الصالحة فكم ترى في ضربك له للتأديب من الحسن الكبير واللزوم. وإذا رأيت ظالما شريرا يهاجم على قتل النفوس البريئة الزكية وعلى هتك الأعراض وإفساد العمران وعرفت أنك تقدر على دفاعه ودفع شره بالضرب أو القتل فكم ترى من الحسن الكبير اللازم في ضربك له أو قتله في سبيل دفاعه.. وكم ترى من القبح الهائل في أفعال هذا الظالم وقتله الناس وإفساده..

وكم ترى من القبح المزعج في ضرب اليتيم الضعيف الهادئ أو قتله ظلما. لا ينقلب الضرب القبيح أو القتل القبيح في هذه الأمثلة حسنا.


الصفحة 379
ولا ينقلب الحسن قبيحا. بل إن نوع الضرب أو القتل ينقسم باعتبار أصنافه وصفاته المقسمة له والمميزة لأصنافه إلى صنف هو حسن باعتبار صفته وعنوانه بجميع أفراده وأحواله وإلى صنف هو قبيح باعتبار صفته وعنوانه بجميع أفراده وأحواله.

في النبوة العامة وإرسال الله للرسل

إذا قيل لك إن الملك الفلاني الكبير الكامل العلامة الوحيد في فلسفة الاجتماع والعمران والأخلاق والبارع المتقدم في قوانين الحقوق والقادر على إعلان تعاليمه الصالحة في المملكة وتنفيذها بسيطرة عادلة وتعليم حكيم رؤوف عادل.

هذا الملك قد ترك رعيته الكبيرة ومملكته الواسعة المؤسسة على المدنية والمترشح أهلها بموهبة العقل للتعلم والرقي في مراتب الكمال الحقيقي تركها مهملة جاهلة وحشية فوضوية لم يهذبها بالتعليم الصالح الضامن لكمالها وحسن اجتماعها وعمرانها وحفظ مستقبلها.

بل تركها تعوم في غمرات الجهل وتخبط في ظلمات الوحشية وتتجاذبهم تشريعات الفوضوية المتلونة والتعاليم الشهوانية والأخلاق الاستبدادية.


الصفحة 380
فهل تقول: إن هذا الملك لا يقبح منه هذا الترك لرعيته وهذا الاهمال لإصلاح مملكته؟ وهل تراه كاملا؟

وهل تليق هذه الحال بالكامل؟ أم تقول: إن هذا قبيح لا يجتمع مع الكمال ولا يكون من كامل صالح. هل تقول هذا لأجل مخالفته لنفسيتك وأميالك الشخصية؟

أم تقول به لأجل مخالفته لوجدانك العقلائي الذي تشترك به مع نوع البشر. لا أظنك تقول. إن الملك المتسلط على الرعية بالاستحقاق والمالك لهم على الإطلاق لا يقبح منه أن يهمل أمر الرعية وإصلاح المملكة هذا الاهمال. بأن تقول: إنه له أن يفعل ما يشاء حسب تسلطه وقدرته. ألا تدري أن الشعور الحر يرى هذا الاهمال مضادا للكمال والاستقامة وكلما تقدم الملك في الكمال ازداد هذا الاهمال قبحا وبعدا عن مقام كماله المقدس.

لم يكن حكم العقل بلزوم إصلاح الملك لرعيته ومملكته من ضعفه وتصور سلطته لكي يقف هذا الحكم عند قدرته ونفوذه بل هو من أجل كمال الملك وشرف ملكه وحسن الإدارة والمقدرة عليها.


الصفحة 381

في الشريعة

أيها الدكتور فهذا الإله الكامل على الإطلاق العالم بالخفيات والمحيط بحقائق المصالح والمفاسد وأسرارها إله الرحمة والرأفة والصلاح والاصلاح هل يليق بجلاله وكماله وقدسه ورحمته أن يهمل الانسان المدني الطبع ويتركه بلا تعليم يكمله ولا شريعة تنظم اجتماعه وتهذب مدنيته وتحفظ الحقوق وتقوم بالاصلاح جارية على حقيقة الحكمة في مصلحة النوع والفرد تكافح فلتات الجهل بحقائق المصلحة النوعية وتقاوم الشهوانيات الشخصية والعصبيات القومية والعوائد الاستبدادية؟

أم هل يليق بجلاله وقدسه وكماله ورحمته أن يهمل الانسان من تعليمه بالأخلاق الفاضلة لكي يتجمل بفضيلتها وينتظم بها أمر الاجتماع وتشابك المدنية.

وينبهه على الأخلاق الردية لكي يصد بذلك مخادعة الأهواء ومخالسة الشهوانيات ومغالطة العوائد فيصون العمران والمدنية والاجتماع وشرف الانسانية وسعادة مستقبلها من وباء الأخلاق الردية وعواصفها المدمرة. ذلك الوباء وتلك العواصف التي نراها في أرقى العصور بزعم الزاعمين قد تركت الانسانية في جميع العالم ترزح وتئن تحت أثفالها الباهضة ونير العناء وتلاعب الأيدي المبرقعة. أم هل يليق بجلاله وقدسه ورحمته وكماله أن يترك نوع الانسان ألعوبة لجهله وأهوائه في جهات العبادة لإلهه وأسباب شكره والتقرب له وطلب الوسيلة إليه ومعرفة المستقبل وكشف الغطاء عن الحقيقة وأسباب نيل السعادة فيه.

فيترك الانسان يخبط في هذه الشؤون في أدواره وأجياله ذلك الخبط المدهش. قد لعبت بالانسان أيدي الجهل والأهواء ما شاءت. تارة يعبد الأوثان من الأخشاب والمعادن والأحجار يجهد نفسه بالمشقات الكبيرة والرياضات الشاقة في عبادتها. وتارة يعبد باللهو واللعب والرقص والمعارف. وتارة ينذر نفسه للزنا واللواط به في سبيل عبادة الأصنام ويسمي نفسه إذ ذاك (قديس) وتارة يذبح لها بنيه وبناته ويحرقهم بالنار. وتارة يقدم مئاتا وألوفا من الذبائح البشرية في أوهام الخيرات للموتى.


الصفحة 382
هل يليق هذا كله بإله الرحمة والقدس والكمال مع قدرته على تمهيد أسباب الصلاح الخير للانسان بتعاليمه الصالحة وإعلامه بشريعة مدنية وتهذيب الأخلاق وبيان المعارف والعبادات. يعمل أعمال رحمته ولطفه وحكمته وقدس في هذا كله بإرسال الرسول بشري يمده من فيض علمه وحكمته ويوسطه في تبليغ البشر عنه ما يحتاجون إليه في نظام اجتماعهم ومدنيتهم وأخلاقهم وكمالاتهم ومعارفهم وعباداتهم وسعادة مستقبلهم. يختاره بشرا كاملا في الأخلاق الفاضلة عاملا رؤوفا جاريا على الحكمة والسداد والحنان. يعضده بحجة على رسالته بحيث تقطع معاذير العقول في شكوكها وتعلمهم أنه رسول الله المبلغ رسالته والصادق الأمين كما سنذكر وجه ذلك إن شاء الله تعالى.

لا يرضى العقل والشعور لجلال الله وكماله وقدسه إلا أن يرحم عباده ويعمل أعمال رحمته وكماله وقدسه بإرسال الرسول لسعادة البشر فيما ذكرناه وإنقاذهم من تيار الجهل والأهواء وبواعث الفساد. يصلح أمرهم في ذلك مع حرية إراداتهم التي يرتقون بها إلى أوج الكمال والسعادة على ناموس الحكمة والرحمة.

التشريع البشري

الدكتور: لماذا لا تقول بأنه يكفي في التشريع ما يقوم به البشر من تشريعاتهم العدلية المدنية ونظامهم الحقوقي والسياسي الاجتماعي فالإله الذي يعلم أن البشر يسدون هذا الخلل لا يقبح منه تركهم إلى تشريعاتهم ونظاماتهم. الشيخ. إنك تعلم وكل أحد يعلم حتى نفس المشرعين وحتى الواضعين لقوانين الانتخاب والتشريع أن علم البشر مهما كان وكانوا فهو محدود يغيب عنه أكثر الحقائق ولا يحيط بحقيقة المصالح.

وربما تدس عليه كثير من المفاسد فيحييها بتشريفات المصالح. إن أرقى ما تتصوره من التشريع البشري هو تشريع الحكومات النيابية الدستورية في العصور الحاضرة.


الصفحة 383
مع أن نفس مبادئ التشريع والاهتمام في أمره واحتياطات الحكومات والأمم في سبيله تستلفتك إلى معرفتهم بما في طريقه من أخطار الخطأ والجهل وغير ذلك.

فانظر إلى الانتخاب للتشريع في أحسن سيره القانوني كم يتخطى من الرجال الراقين في التقدم والصلاح ودرس الحقائق ونتائج التجارب.

وكم يتخطى من الأدمغة المنكرة والقلوب المتيقظة والأذهان المتوقدة ويعبر عنهم إلى ذوي الوجاهة والشهرة والنبوغ. الشهرة التي تعرف أنت وغيرك أنها لم تجعل يدها بيد الحقيقة بل طالما تخالفتا في السير والوصول. ومع هذا فإنك ترى هؤلاء المنتخبين يكثر بينهم الاختلاف في مواد التشريع وموافقتها لمصلحة الأمة فيسود من المواد بالنفوذ ما يترجح بالأكثرية ولو باثنين. وهل يخفي أنه يكثر أن يكون في الجانب الأقل من هو أحسن وصولا للحقائق.

ومهما كان فإن تشريع الأمة يؤيد مصلحة الأمة ووطنها وقوميتها ومنافعها الخصوصية. ويندر أن يعدل ذلك بمصلحة نوع البشر وخدمة الانسانية المطلقة ومصلحة المشتبكين مع الأمة المشرعة في جهات المنافع. وبعد ذلك تبقى تلك التشريعات معرضا للتعديل.

ومهما أخذت الأمم في احتياطاتها في أمر التشريع فإنهم يعلمون أن الانسان كثيرا ما لا يعرف جهله ولا يعترف به. كثيرا ما يتورط في الخطأ وهو يفتخر بالصواب.


الصفحة 384
ومع ذلك ترى الأمم وزعماءها وساستها يجدون باحتياطاتهم في شأن التشريع الذي يريدونه لصلاح الأمة. إذن فكيف يهمله الإله القدوس الرحيم إله العلم المحيط.

كيف يهمل ما يعلمه من حقيقة التشريع الذي يضمن لعموم البشر وجامعة الانسانية حقيقة الصلاح والعدل في مدنيتهم واجتماعهم. يجد البشر بظنونهم المحدودة شريعة هي أقرب إلى الصلاح فيستقبحون لشرف إنسانيتهم أن يهملوا تشريعها كل ذلك حياطة لمصلحة الأمة فما ظنك بإله العلم والرحمة المنزه عن كل قبيح. وماذا تقول في تعليم الأخلاق الفاضلة والتحذير من الأخلاق الرديئة. هل تكتفي فيها بتعليم العوائد وأثرة الوطنية والقومية تلك العوائد التي تفعل ما تفعل بالانسانية وتلك الأثرة التي أطالت أنينها.

وما ذا تقول فيما يخفى على العقول البشرية المحتجبة ببشريتها ويغيب من المعارف ومستقبل الانسان وأسباب السعادة فيه..

وماذا تقول في الارشاد إلى النهج المستقيم في عبادة الإله والشكر له حق شكره والتقرب إليه.


الصفحة 385

الرسالة العامة في القرآن الكريم

ها هو القرآن الكريم قد تعرض لما ذكرناه بالبيان الذي يوضح الحقيقة وتقوم به الحجة فقال في الآية الخمسين من سورة المائدة (ومن أحسن من الله حكما) هل يقول أحد: إن البشر ذا العلم المحدود والجهل الطبيعي والحواجب البشرية هو أحسن وصولا للحقائق وتعديل المناسبات في جميع الأمور وأحسن حكما وتشريعا من الله إله الكمال والعلم المحيط. وقال جل اسمه في الآية الخامسة عشرة بعد المائة من سورة التوبة (وما كان الله ليضل قوما) يتركهم يخبطون في ضلالهم ويقطع عنهم رحمة التوفيق لأجل خروجهم عن أهليته بتمردهم (بعد إذ هداهم) بدلالة العقل وبداهة الفطرة إلى أصول المعارف.

فلا يقطع رحمة التوفيق (حتى يبين لهم ما يتقون) ويتمردون عليه.

يبين ما يجتنبونه من الأفعال والتروك حياطة لمصلحتهم في نظام اجتماعهم وأخلاقهم وعرفانهم وعبادتهم وسعادة مستقبلهم ويوضح البيان في كل ما يحتاجون إليه في جميع ذلك (إن الله بكل شئ عليم) لا تخفى عليه خافية من جميع ذلك وجميع الأمور قد أحاط بكل شئ علما فالقرآن يبين أن الله يجل ويتقدس عن أن يهمل عباده ويتركهم بلا بيان لما فيه صلاحهم. وفوق ذلك إنه يجل ويتقدس عن أن يقطع رحمته بتوفيقه وتأييده عمن لم يتمرد ولم يخرج عن أهلية الاحسان وما كان الله ليتركه يخبط في الضلال بلا توفيق. وقال جل شأنه في الآيات الحادية والثانية والثالثة والستين بعد المائة من سورة النساء (إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده) ممن لم يقطع الطوفان تاريخهم البشري العمومي فلا يكون ذكر أسمائهم ونبواتهم مستغربا يشوش استغرابه مواقع الكلام فيخرج عن مواقع الحكمة.


الصفحة 386
ثم ذكر القرآن أسماء بعض النبيين والإشارة إلى بعض الرسل الذين ذكر الوحي قصصهم للرسول. والرسل الذين لم يذكر قصصهم. وقال جل شأنه في غايات إرسال الرسل (رسلا مبشرين ومنذرين) (1) مبشرين للانسان بسعادته في الدنيا والآخرة بسبب خضوعه لما يصلحه في فرديته ونوعه واجتماعه من بيان الشريعة والأخلاق والمعارف. ومنذرين ومحذرين له من الشقاء والخطر المحدق به في دنياه ومستقبله من مخالفته لما بلغوه فيما يصلحه عن الله بالبيان الكافي.

أرسل الله هؤلاء الرسل الكرام لأجل واجب لطفه ورحمته وحكمته وقدسه وإصلاحه لعباده وأشار إلى ذلك ببيان غاية شريفة مطلوبة تترتب عليه وتشير إليه بقوله جل اسمه: (لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل) لئلا يقولوا يا إلهنا القدوس إله الرحمة والكمال والحكمة لماذا لم تشرع ولم تبين لنا بواجب لطفك ورحمتك ما يصلح نفوسنا ومدنيتنا وأخلاقنا ومعارفتنا وعبادتنا وأسباب السعادة في مستقبلنا.

هذه الغاية المذكورة إحدى الغايات وهي غاية ثانوية تشير إلى العلة الأولية وهي رحمة الله ولطفه في إصلاح عباده وتعليمهم (وكان الله عزيزا) في قدسه وكماله لا يمكن أن ينسب إلا جلاله نقص الاخلال بواجب الكمال والقدس والرحمة (حكيما) في أعماله على واجب حكمته وإحاطة علمه بمواقع المصالح والمفاسد ومواقع الحكمة في إرسال الرسول.

____________

1 ـ سورة النساء / الآية: 164. (*)


الصفحة 387

الرسالة في أقطار الأرض

عمانوئيل: يا شيخ إن الغفلة قد تثير من غبار شكوكها ما يكدر الابتهاج بالنظر إلى جمال الحقائق.

فهل تسمح لي بأن أبدي بعض الشبهات لكي تزيل معاثرها بالبيان الكافي. فإني وإن كنت واثقا بأن الذي تذكره من واجب اللطف وإقامة الحجة بإرسال الرسل هو الحق المعقول والمناسب لجلال الله. لكن قد تختلج الشكوك في ذلك عند النظر إلى أطراف الدنيا مما لم يذكر التاريخ إرسال الرسل فيها وذلك ما عدا مصر وسوريا والحجاز لأن تعدينا إلى إرسالية بطرس وبولس فنضم إلى هذه الأقطار الثلاثة رومية وما يحيط بالأرخبيل من البحر المتوسط كآسيا الصغرى. وأروپا الشرقية الشمالية.

إذن فلا يعرف ماذا يقال في الشرق من بلاد فارس إلى منتهى آسيا شرقا وشمالا وماذا يقال في أقاصي أورپا وأفريقيا.


الصفحة 388
وماذا يقال في أميركا ماذا يقال في هذه البلاد الواسعة الشاسعة التي لم يعرف إرسال رسول فيها حسب لطف الله وإقامته للحجة..

وأيضا إذا عطف النظر إلى البلاد التي عرفنا فيها إرسال الرسل فماذا يقال فيما جرى فيها من الفترات الطويلة بين الرسل. تلك الفترات التي يستفحل فيها الضلال على أجيال كثيرة من البشر في قرون عديدة. الشيخ: كأنك تقول: إن التوراة قد اعتنت بالتاريخ المستوفى منذ بدء العالم إلى موت موسى فلم تذكر إلا أنه في أيام شيث ابتدأ أن يدعى باسم الرب وأن أخنوح (حنوك بالعبرانية. وإدريس بالعربية) سار مع الله، وإن نوحا سار مع الله وخاطبه وكانت له شرايع.

وأن الله خاطب إبراهيم في حاران وسوريا وجعل له شريعة الختان. وخاطب الله إسحاق ويعقوب. ثم أرسل الله موسى بالدعوة والشريعة. فلم تذكر التوراة إلى آخر أيام موسى نبوة ورسالة في الهند والصين واليابان ولا شمالي هذه البلاد ولا في أورپا ولا في أقاصي إفريقيا. وجرت كتب العهد القديم على ذلك فحصرت ذكر النبوة والرسالة ووجود الأنبياء بسوريا وبابل وجاءت كتب العهد الجديد فحصرت ذكر النبوة والرسالة وتاريخها بسوريا وآسيا الصغرى وأورپا الشرقية الشمالية ورومية.

فنقول حينئذ يا عمانوئيل لو كان غير ذلك من أقطار الدنيا نبوة ورسالة لذكرتها كتب العهدين.

يا عمانوئيل أين مضت نتيجة بحثكم في خلل كتب العهدين كما مر في الجزء الأول. أفلا يكفيك من ذلك ما ذكره القس في صحيفة 430 و 431 من أن التوراة أهملت شيئا كثيرا من تاريخ النبوات والرسالة ومن ذلك ما استدركه عليها العهد الجديد، لنقتصر على هذا المقدار من الكلام على كتب العهدين.


الصفحة 389
يا عمانوئيل لا ينبغي في شرف العلم أن يقال: إنه ليس في أقطار الدنيا نبوة ولا رسالة ولا دعوة رسالة غير ما ذكره العهدان. أليس من الجائز أن يكون في جميع أقطار الدنيا أنبياء ورسل ودعوة رسولية بأضعاف ما ذكره العهدان ولكن التاريخ المعرقل بالأهواء لم يذكر من ذلك شيئا على وجهه الحقيقي لأنه لا يلائم خطته.

بل يجوز أن يكون من الأنبياء والرسل غالب هؤلاء الذين جعلهم الناس آلهة متجسدة وأركان الثالوث والأقانيم وجرى عليهم الصلب والاضطهاد من أجل دعوتهم الصالحة ولكن الأيام وأحوالها بدلت صورة دعوتهم ومسخت شرايعهم كما أشير إليه في كتاب العقائد الوثنية (1) في صحيفة 5 و 6 كما أنكم يا عمانوئيل قد حققتم في بحثكم في أواخر الجزء الأول أن هذا الحال بعينه جرى مع المسيح ودعوته الصالحة وحفظه للشريعة فلماذا لا يكون من نحو ذلك. برهما، وبوذا، وكرشنا وأندر، وبالى، وكونفوشيوس وغيرهم في الهند والصين والياپان وما والاها. ومترا وزورستر وغيرهما من الفرس. وباكو، وبوشيكا، وأناس كثيرون يذكرون في أقطار أميركا.

وكالذين يذكرون في أسوج ونروج وغيرها من بلاد الاسكندنافيين. مضافا إلى أنه يوجد عند الأمريكيين في اقطار أميركا وعند الهنود والصينيين ومن والاهم والإفريقيين والأورپاويين اسم التوحيد مع القول بالأقانيم ورسوم العبادات للإله والصيام والعمودية والاعتماد على المخلص والتخليص من الجحيم وإغواء الشيطان وبقاء النفس بعد الموت وسعادتها وشقائها والاعتماد على الغفران فانظر أقلا إلى كتاب العقائد الوثنية إن لم يتيسر لك النظر إلى مصادر نقله وغيرها.

وهذا كله يشير إلى أنه أنقاض دعوات رسولية قد تمت بها الحجة واللطف ولكن الأهواء والضلال مدت إليها أيديها الأثيمة فهدمت صروحها وشوهت توحيدها وتعاليمها وشرايعها. عادة جارية في ضلال الانسان وابتلاء الأديان فإن التاريخ يعيد نفسه، وجديده يمثل قديمه. وما يدريك بالحال فلعل الفترات بين الرسالات القديمة هي بنحو الفترة بين المسيح ورسولنا عليهما الصلاة والسلام. ولعلك تنظر في كلامك إلى القرآن الكريم. بغير خفي إن وحي القرآن الكريم لا يهمه التاريخ وإنما يذكر منه ما يدخل في أغراضه الحميدة ولا يستنكره الجهل ولقد قال في الآية الثامنة والسبعين من سورة

____________

1 ـ هو كتاب مصور جيد التبويب واسع الاطلاع يشير إلى مصادر نقله. طبع في بيروت سنة 1330 في 167 صحيفة بقطع هذا الكتاب مع تسع صحائف ممحضة للصور المهمة تأليف الفاضل محمد طاهر التنير وفقه الله. قدمه إلى صليبيي القرن العشرين المبشرين. وهو كتاب فائق في بابه. (*)


الصفحة 390
المؤمن المكية: (ولقد أرسلنا رسلا من قبلك منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك " وفي الآية الرابعة والستين بعد المائة من سورة النساء المدنية (ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك) فالقرآن ينادي بأن هناك من الرسل من لم يقصصهم الله على رسوله.

وهذا كله مما يصد عن التسرع بالقول بأن أقطار الدنيا لم يرسل فيها رسول ولا بلغتها دعوة رسول على مقتضى اللطف وإقامة الحجة. يا للعجب بأي علم محيط ينفي ذلك.

تنبيهات

يا عمانوئيل، نذكر بعض التنبيهات في المقام لكي تستعين بها على دفع الشبهات.

1 - قد أشرنا في صحيفة 429 و 430. إلى أن الحكمة اقتضت خلق الانسان مختارا في إيمانه وأعماله بحيث لا يدخل في ذلك إلجاء. وهذه الحكمة بعينها تقتضي أن يكون أمر النبوات في سيرها ونفوذها وقبولها غير مبني على إلجاء الله للبشر في ذلك بل تجري في ذلك على نهج الأمور البشرية العادية،. يسير أمرها ويمضي نفوذها بحسب العاديات والأحوال من الاقبال والاقتناع والسعي والدفاع والعزة والمنعة.


الصفحة 391
2 - إن الاعتبار بحال النبوات التي ظهر لها صوت من بين مصادمات الضلال يفهمنا أنه يجوز في كثير من الأزمان والأقطار أن يكون الضلال المستفحل فيها مستعدا لأن يخنق الدعوة الرسولية عند أول ولادتها ولا يمهلها بأن تتنفس. فلا تدخل الرسالة ودعوتها حينئذ في اللطف والحكمة.

أنظر إلى أن موسى كان ينتظره وينتظر دعوته الرسولية مئات الألوف من قومه بني إسرائيل لكي ينصر أيمانهم الموروث من إبراهيم وينقذهم من شرك المصريين واستعبادهم القاسي وقد أجابوا بأجمعهم دعوته بابتهاج وآمنوا بها برغبة وإذعان. ولكن هل يخفى عليك ما جرى على دعوته من التهديد مع اعتزازه بمئات الألوف من قومه وهل يخفى عليك ما وقع في سيرها ونشر موسى (ع) لها من المعاثر والعراقيل حتى من خصوص قومه بني إسرائيل وهل تنسى واقعة العجل وعبادتهم له.

وانظر إلى حال المسيح مع بني إسرائيل في دعوته وما جرى معه فإن بني إسرائيل كانوا ينتظرون دعوة رسولية تنظم جامعتهم وترد لهم استقلالهم السياسي ولم يجئهم المسيح بما يخالف دينهم الذي استقروا عليه بعد سبي بابل ولا شريعتهم بل كان كالواعظ الزاجر عن الرياء وأكل الدنيا باسم الدين ومع ذلك قامت عليه قيامة بعض الناس حتى أغروا السياسة الرومانية به بزعم أنه يريد أن يدحر سياستها عن بلاده وجرى ما جرى.

وإنك قد ذكرت في الجزء الأول من الصحيفة المائة والثلاث والتسعين إلى آخره ما هو الوجه في رواج التعاليم الدخيلة في النصرانية على خلاف ما كان عليه المسيح. وكذا تلاميذه من بعده إلى نحو عشرين سنة كما تذكره الأناجيل وكتاب أعمال الرسل وهذه طريقة جارية في رواج الدعوة الرسولية بعد تشويه تعاليمها.

وانظر إلى رسول الله وكونه من أعز طائفة في العرب وأجب الرجال وأوثقهم وأكملهم عند قومه وقد نهض أقرباؤه لحمايته وحماية دعوته وأقبل عليها ذوو الوجاهة والحماية فاضطرت الأحوال إلى أن يهاجر جملة من المؤمنين إلى الحبشة ويحاصر هو وذووه في الشعب ويتحمل الأذى ويهاجر إلى المدينة ويبتلى بالحروب الدفاعية مدة حياته المقدسة في المدينة. فالله العالم بالأمور يجري رسالاته بحسب الأصقاع والازمان في مقام يعلم بأنه يكون لدعوتها صوت يقوم به اللطف وتتأكد به الحجة. ولعلما يشير إلى هذا المعنى قوله تعالى في الآية الرابعة والعشرين بعد المائة من سورة الأنعام: (الله أعلم حيث يجعل رسالته).


الصفحة 392
وهل يخفى عليك أن الله قد أقام حجته على جميع الناس في المعارف الإلهية بما وهبه لهم من العقل تتجلى في بديهياته حقائق المعارف الإلهية وبطلان المادية والشرك والثالوث وتجسد الإله وحديث الفداء وكيف ترى إصرار الأمم على ذلك وإصرار البشر نوعا على الظلم والجور وفساد الأخلاق مع أنهم يعرفون قبح ذلك ببداهة عقولهم مضافا إلى أن الناس قد بلغتهم دعوة رسولية توبخهم على الضلال وتحتج عليهم ببديهيات عقولهم ولم تقترن بشئ من الموانع العقلية ولا بتعليم غير معقول ومع ذلك فإنك ترى الأهواء كيف تلعب ما تلعب بإصرارها. فالحجة العقلية البديهية قائمة على جميع البشر في الشؤون الإلهية ومواقع العدل والانصاف ومحاسن الأخلاق وأنت ترى حال الناس مع ذلك وهل يخفى أن الرسالة مؤكدة لهذه الحجة بتكرار بيانها والنداء بها.

نعم هي مؤسسة في الشرايع التي لا يدرك العقل تعديلها والعبادات التي لا يدرك العقل وجوهها والناس مصرون على تمردهم وحرمان أنفسهم من كرامة دلالة العقل فمن الجدير لأجل ذلك أن يكون الكثير منهم في شعوبهم وأقطارهم وأجيالهم قد أخرج نفسه عن لياقته للطف المختص بالرسالة ولا يدع لحكمتها محلا.

إذن فاعرف أن الحكمة الإلهية في الرسالة تنظر إلى هذه الشؤون من أحوال البشر وتجعلها حيث يمكن بحسب حال الناس أن يظهر لها صوت بدون إلجاء يسلبهم الاختيار ولله الحجة البالغة وهو العليم الحكيم. يا عمانوئيل إذا قامت الحجج العقلية على أمر من الأمور فلا يصح لك أن تشكك فيها لأجل احتمالات موهومة يثيرها الجهل بالحقائق بل ينبغي أن تجعل الحجج العقلية دليلا إجماليا على الحقائق المجهولة التفصيل.


الصفحة 393

صفات الرسول في القرآن الكريم

قد ذكرنا في صحيفة 53 و 54 قوله تعالى: (رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما) (1) فهذه الآية الكريمة في مضمونها المتقدم وقطعها للحجة تستلفتك إلى أحكام العقل والبداهة في صفات الرسول التي يجمعها لا يكون للناس بحسب معقولاتهم وتنفراتهم حجة تصدهم عن الركون إلى الرسول والاذعان بتصديقه والانقياد إلى تعاليمه والتسليم لتأديبه.

وذلك بأن لا يكون من جهة الرسول نقص ينفر الناس عنه ويكون سببا للريب العادي في صدقة وللاستنكاف عن اتباعه.. كيف تكون الرسالة مع النقص الذي يستتبع بحسب كمالات البشر بطلان فائدتها وانحطاط دعوتها وتكون للناس الحجة العقلائية على الله في عدم إيمانهم بالرسول وانقيادهم إليه.

وقد أيد الله هذا المعنى بقوله في الآية الرابعة والعشرين بعد المائة من سورة الأنعام (وإذا جاءتهم) يعني المشركين (آية قالوا لن نؤمن) بالحقائق التي يعلم بها الرسول (حتى نؤتى) من الوحي والرسالة (مثل ما أوتي رسل الله) فوبخهم الله على تشامخهم مع نقصهم وقال لهم (الله أعلم حيث يجعل رسالته) ويختار لها بعلمه وحكمته من هو الصالح الكامل من البشر والذي ليس لقائل في صلاحه وكماله مغمز وليس من جانبه نقص ينفر البشر منه.

كيف يضيع الله رسالته مع قدسه وكماله وحكمته وعلمه يجعلها فيمن ليس أهلا لها ولا يليق لفائدتها المطلوبة. فالآية وإن كانت بادئ بدء إخبارا إلا أنها بسوقها واستنادها إلى علم الله القدوس تشير إلى وجه الحجة والشروط المطلوبة في الرسول لا

____________

1 ـ سورة النساء / الآية: 164. (*)