الصفحة 425
غرضهم معرضين عن خطر التقحم في لجة البحث عن حقيقتها بحدودها تمسكا بفضيلة معرفتهم بحدود إدراك النوع البشري وصدا لجماح الجهل المركب من أن يتقحم في هذا الغمر الهائل. كالطبيعي الذي يعرف القوة الكهربائية ببعض أعمالها حيادا عن التقحم في البحث عن حقيقتها التي اعتركت فيها الآراء. ولأجل سهولة التعبير قالوا في تعريفها ما ذكرته. قالوا ذلك إشعارا بمحل بحثهم في أثرها وأعمالها في الهيكل الانساني متغاضين عما يعترضهم من المزاعم وعن دعوى أن النفس لا يستقل وجودها عن المادة ولا يكون لها عمل وأثر بغير المادة. وإن أردت بيان مقصودهم في خصائص النفس فإنهم يقولون إنا إذا نظرنا إلى النوع الانساني نظر بصيرة وتحقيق وجدتا لنفسه من الخصائص قسمين ممتازين. أما القسم الأول: فهي خصائص وأعمال آلية تستخدم بها الجسد التي هي مرتبطة به هذا الارتباط الأكيد المشاهد.

وليكن منها الاحساس والتكفير والوجدان فهذه الخصائص من حيث المصدر هي خصائص النفس لأنها تدور حول النفس وارتباطها بالجسد ويقف ظهورها نحوا ما باحتجابها بالنوم أو الإغماء فضلا عن الموت. نعم بما أن هذه الخصائص آلية فإن ظهور آثارها للوجود يتوقف على استعمال الآلة وصلاحيتها كتوقف عمل النجار على آلاته الصالحة. أنظر إذا بطلت أعمال النجار عند حصول الخلل في الله وانقطاع رابطته بها فهل يقول مستقيم إن صناعة النجارة ومزيتها وإرادتها هي للآلة وليس للنجار مزية ولا خاصة أو يقول هي مشتركة بينها وبين النجار بحيث يقول: إن النجار يفقد مزية الصناعة وملكتها إذا لم يظهر مفعولها عند اختلال الآلة! لا تحسب أنا نريد الاقناع فيما مضى وههنا بالتمثيل بل إنا يكفينا من الأدلة ما يأتي.

النفس تثبت مزيتها واستقلالها في بعض أعمالها

وأما القسم الثاني: فهي خصائص نجدها لا تدور حول آلية الجسد وكثيرا ما لا يكون لها أدنى مساس. نجد في الانسان مدركا جازما حاكما بالقطع واليقين بأن الفعل لا بد له من فاعل والأثر لا بد له من مؤثر والحادث لا بد له من علة والنقيضين لا يجتمعان ولا يرتفعان والضدين لا يجتمعان وكل زوج ينقسم بمتساويين وكل فرد لا ينقسم بمتساويين إلى غير ذلك من القوانين الحسابية والهندسية. يعلل الموجودات الحادثة ويسير في تعليله ويميز العلة عن اللازم المقارن.

يدرك القوة التي لا تحس إلا آثارها ويحكم بوجودها ويعلل بها تلك الآثار. يحكم بهذه الأحكام اليقينية الكلية الجارية بتيار عمومها إلى حيث لا يحد مجراها في المصاديق. يدرك القوانين الكلية والقواعد العامة التي بها أسس العلوم وبنيت صروحها وأقيمت دعائمها تلك القوانين والقواعد المشرق يقينها والمطرد تيار عمومها والتي تعرفك هي والشعور المستقيم أنها ليست بنات الحس والحواس وليست إلا بنات النفس والواسطة بنات التعليل العام الذي هو من خصائص النفس. رمزي: إن كثيرا من هذه القوانين العامة تحتاج إلى التجربة والحس فليست من خصائص النفس.


الصفحة 426
عمانوئيل: نذكرك أولا بأنا قد بينا لك على أول كلامك في النفس أن أتقن قضية استقرائية جرى فيها التتبع لغالب الأفراد لا تحظى إلا بالظن الذي كثيرا ما ينكشف فيه الخلاف كما في بعض حيوانات استراليا فلا يفوز عموم في قانون باليقين إلا باستقلال النفس وامتيازها بادرا له وإدراك تعليله.

ولما كانت النفس محجوبة عن مزيتها بكثافة المادة بقدر ارتباطها وعلاقها بماديتها صارت تستطيع إلى ما يحجب عنها (وهي القوانين التي تشير إليها) من خلال ذلك الحجاب من ناحية الحواس التي هي آلة لأعمال مزيتها فيكون الاحساس والتجربة بقليل من الأفراد بمنزلة التجسس على المطلوب من خلال الحجاب وتكون الحواس بمنزلة النوافذ من الحجاب تعبر النفس منها بالتحسس إلى إدراكاتها وتعليلها وعموماتها ويقينها ومزاياها الخاصة بها. فليست الحواس هي الآلة لتلك الادراكات والقوانين اليقينية بل إنما هي معبر للنفس إليها. وننبهك ثانيا أنه يكفيك في إثبات النفس لمزيتها واستقلالها قانون واحد تستقل بإدراكه من دون مداخلة لحس أو تجربة فكيف ولها من ذلك قوانين وإدراكات وأحكام يقينية كثيرة. وأيضا ترى النفس في حال ارتباطها بالبدن واتحادها به وإدارة شؤونه في حياته ونموه وحواسه وحاجياته يكون لها جهتان تتغالب آثارهما. جهة جسمانية وشهوانية وغضبية ينبعث منها حجاب الجهل والنزوع إلى الشخصيات.

وجهة روحانية عقلية تشع بالشعور والادراك وترى النوعيات والحقائق الصالحة. فترى من نتائج ذلك التغالب لأعمالها أقساما: (منها) ما يقوم بآلية الجسد أي بالحواس الظاهرة والباطنة فتراه يقوى بقوة الآلة الجسدية ويضعف بضعفها ويأخذ بالضعف نوعا بعد سن الوقوف وذلك كالإحساسات الجزئية والحفظ والتذكير. (ومنها) ما تستقل به النفس وتدافع به الحجاب فهو يقوى بعد سن الوقوف وتخلخل الحجاب المادي ويكون حينئذ أدق وأتقن وأكمل وأوصل إلى الحقائق وذلك كالتعليل وإدراك القوانين العامة أمهات العلم وأساس التعليم والتعلم. (ومنها) ما يحتاج في مدافعة الحجاب إلى التجربة والتفكير فإنه من حيث الاحساس والتجربة يتبع الآلة وضعفها كالقسم المذكور أولا ومن حيث التعليل والوصول إلى الحقائق يجري على ناموس القسم المذكور ثانيا.

إرادة النفس ونزعاتها

وإما الإرادة فمنشأها هو توجه النفس إلى مطلوباتها أما من حيث نزعتها الروحية وأما من حيث نزعتها المتولدة من اتحادها بالجسد وبالحري أن نسميها النزعة الجسمانية ثم ينمو ذلك التوجه بحسب الدواعي والاستحسانات والمدافعات من النزعتين الجسمانية والروحانية إلى أن يبلغ الإرادة الفعالة فتحرك النفس آلاتها وتعمل أعمالها.


الصفحة 427
ولأجل صرف النفس بالاختيار عن نزعتها الجسمانية وما ينشأ من التمادي على ذلك من الألفة وسهولة الانقياد للشهوات والأهواء المردية والملكات الردية نهض الرسل وأمناء الوحي عن أمر الله ووحيه بالتبليغ والدعوة إلى الصلاح والكمال والسعادة بالتعليم والبيان والنصح والوعد والوعيد والتبشير والانذار والتربية الروحية وتعليم الأخلاق الفاضلة والتدريب إلى الملكات الراقية ونيل السعادة العظمى.

واتبعهم على ذلك العلماء العالمون كل ذلك ليستلفتوا النفس إلى الحقائق الروحية لتكون هي الناهضة بالأعمال والمتقدمة على النزعة الجسمانية. ولأجل تنشيطها على مدافعة الحجاب الجسماني الجهلي وكسر عادية غباره والتنبيه من عطلة جهله دونت العلوم وأسس التعليم ونظمت بعض قوانينه نجي كتب علم النفس. قد شرحنا لك بعض ذلك لنصدك عما تقوله اتباعا لمصادر كلماتك. هل يحسن منك أن تقول: إن مقطوع الرجلين أو مشلولهما من الحقوين ليس فيه نفس تدرك المشي وخصائصه ومداخلته في حاجياتها الجسمانية. هل يسعك إلا أن تقول: إن النفس التي كانت تريد المشي وتحرك له الأعضاء هي موجودة ولكن فساد الآلة أوقف أعمالها الآلية.

الرجل العالم المهذب تمر عليه وهو ساكت فلا تدري ما لنفسه الكريمة من العلوم والإدراكات والملكات الراقية فهل يسوغ لك أن تقول ليس له علم ولا ملكة؟ ألست تدري بأن خصائص النفس لا تظهر للحس إلا إذا ظهرت مظاهرها على الجسد وكان الجسد صالحا لأن تظهر عليه ولم يعرض عليه ما يحجبه عن النفس وتأثيراتها فإذا خرج الجسد عن هذه الصلاحية لم يصح لذي شعور أن يقول: إن جميع خصائص النفس إنما هي خصائص جسدية وإن النفس بنت المادة.

رمزي: لو كانت النفس عنصرا مستقلا هو علة الاحساس والحياة لأخلد الانسان ولم يمت وماذا يهمها صلاح الجسد وفساده لو كانت مستقلة بمزيتها.

عمانوئيل: لو كان أمر النفس بيدها وهي حرة في اختيارها لما كان لك عليها السؤال فيما يهمها ولا يهمها. هي وما تشاء في اختيار من تقترن به في الارتباط ومن ذا الذي يمنعها من أن تشترط في تعليلها للحياة سلامة الجسد وأهليته أم هل كنت ضامنا أن لا تغلبها علة الموت فتطردها عن قرينها وتبطل تعليلها لحياته؟.


الصفحة 428
وأما إذا كانت مخلوقة قد قدر تعليلها لحياة بتقدير إلهي فما أنت وهذا السؤال. بل ما أنت وهذا السؤال. لو كان تعليلها للحياة محدودا بحد طبيعي. وماذا يمنع من أن تكون لها مزية تستقل بها ومزية آلية تدور حول صلاح الجسد.

أعمال النفس تثبت وجودها المستقل ومزيتها الخاصة

1 - من ذلك زيادة على ما تقدم أن النفس تدرك ذاتها ومن الواضح أنها لا تقع تحت الحواس والآلات الجسمانية مطلقا.

2 - تدرك إدراكها الآلي والاستقلالي ومن الواضح أن ذات الادراك لا يقع تحت الحواس والآلات الجسمانية.


الصفحة 429

إدراكها ما ينقسم وما لا ينقسم

3 - نجد أن مبدأ الادراك وفاعله يدرك ما يقبل الانقسام وما لا يقبله. وعليه فلا يكون المدرك فاعل الادراك جزءا من الجسد قابلا للانقسام ولا جواهر فردة متعددة لو أمكن وجود الجوهر الفرد. ولا هباءات وذرات من القوة المتحللة من المادة أو التي تتألف الأجسام من اجتماعها حسب الآراء الحديثة.

ولا جوهرا فردا واحدا من الجسد. ولا هباءة واحدة من قوته. فيتعين أن لا يكون المدرك جسمانيا ولا قوة يتألف منها الجسم أو ينحل إليه بل لا بد من أن يكون روحيا منزها عن هذه الجسمانية ولوازمها. أما أنه لا يعقل أن يكون المدرك عل الادراك جزءا من الجسد يقبل الانقسام فلانا نجد أن المدرك يدرك الحقائق البسيطة التي لا تقبل الانقسام كالواحدة وذات الادراك والمعقولات الوحدانية وفي مقدمتها العلة الأولى واجب الوجود بماله من الوحدة من كل جهة جل شأنه.

ويفترض في تصوره الجوهر الفرد وهباءة القوة والنقطة التي لا تنقسم. ومن البديهي أن ما لا ينقسم لا يمكن أن يرتبط بالارتسام ونحوه بمجموع ما ينقسم. فإن افتراض هذا الارتباط يستلزم أن ما لا ينقسم يكون منقسما على أجزاء ما ينقسم وهذا خلف بديهي البطلان. ولا يرتبط بكل واحد من الأجزاء التي لا تتجزأ من الجسد وذلك لما مر مبينا من أنه لا يمكن وجود الجزء الذي لا يتجزأ من الجسم وإنما هو افتراض موهوم. وزيادة على ذلك إن هذا الفرض يستلزم تعدد الادراكات بتعدد الأجزاء المفروضة وتعدد الارتباطات بها فيكون المعلوم الواحد معلومات متعددة وهو باطل بالبداهة والوجدان.

لا يمكن أن تدعي أن هذه الادراكات من الأجزاء تتوحد بمدرك واحد يجمعها ويوحدها وهو وراء الدماغ وخلاياه وتلافيفه كما يفعل ذلك مجمع العصب البصري: فإنا نقول لك إن هذا الموحد للإدراكات إن كان روحيا فقد ثبت مطلوبنا وإن كان جسمانيا سألناك أيضا هل يقبل القسمة أو لا يقبلها فإن قلت يقبل القسمة عاد كلامنا بأن ما لا ينقسم لا يمكن أن يرتبط بالارتسام ونحوه بمجموع ما ينقسم إلى آخر ما قلناه وتتبعك بذلك مهما كررت في كلامك وافتراضاتك.


الصفحة 430
وأما أنها لا يمكن أن يكون المدرك فاعل الادراك جزءا واحدا جسمانيا لا يقبل القسمة ولا يتجزأ أو هباءة واحدة لو أمكن وجود الجزء الذي لا يتجزأ. فلانا نجد أنا ندرك المركبات المقدارية بطولها وعرضها وعمقها ندركها شيئا واحدا دفعة واحدة بإدراك واحد. ومن البديهي أن المركب المقداري والقابل للانقسام إلى أجزاء كثيرة لا يمكن أن يرتبط جميع أجزائه بالارتسام ونحوه دفعة واحدة بجزء لا ينقسم لو أمكن فرضه.

دود الحرير وأعمال النفس فيه

4 - هذه المشاهدات في الأدوار المستمرة لدود القز والحرير في نشأته وأطواره ومواليده تعرفنا كيف تغادر نفسه جسده وتتركه فاقد الحياة قد استولت على عامة أعضائه آثار الموت وتغيرات الفناء كالجمود والتقلص والذبول المشوه والمعدم للصورة فيظهر عليه ذلك بأجلى مظاهر الموت زمانا ثم تعود النفس إليه ليعود حيوانا حيا طريا قويا ذا هيئة جميلة يفعل الأفعال العجيبة ويخلف نسلا تجري به نفسه على نواميسه السالفة يكون حبا أصفر ثم يسود ثم يكون في أول آذار دودا كالنمل يتغذى بغذاء أسلافه وينمو نمو أسلافه بخلقتهم وأعمالهم ونواميس تطوراتهم ونشأتهم. أما أن مظاهر الذبول والتقلص والتغير وانعدام الصورة تدافع الشك في موته وفي مغادرة النفس له وتجعل الشك في ذلك سفسطة فارغة. وإن جريانه في حياته الثانية على نواميس أسلافه ينادي بأن النفس التي أكسبته الحياة ثانيا هي تلك النفس التي غادرته.

قد استقلت بذاتها ومزاياها زمانا ثم عادت إليه عودة الأم الحنون. رمزي: إن كثيرا من الحيوانات الرخوة كالذباب وأمثاله ربما تعرض عليه العوارض كالبرد ونحوه فيستولي عليها السكون أياما ثم تفيق من دون أن تفارقها نفوسها فلماذا لا تكون الحالة في دود القز مثل ذلك من دون أن نحكم بمفارقة النفس.

عمانوئيل: من أين علمت أن هذه الحيوانات لم تفارقها نفوسها في الأحوال المذكورة.


الصفحة 431
رمزي: أستدل على ذلك بأنها لا تعرض عليها في تلك الحال تغيرات الموت.

عمانوئيل: إذن فإن تغيرات الموت تظهر على أجساد دود القز المظاهر الجلية فكيف تقيسه على غيره. وأيضا فإن الذباب وأمثاله تبطل فيه أعمال النفس كالحركة والنمو ونحوها ويجوز أن يكون استعداد جسده بدافع التغييرات زمانا فيجوز أن تكون نفوسها تفارقها زمانا ثم نعود إليها.

استدلال المتكلمين في النفس

رمزي: يستدل المتكلمون على وجود النفس بأن الأجسام متشاركة في الجسمية مع امتياز بعضها بالحياة والادراك والإرادة ولا بد من أن يكون ما به الامتياز غير ما به الاشتراك فلا يكون ما به الامتياز جسمانيا. وهذا الاستدلال لا يغني شيئا لأن الامتياز حصل من التركيب الخاص لجسم الحيوان والانسان كما امتاز الحجر بتركيبه الخاص عن بقية الأجسام.

عمانوئيل: ألا تلتفت يا رمزي أولا إلى أن الحجر لا يفقد حجريته التي يمتاز بها ما دامت صورته وتركيبه الخاص باقيين. وها هو الحيوان ترى صورته وتركيبه على حالهما الأول ولكنه قد عرض مع ذلك عليه فقدانه للحياة والشعور والإرادة. تراه يعرض عليه فقدانه للحياة والشعور والإرادة في حين لم تتغير صورته وتركيبه المختصين به فلو كانت النفس والحياة والشعور والإرادة هي نفس التركيب الخاص أو ملعولة له لما زالت حينما هو باق بحاله. وإلى هذا يرجع كلام المتكلمين.


الصفحة 432
وثانيا: إنك تشاهد دائما أن الحيوان عندما تفارقه النفس والحياة يأخذ تركيبه بالفساد إلى أن يتلاشى. فلماذا لا تنبهك هذه المشاهدات إلى أن تركيب الحيوان الخاص به إنما هو المعلول للحياة والنفس في نشأته وبقائه وأن النفس والحياة لتركيب الجسد فلا تكون هي ذات الجسد ولا ذات تركيبه ولا ذات مادته ولا ذات صورته.

فتتنبه إلى أن هذه العلة هي المائز بين الحيوان وبين الجماد الذي ليس فيه إلا مادته وصورته. وثالثا: إنا نجد للحيوان تركيبين تركيبا يقارن الحياة والنفس ويناسبها. وتركيبا ثانيا فساديا ينافر الحياة وتدبير النفس إذ ينشأ من فقدهما ويكون هذا التركيب مما يرجع به إلى الجمادية ويشارك به الجماد ويمتاز به عن الأحياء فلا يزال هذا التركيب يتمشى به الفساد إلى ناحية الفناء والتلاشي. فماذا تقول إذا حدثت الحياة وعادة النفس فجأة لهذا التركيب بعينه. فماذا يمتاز ذلك الحي عن الجماد؟ فإن قلت بتركيبه الخاص قلنا هذا التركيب الجسماني الخاص بعينه كان يشارك به الجماد ويمتاز به عن الأحياء فكيف تعكس الأمر وتتناقض.

وإن قلت يمتاز بشئ جديد غير الجسم وتركيبه فقد أبطلت وهمك ورجعت إلى صواب المتكلمين. ألا وإن من مثال ما ذكرنا ومصداقه هو دود القز، تراه حيوانا يأكل وينسج ثم يخنقه نسيجه فتفارقه مظاهر الحياة وتقترن به مظاهر الموت ومنها فساد التركيب وتمشيه إلى الفناء ويزداد هذا الفساد وعند ذلك فجأة يعود حيوانا يمتاز عن الجماد بمائز لم يكن قبل ثم يأخذ بالنشاط في نموه وصلاح تركيبه ورجوعه إلى غضارة الأحياء وقوة الحياة وأعمال النفس.

رمزي: إذا كانت الروح شيئا سوى تركيب هذا الجسد فلماذا يختل إدراكها وتعقلها باختلال الجسد كما يشاهد في مرض الحمى ومرض الدماغ وكون الجسد آلة لها في جميع الأحوال أمر غير مفهوم فلا يحسن الجواب بمثله.

عمانوئيل: ها هي النفس وأعمالها تثبت مزيتها وأنها شئ سوى الجسد وسوى تركيبه كما أشرنا إليه. والذي يختل باختلال الجسد إنما هي أعمالها الآلية. نعم لا تظهر: أعمالها الاستقلالية إلا إذا ظهرت آثارها على الجسد لأن المعقولات لا تدركها الحواس وإنما تدرك آثارها ومظاهرها على الأجسام فإنك لا تشعر بمعقولات غيرك إلا أن تتجلى مظاهرها على الجسمانيات المحسوسة.

أما أنك إن تكن لا تفهم كون الجسد آلة للنفس فلا يكون في ذلك نقص على الحقائق ولا ينسب إليها من ذلك قصور أو تقصير وماذا يكون إذا ناديت في أيامك بأعلى صوتك. ليس مدير السيارة إلا تركيبها ها هو السير على حسب المقاصد يختل باختلال السيارة. كون السيارة آلة للمدير أمر غير مفهوم.


الصفحة 433
ناد بذلك فإنك قد تنال تصفيق الاستحسان من بعض الناس لأسباب مختلفة. وأما حسن الجواب فله حقيقة لا سيادة لآرائك عليها. رمزي: إذا أفاق الانسان من نومه يرى يقضته بعد نومه كوجود بعد عدم إذ كان لا يعلم ولا يشعر بشئ فأخبرني ماذا يفعل بروحه الكريمة إن كان له روح سوى تركيب هذا الجسد.

نعم قد يرى رؤيا ولكنه كثيرا لا يرى.

عمانوئيل: نسامحك من الدلائل المتقدمة وغيرها على مغايرة النفس للجسد وتركيبه ولكن قل إذا كنا لا نعرف حقيقة النفس وأحوالها وأطوارها ولا ندري ما يفعل بها في كثير من أحوالها. فهل يلزم من ذلك أن تكون النفس هي تركيب الجسد؟ أو هل يلزم من مغايرتها للجسد وتركيبه أن نعرف حقيقتها وجميع أحوالها وأطوارها؟ وهل تكون مغايرتها للجسد وتركيبه أو كونها ذات الجسد وتركيبه خاضعة لسيادة علمنا وجهلنا وتابعة لهما.

لا تدري ما هي حقيقة الكهربائية ولا يحيط الناس بجميع نواميسها فهل يلزم من ذلك أن تقول: إن الكهربائية ليست قوة مغايرة للمادة والجسم وليس للأجسام قوة كهربائية سوى تركيب الجسم؟ إليك مثالا طفيفا مما ذكر في كتب الطبيعات هذه الإبرة التي تستعلم بها جهتا الشمال والجنوب في الآلة التي تسمى (الحك) و (القطب) لم تعرف حقيقة القوة التي يختلف بها توجه الابرة ففي بعض البقاع لا يكون لها ميل عن الجنوب والشمال وفي بعضها يكون لها ميل غربي ويتفاوت باختلافها حتى يبلغ العشر درجات والعشرين وهكذا إلى التسعين وفي بعضها يكون الميل شرقيا متفاوتا بحسب اختلافها إلى التسعين درجة أيضا.

ومع ذلك يتغير هذا الميل واللا ميل في البقاع بحسب الأزمنة. فهل لأجل أنا نجهل حقيقة القوة المتصرفة بالإبرة ومنشأ اختلافها يحسن بنا أن نقول ما هذه القوة إلا نفس تركيب الابرة الجسماني. أو نقول ذلك لأجل أن هذه القوة تختل أعمالها أو تبطل إذا اختل وضع الإبرة وآليتها؟؟

لماذا نجهل ونضطهد بجهلنا دلالة معلوماتنا وبديهياتنا ووجدانياتنا. الدكتور: غيرة على الحقائق والانسانية أتمنى لكل إنسان أن يميز حدود إدراكه ويعرف مواقع جهله فلا يشوه العلم ويضطهد الحقائق وشرق الانسانية بالجهل المركب (وهو جهل الشخص وجهله بأنه جاهل) فما أجمل علم الانسان بحدود إدراكه ومواقع جهله.


الصفحة 434
وهذا هو الذي يسميه العلماء (الجهل العلمي) قالوا: إنه هو الذي تصل إليه النفوس الكبيرة. وهو بالحقيقة العلم القائم بمعرفة الانسان نفسه وهو نادر الوجود بين الناس. يحفظ صاحبه من الوساوس والزيغ والضلال. وإن الجهل المركب يكون عند أناس هم بين بين.

وهم الذين خرجوا قليلا من بساطة العوام وتقحموا في الجولان في ميدان العلم بأقدام مرتعشة حتى في مباديه. فهم يقلقون العالم ويشوهون العلم تارة بالتقليد الأعمى في المسموعات الموافقة للأهواء وتارة بالوسوسة والتشكيك في كل شئ (1). هذه الأدلة التي أوردها عمانوئيل لإثبات النفس لوجودها الروحاني وميزتها الخاصة مما لا ينبغي لذي الشعور أن يحيد عنها. ولا يخدش فيها أقل خدشة ما ذكره رمزي تبعا للمكتوبات كما أوضح ذلك عمانوئيل. يطول تعجبي من الاصرار على جحود بقاء النفس بمثل هذه

____________

1 ـ ذكر ما يقارب هذا في دايرة المعارف للبستاني في مادة (جهل). (*)


الصفحة 435
التشبثات المتلاشية التي سمعت بعضها من رمزي ورأيت بعضها في المكتوبات. لماذا كان ذلك؟ فإن العلم لا يمنع وجود موجود ليس بذي مادة ولا من بقائه كما تشهد به التجارب في القوة زيادة على افتراض الأثير. مع أن النفس تثبت وجودها الروحاني ومزيتها الخاصة بالأدلة الكافية. أم كيف يقتحم المتدين في جحود بقاء النفس مع أنه ممكن ومن أهم أساسيات الأديان. هل يريد أن يشير بذلك إلى انسلاخه من الدين. ليس لغير المتدين إلا أن يقف في بقاء النفس موقف الشك. أو يجيل نظره وتحقيقه في أمر المذهب الروحاني الذي علا دويه في هذا العصر. الشيخ: يجد الانسان جهله بالكثير من الحقائق ولا يغيب عنه أن حقيقة النفس لا تحوم حولها مشاعره ولا تدخل بجميع أحوالها وأطوارها في حدود إدراكه. ويجد أنها في بعض أحوالها تثبت للبديهة وجودها الروحاني ومزيتها وبعض مزاياها الاستقلالية.

ومع ذلك يزعجها بعض الناس ويقلق العلم في أمرها. فتارة يجحد ما هو ثابت بالبداهة وتارة يتقحم ما يقصر عنه إدراكه البشري. لا يسترشد بالبديهيات ولا بنصيحة جهله العلمي ولا بهدى الهادي العليم في قوله جل شأنه في الآية السابعة والثمانين من سورة الاسراء المكية: (ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي) لا من خلقكم لكي تحيطوا خبرا بحقيقتها ومزاياها. ماذا عرفتم عرفتم من حقيقة القوة وماهيتها. بل ماذا عرفتم من حقائق الجسمانيات وماهياتها حق المعرفة. لا يصل إدراككم أحيانا بعد الجهد الجهيد إلا إلى بعض آثار الحقائق وكم لكم أيها البشر في ذلك من خبط عشواء أفلا تعتبرون بأنكم محجوبون بحجاب الجسمانية (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) مما يمكن أن يدخل

في حدود إدراككم البشري فيناله بالتعلم الصحيح من خلال الحجاب الجسماني.

أعمال النفس تثبت وجودها المستقل ومزيتها الخاصة

5 - ينام الانسان فيستولي السكون على جوارحه وينقطع إحساسه وتفكيره وإراداته العاديات ثم يكون لنفسه من وراء ذلك أمور: الأول: إنه يكون في حلمه يحس ويفكر ويريد ويتحرك ويتكلم ويسمع ويرى ويرتاح ويتألم ويضحك ويبكي ويخاف ويرضى ويغضب ويأمر وينهى مع أنه ليس لجوارح حسه عمل في ذلك ولا لتفكيراته ومعلوماته وأمياله العاديات. أفلا ينبغي أن أسترشد من ذلك إلى أن المبدأ العامل لهذه الأعمال هو جوهر مغاير للجسد وتركيبه يستعمل الجسد آلة لهذه الأعمال في حال اليقضة ويستغنى في حال النوم في أعماله عن تلك الآلات. الثاني: إنه يرى في منامه أمورا غيبية ليست مما يناله الحس أو أسباب العلم في اليقضة ويظهر مصداق ذلك بعد أيام كما وقعت عليه التجارب الكثيرة. فمن ذلك ما يكون برمز مطرد عرف مرموزه بتكرار التجارب كما يرمز قلع الأسنان في الحلم إلى موت الأقارب.

والتلوث بالنجاسات إلى الحصول على المال. إلى غير ذلك من الكثير المطرد ومن ذلك ما يكون بالصراحة في الأخبار عن أمر مستقبل أو واقع في مكان بعيد كوقوع السفر أو الاياب أو الموت أو الصحة. دع القائل يقول في الأمر الأول أن الصور المرتسمة في الحافظة تؤلفها المخيلة حسبما يتفق تأليفا جديدا مشوش النظام مختلف الترتيب فتبرز للادراك بهذا التأليف حلما كما يفعل مرتب المطبعة بحروفها فتبرز للقارئ كل آونة بشكل. لكن قل له إن جرينا معك فيما ذكرت في الحافظة والمخيلة وكونهما عوامل جسمانية فلا بد أن نسألك. ما هو المدرك لهذا التأليف؟ ومن هو القارئ لحروفه وكلماته؟ ومن ذا الذي يريد ويتحرك ويتكلم ويسمع ويرتاح ويتألم ويخاف ويغضب ويرضى ويضحك ويبكي ويأمر وينهى؟ من هذا الذي ينفعل بما في هذه من الانفعالات ويفعل ما في هذه من الأفعال؟ ليس للجسد في ذلك مداخلة في تجدد الفعل والانفعال إنك ترى الجسد حينئذ في قيد السكون. نجد أنا نحلم وندرك في الحلم أنه حلم فكيف يكون هذا من أعمال الجسد المحض وتركيبه.. نرى الانسان تارة ينسى حلمه وتارة يبقى في حفظه فهل يقول: إن الحافظة ترتسم بها أغلاط المخيلة في صور الحافظة؟ أم كيف ذلك؟ سامحناه في هذا الذي يعود إلى الأمر الأول وإن كانت الحقيقة لا تسامحه فماذا يقول في الأمر الثاني والادراك لما هو في صحيفة الواقع المحجوب. عن كل حس وكل شعور وحافظة ومخيلة.


الصفحة 436

في المعاد الجسماني

الشيخ: هناك حقيقة أخرى يقابلها الماديون ومن مشى وراءهم بالجحود وخيالات الامتناع. ألا وهي المعاد الجسماني وإحياء الأجسام بأنفسها للجزاء في يوم المعاد وقد أخبر القرآن الكريم وبشر وأنذر به وكافح الأوهام في خيالات امتناعه واحتج على إمكانه بالحجة الكافية التي تستلفت العقول إلى مبدأ الانسان ومبدعه في وجوده العجيب فيهون عليها التصديق بوقوع المعاد بالتدرج في النظر في حكمة الخالق ورحمته وقدرته ففي سورة يس المكية الآية 77 (أو لم ير الانسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين) 78 (وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم) 79 (قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم) وفي سورة المؤمنون المكية الآيتان، 115 و 116: (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون * فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم). أول شئ له اسم وعنوان يعرفه نوع الانسان مبدأ لنشء أفراده وتصويرها هو النطفة التي يتعاقب عليها التصوير في الرحم حتى تكون إنسانا مولودا وناشئا ورشيدا. والنطفة هو المقدار من السائل سواء كان مراد القرآن منها هو مني الذكر كما هو المعهود أم سائل بيضة الأنثى أو سائل حويصلتها الجرثومية على الرأي الجديد.

أفلم ير الانسان كيف بلغ به الخلق والتصوير من هذه النطفة إلى حالته التي يشعر فيها بما في هيكله من عجائب التراكيب التي تهتف بخالقها القادر وقصده لغاياتها الشريفة. يكفي في ذلك التراكيب الظاهرة لكل أحد وغاياتها الكبيرة المعلومة. فضلا عما أشرنا إلى بعضه في الجزء الثاني في صحيفة 335 إلى 342 بل إلى 358 من العجائب التي تبهر العقول في بدايع القدرة وبواهر الحكم والغايات. كيف لا تكفي الانسان رؤيته لذلك في إذعانه بأن الذي بلغ به في التصوير والخلق من النطفة إلى حال شعوره ورشده وهو خالق قادر حكيم عالم بالغايات. ترى الانسان تضطره الفطرة في أمر طفيف بالنسبة إلى ما ذكرناه وهو صنع الآلات الصوانية فيذعن بلا شك بأنها صنعت بصنع قادر عالم بغاياتها صنعها لأجل غاياتها فانظر في الجزء الثاني في صحيفة 283 و 285 و 330 في مثال المدينة و 128 في مثال الغار الصخري فكيف يعرقل شعوره ويكابر وجدانه فيتجاهل ويجحد قدرة خالقه وعلمه وحكمته ويكون من أجل ذلك خصما يبين خصومته في أمر المعاد ويتمثل بالعظام التي تبلي وتصير رميما بجهالته. هذا المثل السخيف لجحود المعاد ويقول: إن العظام التي صارت رميما كيف تحيا ومن هو الذي يقدر على جمع أجزائها التي تشتتت وعلى إحيائها ومن هو الذي يحييها. قل يجمعها وينشئها على صورتها الأولى ويحبوها بالحياة ذلك الخالق القادر العليم الذي أنشأها أول مرة وقدر أوضاعها وأشكالها ومقاديرها وصلابتها ولينها ومفاصلها على مقتضى الحكمة وحاجة الغاية ووصلها بالأربطة وأكمل نظامها بآلات البدن العجيبة فأجرى فيها أعمال الحياة وحفظ الكيان.

أيها الجاحد للمعاد هذا الخالق العليم الذي ينشئ العظام في الأدوار المتعددة والمواليد المتعاقبة بكثرة لا تقدر أن تحصيها وقدر نشؤ متماثلاتها على ناموس واحد وتماثل باهر ليست هي وحدها بل جميع مواليد العالم في أدوارها. هذا الخالق الذي تعرفك أنواع مخلوقاته التي لا تحصى وأطوارها بأدوارها وتشهد بأنه لا يعييه خلق ولا يغيب عن علمه خلق وأنه بكل خلق عليم وبكل مخلوق عليم. فهل يغيب عن علمه جمع رميم العظام وخلقها على صورتها الأولى وإحيائها؟ ماذا يكبر إحياء العظام الرميمة على إنشاء العظام من النطفة وإحيائها في دور من أدوار النشأة الأولى. وفي سورة الاسراء المكية 48 (انظر كيف ضربوا لك الأمثال) في جحود المعاد (فضلوا) في غيهم وأصروا على خيالات الأهواء وانهمكوا في أوهامهم فلا يعتبرون بمبدأهم ولا يفكرون في خلقهم ونشئهم وأبعدوا أفكارهم عن جادة الرشد والسير في نهج الاعتبار ودلالة الهدى إذن (فلا يستطيعون سبيلا) إلى معرفة الحق ما داموا معطين قياد أفكارهم بيد الأهواء والاصرار عليها حتى استدبرت بهم الطريق وورطتهم في خبط العشواء 49 (وقالوا) في غوايتهم في ضرب الأمثال لجحود المعاد وحسبوا أنهم جاءوا بالحجة والقول الفصل والبرهان الكبير. مع أن جهد ما خيلت لهم أوهامهم هو أن يقولوا (أإذا) تقطعت أوصالنا و (كنا عظاما) مجردة (ورفاتا) عظاما متحطمة بالية بعد ذلك (أإنا لمبعوثون خلقا جديدا) في الصورة من تلك المواد البالية 50 و 51 (قل) لا تقتصروا في المثل على العظام والرفات بل لتتقلب بعد ذلك بأجزائكم الصور وتلعب بها عوامل التغيير المقدر في نظام العالم لتبعد أوصالكم عن صورة الانسان كيفما أبعدتها عوامل التغيير وجهد ما تتصورون من البعد (وكونوا حجارة) من أي أنواع الحجارة (أو حديدا * أو خلقا مما يكبر في صدوركم) في مقام الترقي في ضرب المثل وبعده عن صورة أجزاء الانسان. فإنكم تبعثون بحسب الصورة خلقا جديدا ترد به أجزاءكم إلى صورتها الانسانية وتتعلق أرواحكم بها (فسيقولون من يعيدنا قل) يعيدكم القادر على ذلك مهما تغافلتم في مقام الجحود لا أبعد لكم الإشارة إليه هو ذاك (الذي فطركم أول مرة) وبلغ بخلقه لكم إلى ما ترونه من أحوال نوعيتكم وخصائص شخصياتكم فانظروا أقلا إلى فطرتكم الانسانية من بعد ما كنتم نطفة وإلى وجودكم الانساني بعد أن لم تكونوا كذلك. وإن خادعتكم أوهام الأهواء ونظرتكم إلى ما قبل ذلك فمهما تجاهلتم وافترضت أوهامكم القدم لأولكم في المادة فإنكم لا بد لكم من أن تذعنوا بأن مادتكم التي تقلبت بها تغيرات الصور وتصرف بتغييرها عامل التكوين لا بد من أن تكون محدثة مفطورة. هذه المادة الخاضعة للتغيرات الصور وعوامل التصرف والمقترنة بفقر الامكان لا تكون واجبة الوجود.


الصفحة 437
إذن فانظروا إلى ما يصل إليه إدراككم من أول فطرتكم وانظروا إلى تصرف القدرة بإبداعه وأعمالها الباهرة في تصويراته فهذا القادر الذي فطركم أول مرة وأراكم من أعمال قدرته في نشؤكم ونشأتكم ما ترونه من العجائب هذا هو الذي يعيدكم... وقال في الآية الخامسة من سورة الحج (يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث) لأجل تفرق أجزاء الانسان بالبلى فتستبعدون إحصائها وجمعها لإحيائها تارة أخرى (فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة) ظهرت عليها بالخلق مخائل أعضاء الانسان (وغير مخلقة) من قبل ذلك. ومن حكم هذا التقدير والتدرج في الخلق استلفاتكم إلى تصرف القدرة الإلهية في خلق الانسان بماله من الجسم وتركيبه العجيب في حكمه وغايات أجزائه وبما له من الحياة والشعور والعقل لئلا تكونوا على غفلة فتقولون خلق الانسان صدفة ولا ندري كيف صار.

بل لتلتفتوا إلى مبادئ نشأته البسيطة والفاقدة للحياة وترقيها بالخلق إلى التراكيب الباهرة بحكمها وإلى جمال الحياة وكمال العلم (ولنبين لكم) بالاستلفات مواقع القدرة في مبادئ النشؤ وأطواره. (ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى) محدود للولادة ونحبوه في الرحم بعظائم النعم ومواد التغذية ولوازم الحياة على نهج مغاير لنهج عالم الولادة في طريق التغذية والإفراز ودورة الدم ونحو ذلك. (ثم نخرجكم طفلا) عاجز عن أمره نجدد له صورة غذائه ومنبعه وطريق التغذي ومخرج الإفرازات والفضلات ونغير دورة دمه ونحبوه بحنان الوالدين. (ثم) تتدرج بكم الأطوار في النمو ومراتب الشعور والادراك والعلم والقوة. (لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى) حينما يبلغ أشده وقبل ذلك حسبما تقتضيه الحكمة في نظام العالم ونواميسه المجعولة. (ومنكم من) يبقى بعد أن يبلغ أشده فيأخذ بالانحطاط على حسب التقدير والحكمة في الشخص أو النوع. (لكيلا) أي تكون عاقبته بعد العلم وجودة الادراك وصفاء الشعور لا (يعلم من بعد علم شيئا). هذا استلفاتكم وتنبيه اعتباركم في خلقكم أيها الانسان (وترى الأرض هامدة) قاحلة لا نبات فيها ولا بهجة (فإذا أنزلنا عليها الماء) بالقدرة الباهرة في توليد المطر على الأنحاء التي تقرر في توليد السحاب وحمله الماء وعجائب نشأه وضغطه في توليده وسوقه وتسييره وإرساله المطر فإذا نزل على الأرض الميتة (اهتزت) بحياة الانبات (وربت) بالنمو (وأنبتت من كل زوج بهيج) تكفيكم بهجته في أطواره في الدلالة على باهر القدرة وإن غاب عنكم ما في النبات من الخصائص والفوائد الكبيرة المتنوعة وما لأزواجها من خاصية التلقيح ليبقي نوعها وتوالدها على ناموس مستقيم. 6 (ذلك) الذي تلي عليكم من مبادئ نشؤ الانسان ومبالغ نشوئه وحفظ نوعه بنواميس تواليده وما في مراتب ذلك من عجائب القدرة ودلائل الحكمة وقصد الغاية وفي نشؤ النبات ومبالغ نشوئه وحفظ نوعه بنواميس تواليده وما في مراتب ذلك من عجائب القدرة ودلائل الحكمة وقصد الغاية هذا كله يشهد بأن موجده إله قادر حكيم عالم بغايات خلقه يوجد المخلوقات لحكمة غاياتها. قام وجود هذه الموجودات المذكورة ونشأها وخلقها وحياتها واستقام توليدها (بأن الله) الإله القادر العليم الحكيم واجب الوجود (هو الحق) لا الصدفة العمياء ولا الطبيعة ولا الحركة الحادثة المتصرمة ولا المادة المتغيرة المقرونة بدلائل الحدوث والحاجة إلى الموجد (وأنه يحيي الموتى) كل ميت. الانسان والنبات. ترى الحياة تطرأ على أصل ميت لا حياة فيه بل يحييه الله بقدرته ويتصرف بخلقه بإثار القدرة الباهرة. (وأنه على كل شئ) تتصورونه في ناحية الخلق وأنواعه وأطواره ونشأته متسلط (قدير). (وأن الساعة) يوم القيامة وإحياء الناس بعد بلاهم للحشر (آتية لا ريب فيها) لا محل للريب فيها فإن نبوات الحق المؤيدة بدلالة المعجز قد أخبرت عن الله جل اسمه بها وإن دلائل القدرة في خلقكم وخلق النبات وغيره من الحيوان وأنواع الجماد وأطوارها وتواليدها وغاياتها تقيم الحجة الواضحة عليكم بأن الله الخالق في النشأة الأولى بقدرته وحكمته هو قادر في النشأة الأخرى على إحياء العظام والرميم (وأن الله يبعث من في القبور).

وقال في الآية الثالثة والثلاثين من سورة الأحقاف المكية: (أولم يروا أن الله الذي خلق السموات والأرض) بما فيها من عجائب التقدير ومواقع الحكمة ومحاسن النظام بحيث يجلو النظر في ذلك لكل إنسان حسب استعداده ويوضح موقع القدرة والحكمة وقصد الغاية بأوضح المظاهر كما أشرنا إلى بعض ذلك في الجزء الثاني صحيفة (116 إلى 127) خلق السماوات أي العالم العلوي والأرض أي العالم السفلي بهذا النظام العجيب بوضعه وحكمت (ولم يعي بخلقهن) ويتعذر عليه شئ منه أليس هذا الخالق القادر العليم الحكيم (بقادر على أن يحيي الموتى) ويبعثهم ليوم الجزاء (بلى) أن أقل نظر حكر في خلق هذا العالم ومظاهر القدرة يشهد (إنه على كل شئ قدير) هذا بعض ما في القرآن مما يستلفت النظر المنزه وينبه العقل الحر إلى الجنة الساطعة على إمكان المعاد الجسماني وإحياء الأجسام بعد بلاها وعلى وقوعه.

الأديان والكتب والقيامة

الدكتور: نرى لأهل الأديان في هذا المقام مقالات مختلفة فمنهم من ينكر المعاد بتاتا كالصدوقيين من اليهود. ومنهم ينكر كونه جسمانيا ويجعل نعيم الآخرة وعقابها بنحو روحي عقلي. أليس هذا مما يضعضع مقامه في الأديان والحقيقة.

عمانوئيل: إن الحقيقة ودين الحق لا تضعضع مقامهما شكوك الشاكين ولا جحود الجاحدين فإن الأهواء لا زالت تضل باضطرابها عن النهج المستقيم وحقائق الدين ولا زال دين الحق تتلاعب بأمته الأهواء والانقلابات الضلالية حتى يكون المتداول منه بين تلك الأمة اسما مستعارا لصورة مشوهة. فالصدوقيون من الأمة اليهودية سرت إليهم مبادئ (أبيقورس) اليوناني بسبب تتلمذ لصاحب دعوتهم في فلسفة أبيقورس فأنكروا خلود النفس وبقائها بعد الموت كما أنكروا القيامة بل وأنكروا وجود الأرواح من ملائكة وشياطين. ويقال إن مبدأ دعوتهم كان من نحو المائتين وثمانين سنة قبل المسيح. وقد ساعدهم على هذا الابتداع في اليهودية أن التوراة الرائجة في عهد بدعتهم وانشقاقهم من عموم الأمة لم تبق فيها التقلبات ذكرا لقيامه الأموات ويوم القيامة لا في مقام الوعيد والانذار ولا في مقام البشرى بالجزاء ولا في مقام التعليم بالحقائق الدينية. نعم يوجد ذكر القيامة في باقي كتب العهد القديم. ولكن الصدوقيين أنكروا انتساب هذه الكتب إلى النبوات.


الصفحة 438

العهد الجديد والقيامة

اليعازر: تذكر الأناجيل أن هؤلاء الصدوقيين جاء وإلى المسيح وسألوه في أمر القيامة من الأموات فاحتج عليهم في أمرها كما في العدد الحادي والثلاثين والثاني والثلاثين من الفصل الثاني والعشرين من إنجيل متى والعدد السادس والعشرين والسابع والعشرين من الفصل الثاني عشر من إنجيل مرقس والعدد السابع والثلاثين والثامن والثلاثين من الفصل العشرين من إنجيل لوقا حيث قال لهم المسيح (وأما من جهة الأموات أنهم يقومون أفما قرأتم في كتاب موسى في أمر العليقة كيف كلمه الله قائلا أنا إله إبراهيم وإله إسحاق وإله يعقوب ليس هو إله أموات بل إله. أحياء) وزاد في إنجيل لوقا قول المسيح في إكمال الحجة (لأن الجميع عنده أحياء).

عمانوئيل: وددت أنه لم ينسب هذا الاحتجاج لقدس المسيح يا والدي ألا تذكر ما ذكرناه في وهن هذا الاحتجاج في الجزء الأول صحيفة 138 و 139 فإن قلت هنا إن الله قال ذلك باعتبار حياتهم المستقبلة في القيامة فإن الجاحد يقول لماذا لا تقول: إن الله قال ذلك باعتبار حياتهم الماضية.. فإن قلت. إن المقصود من الاحتجاج هو أن إبراهيم وإسحاق ويعقوب منذ انتقلوا من هذا العالم كانوا أحياء بأرواحهم وأجسادهم على خلاف عادة الموتى قلنا ماذا تقول إذا قال الجاحد من أين لنا العلم بأن هؤلاء كانوا كذلك بعد انتقالهم من هذا العالم ولو سلمناه فإن سؤالنا عن قيامة البشر من الأموات بعد البلى ليس عن شأن إبراهيم وإسحاق ويعقوب. يا والدي كيف ترضى مثل هذا من احتجاج المسيح على هذه الحقيقة الكبيرة حقيقة قيامة البشر من الموت بعد البلى.

اليعازر: في الفصل الخامس عشر من رسالة كورنتوش الأولى من العدد الثاني عشر إلى الثاني والعشرين يوجد احتجاج على القيامة من الأموات فكيف تراه.

عمانوئيل: حاصل ما أشرت إليه ومضمونه هو أنه كان في الكنيسة الأولى قوم يؤمنون بقيام المسيح من الموت وينكرون قيامة الأموات وحاصل الاحتجاج عليهم هو أنه إذا لم تكن قيامة أموات فلا يكون المسيح قد قام من الموت وإذا لم يكن قام من الموت فإيمانكم بقيامه من الموت باطل والتبشير بذلك باطل. يا والدي وأنت ترى أن هذا لا يصلح إلا أن يكون جدلا لقوم مخصوصين وهم الذين يؤمنون بما سمعوه أفواهيا من أن المسيح مات وقام من الأموات وماذا يجدي هذا الجدل مع من لا يؤمن بقيام المسيح من الموت ويراه كسائر البشر.

اليعازر: هل يذكر الانجيل حال الانسان فيما بعد الموت فيما يعود لجسمانيته.


الصفحة 439

الإنجيل والبرزخ

عمانوئيل: يذكر إنجيل لوقا في الفصل السادس عشر عن كلام المسيح لتلاميذه إنه كان غني متنعم وكان مسكين أسمه اليعازر وهو مبتلى مطروح على باب الغني فمات المسكين وحملته الملائكة إلى حضن إبراهيم ومات الغني أيضا فدفن فرفع عينيه في الهاوية وهو في العذاب ورأى إبراهيم من بعيد واليعازر في حضنه فنادى يا أبي يا إبراهيم ارحمني وأرسل اليعازر ليبل طرف أصبعه بماء ويبرد لساني لأني معذب في هذا اللهيب فقال إبراهيم: إنك استوفيت خيراتك في حياتك واستوفى اليعازر البلايا فهو يتنعم وأنت تتعذب وزيادة على هذا إن بيننا وبينكم هوة لا يقدر أحد أن يجتازها فقال الغني إذن أسألك أن ترسل اليعازر إلى بيت أبي ليشهد لهم وينذرهم لكيلا يبتلوا بهذا العذاب فقال إبراهيم عندهم كتب موسى والأنبياء تكفيهم واعظا ومنذرا فقال الغني إذا مضى إليهم واحد من الأموات يتوبون فقال إبراهيم إن كانوا لا يسمعون من كتب الأنبياء فلا يصدقون إن قام واحد من الأموات. اليعازر هذا بيان كبير لعالم جسماني يذكر فيه إصبع. ماء. لسان. عذاب. لهيب. قيام من الأموات ولكن يا للعجب مثل هذا البيان الكبير المفيد ما هو السبب في أن أغفلته الأناجيل الثلاثة ولم يتعرض له إلا لوقا.

عمانوئيل: يا سيدي الوالد سألت عن السبب في أن الأناجيل الثلاثة لم تذكر هذا البيان المفيد فهو السبب الذي شوه هذا البيان وجعل السبب في عذاب الغني هو كونه استوفى خيراته في الدنيا والسبب في نعيم اليعازر أنه كان مبتلى في الدنيا. أو ليس الصحيح المعقول اللائق بتعليم النبي المرشد هو أن يبين أن السبب في العذاب هو التمرد على الله بفعل الخطايا والسبب في النعيم هو الصلاح وعمل الصالحات. وكم من فقير مبتلى قضى حياته بالمأثم والكفر والظلم والأخلاق الردية وأعمال الفساد وسوء الأثر. لقد كان حق التعليم النبوي الصحيح أن يعلل سعادة اليعازر بأعماله الصالحة وأخلاقه الفاضلة ويعلل عذاب الغني بشقائه في الدنيا وأخلاقه الرذيلة وتمرده على الله.

اليعازر: قد جاء في الأناجيل عن قول المسيح إن مرور جمل من ثقب إبرة أيسر من أن يدخل غني إلى ملكوت الله (1).

عمانوئيل: يا سيدي الوالد هل ترى هذا من التعليم المعقول الصحيح، وهل يكون هذا من تعليم المسيح. أليس العيان شاهدا على خلافه. القس: يا عمانوئيل إن في القرآن مثل هذه العبارة فهل هي واردة في مثل هذا التعليم المردود.

عمانوئيل: يا سيدي الآية الأربعون من سورة الأعراف المكية هكذا (إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء. ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط وكذلك نجزي المجرمين) وهذا هو الصحيح المعقول في هذا الكلام. وهذا المورد من القرآن من جملة ما كان يذكره لنا الشيخ وتنبهنا إليه في الجزء الأول من أن القرآن كثيرا ما يشير بالإشارة الجميلة إلى أغلاط العهدين وتصحيحهما. فإنك ترى القرآن في هذا المقام جرى على رسله في تعليمه الفائق وأورد هذه العبارة في مثله الجمل وسم الخياط فيما يناسبها ولكنه نبه بذلك على أن المعقول الصحيح هو هذا التعليم لا تعليم الأناجيل في الغني. الدكتور: يا عمانوئيل قد ذكر يوم القيامة في العهدين متكررا. فماذا تحصل لك من بيانهما؟

____________

1 ـ مت 19: 23 و 24 ومر 10: 24 و 25 ولو 18: 24 و 25. (*)