ولما كان أهل سوريا ونزلاؤها والقريبون منها والمرتبطون بها في عصر المسيح راقين في علم الطب ومتقدمين فيه بحيث يميزون المقدور الداخل في شؤون الطب وما هو خارج عن حدوده وحدود القدرة البشرية فلأجل ذلك جاءت معجزات المسيح بإبراء الأعمى والأبرص وإحياء الميت في الحال بقول وعمل خارج عن قانون الأسباب العادية والأعمال البشرية. وغير خفي أن العرب في عصر رسول الله محمد (صلى الله عليه وآله) وما قبله قد كانت معارفهم نوعا منحصرة بفنون لغتهم وشؤون كلامهم في الفصاحة والبلاغة وجودة البيان.
وقد ولعوا بذلك ولعا لم تنمح رسومه على مرور القرون وقد زاد ولعهم بذلك وتقدموا فيه في ذلك العصر تقدما باهرا حتى صار ذلك عنوان فخرهم ومعارفهم ومفاخرتهم يعقدون له المواسم والمحافل وميادين المسابقة فيه وحتى صار لهجتهم في البدو والحضر حتى رقت بينهم هذه الصناعة إلى أوج نجدها وزهت بأجمل مظاهرها وأحاطوا بأطراقها ومقدورها ولم يكن لهم في غير ذلك من معارف الدنيا تقدم ولا معرفة بحدودها ولا ما يرتبط بنواميس علمها فكان أنسب شئ لهم من المعجز وأوفق بحكمته هو القرآن الكريم كما سيأتي بيانه إن شاء الله في محله ولو كان المعجز العام لهم غير القرآن من الأعمال العجيبة لخيل لهم جهلهم النوعي بالعلوم والصنايع وخلو بلادهم وجنسهم منها أن ذلك من نتائج علوم الرومانيين واليونان والفرس وصنايعهم البديعة أو من أسرار سحر المصريين والكهان لا من الله ولا خارجا عن حدود قدرة البشر. وسيأتي إن شاء الله في محله بيان الألطاف العظيمة والحكم الكبيرة في كون الاعجاز العام لرسول الله بالقرآن الكريم الجامع لوجوه كثيرة من الاعجاز.
عمانوئيل: بقيت كلمة. هل يمكن أن يكون المعجز بحسب حال الشخص الذي يظهر على يده خارقا للعادة وخارجا عن حدود القدرة البشرية ولكنه يمكن أن يكون بعد ذلك عاديا أو يحصل مثله بإتقان العلوم وبذل الجهد في الزمان الطويل في التعلم والرقي في الاكتشافات.
الشيخ: نعم كما إذا تكلم الصبي ابن شهر أو شهرين بكلام فصيح ذي فائدة وحكمة وبيان معقول. وكما إذا أمر رجل يده على عين إنسان فصار موقتا يرى بواطن الجسم كما تعمله أشعة رونتجين. إلى غير ذلك من الأمثال فإن المعجز ما يعرف أنه بذاته وخصوصياته خارج عن النواميس العلمية وأسباب الصناعة وحدود القدرة البشرية ومجاري العادة فيعرف أنه من الله لحكمة خصوصية وفائدة تختص به. رمزي: أرى الشيخ وعمانوئيل يتكلمان على حريتهما من دون أن يعارضهما الدكتور في مجرى البحث. الدكتور: بعد البناء على أمر الإلهية يكون هذا الكلام كله جاريا على جادة التحقيق وإيضاح الحقيقة.
في ماهية النفس وإمكان بقائها بعد الموت
رمزي: إن الأديان المعروفة قد اتفقت على بقاء النفس بعد الموت والماديون بحسب آرائهم في ماهية النفس يرون بقاءها بعد الموت من الممتنعات.
هاتان الحقيقتان اللتان أضاء العالم ببهجة أفعالهما وهما محتجبان في ستر الخفاء. لا أدري هل الكهربائية مرتبطة في المبدأ بالمادة وتحدث من انحلالها؟
أم هي مباينة للمادة وعبارة عن سيالين متكافئين في المادة تهيج بخروجها عن التكافؤ وتتفرغ بعودهما إليه أم هي سيال واحد يتوازن في المادة وباختلاف الموازنة تهيج وبعود الموازنة تتفرغ. كيف يختل التوازن والتكافؤ؟ وأين يذهب ما يختلان بنقصه وأين تذهب القوة عند التفرغ؟ هل تنعدم أن تبقى؟ وكيف تنتقل من مادة إلى مادة وأين محلها فيما تنتقل إليه؟ أم هي أمر وراء هذه الآراء والتخمينات ووراء معركتها أم ليس لنا سبيل إلى معرفة حقيقتها أم يضمن لنا المستقبل إيضاحها..
لا يغيب عن شعوري ووجداني أن الحواس المجردة لا تصل إلى رؤية المكروبات وأمثالها ولا إلى رؤية نبطون وبعض الأقمار ولا إلى سماع صوت الانسان المتكلم من مسافة عشرة أميال وأكثر أليس الوصول إلى ذلك من كرامة النظارات المكبرة والمقربة والتلفون اللاسلكي...
يا شيخ لا يصح في شرف العلم والانسانية أن أحكم في النفس بأنها تبقى بعد الموت أو لا تبقى. ماذا عرف من حقيقتها لكي يحكم عليها بحكم طبيعياتها.
الماديات والحقائق الروحية والتعليل
رمزي: إن الماديات مع كونها محسوسة لم تضمن لنا ماديتها عصمة العقول عن الخطأ في تعليلها وتفسيرها فقد مضت أجيال والناس مجموعون على أن الشمس تدور حول الأرض مع أن الأيام أوضحت فساد هذا الاعتقاد فما حال قولنا في الحقائق الروحية التي لا سبيل لنا لإدراكها سوى الحدس والافتراض فالحقائق الروحية التي اكتشفها البشر إلى يومنا هذا ليس سوى بنات التعليل التي لم يقم على إثباتها دليل حسي ولم تكتسب صفة الحقائق الراهنة إلا لإحجام العقول وعجزها عن تعليل ينافيه فلان كان الأمر كذلك فمن ذا الذي يضمن لنا أننا لا نخبط فيها خبط عشواء في ليلة ظلماء. عمانوئيل. أراك أخذت هذا الكلام من زمزمة جديدة قد أباحت
____________
1 ـ في كتاب ماهية النفس المطبوع في بغداد سنة 1922 م. (*)
دع هذا ولكن لنخض معك في كلامك. لماذا لا تدري أن الصواب والخطأ، والعلم والجهل المركب والاستقامة والخبط لا تأتي من ناحية الحقيقة وكونها مادية كبيرة أو صغيرة أو حقيقة روحية وإنما تأتي تلك الأمور من ناحية الادراك وجهات الاستعداد وقصوره ومعرفة ميزانيته والجهل بها ومعرفة حدوده والجهل بها وتدخل الأحوال المقارنة في إثارة غبار الأوهام دون الحقائق حسبما يسنح لها. وقد أشير إلى شئ من ذلك وأمثاله في كتاب أنوار الهدى (1) ونزيدك ههنا شيئا من الأمثال يشمخ الجبل العالي في مكانه وضعيف البصر لا يراه من قرب. وبعض صحاح العيون يحسبونه من البعد غمامة أو دخانا. تراه يخفى إذا حال دونه الغبار والبخار ويظهر إذا صفا الجو وتتجلى مظاهره إذا اكتنفه النور وإن كان البعد في هذه الأحوال واحدا وميزان البصر متحدا..
لا تدرك المكروبات بالنظر المجرد ولا بالنظارات المكبرة التي تقصر ميزانيتها عن تمثيلها للعيون ولكنك إذا حققت ميزانية المكبرة وصلاحيتها لتمثيل هذه الحقيقة واستعملتها حسب ناموسها ترى المكروبات بصفاتها وأوضاعها عالما كبيرا فتعرف وجودها.. لا تدرك القوة الكهربائية المحركة بحس أصلا وإنما تدرك أعمالها وتعرف مقاديرها بمعرفة ميزانية الموصلات كالفضة والنحاس الأحمر والحديد والزيبق ونحوها.
____________
1 ـ المطبوع في النجف الأشرف سنة 1340 هجرية أنظر صحيفة 32 - 34 و 39 و 40. (*)
وماذا تقول فيمن ينكر وجود القوة الكهربائية المحركة لأنها بنفسها لا تقع تحت الحواس ويقول في مكابرته إن القوة الكهربائية ليست إلا بنت التعليل من بعض الآثار التي أقول وأقول إنها من أعمال الصدفة ليس هناك قوة! ألا تدري بأن التعليل هو روح العلوم وأساس قواعدها وأن أمهات العلوم وقوانينها ليست إلا بنات العليل. يحس الانسان بشئ طفيف من المحسوسات المماثلة في جهة فيهديه تعليل العقل الفطري المنزه إلى العلة الكلية المعقولة فيجعلها دعامة من دعائم العلم وقانونا من قوانين الفن..
يرى الانسان يسيرا من الخطوط المتوازية لا تتلاقى فيما يصل إليه من الابعاد فيحكم حكما قطعيا بأن كل متوازيين لا يلتقيان وإن خرجا إلى غير النهاية.
متى أحس جميع الناس بهذا الناموس لكل المتوازيات مع أنهم لم يحصوا من المتوازيات إلا بنسبة واحد إلى ما يتعذر عده منها ومتى وصل حسهم باختبار المتوازيات إلى مائة ألف فرسخ فمن أي حس حكموا عليها بأنها لا تتلاقى حتى لو خرجت إلى غير النهاية.
هب أن الانسان يحس بألف ألف من العدسيات المزدوجة التحديب ومثلها من المزدوجة التقعير ويرى لكل صنف منها آثارا متماثلة من انكسار النور أو جمعه أو انفراجه أو تصغير الشبح أو قلبه ويرى الجمع بين الصنفين يوجب كبر الشبح وقربه فلماذا يحصل من هذا قوانين كلية علمية لكل ما تفرض في العالم من نحو ما ذكرنا من العدسيات؟ أليس ذلك من تنبه العقل الفطري إلى التعليل الطبيعي. هذا هو الناموس السائد والجاري في العلم التجريبي وقوانين العلوم البصريات والسمعيات وسائر الطبيعيات بل كل قوانين العلوم فإنها بأجمعها ليست إلا بنات التعليل. لا تتوهم أنها من بنات الاستقراء والتتبع الحسي! فإن بنات الاستقراء لو جرى التتبع لأكثر الأفراد لا تكون إلا عموما ظنيا مرتعشا. ومن ذلك حكمهم الاستقرائي الظني الواهي بأن كل حيوان ذي أذن فإنه يتناسل بالولادة.
هذه بنات الاستقراء والحس المجرد. أما بنات التعليل أعني العلميات المحكمة القيمة فإنها تكفي فيها مشاهدة أفراد يسيرة تنبه العقل إلى التعليل الطبيعي والملازمة البينة فيجري الحكم القطعي العام لكل فرد يفرض وجوده في العالم. يروى أن رجلا فلمنكيا جمع اتفاقا بين عدسية مزدوجة التحديب وبين أخرى مزدوجة التقعير فنظر فيهما فرأى الشيخ كبيرا قريبا فجرب والده ذلك مرارا يسيرة فاهتدى بعقله الفطري إلى التعليل الطبيعي إجمالا فاخترع النظارة المكبرة والمقربة (التلسكوب) وصار قانونها علميا فليست قوانين (التلسكوب) إلا بنات التعليل. ليست الكرامة في هذه الأمور للحس وإنما الكرامة للتعليل الذي يثبته العقل الفطري ولو من إشارة الحس وتنبيهه أحيانا. وقد أشير إلى شئ من ذلك أيضا في كتاب أنوار الهدى صحيفة 3.
الآراء المادية في النفس ونقدها
رمزي. النفس روح لا حس لها ولا تأثير إلا إذا اتحدت بالمادة فكيانها بالمادة وللمادة وجدت فكيف يمكن بقاؤها بعد انفصالها من البدن.
عمانوئيل. هل أنت باحث يا رمزي أو جالس على كرسي الافتاء؟ من أين لك أن النفس لا حس لها ولا تأثير إلا إذا اتحدت بالمادة؟
أما ترى أن الذي يدل عليه الحس والوجدان هو أنه لا حس للمادي ولا تأثيرا إراديا إلا إذا اتحد بالنفس.
وأما حس النفس وتأثيرها إذا فارقت المادة فهو محل البحث واختلاف الآراء ولا سبيل إلى نفيه بالفتوى المجردة التي تقدسها الأهواء. لا يقول (إن كيان النفس بالمادة) إلا من تجلت له حقيقة النفس بأجلى ظهور يعرف منه أنه لا يمكن لها الكيان إلا بالمادة ومع ذلك فإنه لا يصح أن يقابل خصومه في ذلك إلا مع إقامة الأدلة الكافية المقنعة.
ولا يقول إنها للمادة وجدت لا لغاية أخرى إلا من بيده أمر وجودها وإيجادها وعايته. أو له الإشراف التام على ذلك. فكيف تقبل في ذلك الفتاوى التي يشمئز ويخجل منها العلم وشرف الانسانية.
رمزي: لم يشعر بوجود النفس قبل اتحادها بالمادة وبعد مفارقتها. ما من نفس شعرت بكيانها قبل أن تلبس المادة وما من نفس أثبتت وجودها وشعورها بعد أن خلعت عنها ثوب المادة. فليس لنا برهان حسبي على أزليتك يا نفس.
ليس الأولي الأبدي إلا واجب الوجود خالق النفس والعالم. إنما تعليم الدين ببقاء النفس بمشيئة خالقها.
من ذا وماذا أوجب على الحقيقة أن تثبت وجودها في جميع أحوالها لكل أحد. أو تثبت وجودها بنحو مخصوص بحسب الاقتراح كم من حقيقة لم تثبت وجودها لعامة الناس إلا بنقل الخواص بحسب استعدادهم للوصول إليها فلماذا لا يكفي في إثبات وجود النفس بعد الموت إخبار النبوات بذلك.
النبوات التي هي الاخصائية والمرجع في إثبات ما وراء الحس بسبب اختصاصها برصد الوحي الإلهي. أي هوى وبئ لوى العقول عن هذه الحقيقة حتى قوبلت بالجحود المفرط ولم يسمح لها من أنباء الوحي بها أن تكون من مطارح الشك أقلا.
كم من افتراض ليس عليه دليل لا حسي ولا عقلي قد صفق العالم المتمدن في قبوله قبول الحقائق المحسوسة أو التي ينادي بها الدليل العلمي الجلي.
مناجاة الأرواح
ها هو مذهب الروحاني قد ملأ دويه العالم وجرت تجاربه بالكثرة المدهشة وخدمته الجرائد والمجلات وصنفت فيه الكتب. وإنه وإن جرت فيه الشكوك باستعمال الحيل والتمويه في بعض الموارد لكن المشككين قد ألجأتهم التجارب الكثيرة إلى الاعتراف بحقيقته حتى صاروا من المدافعين في حماية حقيقته رغما على مبادئهم.
قد أثبتوا بالحس والتجارب مناجاة الأرواح ومشاهداتها ومشاهدات أعمالها وعجائبها بما يعرفك أن وراء هذه المادة موجود من العالم الروحي قد شاء أن يثبت وجوده وشعوره بوجوده المجرد من هذه المادة. نعم إن بعض حوادثه ومشاهداته قد لا تضمن لك صدق الأرواح المستحضرة في كونها أرواحا بشرية.
بل ربما يحتمل البعض أنها صنف آخر من الأرواح وهو المسمى بالجن. ولكنه مع ذلك يحقق واحدا من أمرين يشتركان في ثبوت الروح العارية من لباس هذه المادة التي تعنيها في كلامك.
أما كونها جوهرا خاصا هو علة تلك الأفعال فيستحيل ما لم يكن لهم على ذلك دليل محسوس.
عمانوئيل: ليتك تلتفت وتشعر بمعنى قولك: (الأفعال الروحية) وليتك تلتفت إلى أنه لماذا لا تصدر هذه الأفعال من الحجر والحديد ولماذا لا يقومان بمثل ما يقوم به جسد الحيوان والانسان من الوظائف. هل أنت لا تعرف أنه لا بد من أن تكون لهذه الأفعال علة مختصة بجسد الانسان تنسب إليها هذه الأفعال دون الحجر والحديد؟
هل كل شئ لا يقوم عليه دليل محسوس يوافق أهواءك واقتراحك يكون مستحيلا؟ لماذا يستحيل أن تكون النفس جوهرا خاصا هو علة أفعال الجسد الحيواني.
هل يستحيل ذلك لمجرد قول القائل في ماهية النفس (رأيي رأيي رأينا رأينا) وإذا كان مستحيلا فكيف خضع لقبوله إذا قام عليه دليل محسوس. ومن ذا الذي حصر الدلالة على الحقائق بالدليل المحسوس. هذا الدليل المحسوس هل يجب أن يكون محسوسا لك في وقت صفاء خيالك من افتراضات آرائك ونزعاتك؟
رمزي: وظيفة النفس إنما هي إعطاء الحياة وأعني بالحياة الشعور بالوجود والحركة ولما كانت ماهيتها في الجسد من الأمور المعنوية التي لا يعبر عنها بالكلام فيمكننا أن نعبر عنها بظواهر فعلها وتأثيرها ولذا يصح لنا أن نقول إن ماهية النفس في الجسد إنما هي الحرارة المنتشرة فيه تلك الحرارة التي تدفع كل عضو من الأعضاء إلى مباشرة الوظيفة التي خصصتها لها القوة المكونة. جعلت الحرارة من فعل النفس مستندا إلى ما يحل بالجسم من البرودة والإثلاج عند مغادرتها إياه.
هذا لو صح أن تكون برودة الجسم ناشئة من مغادرة النفس ولكن هلا يمكن أن تكون مغادرة النفس حاصلة من وقوف حركة الدم وبرودة الجسم أي أن تكون برودة الجسم سببا لمغادرة النفس لا نتيجتها.
عمانوئيل: من الجدير أن لا أورد على السامع ضجرا بتكرار هذا الكلام لبيان ما فيه لولا أنه مطبوع بمساعدة جمعية ومؤلف من تفلسفات متنوعة.
ماذا تقول إذا قال أحد رصفائك في أدبك. ليس كما قلت بل الذي ينبغي أن يعني بالحياة هو الشعور بالمعقولات والأميال والارادات. أو قال آخر لا ينبغي أن يعني بالحياة إلا شعور الجسد بلذاته وآلامه. أو قال آخر إن الذي يعني بالحياة هو تبادل التغذية والتحليل على الجسد. أو قال آخر إنما هو أعمال الأجهزة الباطنة في تنمية الجسد وحفظه من الفساد العام. فيسيل على فتواك من نحو ذلك سيل الفتاوى الجارف.
من ذا يتفق معك على هذا الوهم. أم تريد أنها ليست من الأمور الظاهرة بحقيقتها للحس لأنها ليست من عالم هذه الماديات ولأجل احتجاب حقيقتها عن الحس لا يمكن لنوع الانسان أن يعبر عنها ويبين حقيقتها بالكلام؟ إذن قد نطقت بالصواب من حيث لا تدري ولا تريد. ولكن لماذا تناقض كلامك وتقذف نفسك في لجة البحث عن ماهيتها فيذهب بك تيارها إلى مهلكة التناقض والتمحلات. إذا كانت ماهية النفس لا يعبر عنها بالكلام والذي يمكن هو التعبير عنها بظواهر فعلها وتأثيرها.
فبأي شعور وبأي طفرة رتبت على ذلك نتيجتك المناقضة وقلت (ولذا يصح أن نقول إن ماهية النفس في الجسد إنما هي الحرارة المنتشرة فيه) إذا كانت الحرارة هي ماهية النفس فكيف تناقض ذلك بقولك (جعلت الحرارة من فعل النفس إلى آخره) وإن كانت الحرارة من فعل النفس وآثارها فكيف تقول إن ماهية النفس هي الحرارة وكيف يصح لك ذلك؟ وليتك تدري ماذا تريد بقولك (هذا لو صح أن تكون برودة الجسم إلى آخره) ويا للأسف كيف يخاض في أمر ماهية النفس بمثل هذا الكلام المتناقض.
تشبيه النفس ومعارضته
رمزي: وتقريبا للأذهان يمكننا أن نشبه ماهية النفس في الجسم بالبخار فإن هيئة الماكينة بمجموعها لا تفترق بشئ عن الأجسام الحيوانية فالبخار نفس للماكينة إذا حصرته فيها وتضحى جسما مائتا إذا انفصلت عنه فالبخار حياة في الماكينة وهو عدم لا قائمة له بذاته إذا انفصل عنها.
فإن كان واحد من هؤلاء يستخدم بإرادته وش -؟ آلة أعماله الآلية من هذه المذكورات ثم إذا فسدت أجزاؤها بفساد لم يكن إصلاحه من وظائفه فإنه يغادرها وهو باق على كيانه وإدراكه وأعماله التي لا ترتبط بهذه الآلة. وإنك تجد هؤلاء المديرين المذكورين مع اتحادهم بالنوع الانساني يختلفون في الشعور والعلم والمدارك ويكفي بعضهم من الادراك والعلم ما لا يكفي الآخر ولكل منهم بحسب آلته عمل لا يقدر عليه الآخر ولا يصدر منه. فهذا الاختلاف في أعمال هؤلاء المديرين بحسب أغراضهم واستعدادهم وآلاتهم هل يدل أن الأعمال المذكورة إنما هي من خصائص الآلات المذكورة لا غيرها؟
وأنه ليس للمديرين كيان يبقى بعد مفارقتهم لهذه الآلات ولا صلاحية في ذاتهم للادراك والشعور؟ فالنفوس في أدنى الحيوان وأرقاه وإن كانت واحدة بالجنس أو بالنوع تكون مختلفة بالشعور والادراك والأخلاق والأعمال بحسب اختلافها في النوع أو في الصنف أو الخصائص للشخصية وبحسب استعدادها وآلاتها كما في اختلاف المديرين المذكورين. فلماذا يلزم أن تكون واحدة في جميع الصفات والخصائص كما جرى توهم ذلك في مصادر كلماتك. ترى المديرين المذكورين على أتم وفاق مع آلاتهم المذكورة في استخدامها في أعمالهم ما دامت سلامتها الطبيعية. يحفظون بقاء سلامتها بالمسح والدهن وإماطة الأذى ونحو ذلك مما تحتاج في حفظ بقائها على صحتها حسبما يدخل تحت قدرتهم فإذا خرجت عن نظامها الطبيعي وصلاحيتها للعمل ولم يكن إصلاحها من وظيفتهم ومقدورهم فارقوها وهم على كيانهم وإدراكهم وأعمالهم اللائقة بذاتهم ولا يقال إن كيان هؤلاء وشعورهم وبقاء ذواتهم تابع لسلامة آلاتهم.
فلماذا لا يكون مثال النفس مع الجسد مثال المدير مع آلته. ولماذا يتوهم خلافه ويجعل هذا الوهم الخرافي دليلا في المكابرات ويتقلب بهذا الوهم والتحكم الفارغ في عدة صحائف. لا تخفى الرابطة في الاستعمال بين المديرين المذكورين وآلاتهم ما دامت على نظامها الطبيعي. إذن فمن هو الذي يبدأ بالانفصال عند فسادها. وكلما تقول ههنا على الاستقامة في الشعور نقوله في انفصال النفس عن الجسد عند الموت.
رمزي: رأينا فيما سبق أن وظيفة النفس قائمة من جهة بإعطاء الحياة والحركة وتلك الحركة موجودتان في جسد الحيوان وجسد الانسان على السواء فأين الفرق بين نفسيهما.
عمانوئيل: ووظيفة المديرين للآلات المذكورة قائمة من جهة بإعطاء الحياة العملية والحركة وتلك الحياة وتلك الحركة موجودتان في السفينة البسيطة بيد المدير الذي لا يحسن ولا يعرف إلا إدارة السكان وجذب الشراع وإرخائه.
ولماذا يتعب القلم والطابع في الوهم بتسويد عدة صحائف يا رمزي من أين جئت بهذه الاستحالة التي تدعيها هذه الفتوى المجردة التي لهج بها مصدر كلماتك. ما هو التضاد. وما هو تضاد الروح والمادة. ومن أية جهة يتضادان. وكيف يستحيل وجود رابطة بينهما. وما هي الرابطة المستحيلة.
وما هو التنافر بينهما بحيث يستحيل وجود رابطة بينهما بوجه من الوجوه. وما هو التناقض وكيف تتناقض الروح والمادة ومن أي جهة يتناقضان؟ هل أنت جسد بغير نفس وروح ترتبط به أم أنت روح ونفس بغير جسد يرتبط بها؟ لماذا نسيت قولك صحيفة 493 سطر 20 و 21 إن ماهية النفس من الأمور المعنوية التي لا يعبر عنها بالكلام ولماذا نسيت قولك في أول كلامك في النفس إن الحقائق الروحية لا سبيل إلى إدراكها وليس لك من يضمن أن لا تخبط فيها خبط عشواء. إذن فلماذا ناقضت كلامك وتقحمت في لجة البحث عن حقيقة النفس والروح تقحما ليس فيه إلا الخبط والفتاوى المجردة والتحكم.
رمزي: لو كان من مزايا النفس إعطاء الحياة لبقيت المخلوقات الحية تتمتع بفعل الحياة ولو بغير أكل وشرب وإذا كان ذلك من المستحيلات فقد وصلنا قسرا إلى نتيجة غريبة وهي أن الحياة ودوامها من بواعث المادة لا من بواعث النفس.
ما هذا التناقض
عمانوئيل: يا للعجب من عدم المبالاة بالتقلب في التناقض إنك قلت فيما تقدم إن وظيفة النفس إنما هي إعطاء الحياة. وإن وظيفة النفس قائمة من جهة بإعطاء الحياة. فكيف الآن تنكر كون إعطاء الحياة من مزايا النفس أم تريد أن تشير إلى التناقض الذي في مصدر كلماتك (1) أما أن التناقض مثل الفتاوى الفارغة والتشبثات السخيفة.
فكم ذا تشير. ولماذا لم ينقدح في فكرك عند كلامك هذا أنه قد قدرت حياة المخلوقات بصلاحيتها للتغذي في حركة النمو والتحليل بتدبير النفس فإذا اقتضى التقدير سقوطها عن هذه الصلاحية فارقتها النفس والحياة التي هي من أعمالها. فمن أين يلزم أن تكون الحياة من مبعوثات المادة لا من مبعوثات النفس وهل يوصل إلى نتيجتك إلا بالطفرة في تقهقر الشعور والأدب.
كلام العلماء النفسيين - وغرضهم منه
رمزي: إذا سألنا العلماء النفسيين عن ماهية النفس قالوا بالحرف الواحد: (إنها قوة أودعها الله في الانسان ليكون بها وجدانه وتفكيره وإرادته) أما قولهم إن النفس هي قوة الاحساس والتفكير والإرادة فلست أعلم أنهم يقصدون كون هذه القوة هي مزية خاصة بالنفس أم أنها مشتركة بينها وبين الجسد. أما كونها مزية خاصة بالنفس وحدها فهذا محضر خلط وهذيان وذلك لأننا نشاهد أن مفعول هذه القوة يبطل عند حصول خلل في الأجزاء الجسمية، وأما كونها مشتركة بين النفس والجسد فهذا كلام مجمل يحتاج إلى الايضاح. عمانوئيل. لتفهم أولا أن غرضهم في كتب علم النفس هو البحث عما يخص الانسان ولأجل ذلك اختصت إشارتهم في مقام التعريف الرسمي بنفس الانسان وأشاروا إليها ببعض خواصها مما يدخل في
____________
1 ـ كل ما هو مذكور في مكالمات رمزي في النفس مأخذه الكتاب الطبوع في بغداد سنة 1922 م إلا قليلا مما بعد. (*)