الصفحة 440

المعاد الجسماني في العهدين

عمانوئيل: في العدد التاسع عشر من الفصل السادس والعشرين من كتاب أشعيا (تحيي أمواتك تقوم الجثث ترنموا يا سكان التراب) وفي العدد الثاني من الفصل الثاني عشر من كتاب دانيال (وكثيرون من الراقدين في تراب الأرض يقومون هؤلاء إلى الحياة الأبدية وهؤلاء إلى الازدراء الأبدي) وفي الفصل الخامس من إنجيل يوحنا (28 لا تتعجبوا من هذا فإنه تأتي ساعة يسمع جميع الذين في القبور صوته 29 فيخرج الذين فعلوا الصالحات إلى قيامة الحياة والذين عملوا السيئات إلى قيامة الدينونة). وذكرت الأناجيل في مقام الموعظة والانذار أن الجسد كله يلقى في جهنم النار الأبدية (1) وجهنم النار التي لا تطفى حيث دودهم لا يموت والنار لا تطفى (2) ويجمع الملائكة بني المعاثر وفاعلي الإثم ويطرحونهم في أتون النار هناك يكون البكاء وصرير الأسنان (3) وأما من حيث نعيم الأبرار ففي الفصل الثاني والعشرين من لوقا في البشرى للتلاميذ (29 وأنا أجعل لكم كما جعل لي أبي ملكوتا 30 لتأكلوا وتشربوا على مائدتي في ملكوتي وتجلسوا على كراسي تدينون أسباط إسرائيل الاثنى عشر). لكن في أناجيل متى ومرقس ولوقا أن الصدوقيين المنكرين للقيامة جاؤا إلى المسيح لكي يمتحنوه ويغالطوه فسألوه عن المرأة إذا تزوجها سبعة أخوة واحدا بعد موت الآخر لمن تكون زوجة في القيامة؟ فأجاب المسيح على ما في إنجيل متى (4) ومرقس (5) تضلون إذ لا تعرفون الكتب

____________

1 ـ مت 5: 29 و 30. و 18: 8 و 9.

2 ـ مر 9: 43 - 49.

3 ـ مت 13: 41 و 42.

4 ـ مت 22: 29 و 30.

5 ـ مر 2: 24 و 25.(*)


الصفحة 441
وقوة الله. لأنهم متى قاموا من الأموات لا يزوجون ولا يزوجون بلى يكونوا كملائكة في السماوات. وصورة الجواب في إنجيل لوقا هكذا (1) (أبناء هذا الدهر يزوجون ويزوجون ولكن الذين حسبوا أهلا للحصول على ذلك الدهر والقيامة من الأموات لا يزوجون ولا يزوجون إذ لا يستطيعون أن يموتوا أيضا لأنهم مثل الملائكة وهم أبناء الله إذ هم أبناء القيامة).

اليعازر: أين يوجد في الكتب أن القائمين من الأموات لا يزوجون ولا يزوجون بل يكونوا كملائكة السماوات في أي كتاب يوجد هذا لكي يصح توبيخ المسيح للصدوقيين على جهلهم به أين ذلك؟؟ نعم كان ينبغي في تجهيلهم وتوبيخهم بموت الزوج ويصح للمرأة أن تتزوج بالآخر فلا صورة لسؤالكم وإنما هو سؤال جاهل بالتوراة والشريعة ولو قال هذا لكان جوابا بحجة وتوبيخا بمستند محكم. دع هذا ولكن العارف الذي يحتج على سائل ممتحن يلزمه في الأدب والعلم أن يجيبه بحجة واضحة قاطعة. إما ببرهان علمي يرجع إلى البداهة إما بجدل بما يذعن ويعترف به السائل. إذن فما هو معنى قول إنجيل لوقا إن أهل القيامة لا يزوجون ولا يزوجون إذ لا يستطيعون أن يموتوا أيضا وما هو وجه الحجة فيه على السائل. أية مداخلة للزواج بالقدرة على الموت في المستقبل وما معنى قوله إذ لا يستطيعون أن يموتوا أيضا. متى كان موت البشر باستطاعتهم. وما هو وجه التعليل لكونهم أبناء الله وكالملائكة بأنهم أبناء القيامة إن العهد القديم وتعليم المسيح في الأناجيل كلها تصرح بأن الأشرار وعاملي السيئات يكونون من أبناء القيامة أيضا. فهل هؤلاء أيضا أبناء الله وكالملائكة؟؟ عمانوئيل: يا سيدي تبهجني كثيرا عنايتك بمثل هذا النقد وهذا التحقيق وإن كان قد مر بعضه في الجزء الأول صحيفة 137 و 138 ولكن

____________

1 ـ لو 20: 34 - 36. (*)


الصفحة 442
لنستطرد الكلام في شؤون القيامة في العهدين ففي الفصل الخامس عشر من كورنتوش الأولى 42 هكذا قيامة الأموات يزرع في فساد ويقام في عدم فساد 43 يزرع في هوان ويقام في مجد يزرع في ضعف ويقام في قوة 44 يزرع جسما حيوانيا (وفي نسخة نفسيا) ويقام جسما روحانيا. لكن يا والدي ليس من الممكن أن نجعل لهذا الكلام قيامة وشأنا في بيان هذه الحقائق فإنه يقول بعد هذا الكلام من هذا الفصل بسبعة أعداد (هو ذا سر أقوله لكم لا نرقد) (أي لا نموت) كلنا ولكننا كلنا نتغير 52 في لحظة في طرفة عين عند البوق الأخير فإنه سيبوق فيقام الأموات عديمي فساد ونحن نتغير) أين يكون قوله في هذا السر الموهوم وقد مات ورقد هو وكل من خاطبه منذ قرون عديدة. ولئن كان كاتب رسالة كورنتوش هو كاتب رسالة غلاطية فبالحري أن لا يجعل له مقام مع الصادقين ولا مع المؤمنين فكيف نتبع أقواله في هذه الحقائق الغيبية أليس هو القائل في رسالة غلاطية في الفصل الثالث (13 المسيح افتدانا من لعنة الناموس إذ صار لعنة لأجلنا لأنه مكتوب ملعون ملعون كل من علق على خشبة). ألا تذكر يا والدي ما مر في الجزء الأول صحيفة 84 و 85 من نفرتك من هذا الكلام وما بيناه من الجرأة على قدس المسيح ومن الكذب على التوراة وتحريفها والجهل بمفادها الظاهر: وأما ما ذكر في إنجيل متى وإنجيل لوقا أنهم في القيامة لا يزوجون ولا يزوجون بل يكونون كملائكة في السماء أو كملائكة في السموات وكذا ما في إنجيل لوقا فإنه يكفي في عدم الالتفات إليه زيادة على ما ذكرته أنت أن نفس الفصول الذي تضمنت هذا الكلام من الأناجيل الثلاثة قد نسبت إلى قدس المسيح تعليمه وحاشاه بشرك تعدد الأرباب مع تحريف المزامير والوقوع في التناقض كما ذكرناه في الجزء الأول صحيفة 73. وأنظر إلى الجزء الأول من كتاب الهدى صحيفة 197 و 198 ودع عنك ما ذكرنا بعضه في الجزء الأول والثاني وما ذكر في كتاب الهدى مما يدل على وهن العهد الجديد وبراءة ساحة النبوة والحقيقة من الكثير من مضامينه. الشيخ: كثير من الحقائق ما يكثر فيه اللغط وتدخل الجهل والأهواء ولكن جاء في فلسفة القرآن الأدبية وتعليمه الراقي قوله في الآية السابعة عشرة والثامنة عشرة من سورة الزمر المكية (فبشر عباد * الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب) يعلم مضمون الآية وفحواه بأن الانسان العاقل المهدي هو الذي يستمع ما يقال فينظر فيه من ناحية العقل الحر وحال العاقل فيأخذ بالصحيح وأحسنه وله البشرى في ذلك بالكمال والهدى والفوز بالفوائد الكبيرة. يا حبذا لو تلمذ الناس على هذا التعليم وبنوا دينهم وأدبهم على هذا الأساس المحكم الضامن للهدى والكمال والبشرى.

لماذا كان المعاد جسمانيا لا روحانيا فقط

الدكتور: لماذا كان المعاد جسمانيا يقوم في جزائه بالنعيم الجسماني والآلام الجسمانية أفلا يكفي فيه أن يكون روحيا يقوم ببقاء النفس ونعيمها العقلي أو آلامها العقلية. الشيخ: إن من يصل به النظر إلى مثل هذا السؤال ينقطع عليه طريق هذا السؤال وأمثاله. لا وقت لهذا السؤال إلا بعد الانتهاء بالنظر إلى الإذعان بالإله واجب الوجود الغني الذي يستلزم غناه المطلق أن يجري أعماله على حقيقة الحكمة، ومن حكمته أرسال الرسل الصادقين الذين بشروا وأنذروا بما في المعاد الجسماني للمحسنين والمسيئين وإذا كان اعتمادنا في سيرنا على حقيقة المعاد متقوما بالاذعان. بحكمة الله لأجل غناه ووجوه وجوده فإن هذا الاعتماد يوبخنا على هذا السؤال إذا جهلنا وجه الحكمة الخصوصية وينادي بنا ويعلمنا أن نذعن بالحكمة على الاجمال ونقف في وجهها التفصيلي على الجهل العلمي كأكثر الحقائق المحدقة بنا وقد حجبنا عنها جهلنا البشري ولنا الفخر والشرف إذا عرفنا جهلنا بها ولم نخبط العشواء في ظلام الجهل المركب.


الصفحة 443

بعض وجوه الحكمة في كون المعاد جسمانيا

مهما خفي من شئ فلا يخفي شدة ارتباط النفس بالجسم حال الحياة واتحادهما في الائتلاف والأنانية يقول الانسان: (أنا) مشيرا إلى هيكله الحي بروحه وجسمه بإشارة وحدانية بلا نظر إلى مائز في جهته الجسمانية أو الروحانية. ولشدة هذا الارتباط والاتحاد ترى الانسان إذا أراد التعبير عن أحد هذين الأليفين المتحدين يعبر عن أنانيته بالآخر فتارة يقول جسمي وتارة يقول نفسي. يجد أن ملاذه الروحانية ينتعش بها الجسم والروح وكذا الملاذ الجسمانية ويرى الآلام الجسمانية يتأثر بها الجسم والروح وكذا الآلام الروحانية. يعلم نوع الانسان أن جسمه سوف تفارقه الحياة وتنفصل عنه الروح فيعود جمادا يتلاعب به البلى. وإنك ترى نوع الانسان بحسب طبعه الأولي ومنهم من لا يذعن بخلود النفس كيف يحاذر في حياته على حال جسمه فيما بعد الموت مهما أمكنه ويغار عليه مما يمس كرامته ولا يهون عليه أن يكون معرضا للاستهانة والاهانة والاستهزاء وتناهب الوحوش له ولا يستسلم إلا لما استسلم إليه نوع الانسان كرها بل يود تحسين قبره وقربه من أهله وهذا هو الذي دفع المصريين وكثيرا من القدماء وبعض من هو بعدهم إلى تعاطي التحنيط وإيداع الجثث في المحافظ المتينة والمواقع التي تدافع يسيرا إسراع البلى. ولئن سمعت ببعض من يوصي بحرق جثته أو يرضى به فإنما ذلك من مباد خيلت له أن في ذلك حفظا لكرامتها ودفاعا عن ابتلائها بالمحاذير الكبيرة كمن يرضى بالعملية الجراحية دفعا لما هو أعظم منها من المحاذير المهددة لحياته. إذا فالحري والأحرى في غاية معاد الانسان وآثاره أن ترتبط بما تقوم به أنانية الانسان.

تلك الأنانية التي تكون آثار المعاد عاقبة لأعمالها. وأيضا فإن الغاية الكريمة من المعاد تلك الغاية التي تقوم بخلق الانسان مختارا في أعماله لينال الغاية الحميدة في المعاد بابتهاج الأهلية وكرامة الاستحقاق والكمال والطهارة العملية الاختيارية هذه الغاية اقتضت أن يعان نوع الانسان على تحصيلها بترغيب البشرى وزاجر التهديد على أكمل الوجوه التي لا تسلب الاختيار وهل يخفى أن أكمل الترغيب والزجر وأقربه إلى حصولي الغاية هو البشرى والتهديد بما يراه نوع الانسان راجعا إلى ما تقوم به أنانيته التي يعرفها ويرغب في كرامتها ويكره مهانتها وإنك ترى نوع الانسان يرى أنانيته التي يحافظ عليها وعلى كرامتها تقوم بهيكله الحي الذي يفرض تحليله بالتفهم العميق إلى جسم ونفس. فالأحرى بالحكمة واللطف وكمال الصدق أن يرجع صدق الترغيب والزجر ومصداقهما إلى ما تقوم به الأنانية التي يعرفها نوع الانسان.

وأيضا فإن كمال الكرامة (كمال الابتهاج بها إنما يحصلان باجتماع الكرامة المادية الجسمانية والكرامة الروحية ولا ريب أن الاحرى بالرحمة والغاية لخلق الانسان أن تجتمع له سعادة الكرامتين وابتهاجه بهما. رمزي: إذ قد وصل الكلام إلى ههنا وأن معاد الانسان يكون بهيكله المادي الحي الحاصل من اتحاد الروح بالجسم فبالضرورة تكون احتياجاتنا في المعاد مادية أكل وشرب نحفظ به كياننا وقرار مادي تستقر عليه أجسامنا. وقد قال بعض (1) إنا نضطر إلى أن نحكم بل نجزم بأن جزاء الآخرة لا يمكن أن يكون ماديا وأن الانسان لا يمكن أن يلج باب

____________

1 ـ في كتاب ماهية النفس صحيفة 48. (*)


الصفحة 444
السعادة الأبدية بالنفس والجسد وإليك البرهان: إن جزاء الصالحين الأبرار كما تشهد به الكتب الإلهية وكما يقر به جميع أرباب الأديان المعروفة بلا استثناء إنما يكون في نعيم الملكوت حيث يقاسمون الله وملائكته وقديسيه سعادتهم الأبدية وتشهد تلك الكتب بأن الله روح لا تضمها مادة فليس هذه لله وملائكته محلا معينا ترتكز عليه المادة.

عمانوئيل: يا رمزي أنت تعرف وستسمع في صحيفة 533 و 534 ما وقع فيه في هذا المقام من تعتمد في كلامك على مكتوبه وما لقحم فيه من مخالفة الحقيقة الواضحة ومن التناقض الصريح عجبا للانسان المتقحم! ويا رحمة لانحطاط البرهان المسكين يا رمزي أي كتاب إلهي يقول بلفظه أو مأل معناه أن نعيم الصالحين يكون في الآخرة بنحو تقدس الله عن المادة وبنحو كماله الذاتي وغناه وأبديته ومعنى وجوب وجوده وأنهم يشاركون الله ويقاسمونه في قدسه ووجوب وجوده وكماله الإلهي.

أليس من الممكن أن ينالوا من مواهب الله وأعمال قدرته سعادة أبدية تناسب جسمانيتهم بدون أن يستلبوا مقام جلال الله وقدسه ووجوب وجوده ويقاسموه في ذلك؟ يا للعجب هذه المادة المقرونة بفقر الامكان وتقلب الصور يسمح لها بعض الناس أن تكون أزلية أبدية من دون اعتماد على واجب الوجود القادر ولا يسمحون لها بالخلود بقدرة الإله الأبدي القادر واجب الوجود. كيف ينسب إلى الكتب الإلهية وأرباب الأديان ما نسبه؟ أو ليس هذا قرآن المسلمين يقول في الآية الخامسة والعشرين من سورة البقرة (وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابها ولهم أزواج مطهرة وهم فيها خالدون) ويقول في سورة الواقعة المكية 12 (في جنات النعيم) والآيات، 15 - 26 (على سرر موضونة * متكئين عليها متقابلين * يطوف عليهم ولدان مخلدون * بأكواب وأباريق وكأس من معين * لا يصدعون عنها ولا ينزفون * وفاكهة مما يتخيرون * ولحم طير مما يشتهون * وحور عين * كأمثال اللؤلؤ. المكنون * جزاء بما كانوا يعملون * لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما * إلا قليلا سلاما سلاما) ويقول في سورة المرسلات 41 - 43 (إن المتقين في ظلال وعيون * وفواكه مما يشتهون * كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون). وانظر في سورة الصافات من الآية الأربعين إلى الثامنة والأربعين. وسورة الزخرف من الآية السبعين إلى الثالثة والسبعين. وسورة الطور من الآية السابعة عشر إلى الخامسة والعشرين وسورة الحاقة في الآيتين الثانية والعشرين والثالثة والعشرين إلى غير ذلك مما في القرآن من ذكر نعيم المعاد الجسماني. رمزي: ها هم المسلمون الذين لا يخفى مقامهم الكبير في أرباب الأديان المعروفة تراهم بأجمعهم يقولون في أمر القيامة بما يقول به قرآنهم من النعيم الجسماني (لا تعد منهم البابيين والبهائيين فإنهم ينكرون القيامة بتاتا على طبق المذهب المادي الإلحادي كما تصرح بذلك كتب الباب والبهاء).

يا رمزي ويقول هذا القائل (1) وكذا العقاب فإنه لا بد وأن يكون من نوع المكافآت (أي لا بد من أن يكون جسمانيا لأنه مكافأة للانسان الجسماني الذي عمل الشر) ولا يمكن أن يكون جسمانيا لأن سكان جهنم وأريد بهم الأبالسة والشياطين الذين هم الأشرار وأساس الغواية على عمل الشر كما تدل عليه الكتب المذكورة هؤلاء ليسوا سوى ملائكة وأرواحا حكم الله عليها بالعذاب فليس لهذه الأرواح محلا مخصوصا ولا يمكن أن تحل على مادة فالعقاب الذي ينالهم لا يكون إلا روحيا. وهذا

____________

1 ـ كتاب ماهية النفس صحيفة 49. (*)


الصفحة 445
العقاب الروحي وجهنم التي ليس محلا ماديا كيف يرتبط بالجسم المادي ويعاقب به.

عمانوئيل: لقد أصلحت عبارة صاحبك في ظاهرها. ولكن هل سمحت بالالتفات إلى معناها واستدلالها؟ لم تنصف نفسك ولا أدبك إذا لم تلتفت إليها يا رمزي، الأديان تقول: إن جهنم نار مادية في محل مادي وإن عقاب الانسان الأثيم في جهنم هو مادي وها هي الكتب بمرأى من الناس وبذلك يقول أهل الأديان ولئن كان هذا العقاب ينال الأبالسة والشياطين فلأنها ليست أرواحا مجردة عن المادة والصورة بحيث لا تحل محلا مخصوصا ولا يمكن أن تحل على مادة بل هي مادية وإن كانت بنحو يخالف مادية البشر ولتكن مثل الغازات بل قل مثل القوة بل قل مثل الأثير ها هي كتب الأديان المعروفة تتثبت للشياطين والأبالسة أعمالا من نحو الأعمال المادية كالدخول والخروج والهبوط والهلاك ولهم مسكن ومستقر مادي تحل عليه ويطرحون في جهنم فمن أين لهذا الكاتب أن الأبالسة أرواح مجردة عن المادة والصورة ليس لها محل مخصوص ولا يمكن أن تحل على المادة؟ إن كان هذا الكاتب وأصحابه يرجعون في هذا الشأن إلى الكتب الدينية فهذه صراحة الكتب الدينية. وإن كان يعتمد على مبادئ الماديين فإن الماديين ينكرون وجود الأرواح المجردة سواء كانت أبالسة وشياطين أم ملائكة أخيار أو أشرار. فعلى أي مبدأ يفتي هذا الكاتب ويستنتج من فتواه ويجادل؟ يا للعجب لو تعذر على هذا الرجل أن يفهم أنه يمكن أن تعذب الشياطين بنار مادية وعذاب مادي في محل مخصوص لما كان له أن يضطهد صراحة الكتب الدينية بأن الانسان الأثيم يعاقب في الآخرة بنار مادية في محل مخصوص.

اليعازر: يا رمزي كم ينبغي أن أقول يا للأسف على الأدب! ترى الرجل يريد أن يجادل أهل الأديان بكتبهم الدينية لكي يجحد القيامة والمعاد في الآخرة وحاصل مغالطته أن يقول (1) تارة إن الدلائل الموجودة في كتب الأديان على كون الانسان يلاقي جزاء أعماله في حالة مشتركة بين الروح والمادة والتي تؤيد أن جزاء الآخرة ماديا أزيد منه روحيا أكثر من أن تحصى). وتارة أخرى ينسب إلى الكتب الإلهية وأصحاب الأديان المعروفة بلا استثناء (2) شيئا لا يمكن معه المعاد الجسماني مع أن صراحة الكتب الإلهية وتعاليم الأديان المعروفة تدحر هذه النسبة خاسئة. رجل تبعثه نزعته إلى أمر فيتستر بأنه يقوم (3) بأن يمثل دور واحد من الفلاسفة فيتكلم بلسانهم وما عندهم من الشكوك إلى آخره - أفلا يشعر بأن الفلاسفة الذين يشير إليهم لا موقف لهم من الإلهيين في شأن المعاد فإن موقف الإلهيين في حقيقة المعاد إنما هو في مقام بعد الخطوة الأولى أعني الخطوة الأساسية أساس المعارف الدينية والنور الذي يوقف على الحقايق بأجلى مظاهرها ويدعم بنيانها بدعائم براهينه وحججه تلك خطوة العقل بدلائله الفطرية الأولية واعتباراته الحسية والوجدانية إلى اليقين بوجود الإله الخالق القادر واجب الوجود الغني العليم الحكيم وإنه بقدرته وحكمته وعلمه يرسل الرسل الصادقين العارفين بوحيه لكي يهدوا البشر إلى مناهج الصلاح ومواقف الحقائق ويكونوا لعقول البشر بمنزلة النظارات المكبرة والمقربة يجلون الحقائق بمجاليها. تجد الممثل لأحد الفلاسفة يتكلم في أمر المعاد بإحدى نزعتين: النزعة الأولى: وهي النزعة التي تغمز وترمز إلى جحود الإلهية والقدرة. النزعة التي يقول من جرائها أنه لا وسيلة لإدراك الحقائق

____________

1 ـ كتاب ماهية النفس صحيفة 45.

2 ـ صحيفة 48.

3 ـ صحيفة 46. (*)


الصفحة 446
الروحية سوى الحدس والافتراض وأنها ليست سوى بنات التعليل التي لم يقم على إثباتها دليل حسي ولم تكتسب صفة الحقائق الراهنة إلا لإحجام العقول وعجزها عن تعليل ينافيه انتهى تلك النزعة التي يقول من جرائها في أمر المعاد الجسماني (1). إن جمع تراب الانسان بعد موته لي إعادته إلى حاله قبل الموت وإصعاده إلى أعالي السماوات ويبنى له مسكن في الفضاء كل واحد من هذه يحتاج افتراضه إلى افتراض أعجوبة سماوية ولكن الفيلسوف الذي يطلب الحقائق الملموسة لا يكتفي عن الأدلة بالأعاجيب. يا رمزي هل ترى رجلا لا يعرف أن الإلهي لا يقابل الفيلسوف في حجة المعاد بالأعاجيب وإنما يحتج عليه بدلالة الكتب الإلهية والأدلة النبوية بعد ما يمهد دلالتها بالحجة على الإلهية والنبوة. فإن شاء الفيلسوف أن يروغ إلى الاستبعاد والاستهزاء الذي يضطهد الأدب والشرف ويضرب المثل بالعظام والرميم وجمع تراب الانسان وإعادته وإصعاده إلى أعالي السماوات وبناء مسكن له في السماوات فإن الإلهي حينئذ يداري استهزائه ويوبخ مغالطته ويروض من جحوده باستلفاته إلى أن ذلك كله ليس بعجيب ولا مستصعب ممن خلق الانسان والحيوان من نطفة وخلق السماوات والأرض وما فيهما بهذا النظام الباهر ولم نتسرع إلى الاذعان به لمجرد إمكانه وعدم صعوبته على خالق البشر والسماوات والأرض وما فيهما بل دلنا على ذلك كشف النبوات التي برهن الحس والعقل على صدقها في تعليمها. والنزعة الثانية. هي التي من جرائها يقتحم التناقض والتقول على الكتب الإلهية وأهل الأديان المعروفة مع أن الأمر مكشوف لكل راء وسامع.

____________

1 ـ كتاب ماهية النفس صحيفة 49. (*)


الصفحة 447

النعيمان الجسماني والروحاني

الشيخ: لبيان الحقيقة بقية كاد طول الكلام أن يحجبها بستار الاغفال وهذه البقية هي التي تنبه على ميزة الحقيقة بحسنها الجامع وبهجتها المعشوقة: نرى الانسان في هذه الحياة له لذتان ونعيمان، نعيم جسماني قائم بمرغوبات الجسم وشهواته ومروحاته، ونعيم روحي تبتهج به النفس وترتاح إليه وهو إدراكها للحقائق والمعقولات الكريمة والمعارف العالية وابتهاجها بكمالاتها وملكاتها الراقية وكريم مقامها في رفعة العز والاحترام وسلامتها من انحطاط النقائض ومهانة الانتقاص والتوبيخ. فالصالح المستحق لنعيم الآخرة قد أعد له الفوز بالنعيمين وبشر بهما. النعيم الجسماني والنعيم الروحاني الذي تشتاق إليه النفس وترغب فيه ذلك اليوم. وإنك ترى نوع البشر في دار الدنيا يكون نظرهم إلى النعيم الجسماني ورغبتهم فيه أكثر من الروحاني ولأجل ذلك جرت حكمة القرآن الكريم على كثرة بيانه لمجد النعيم الجسماني في الآخرة أداء لحق الاستصلاح والترغيب في الصلاح بنحو يشوق الفكرة النوعية البشرية. ومع ذلك قد أعطي النعيم الروحي في الآخرة حقه من البشري والترغيب به وبيان مجده الكبير بوجهته الحقيقية المطلوبة في ذلك اليوم. يرغب الانسان في حفظ مقامه ومرتبه شرفه وأن يوفى حقه من التكريم والاجلال فبشر بذلك في الآية السابعة والأربعين من سورة الحجر المكية بقوله تعالى: (ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين) كل من أهل النعيم يوفي صاحبه حقه من الاحترام ويرضى كل منهم بمقدار حقه. وفي الآية الثالثة والأربعين من سورة الأعراف: (ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها) بفضيلة صلاحكم واستحقاق كمالكم بأعمالكم واجتنابكم الرذائل فكانت كرامة تكريم ودلالة كمال وجزاء (بما كنتم تعملون).

وفي الآية الثالثة والسبعين من سورة الزمر المكية (قال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين) بشرى بعناية خزنة الجنة أمناء تشريفاتها وتكريماتها. ومثلها البشرى بما في الآيتين الثالثة والرابعة بعد العشرين من سورة الرعد المكية (والملائكة يدخلون عليهم من كل باب * سلام عليكم بما صبرتهم فنعم عقبى الدار). وأرقى من هذه البشرى قوله تعالى في الآية الثامنة والخمسين من سورة يس (سلام قولا من رب رحيم) قولا بتحية وتكريم من الرب الرحيم وفي السادسة والأربعين من سورة الحجر (ادخلوها بسلام آمنين) من كل مخوف يمس الكرامة في نعيم الجسم والنفس. وقوله تعالى في الآية الثانية والسبعين من سورة التوبة (وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن و) أعلى من ذلك هو النعيم الروحي الكبير وهو إدراك الكمال البهيج والتكريم المنوه به وأحسن نتائج الكمال ودلائله وهو (رضوان من الله أكبر) ما يتصور من النعيم الروحي لدى العارف (ذلك الفوز العظيم) إذا أحس الانسان برضوان الله فقد عرف ما هو عليه في الكمان ولياقته لأن يرضى الله عنه وذلك أقصى آمال العارفين في الابتهاج والنعيم الروحي والسعادة العظمى. والبشرى الجامعة في ذلك قوله تعالى في الآية الثالثة عشر من سورة الانفطار والثانية والعشرين من سورة المطففين (إن الأبرار لفي نعيم) من دون تخصيص بالنعيم الجسماني. وفي الآية الخامسة والثلاثين من سورة (ق) في ذكر الجنة (لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد) لم يعط القرآن حقه من الفهم والانصاف من يقول. إن بشرى القرآن للأبرار في جزاء الآخرة إنما هي الملاذ الجسمانية.

المغالطات في المعاد الجسماني وجهنم

رمزي: قد بقيت عندي من تلك الأناشيد بقية فهل تسمحون بإنشادها تمحيصا للشبهات؟ قد قيل إنه لو كان لجهنم محل مادي معلوم وفيه الملايين من الأجساد فلا بد أن يكون هذا المحل العظيم عرضة للاكتشاف.

عمانوئيل: هل قال لك أصحاب الأديان إن جهنم وجهنم النار التي لا تطفى هي في إحدى القارات من أرضنا أوفي أحد الجزائر لكي تقول قولك هذا؟؟ لعلك تقدر في أمانيك أنا إذا قلنا لك إن جهنم هي في غير أرضنا هذه إنك تستفحل وتقول عجبا ومن هو الذي يوصل البشر الخاطئين من أرضنا هذه إلى جهنم حتى كأنك تؤمل أنه لا يقدر أحد أن يقول لك اسمح بذلك لزوابع الأثير أو زوابع الجواهر الفردة أو للقوة التي أدارت السيارات والمذنبات على شموسها كما يقال في الهيئة الجديدة. ولولا أن أصحاب الشجاعة الأدبية يغتاظون؟؟ لقلت لهم اسمحوا بذلك للإله الخالق للعالم وما فيه من النظام الباهر.

رمزي: ولو قيل إن هذا المحل تحت الأرض أو فوقها لكنا نرى الأجساد تغلغل تحت الأرض أو تحلق إلى العلاء مع إنا نرى الأجساد يعتريها الفساد والبوار بعد الموت فتتلاشى وتباد.


الصفحة 448
عمانوئيل: لماذا نسيت يا رمزي أن كلامنا إنما هو في يوم المعاد يوم تعاد الأجسام بعد البلى. أذكر، وافهم أنه لم يقل أحد إن الأموات الخطاة ينقلون من حين موتهم إلى جهنم القيامة ولا يدخلون القبر ولا يعتري أجسادهم الفساد. أراك تؤكد في قولك (تعتريها الفساد والبوار فتتلاشى وتباد) إن كان لك في ذلك غرض فإن القرآن يقول لك (وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم * قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم) (1) هل بقيت بقية من أناشيدك يا رمزي.

المغالطات في المعاد ومسؤولية النفس

رمزي: قد تكلمنا فيما مضى من الوجهة الدينية ونتكلم فيما يأتي من الوجهة الفلسفية فنقول لا يمكن مسؤولية النفس وحدها فإن النفس لا تأتي بعمل صالح أو قبيح قبل أن تلبس المادة. فلماذا تنسب إليها الأعمال التي فعلتها مشتركة مع الجسد هذا لو كان لها مزية الاشتراك مع الجسد في إبراز الأعمال ولكن ليس للنفس دخل في الأعمال فإن رأينا فيما سبق أن فعل النفس لا يفرق بشئ عن فعل البخار أي أنه مقصود على فعل الحركة لا غير وأن أعمال النفس تابعة لتركيب المادة فما فخر النفس وما ذنبها.

عمانوئيل: هل تكلمتم فيما مضى من الوجهة الدينية إلا بأن نسبتم إلى الكتب الإلهية ما تصرح بخلافه وإلى أهل الأديان ما يتبرأون منه. وإن النظر في مصادر كلماتك يعرفنا أن الحقائق الفلسفية قد لقيت منكم مثل ما لقيته الحقائق الدينية ويا للأسف. ومهما يكن من ذلك فإنا من حيث المعاد في يوم القيامة لا تهمنا هذه الترنيمة الباردة من أناشيدك فإن الكتب الإلهية دلت بصراحتها الواضحة المتكررة على أن المسؤولية في يوم القيامة تتعلق بالانسان، الخاطئ بجسده وروحه. كما عليه العموم من أهل الأديان المعروفة. ولا علينا من تأويل المؤلين الذين يمزجون الدين بتعاليم أجنبية. قد سبق في صحيفة 83 - 107 ما يدل حر النفس والشعور على أن النفس جوهر قائم بذاته له ميزة الادراك والشعور والإرادة وتدبير حياة الجسد وتسخيره في أعماله الآلية.

____________

1 ـ سورة يس / الآيتان: 78 و 79. (*)


الصفحة 449
وإن لها جهة تراعي بها شؤون الجسد المتحدة به. ولها جهة أخرى عقلية تراعي بها الحقائق الصالحة والصلاح الشخصي والنوعي وكثيرا ما ترجح الحقائق الصالحة على شؤون الجسد واحتياجاته الماسة والتي ترجع بسبب الاتحاد إلى كونها احتياجات النفس ومقاصد أهوائها. بل كثيرا ما تفدي شؤون الجسد بل وحياته لأجل تلك الحقائق مع الحقائق مع الافتخار بالفضيلة وإحراز الموفقية لذلك الفداء وترجيحه واختياره. وكثيرا ما تنال بذلك فضيلة الاستحسان والمديح.

في النفس والعقل

لا ينبغي للمناقشات في الحيثيات أن تقف أمام الحقائق الملموسة بيد الادراك الأولي والمنظورة بعين البصيرة. بل اللازم في فلسفة الحقائق أن نمشي مع واجبها العلمي لتحصيل النتائج المطلوبة جنبا لجنب. إذن فلا يهمنا في مقامنا هذا أن نوسع نطاق البحث لكي نقول إن العقل هو جوهر قائم بذاته ملازم في مرافقته للنفس لتستهدي به إلى الحقائق الصالحة ويكون دليلا مرشدا لها في سبيل هداها. أو لكي تقول: إن ذات النفس تسمى نفسا باعتبار تمايلها إلى شخصيات الجسد وتحرك إرادتها بأهوائه من دون اعتناء لها بما تدركه من الحقائق الصالحة. وتسمى عقلا باعتبار إدراكها للحقائق وجريان إرادتها وأعمالها على مقتضى تلك الحقائق وإدراكها. لا مساس لهذا البحث المتشعب ونتائجه في تشويش ما نريد بيانه أو في تنويع ما نتطلبه من النتائج.

في تعليل الأعمال والأفعال

يتوهم المتوهم أو يغالط المغالط بأن أعمال الانسان وتروكه معللة بأمور جسدية. أما طبيعية للجسد كالمزاج والسحنة وأما كسبية كالأخلاق المكتسبة من العادة أو مقتضى البيئة والمحل أو المحيط كالقرين والخليط والأحوال ونحو ذلك. ولكن صدق الاعتبار والاشراف على الحقائق الراهنة يجلو غبار الأوهام ويضمحل به سراب المغالطات. وإليك بعض ما ينبهك من الغفلات.


الصفحة 450

المزاج وأعوانه

ترى ما لا يحصى من الشبان والكهول ذوي المزاج الدموي الحاد القوي والراحة والقوة والعيش الرغيد وهم غير مزوجين وفي شدة الشوق والحاجة إلى مقاربة النساء وفي موقع وحرفة يكثر فيها ابتلائهم بالنساء الجميلات المتبرجات والداعيات إلى أنفسهن بمغوى الكلام السحار ومغازلة الإشارات ومخادعة الجمال الفتان وتراهم مع ذلك على جانب كبير من العفة والتقوى. تمثل له عفته وتقواه المرأة الأجنبية مثال الحجارة وتجعل سحر كلامها ومخادعة إشاراتها كالرقم على الماء يقضون على ذلك السنين والازمان وترى الكثير من المتقدمين بالسن ذوي المزاج البلغمي والقوة الساقطة وهم في غنى عن الزنا بوجود نسائهم ومع ذلك يتطلبون ويقتحمون في شناعته وخسارته ومتاعب تحصيله ورذالة تطلبه ومضار عاقبته. يتسارعون إليه سواء حصلت لهم امرأة جميلة أو قبيحة. وكم ترى بين الفريقين المذكورين من ذوي الدرجات المختلفة في العفة والزنا. أما إن الالتفات إلى ذلك يعرف الحر أن العفة والتقوى، والفساد و الزنا ليست معلولة للمزاج ولا من لوازمه الطبيعة. كم وكم ترى من ذوي المزاج العصبي من لا تستفزه الحدة والغضب ولا التجبر والكبرياء ولا نخوة الغيرة ولا تبعثه على ما يمنع عنه الشرف والفضيلة والعقل والشرع. بل تراه يكون في جنب ذلك ألين ما يكون جانبا وأحسن ما يكون حلما وهدوا وصلاحا. وكم ترى من لا يكون مزاجه عصبانيا وهو منغمس بالأعمال التي يضطهد بها النواميس العقلية والشرعية وتشمئز منها الانسانية والصلاح والفضيلة. وكم ترى بين الفريقين من ذوي الدرجات المختلفة في الأحوال والأعمال. وكم ترى صاحب المزاج الخاص ينقلب في أعماله وأخلاقه إلى ضدها من دون تغير في مزاجه وطبيعياته.

السحنة ودلالتها الطبيعية

أنظر إلى صنف من الأصناف التي نعدها كما ذكروها. أنظر إلى قصار القامة. وإلى ذوي الأنوف الطويلة والعيون الزرق. وإلى ذوي العيون السود اللامعة مع الاستدارة والرطوبة، والأنوف والشفاه السمكية والأفواه الواسعة. وإلى ذوي الوجوه المنقبضة والعيون المجوفة والحواجب السمكية المتنافرة والشفاه الرقيقة والأصوات الخشنة. وإلى ذوي الأجسام السمينة الضخمة.. وإلى طوال القامة ونحاف الأبدان ومتوسطيها. وإلى الذين تخالف سحنتهم هذه الأوصاف المذكورة أنظر إلى هذه الأصناف وتتبعها فإنك تجد في كل صنف منها بكثرة من هو خداع فتان أو ماكر أو فاسق أو ردي قاس أو صالح ممتاز بالأخلاق الفاضلة أو متوسط في أعماله وأحواله. وتجد في كل صنف كثيرا ممن هو ليس بخداع ولا فتان ولا ماكر ولا فاسق ولا ردي قاس ولا صالح حليم. لا تجد لما يزعمونه من آثار السحنة أثرا مطردا ولو في الغالب بل الكل منقوض بالشطر الوافر والأوفر بحيث يتضح لك أن أعمال الناس وأخلاقهم وملكاتهم ليست معلولة لأحوال أو أوضاع جسدية وأمور طبيعية في الجسد، لا تعتمد على ذلك في شخص إلا وتراه منقوضا في شخص آخر بل إنك كثيرا ما ترى الشخص الواحد يكون على أعماله وأخلاقه مدة ثم ينقلب إلى غيرها أو ضدها من غير تغيير في سحنته.


الصفحة 451

أوهام التعليل بالحاجة والبيئة

كم ترى الكثير من الفقراء الأقوياء القادرين على السرقة والاختلاس تمسهم الحاجة الشديدة إلى الشئ وهم قادرون على اختلاسه ومع ذلك تراهم يتورعون ولا يأخذون المال إلا من حله ومتاعب الاكتساب والأعمال. كم من فقير محتاج وجد لقطة من ذهب أو فضة مسكوك وغير مسكوك أو غير ذلك فلا يأخذ منه لحاجته شيئا، بل يتحمل فوق ذلك كلفة التعريف به والطلب لصاحبه بأنواع الوسائل.

وكم ترى من غني يقطع الطريق أو يقتحم بيوت الناس ومخازنهم ويقدم على قتل النفوس لأجل استلاب أموال الناس وسرقتها.

وكم تجد من غني مثر يغالط العمال الفقراء بالحساب ويختلس من أجورهم الفلس وأشباهه يقطع ذلك من أجور متاعبهم وأقوات عيالهم وأطفالهم.


الصفحة 452

أوهام التعليل بالبيئة أو المحيط

أنظر إلى المدن الصالحة نوعا والقرى الصالحة نوعا والأحياء الصالحة نوعا والبيوت الصالحة نوعا فكم ترى فيها من المختارين للفساد وكم ترى تفاوتهم في درجاته إلى أن يبلغ بعضهم أقبح الانغماس بالفساد ثم أنظر إلى المدن والقرى والأحياء والبيوت التي يغلب فيها الفساد فكم ترى فيها من المختارين للصلاح وكم ترى تفاوتهم في درجاته إلى أن يبلغ بعضهم درجات الكمال العالية، وأنعم نظرك في الشعوب، ومن تجمعهم إلفة المصانع والحرف ونحو ذلك فكم ترى فيهم من الاختلاف والصلاح والفساد.

من تجتمع فيه التعليلات الموهومة

وانظر إلى كل صنف متساو بالمزاج والسحنة والمحيط والبيئة مما تتساوى فيه أفراده تمام المساواة ثم انظر كيف تختلف أفراده في الأعمال الصالحة والردية بدرجات مختلفة يصل اختلافها إلى البعد الشاسع. كم وكم ترى الشخص الواحد يمضي له زمان وهو على مزاج واحد وسحنة واحدة ومحيط واحد وحال واحد وبيئة واحدة ويكون في شطر من ذلك الزمان ذا أعمال صالحة وفي شطر منه ذا أعمال ردية يتغير من شأن إلى ضده. وكم تراهم يتفاوتون في هذا التغير بدرجات مختلفة. ترى من ذوي القامات الطويلة والأجسام السمينة الضخمة والأمزجة الليمفاوية (البلغمية) والسحنة التي ينسبون إليها الصلاح وممن لا يقدر لذاته رفعة شرف ولا كرامة محل. تراه إذا مست شخصيته أدنى معاملة من الحق يتقحم الجرائم القبيحة في الانتصار لباطله ويتهور في الانتقام ويتجاوز الحدود. وكم ترى من دموي عصباني شاب مقتدر رفيع الشرف عزيز المقام يعتدي عليه ظلما من هو دونه وهو قادر على الانتقام يأمن من يكثر الموانع ولكنه يصفح عن الانتصار لشخصيته وخصوصية مظلوميته ويتمسك بفضيلة العفو وشرف الهدو وكرامة الصلاح وكثير من هؤلاء من تبعثه عاطفة الاصلاح إلى استصلاح ظالمه بالموعظة والارشاد بلين الكلام وأمارات النصح والحنان إن ظن فيه خيرا وتأثرا بالموعظة. وكم وكم بين كل فريق وقرينه ممن ذكرنا وبين الأشخاص بحسب أزمانهم من درجات متفاوتة لا تراها ترتبط بمزاج ولا سحنة ولا حاجة ولا بيئة ولا محيط ولا حال ولا مقدار من الغضب ولا مقدار من الشهوة، لا تقدر أن تربط تعليلها بشئ من ذلك وستسمع لذلك بعون الله بقية إيضاح. ليس ما ذكرناه وفصلنا الإشارة إليه محجوبا بالستار، ولا مما يحتاج إلى رصد فلكي، أو تجول رحالة، كله مكشوف للعيان تجد مصاديقه بكثرة حتى في أهل المدينة والقرية. لماذا يكون ذلك؟ وكيف يكون ذلك؟ وكيف يكون معلولا للجسديات، إذن فلماذا يتخلف التعليل هذا التخلف الذي لا يحد، كيف تتخلف المعلولات عن عللها الطبيعية.

رمزي: بقيت كلمة أقولها كما قالوها أقولها تمحيصا للحقيقة: خذ رجلا زانيا من عاشقي سادوم وعمورة (أي مدينتي قوم لوط) ثم اخصه أو اسقه دواء يميت شهوته ثم أطلقه فإن عاد إلى فسقه وفجوره كان دليلا على أن الميل الزنائي هو هوى من أهواء النفس أما إذا رأيناه يكون أعف من يوسف أفلا يكون ذلك برهانا على أن المزاج الجسدي هو الحاكم على أعمال الانسان.


الصفحة 453
عمانوئيل: لماذا غاب عنك أن الزنا من أعمال النفس الآلية وأن إرادة النفس له إذا اقتضتها وجهة التصور إنما تكون من وجدان النفس للشهوة بواسطة اتحاد النفس بالبدن وارتباطها به. تتحرك قوة الجسد فتشتهي النفس فتريد فتحرك الأعضاء على عمل الزنا، وكيف تشتهي النفس إذا بطلت قوة الجسد وكيف تريد ما لم يمكن إعماله ولا تجد له أدنى ميل ولا آلة. إذا لم يكن لك ولد فإنك لا تريد أن تسرق له مزمارا يزمر به لكي تستريح من هياجه ومطالبته بالمزمار.

وأما إذا كان لك ولد يطالبك بالمزمار فليس من اللازم الطبيعي أن تكون سارق مزامير لأجل تسكيته بل إنك بحسب وجهة تصورك إما أن تكون سارق مزامير سواء كنت متمكنا من الشراء أم لا وإما أن تشتري له بالحلال ما يسكن هياجه وإما أن تعرض عنه وهو يهدأ أخيرا. هذا مثال الزاني الذي ذكرته في حال إخصائه وفحولته. أما قول القائل إنه يكون عند إخصائه أعف من يوسف فهو كلام من لا يعرف للعفة معنى. ليست العفة عدم الفعل عند عدم القدرة وإنما العفة هي ترفع النفس الشريفة بتصوراتها الراقية عن العمل القبيح مع القدرة عليه ووجدان شهوته.

الأخلاق والتفكير

رمزي: إن الانسان يكتسب أخلاقا تبعثه على ما يلائمها من الأعمال فما هو القول في هذا الموضوع وهل يبقى مع بعث الأخلاق مسؤولية على النفس وهل الأخلاق نفسية أو جسدية؟ عمانوئيل: كأنك سمعت من بعض الكاتبين قولهم: إن الخلق لا يتغير فحسبت إنه يلجأ على الأعمال فتقول إذن لا محل للمسؤولية العادلة المعقولة مع الالجاء. نعم لا مسؤولية مع الالجاء ولكن من أين تقدر أن تكابر العيان والخبرة الشاهدين على أن الخلق لا يلجأ ولا يضطر على مناسباته من الأعمال بل نجده كثيرا ما يبطل أثره بحسب الدواعي المزاحمة له في التصور والاختيار وكثيرا ما يتعدل أو يتغير إلى ضده دفعة أو تدريجا بسرعة أو ببطء بحسب ما لأسباب التغيير من القوة أو الضعف.


الصفحة 454
الشيخ: إذا حررت فكرك وأمعنت النظر لم تجد الخلق إلا نتيجة من أمور.

(منها) حسن التفكير والاسترشاد بالعقل وتعاليم الهدى بحيث يكون وقوف التصور على العمل الصالح والترك الصالح بسبب الاذعان بحسنه واستجابة للترجيح بالإرادة.

وبالنظر إلى غلبة ذلك في نوع من الأفعال والتروك يسمى خلقا خاصا كالسخاء والحلم والرحمة والعفة.

وبالنظر إلى نوع الصالحات من الأفعال والتروك يكون كمالا وتقوى. (ومنها) التساهل في التفكير وذلك بأن يترك وجهة تصوره منصرفة نحو فعل أو ترك فيه ملائمة للحالة الجسدية ولا يعطي التصور حقه في التوجه إلى ما في ذلك الفعل أو الترك من المضار العقلية الجسدية ولا إلى ما هو الصالح الأهم من المصالح العقلية أو من المصالح الجسدية.