الصفحة 394
يجعل الله رسالته في الآثمين والذين يكذبون أو يظلمون أو نتناقض أقوالهم وأفعالهم أو يكابرون الحق ويتمردون عليه أو يخالفون الحقائق المعقولة أو يأتون بما ليس بمعقول وقد أوضح الله الحال في شأن الرسالة بالقانون الكلي المعقول في قوله تعالى في الآية الرابعة والعشرين بعد المائة من سورة البقرة (وإذا ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما) ومقدما في تبليغ الأحكام الإلهية وسيطرة الشريعة وتنفيذها وتعليم الدين وتهذيبه وتأديبه (قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين) عهدي هذا الذي قلته لك وطلبت أنت أن أجعله في بعض من ذريتك لا ينال الظالمين لأنفسهم بالكفر والفسق والخروج عن الاستقامة وتعدي الحدود المشروعة والمعقولة. والظالمين لغيرهم بالعدوان وفساد الأخلاق. كيف ينال الظالمون عهد الله القدوس العادل الحكيم بهذا المقام الكبير والمقصود منه أشرف الغايات.

ألست ترى أن الظلم ينادي بنقص الظالم وأنه ليس له كمال يردعه عن ظلمه ويوجب الوثوق بصدقه في أخباره وتبليغه واستقامته في تهذيبه وتعليمه وسيطرته فلا يثق العقلاء به ولا ينقادون إليه. فكيف يجعل الله الإمامة الدينية فيه وكيف ينقض الله غرضه ويجعل الحجة للعباد عليه مع أنه الإله القدوس الكامل العليم الحكيم.

دعوى النبوة والرسالة حيث ترد بدلائل كذبها

هل يخفى من العقل والشرع والقانون الفطري الأولي في كل قضاء أن كل دعوى يراد إقامة الحجة عليها لا بد من أن تكون غير ساقطة في نفسها ولا مقرونة بالموانع الشاهدة على سقوطها. وقد أشرنا لك في الكلام السابق من دلالة العقل وبيان القرآن الكريم وحجته وأومأنا إلى ما لا يناسب مقام النبوة بل يمنع منها بحيث أن التلوث بشئ من تلك الأمور لا تسمع منه دعوى النبوة والرسالة ولئن زعم أن عنده شيئا من الحجة على دعواه صاح به الحق والحقيقة أأقف وأسكت يا هذا المدعي باطلا فإن تلوثك المحسوس والعلوم بموانع النبوة أوضح حجة وأصدق شاهد على سقوط دعواك وبطلانها وعلى أنك إن أتيت بشئ تحاول به الاحتجاج لدعواك الساقطة فإنما هو خرافة مشوهة أو صورة مموهة لا مساس لها بشئ من الصواب.


الصفحة 395
عمانوئيل: يا شيخ ما هي موانع النبوة التي تشير إليها بحيث تسقط بالتلوث بها دعوى المدعي للنبوة والرسالة. الشيخ: هي النقائص التي تنقض الغرض من الرسالة وتبطل غايتها الكبيرة الكريمة ومنها ما ذكرنا في صفات النبي والرسول أنه يجب أن يكون مبرءا منها كما توجبه الحجة المعقولة. فمنها: ظهور الكذب على المدعي وإن كان في الأمور العادية. فإن الذي يظهر عليه الكذب لا يوثق بمنقولاته التي يمكن لهم التجسس على صدقها فكيف يثقون به في الأمور النبوية الغيبية.

وحاشا الله القدوس أن ينقض الغرض الكبير من النبوة ويضيع أمرها الجليل في رجل لا يتماسك عن الكذب ولا يثق الناس به بل يعدونه من الرجال الناقصين.

لأن كل من عرف الإله وقدسه وحكمته وعرف النبوة وشأنها الجليل وغاياتها الكبيرة ليعرف بحسب فطرته الأصلية وبديهته الأولية أن الله لا يضيع أمر النبوة وفائدتها في الرجل الكاذب. نعم ربما يعترض في بعض الخيالات توهم أن اللازم هو أن لا يكون كاذبا في التبليغ عن الله.

ولكن هي لصاحب هذا الخيال رجلا كاذبا يدعي النبوة ويدعوه إلى تصديقه واتباعه فإن صاحب هذا الخيال أول ما يقوله لذلك المدعي ألم يجد الله أكذب فإن صاحب الخيال يقول له من لا أثق به في شأن تمرة كيف أثق به في شأن درة، من لم يكن أمينا في القليل كيف يأتمنه الله في الجليل الخطير ويضيع هذا الأمر الجليل ويسقط فائدته لو سمح هذا المدعي أن يصدق فيه ولا تغلبه نفسيته وأهوائه ومن الكذب الفظيع أن يتقلب مدعي النبوة في دعاويه المتناقضة التي يكذب بعضها بعضا وينقض بعضها بعضا.

عمانوئيل: وهل لها مثال فيما سمعنا به من الحوادث.


الصفحة 396
الشيخ: مثاله على محمد الشيرازي فإنه ادعى في أول أمره أنه نائب المهدي المنتظر عند المسلمين وخصوص الشيعة وإنه داع للمهدي ثم ادعى أنه نفس المهدي المذكور ثم ادعى أنه نبي الله ورسوله ثم ادعى أنه الله تعالى الله عما يقولون وكل هذه الدعاوى مسطورة في كتبه. فانظر إلى ما نقله في نصائح الهدى (1) صحيفة 7 - 10 و 14 - 17 و 77 و 99 و 100 (ومن موانع النبوة) أن يخبر عن الله بأمر ويلزم من ذلك الأخبار كذبه على الله بأحد وجوه:

الأول: أن يكون المدعي للنبوة يخبر بنبوة شخص وصدقه في دعواها ودعوتها ويكون ذلك الشخص يصرح بتكذيب هذا المدعي للنبوة في ادعائه لها فهذا المدعي إن كان صادقا اتفاقا بإخباره بنبوة ذلك الشخص إذن فنبي الحق يكذب هذا المدعي في ادعائه النبوة لنفسه فتسقط دعواه وإن كان كاذبا بإخباره بنبوة ذلك الشخص كفى بكذبه في هذا الأمر الكبير حجة على سقوط دعواه.

عمانوئيل: هل لهذا الوجه مثل في حوادث الدنيا؟

الشيخ: مثال مسيلمة المتنبي في عهد رسول الله محمد (ص) فإن مسيلمة اعترف وأخبر بأن محمدا رسول الله مع أن رسول الله محمد (ص) يكذب مسيلمة في تنبيه ويسميه مسيلمة الكذاب فتسقط دعوى مسيلمة إذ يلزم مما ذكرناه كذبها.

الثاني: أن يعترف المدعي للنبوة والوحي ويشهد بنبوة شخص

____________

1 ـ المطبوع في بغداد سنة 1339. (*)


الصفحة 397
ورسالته وأن كتابه ودينه من الله ويكون كتابه المعروف ودينه المعلوم وكلامه المتواتر يكذب ذلك المدعي بنحو العموم.

عمانوئيل: وهل لهذا الوجه مثال فيما نعرفه من الحوادث. الشيخ: مثاله. على محمد الشيرازي الملقب بالباب ويحيي الملقب صبح الأزل، وأخوه حسين على الملقب بهاء، وغلام أحمد القادياني. فإن كل واحد من هؤلاء الأربعة قد اعترف وشهد في كتبه مرارا يعسر إحصائها لكثرتها وأخبر بأن رسول الله محمد (ص) هو رسول الله. وأن كتابه القرآن الذي جاء به كلام الله وأن دينه دين الحق الذي لا ريب فيه مع أن المعلوم من دين رسول الله (ص) أنه لا نبي ولا رسول بعد رسول الله وقد تواتر عنه (ص) قوله: لا نبي بعدي وجاء في القرآن الكريم قوله تعالى: (ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين) (1) وإذا انتفت النبوة بعد رسول الله (ص) انتفت الرسالة وانتفى الوحي لأن النبوة أول مرتبة من ذلك. مع أن كل واحد من هؤلاء الأربعة يدعي لنفسه النبوة والرسالة والوحي ونزول الكتاب من الله عليه. إذن فكل واحد منهم إذا صدق في شهادته واعترافه برسالة رسول الله محمد (ص) وأن قرآنه ودينه من الله فرسول الله وقرآنه ينفيان عنه النبوة والرسالة والوحي وإنزال الكتاب عليه من الله ويكذبانه في ادعائه لذلك. ولو كذب فيما ذكرناه من شهادته واعترافه لكفى كذبه في هذه الأمور حجة في تكذيب دعواه للنبوة والرسالة والوحي.

الثالث: أن يعترف المدعي للنبوة ويشهد بنبوة شخص ورسالته وأن كتابه ودينه من الله جل اسمه ومع ذلك يجحد أكبر الأساسيات من دين

____________

1 ـ سورة الأحزاب / الآية: 40. (*)


الصفحة 398
ذلك الشخص الرسول وكتابه. ويجاهر بجحود تلك الحقيقة المهمة في معارف تلك الرسالة والمتقدمة في طليعة التبليغ وعناوين الكتاب ورؤوس المعلومات من الرسالة والدين.

عمانوئيل: هذا أمر كبير فهل له مثال فيما نعرفه الحوادث. الشيخ. مثاله: علي محمد، ويحيى، وأخوه حسين علي، فإنهم يعترفون ويشهدون بأن محمدا رسول الله (ص) وأن كتابه القرآن ودينه من الله لا ريب فيهما ومع ذلك يجحدون المعاد الجسماني في الآخرة (1) مع أن القرآن الكريم لا يزال يجاهر بالمعاد الجسماني بأوضح صراحة ويحتج عليه بالحجج المقنعة المعقولة ويصف جاحديه بالكفر والضلال.

ومن نحو ذلك أن علي محمد قد ادعى في تقلباته بدعاويه أنه المهدي المنتظر الموعود به في دين الاسلام هذا وهو يعترف في كتبه بأن الأئمة الأحد عشر من أهل البيت أئمة معصومين هم أمناء الله على وحيه لرسوله ومع هذا فقد جاء عن رسول الله وعن الأئمة الأحد عشر ما يفوق التواتر بأن المهدي المنتظر الموعود به هو ابن الإمام الحادي عشر الحسن العسكري فرسول الله والأئمة الأحد عشر يكذبون علي محمد في دعواه أنه المهدي المنتظر وقد ذكر جميع ذلك في كتاب نصائح الهدى صحيفة 15 - 60. الرابع: أن يبني مدعي النبوة دعواه على أساس دعوى قد قضت الأدلة القيمة والحجج بكذبها وخرافيتها ويجعل دعواه ودعوته فرعا على تلك الدعوى وتلك الدعوة.

وهل يمكن أن تصدق دعوى مؤسسة ومبنية ومتفرعة على دعوى تنادي الحجج بكذبها وخرافيتها. الخامس: أن يجئ مدعي النبوة في دعوته بتصديق دعوى نبوة خرافية ورسالة خرافية وكتاب طويل عريض خرافي ودعوة طويلة عريضة خرافية.

خرافات تخجل منها الانسانية والأدب والمعقول.

خرافات عرف أتباع صاحبها شناعتها فأخفوها حسب جهدهم أشد الاخفاء ولكن الأيام لم

____________

1 ـ قد ذكر بعض كلامهم في هذا في كتاب نصائح الهدى صحيفة 78 و 85. (*)


الصفحة 399
تساعدهم على سترها كما يريدون.

عمانوئيل: هل لهذين الوجهين العجيبين مثال فيما تعرفه من الحوادث.

الشيخ: مثالها يحيى وأخوه حسين علي فإن كل واحد منهما بنى دعواه ودعوته ومباديه الجديدة على دعوى علي محمد ودعوته ومباديه.


الصفحة 400
وكل واحد منهما يقول إن مقامه في دعواه ودعوته إنما هو من تابعيته لعلي محمد وبشارة علي محمد به. ويعرف مثال الوجه الخامس من تصديقهما وإيمانهما بكل ما جاء به علي محمد في دعوته. مع أن دعوى علي محمد ودعوته وكتابه هي التي ذكرنا أنها خرافات تخجل منها الانسانية والأدب والمعقول وأن اتباع صاحبها عرفوا شناعتها فأخفوها وإن لم يتيسر لك شئ منها فانظر إلى كتاب مفتاح باب الأبواب (1) وكتاب نصائح الهدى.

وسل أتباع صاحبها لماذا أخفوها بأشد الاخفاء مع أن صاحبها قد أكد الأوامر عليهم بأن يكتبوا كتبه ويديموا قراءتها في كل يوم ولا يخلو واحد منهم من شئ منها.

فلماذا عصوا أوامره المؤكدة وخالفوه بهذه المخالفة الشديدة؟! (ومن موانع النبوة) أن يجئ مدعيها في دعواه ودعوته بما يخالف المعقول ويعده العقل والعقلاء من ضلال الأباطيل ومن ذلك أنه بشر ناقص رهين الحاجة البشرية وضعفها ونقصها ومقهوريتها ومع ذلك يدعي مقام الإلهية وأنه الإله.

ينادي بذلك بألحان مختلفة ويقول ما لم يجترئ عليه الوثنيون.

عمانوئيل: وهل لهذا الأمر الشنيع مثال في هذه القرون.

____________

1 ـ المطبوع بمطبعة مجلة المنار بمصر سنة 1321 في 440 صحيفة في تاريخ البابية والبهائية من بدء أمرهم. وذكر جملة مما في كتبهم وخصوص البيان. وهو كتاب فائق شريف المسلك نقي الأسلوب كبير الفائدة تأليف الفاضل الدكتور المرزا محمد مهدي خان التبريزي نزيل مصر وقد كان جده وأبوه قد اجتمعا مع علي محمد في تبريز وباحثاه وعرفا أحواله. (*)


الصفحة 401
الشيخ: مثاله علي محمد، ويحيى، وأخوه حسين علي، والقادياني. وها هي كلمات على محمد وحسين علي ودعاة يحيى قد ذكر بعضها في كتاب نصائح الهدى في صحيفة 99 - 103.. وأما القادياني فإنه في كتابه العربي المطبوع ومعه ترجمته بالفارسية والهندية يقول في صحيفة 9 ما يرجع إلى أنه يصبغ بصبغ صفات الألوهية وفي صحيفة 21 يقول ليرى بي ربي من بعض صفاته الجلالية والجمالية.

وفي كتابه العربي الصغير المسمى (استفتاء) و (حقيقة وحي) يذكر صحيفة 80 في ضمن ما يدعيه من خطاب الله له جل شأنه بقوله (يا قمريا شمس أنت مني وأنا منك) يا للعجب هل سمعت مثل هذا الكلام وجرأته من الوثنيين. كيف يكون الله من القادياني؟!

وحسين علي أيضا في كتابه المسمى (ألواح) المشتمل على ثلاثمائة وستين صحيفة والمؤرخ طبعه سنة 1308 هج وسنة 48 من تاريخهم قال في صحيفة 21 بأنه لا يرى في هيكله إلا هيكل الله ولا في كينونته إلا كينونة الله ولا في ذاته إلا ذات الله ولا في حركته إلا حركة الله ولا في سكونه إلا سكون الله.

وقال أيضا وإن الربوبية اسمي والألوهية اسمي ولم أزل ناطقا في جبروت البقاء إني أنا الله لا إله إلا أنا المهيمن القيوم ولا أزال أنطق أني أنا الله لا إله إلا أنا العزيز المحبوب. وقال في صحيفة 78 لا يرى في إلا الله. وقال في صحيفة 286 حينما كان في سجن عكا: لا إله إلا أنا المسجون الفريد.

وقال في صحيفة 320 كذلك يأمرك الرحمن إذا كان بأيدي الظالمين مسجونا فانظر وأسمع واعجب. الدكتور:


الصفحة 402
إنا نجد بين الإلهيين كتبا ينسبونها إلى الوحي الإلهي ويحامون عن نسبتها إلى الوحي أشد المحاماة.

ونرى هذه الكتب أو كما يقولون ذلك الوحي الإلهي قد كثر فيه أنه ينسب الشرك والقول بتعدد الآلهة والأرباب وكبائر الفسق والفجور والظلم والكذب في التبليغ ينسب هذه الأمور إلى من يقول ذلك الوحي أنهم رسل الله أو أنبيائه الصالحون الذي يوحي الله إليهم ويجعل لهم الإمامة في الدين والمقام الكبير في هداية البشر وتهذيبهم.

فكيف يجتمع هذا كله في المعقول وكيف يجتمع مع ما تقوله في صفات النبي والرسول من الحجة وتذكره عن قرآنكم من البيان المشير إلى وجه الحجة. وقد دلنا على ذلك تحريرات الكاتبين منكم في هذا القرن وراجعنا مصادر ذلك من كتب وحي الإلهيين فرأينا شيئا مدهشا فماذا تقول أنت يا شيخ في ذلك؟

الشيخ: إن الذي تذكره قد جرت فيه المباحثات الدينية وفصلت فيه التحقيقات اللازمة قضاءها. وإن من الكلام ما يتوسع فيه بالعبارة حسبما تحتمله لغته من عموم الموضوع له أو السعة في دائرة استعمال الألفاظ فيها والتفتن في التعبير بمحاسن المجاز والاستعارة.

وهذا مما يندحر به بعض الاعتراضات المبتنية على التحكم بالتضييق على التعبير رغما على سعة الألفاظ في مداليلها بحسب أوضاعها أو جريها على محاسن التفنن في الكلام.. ومن الكلام ما لا يمكن إصلاحه حتى بليت ولعل بل هو مخالف للمعقول على خط مستقيم.


الصفحة 403
وهذا القسم إذا صدر في الكتب المنسوبة إلى الوحي الإلهي فإنه ينادي بأنه أجبني عن الوحي وإن الكتاب المشتمل عليه معتد بانتسابه إلى الوحي فليطلب ميلاده البشري وينتسب إلى أبيه الحقيقي ولا يخدش في شرف النبي الذي ينتسب إليه تدليسا بمساعدة الأيام واستغفالها.

ألا وإن الحقائق المعقولة لا تقف أمامها الأسماء المستعارة والانتساب الموهوم بل الحقائق هي التي يكون لها الحكم في ذلك رغما على مكابرة الشهرة الحادثة وتصفيقها وضجة التصويت المتواطئ عليه وقد كتب الباحثون في ذلك. وأن شئت فانظر في الجزء الأول من كتاب الهدى من صحيفة 42 - 335 وإلى مكالمة عمانوئيل وأبيه في الجزء الأول من هذا الكتاب حتى لا تعود تقول (راجعنا مصادر ذلك من كتب وحي الإلهيين) بل تقول راجعنا مصادر ذلك من الكتب التي يرفض شرف الوحي منها ذلك. وقد أغنتنا عن الاطالة في ذلك تحقيقات العلماء الكاتبين.

دعوى النبوة والرسالة المسموعة وحجتها

عمانوئيل: يا شيخ خذ في شأن مدعي النبوة وحجته. الشيخ: فإذا كان مدعي النبوة ودعوته سالمان مما ذكرناه وما يجري مجراه من الموانع.

وكان مدعي النبوة والرسالة ظاهر الصلاح ممتازا في نوعه بجمعه لفضائل الصدق والثقة والأمانة وشرف النفس والعفاف وكرم الأخلاق.


الصفحة 404
مرضي الطريقة محمود السيرة مستقيم الدعوة المعقولة تألف إلى كماله النفوس وتركن إلى فضيلته المستقيمة في أحواله وأطواره. ولم يكن في أحواله وأطواره وأقواله ودعوته ما يكذبها أو يوجب الريب العقلائي الذي يطردها عن ساحة القبول فلا ريب في أن النفوس السالمة من داء العصبية والعناد والأهواء لا تتسرع إلى دعوته بالجحود ولا تبادر أمانته بفلتات سوء الظن بل تركن إلى الوثوق بقوله والاقبال على دعواه ونتوسم بباطنه الخير وموافقته لظاهره وكلما ازدادوا خبرة بصلاح ظاهره في أحواله ازدادوا وثوقا بصلاح باطنه أيضا وتفوقه على سائر الناس بكماله البشري.

ولكن مهما يكن من ذلك فإن هذا الوثوق وهذا الاعتماد لا يتعديان مرتبة الظن المبني على الظاهر فإن سرائر الانسان مستورة ودعوى النبوة والرسالة من الله دعوى غيبية كبيرة لها آثار عظيمة فلا يكفي فيها الركون الظني والوثوق المبني على ظاهر الصلاح بل لا بد فيها من اليقين الدافع لاختلاج الريب واعتراض الشكوك ليكون الإذعان بها والالتزام بآثارها والانقياد إليها ثابتا على أساس رصين. ولأجل ذلك يظهر الله المعجز على يده ليكون حجة قاطعة على صدقه في دعوى النبوة والرسالة عن الله وما يلحق بذلك من التبليغ عن الله في دعوته.

في المعجز حجة النبوة والرسالة

عمانوئيل: ما هو المعجز المذكور. الشيخ: هو ما كان بحسب ذاته ومميزاته خارقا للعادة ممتنعا على البشر وإرادتهم يعجزون عنه بحسب قدرتهم المحدودة.

خارجا عن حدود قدرتهم المجعولة والأسباب العامة ونواميس الطبيعيات وقوانين العلوم وعن نتائج التدريس والتعليم وتجاريب المعامل والتناول بالاتباع بعد الاختراع بحسب سير العلم والصناعة فيما ينكشف من أسرار الموجودات.


الصفحة 405
عمانوئيل: هذا الأمر الذي تصفه والخارق للعادة والذي يعجز عنه البشر بقواهم البشرية المجعولة ليس له لسان ناطق يقول به ويشهد أن المدعي هو رسول من الله أو نبيه. فكيف يكون حجة وشاهدا على النبوة والرسالة ودليلا قطعيا على ذلك؟

الشيخ: إذا كان مدعي النبوة والرسالة على، ما ذكرناه من السلامة من الموانع عن صدق دعوته وكان على ما وصفناه من ظهور الصلاح وكل ما يقتضي الوثوق بقوله والاقبال على دعواه بالوثوق والاقبال المبنيين على الظاهر فإنه عند ظهور كرامته بظهور المعجز على يده يحصل العلم اليقين بصدقه للنفوس السليمة الجارية على مرتكزات الفطرة ودلائل العقل القيمة فتطمئن النفوس الحرة ويثبت اليقين بصدق دعوته وعصمته.

فإن دلائل الفطرة والعقل ترشدهم إلى أن إظهار المعجز على يده إنما هو لأجل كرامته على الله والعناية الخاصة من الله به من حيث سلامة ضميره وموافقة باطنه لظاهره في الصدق والصلاح. وإنه لو كان فاسد الباطن يكذب على الله بدعوى النبوة والرسالة ويريد أن يخدع الناس بهذه الدعوة الكبيرة لكان من أشد المزورين الذين يظهرون الصلاح والصدق ويضمرون الغدر والافتراء ولو كان على هذه الحال لما أظهر الله عنايته الخاصة به وأظهر المعجز على يده فإن إظهار المعجز على يده يكون من أقبح أنواع الاغراء بالجهل وإلقاء العباد الطالبين للرشد بهلكة الضلال ومن أقبح الاشتراك مع المدلس في تدليسه وذلك ممتنع ومستحيل على جلال الله القدوس.

وتتأكد جهة الامتناع والاستحالة في ذلك بأن الذين نعرفهم من الأنبياء والرسل قد احتجوا بأن معجزاتهم إنما هي من الله عناية بهم وتصديقا لدعواهم ودعوتهم ودلالة على استقامتهم في هداهم إذن فكيف يشاركهم الله القدوس على عمل الضلال والتدليس لو كانوا كاذبين.

فهذا هو الوجه في شهادة المعجز على صدق النبي والرسول في دعواه ودعوته وعلى استقامته في هداه وعصمته.


الصفحة 406
عمانوئيل: نفرض أن مدعي النبوة والرسالة الظاهر الصلاح والأمانة والصيانة على التفصيل المذكور ربما لا يكون متعمدا للكذب في دعواه ولا مفتريا ولكنه يكون متوهما مخطئا في دعواه لأجل خيالات تلفقها له بعض الأمور والأحوال والأمراض العصبية فهل يجوز إظهار المعجز على يد مثل هذا المدعي؟

الشيخ: كيف يجوز وفيه من الاغراء بالجهل ما يقصم ظهر الحقائق والعلم ويضطهد الانسانية والهدى والاستقامة فإن هذه الصورة كالصورة السابقة في لزوم الاغراء بالجهل وقبحه الشديد وامتناعه على جلال الله القدوس.

عمانوئيل: نفرض أن مدعي النبوة والرسالة يكون في أول أمره وأوائل دعوته على الصفات المذكورة من الصلاح والصدق والصيانة ويكون أيضا متوافق الظاهر والباطن في الصلاح والأمانة وصادقا في دعوى النبوة والرسالة والتبليغ عن الله ويستمر على ذلك زمانا ثم ينقلب حاله في الباطن والخفاء على الناس إلى التخفي في الفسق أو الفجور أو الظلم أو الكذب في التبليغ عن الله فهل يجوز إظهار المعجز على يد هذا في أول أمره وحال صلاحه وصدقه في الباطن وقبل انقلابه.

الشيخ: لا يجوز إظهار المعجز على يده لأنه إغراء بالجهل كما في الصور السابقة مضافا إلى أن مثل هذا المدلس الذي ليس له رادع ثابت من الورع الذي يلازم به التقوى لا يصلح لمقام النبوة من أول أمره. وأيضا فإن النبوة والرسالة هي أكبر الألطاف الإصلاحية المكملة والله العليم قادر على أن يجعلها في محل لا يجد العقل فيه مجالا للريب العقلائي إذن فلا يخل الله بالحكمة واللطف ولا ينقض الغرض في جعلها في محل يجوز انقلابه من الصلاح والأمانة إلى الفساد والتدليس والخيانة فيكون الريب العام مستمرا في كل نبي وكل رسول فلا يصدق في تبليغ ولا يعتمد عليه في شئ ولا ننتظم له شؤون الاصلاح ومهمة الطاعة والانقياد حذرا من انقلابه وتدليسه فالعقل لا يجوز أن تكون في لطف الرسالة وحكمها وإصلاحها مثل هذه المفسدة الكبيرة.

عمانوئيل: هذا الفرض المتقدم نفرض فيه أن مدعي النبوة أو الرسالة انقلب من الصرح الحقيقي على الصفات المتقدمة إلى التجاهر بالفسق أو الفجور أو الظلم أو الشرك أو مخالفة المعقول فهل يجوز إظهار المعجز على يده في أول أمره وحال صلاحه الحقيقي؟


الصفحة 407
ولماذا لا يجوز فإنه ليس فيه إغراء بالجهل فإن الناس ينصرفون عنه ويعرفون انسلاخه عن النبوة والرسالة عند ما يعرف انقلاب حاله.

الشيخ: وهذا الفرض أيضا مما يبطل فائدة النبوة والرسالة وينقض الغرض منهما وينافي حكمتهما فإن كل من يطلع على عمله القبيح يقول ليس هذا أول قبيح تجاهر به فإن العادة تقتضي بأنه لا يطلع عموم الناس على العمل القبيح في حال عمله فيثور الريب الشديد قي تبليغاته السابقة ويحمل أكثرها وأكثر إجرآته على الشقاوة بإرادته تسخير البشر لأهوائه واستعبادهم لأوامر رياسته الكاذبة بل إن العادة تقتضي أنه لا يطلع الناس على الأعمال القبيحة إلا بعد أن يجري أمثالها في الخفاء وتكون النفس مريضة بداء الشقاوة منذ زمان قديم فيجئ الاغراء بالجهل ولو جاز هذا الفرض لجرى الريب الشديد في كل نبوة وكل رسالة وكل معجز من أول الأمر فيذهب أمر النبوة والرسالة والمعجز ضياعا.. والحاصل أن العقل وفطرة العقلاء يرى أن موقع الحكمة واللطف والرحمة في أمر النبوة والرسالة والمعجز إنما هو حيث يكون النبي أو الرسول معصوما من الزلل إلى آخر عمره فيكون هذا هو مقتضى لطف الله ورحمته وحكمته في الرسالة وإجرائها لحصول غايتها المطلوبة من دون تشويش في اللطف والرحمة ولا إخلال في الحكمة.

عمانوئيل: هل يجوز أن يتكرر النوع الواحد من المعجز لرسل متعددين.

الشيخ: لا مانع من ذلك فإنه لا يخرج بالتكرار عن كونه خارقا للعادة البشرية وخارجا عن القدرة المجعولة للبشر فإن إحياء الميت الذي جرى على يد المسيح قد جرى مثله لغيره ومنه ما يحكيه العهد القديم في شؤون أيليا واليشع وما يذكر من إشباع المسيح للخلق الكثير من الطعام القليل قد وقع مثله لرسول الله مرارا عديدة. فإن المعجز لا يخرج بتكرره من الله عن كونه معجزا.

عمانوئيل: المعجز أمر ممكن في قدرة الله فكيف يستحيل صدوره على يد الكاذب في دعوى النبوة.

الشيخ: يستحيل لكونه في هذا المقام من الاغراء بالجهل. ولأجل قبحه يستحيل ويمتنع على جلال الله القدوس فالمعجز وإن كان في ذاته ممكن الوقوع من الله لكنه باعتبار عنوانه القبيح يكون ممتنعا على جلال الله.

عمانوئيل: إذن يجوز صدوره على يد غير النبي إذا لم يستلزم الاغراء بالجهل ومن ذا الذي يمنع على الله إعمال قدرته في خليقته وإظهاره خوارق العادات حيث يشاء.

الشيخ: نعم يجوز إظهاره على يد من يعلم الله أنه لا يدعي النبوة الكاذبة ولا يدعي دعوى دينية كبيرة يدعو إلى ضلالها البشر.


الصفحة 408
عمانوئيل: من الناس من يدعو إلى الضلال وتكون دعواه ودعوته مقرونتين بالموانع العقلية والشرعية من صدقهما محفوفتين بالشواهد القيمة على كذبهما وامتناعهما كما في الأمثلة الذي ذكرتها في موانع النبوة فهل يجوز على جلال الله إظهار خارق العادة على يد مثل هذا فإنه ليس فيه إغراء بالجهل لكافة البشر ولا مصادمة لأدلة الهدى ولا إعانة على الضلال. الشيخ: إن لله توفيقات وعنايات وتسديدات خصوصية يراعي بها غير المتمردين عليه من عبادة الذين هم ضعفاء في المدارك وقاصرون في مجال التحقيق فإنه يرحمهم ولا يجعل للريب والفتنة مجالا في قصورهم وإن أوضح لهم الحق بأكمل إيضاح فلا يظهر خارق العادة على يد هذا الذي تذكره. اللهم إلا إذا تمرد الناس على الحق وأعرضوا عن الحجج الواضحة وعاندوا الأدلة الكافية واتبعوا لأجل ترويج أهوائهم كل ناعق فإنهم يخرجون عن أهليتهم للعناية والتوفيق والتسديد فتبقي الحكم الخصوصية في أعمال الله بلا جهة تعارضها.

عمانوئيل: نجد أن معجزات الأنبياء لم تؤثر بالرسول والتصديق به ولم تنفع في كل الناس وخصوص المشاهدين لها والعالمين بها من أهل قطرها وعصرها بل نرى كثيرا منهم من جحد النبوة والرسالة ولم يبال بالمعجز. الشيخ: ليس المعجز تكوين يلجئ الناس إلى الإيمان والتصديق إلجاء بل هو حجة ودليل يهدي إلى الإيمان من لم يتلوث بالموانع وسفسطات التشكيك وعناد الأهواء، فلا يلزم فيه رفع الموانع التي احتجبوا بها عن نور عقولهم وشرف إنسانيتهم بسوء اختيارهم للعصبية والحسد واتباع الهوى والتقليد في أمر الدين مما لم يحتجبوا به في القليل والكثير من أمور معاملاتهم وأموالهم ومنازعاتهم وحججهم بل ترى لهم في أمورهم رشدا وتمييزا لما هو دون المعجز ودونه في الدلالة والحجة وترى لهم صحة استدلال واعتماد على العقل فيما هو أخفى من دلالة المعجز.

تنوع المعجز بحسب الحكمة

عمانوئيل: لماذا اختلفت معجزات الرسل فكان لموسى نوع من المعجز وللمسيح نوع من المعجز ولنبي الاسلام نوع من المعجز؟

الشيخ: اللازم في حكمة تحصيل الغرض من المعجز أن يكون كافيا من جهة ذاته في الحجة والدلالة والاقناع للذين يدعوهم النبي أو الرسول إلى الإيمان. ويكون بعيدا عن وساوس جهلهم ومثار شكوكهم. ولا شك في أن لكل أمة معارفا وفنونا يتقدمون فيها ويعرفون نتائجها التي تنالها قدرة البشر المحدودة ويميزون ما هو خارج عن قدرة البشر مما هو من نحو نتائجها فمقتضى الحكمة أن يكون المعجز بحسب كل قوم مما يعرفون خرقه للعادة وخروجه عن قدرة البشر بحسب ميزانهم من العلم الذي تقدموا فيه وعرفوا حدود نتائجه العادية. ولما كان أهل مصر في عصر موسى (ع) متقدمين وراقين في فن السحر وظواهر الأعمال العجيبة كان الأنسب في الحكمة أن تكون معجزة موسى في دعوتهم من الأعمال العجيبة ما يعرفون أنها ليست من نتائج الفنون ولا مرتبطة بنواميس العلم بل هي خارجة عن حد القدرة البشرية.