الصفحة 455

بل يسترسل بوجهة تفكيره للنزعة الجسدية الحمقاء أو لقرين السوء أو لغير ذلك من الجهات ويقف عند ذلك ويعرض بوجهة تفكيره وتصوره عن حقيقة تمثلها الفطرة لتصوره في كل حين.

ألا وهي الموازنة بين المصالح والمفاسد لأخذ النتيجة للعمل. وبالنظر إلى غلبة ذلك في نوع من الأفعال أو التروك يسمى خلقا خاصا كالبخل والحدة الحمقاء والقسوة والفجور ونحو ذلك وبالنظر إلى نوع الأعمال السيئة يكون تمردا وسقوطا.

لكن مهما يكن من ذلك فإنك تجد أن تفكير الانسان وإرادته واختياره لم يسيطر عليها مسيطر طبيعي أو عادي لازم.

فكم ترى من الأفعال أو التروك ما يقع بالاختيار ونتيجة نوع من التفكير على خلاف مقتضى الأخلاق. أنظر في حال كل ذي خلق من الأخلاق فكم ترى من أعماله ما هو على مضادة خلقه. كم ترى من بخيل يسمح بالكثير من ماله على رغبة منه حينما يستحكم في تصوره رجحان الانفاق إما رغبة في الخير أو حبا للجاه أو انقيادا إلى الشهوة وغير ذلك. يكثر منه ذلك ويقل. وقد يبلغ أن يكون سمحا في فعل الخير. أو في الانقياد إلى الشهوة. أو في حب الجاه والسمعة وهو بخيل فيما عدا ذلك وقد يتبدل بخله بالسماحة في أكثر الأمور ويتفق له الشح في بعضها. وكم ترى من سخي يبخل بالقليل في كثير من الموارد. ترى بعضا يبخل في فعل الخير. وترى بعضا يبخل في فعل الفسوق. وترى بعضا يبخل في موارد مختلفة بحسب الجهات المتشتتة. وكم ترى من حليم يثور به الغضب ثورة شديدة بحسب الدواعي المختلفة. فمنهم من يشتد غضبه على الأفعال المنكرة. ومنهم من يشتد غضبه على مخالفة أمياله وشهواته أو كبريائه. وكم من حاد غضوب لا ترى لخلقه أثرا في الأمور المشروعة ولا مع امرأته ولا مع ولده ولا مع الأكابر ولا عند دواعي

الصفحة 456
التملق ومصانعة الأغراض. وكم من جبان يكون شجاعا في كثير من الموارد. وكم شجاع مقدام تراه يجبن ويحجم في كثير من الموارد. وكم ترى ذا خلق تغير خلقه إلى ضده. كم ترى من بخيل صار سخيا وكم ترى من سخي صار بخيلا. أو حليم زال عن حلمه، أو غضوب صار حليما أو متكبر صار متواضعا أو متواضع تشامخ بالكبرياء.. ترى الانسان إذا توفق للتقوى والورع أخذت تقواه وورعه وأفكارهما بمخانق أخلاقه المضادة لهما في الآثار. وإذا انقلب والعياذ بالله إلى الشرارة والدعارة تلاعبت أفكار شرارته ودعارته بما عنده من الأخلاق الجميلة. كم وكم ترى الأخلاق محكومة لسوانح التفكير المختلفة.. لا لا ترى في الأخلاق ما هو سالب للاختيار وملجئ للعمل على طبقه بل ترى الخلق مهما بلغ محكوما لسلطان التفكير..

أي سلطان هو سلطان التفكير؟

تأثير التفكير في الوجدان

أنظر إلى تفكير النفس ونظرها في وجوه الأمور الماثلة لديها كيف يتصرف بالوجدان والعواطف؟ ترى الانسان قد يجوع هو وأولاده وتضعف قواهم ويتألم من أجل ذلك فيحرر فكره للنظر في أحوال بني نوعه فيفكر في أنه يقدر على رفع جوعه وجوع أطفاله ببذل المال وإن كان كثيرا وليس بينه وبين الشبع إلا السعي في ذلك. ولكن الكثير من بني نوعه من الأطفال والأيتام والأرامل والعاجزين من لا يقدر على القوت لا من حيث المال ولا من حيث السعي ولا أمل لهم بالقوت والشبع. فترى هذا التفكر الحميد يرفع عنه وجدان جوعه وألمه وعاطفته على أولاده ويبدل ذلك بعاطفة الحنان والرحمة فيقوى وينشط لأعمال كبيرة في سبيل هذه العاطفة الحميدة على بني نوعه. وهكذا ترى كثيرا ممن يمسهم العطش. يرى الانسان داره لا تقوم بحاجته التي ينزع إليها بحسب اختلاف الفصول والحر والبرد والاعتدال والعائلة والضيف ونظام رفاهيته فيجد من ذلك ألما دائما وسخطا لحالة داره وربما يبعثه ذلك على نية الإقدام على الحرام والظلم لأجل توسعة داره. ولكنه إذا فكر في أمر الكثيرين الذين رآهم أو سمع بهم من الفقراء القاطنين في البر وليس لهم بيوت إلا من أسمال خلقة لا تقيهم من حر ولا برد ولا مطر وهم عرضة لرياح السموم المحرقة ورياح البرد القارس. تتغير ألوانهم في الحر والبرد. فإن هذا التفكير يبدل وجدانه الأول بوجدان الرضا والأنس بداره والاقلاع عما كان ينويه. ويجمع له مع هذا الوجدان وجدان الحنان والرحمة للفقراء. يموت بعض أولاد الانسان فيجد الحزن الشديد المؤلم ويستولي عليه الجزع والقلق وكثير ممن يبتلي بمثل دلك يفكر في أن وجود ولده وحياته وموته وعافيته حياته ليست بيده مع أنه قوي له رجاء بولادة الأولاد وعنده أولاد متعددون. ولكن هلم المصيبة في فلان وفلانة الشيخين الفانيين الفقيرين العاجزين بالعمى أو الاقعاد لم يكن لهم إلا ولد وحيد شاب حسن الشمائل والأخلاق بار بوالديه يسعى في قوتهما وخدمتهما وحوائجهما وأنسهما ورضاهما وقد فقدا ذلك الشاب الصالح البار العامل وفوق ذلك أنهما صبرا صبر الأحرار على مصيبتهما الكبيرة من كل وجهة. فترى هذا المفكر ينقلب وجدانه الأول إلى الصبر والسلو والسكون مع الحنان والرحمة لذينك المسكينين ما أكثر الأمثلة لذلك في الوقوع بكثرة عظيمة.


الصفحة 457

إحداث التفكير للوجدان

ألا ترى أن التفكير كيف يحدث الوجدان. ترى ذلك بكثرة مدهشة كثيرا ما يكون الانسان لا يجد شهوة وشوقا لمقاربة النساء ولكنه يمثل في تصوره امرأة جميلة بادية المحاسن ثم يتصور أنواع الملاطفة والملاعبة معها فيهيج فيه وجدان الشهوة ثم يترقى في تصور أنواع الملاعبة ويؤكد في تمثيلها للنفس حتى يجد من نفسه ميلا هائجا إلى أن تهيج تلك التصورات أعصابه إلى الانتصاب ومادة التناسل إلى الخروج والأمناء. كثيرا ما يكون الانسان هادئا آمنا فيلتفت بتصور الله إلى بعض الأحوال فيجد الخوف وكثيرا ما ينعكس الأمر ويجري مثل ذلك في المحبة والكراهية والابتهاج والحزن والرجاء واليأس. وكثيرا ما تشتغل النفس بتصوراتها عن وجدان الألم واللذة وكم وكم يحصل لها الابتهاج والتألم بمحض التصورات.

قدرة الانسان على تغيير أفكاره وتعديلها وصرف النفس عن نزعاتها الجسدية

كثيرا ما تعرض لنا الأمور المزعجة التي كلما دام عليها التصور زاد الانزعاج الذي قد يبعث على أعمال مذمومة فنقصد بنزعتنا العقلية أن تتخلص من الانزعاج وعاقبته الذميمة فنصرف الفكر إلى تصور ما يسكن الانزعاج حتى يضمحل، أو نشغل الفكر بتوجيهه إلى أمور أخر حتى ننسى الانزعاج أو نتشاغل بأعمال تلهينا عن الانزعاج أو نبتعد عن أسباب الانزعاج فننساه ومن هذا النحو إرشاد أئمة الدين الاسلامي في تسكين الغضب والتخلص من آثاره وأعماله وتعليمهم بأن الغضبان يغير حالته وأقل ذلك أن يقوم إذا كان قاعدا ويقعد إذا كان قائما.. وكذا عند عروض الشهوانيات وإقبال النفسية عليها. نعم قد يسهل ما ذكرناه في عوان الكلام وقد يحتاج إلى إعمال المقدمات والاستعانة والاعانة بحسب ما يحصل من إلفة النفس لوقوفها على التصورات النفسية الجسدية ومجانبتها لتوجيه تصورها إلى الحقائق الصالحة العقلية أو من عكس في ألفة النفس وتصوراتها للاستضاءة بنور الحقائق العقلية والتنور بالوقوف عليها كما هو حقها فترى كثيرا من الناس من يحتاج في صلاحه إلى مرشد يعدل أفكاره وقرين صالح يروض فكره بنصائح أقواله وقدوة أعماله مع ترويض النفس على إمالة وجهها إلى النزعة العقلية وصرف خيالاتها عن النزعة الجسدية أو مع الابتعاد عن موارد الغواية وعدواها. وترى كثيرا من الناس من تحتاج غوايته والعياذ بالله إلى مقدمات هي على العكس مما تقدم. وللناس بحسب أحوالهم في ذلك مراتب مختلفة ترى ما ذكرناه جليا في أحوال البشر وعليه عملهم. طالما نستعمله في تفكيرنا وتعديله وصرف أميالنا وأفكارنا عن وجهها ويشترك جميع الناس في عملهم على ذلك في أميالهم الجسدية وتعديلها فيما بينها فضلا عن صرف الفكر إلى العقليات الصالحة. مهما ثار غبار الشبهات والمغالطات فإن الالتفات إلى ما ذكرناه يجلو للانسان جو الحقائق فيراها مائلة للعيان ملموسة بيد البداهية.. يعرف الانسان منها أن المصدر لاختيار الأفعال والتروك إنما هو ذلك الجوهر المدرك المشرف بإدراكه على الأمور الشخصية والنوعية الجسدية والعقلية صالحها وفاسدها وجهات منافعها ومضارها وإليه ترجعون موازنتها وتصريف الأفكار فيها وتعديلها وأنه أي تصور يقبل إليه ويقف عليه تنشأ عنه الإرادة للفعل فتحرك العضلات والأعضاء أو الإرادة للترك فتمسكها عن الحركة.

ومن أجل احتجاب هذا الجوهر عن آثار نورانيته بحجاب الجسمانية وظلمتها وكثافتها كان محتاجا في جودة إدراكه إلى مدافعة الحجاب بالتعلم والتفكير والتجول في ميدان الحقائق لاستجلائها لبصيرته. كما أنه من ارتباطه بالجسد ووحدتهما في الأنانية يحصل له الوجدان بجميع العوارض الجسدية. يحصل له الجوع والعطش والألم واللذة والشهوة والغضب والاحتياج والميل والحب والبغض والعاطفة والابتهاج والحزن والرجاء واليأس. فيحصل له مات ذلك نزعات جسدية تقف له صفا في مقابلة النزعات العقلية الصالحة فيرجع الأمر إلى اختياره لحسن التفكير والموازنة أو اختياره للإقبال على النزعات الجسدية والاعراض عن النظر في وجوه الصالحات. إذن فكلما يكون من آثار الجسد وسحنته ومن آثار الوجدان لا أثر له في الأعمال والتروك إلا بتمثله أمام تصور النفس كتمثل الحقائق العقلية الصالحة. وأما تعليل العمل والترك فهو راجع إلى إرادة النفس بحسب ما يقف عليه تصورها بحسب اختيارها لإجادة التفكير أو تقصيرها فيه مع مقدرتها على إجادته وسحق المعاثر في سبيله ولو بالتوسل بمعونة الأسباب والمقدمات التي أشرنا إليها قريبا. فلا توجه للمسؤولية إلا على النفس التي هي العلة الفاعلة. وأي توجه للمسؤولية على الجسد الذي هو جماد لولا ارتباط النفس. إذا وقف الظالم المبطل والمظلوم المحق أمام القاضي الذي بيده إجراء قضائه وتنفيذه. فقضى جورا وأجرى جور قضائه فعلى من تكون مسؤولية الجور في القضاء..


الصفحة 458
هل تقول بأنها تكون على الظالم الذي لم يصدر منه إلا الوقوف أمام القاضي. وهب أن دراهم الظالم لأجل الرشوة وقفت معه أيضا. أم تقول أنت وكل أحد أن مسؤولية الجور في القضاء إنما هي على القاضي الجائر المجري لجوره. لكنا ذكرنا في صحيفة 120 إلى 123 بعض وجوه الحكمة في كون المعاد جسمانيا وكون المسؤولية والعقاب والنعيم تتعلق بهيكل الانسان نفسه وبدنه فراجعه.

تعليم القرآن الكريم
بما شرحناه في فلسفة الأعمال والتروك

ورجوعها إلى اختيار النفس في التفكير وذلك كما في قوله جل اسمه في الآية السابعة والثلاثين إلى الثانية والأربعين من سورة النازعات المكية (فأما من طغى * وآثر الحياة الدنيا * فإن الجحيم هي المأوى * وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى * فإن الجنة هي المأوى). ما من حقيقة صالحة من فعل أو ترك إلا وأرشد الله إليها بكتبه الكريمة وتبليغ أنبيائه الكرام وأخبر بأنها وسيلة رضاه ورغب إليها ووعد عليها بالجزاء الحميد. وما من أمر فاسد إلا ونبه الله عليه وحذر من فساده وأخبر بأنه موجب لسخطه وزجر عنه بالوعيد بالعذاب الأليم. وقد أشار الله جل اسمه في هذه الآيات إلى منشأ أعمال الانسان من حيث تفكيره واختياره وإلى وجه الحجة على المسئ واستحقاقه المسؤولية والعقاب وإلى وجه مدح المحسن واستحقاقه للكرامة. فأبان جل اسمه أن المسئ يعمل السوء بطغيان بجسديته الأهوائية فيختار أن يتبع في تفكيره أهواءه الفاسدة ويعرض عن النظر بتصوره في وجه الصالحات رغبة عنها مع مثولها لتصوره بل يقبل بوجهة فكره وتصوره على الأعمال السيئة إيثارا لمحض الحياة الدنيا وأميالها الضالة ولم يوازن بينها وبين العمل الصالح الذي يجمع له كرامة الدنيا والآخرة، ولا يختار صرف أمياله بتفكيره إلى الملاذ المباحة، كما أبان جل ذكره أن المحسن هو الذي يستعين في تفكيره على منازعة الأميال الجسدية بالنظر في تصوره إلى مقام الله ربه العظيم مولاه في جميع الأمور وولي أمر الدنيا والآخرة، العليم بكل شئ، مهيب السخط شديد النكال، فيوجه تصوره إلى خوف مقام الله ويدحر بذاك أمياله الفاسدة فيخاف ربه وينهى نفسه عن هواها فيستقيم بتفكيره في طريق الهدى والكمال والأعمال الصالحة.

رمزي: قد جاء في القرآن الكريم في الآية الثالثة والخمسين من سورة يوسف ما نصه (إن النفس لأمارة بالسوء) أفلا يدل ذلك على أن عمل السوء لازم طبيعي للنفس فكيف تكون مختارة فيه وكيف تحمل المسؤولية عنه. الشيخ: جاء هذا في القرآن حكاية عن قول النبي يوسف. وقد قال باعتبار اتحاد النفس بالبدن في الأنانية وأت شعورها بنواقص الجسد يؤثر فيها وجدانا شهوانيا أو غضبيا فتكثر فيه النزعة والميل إلى ذلك. ولكن النبي يوسف أشار في كلامه هذا إلى أن للنفس أيضا نزعة عقلية موهوبة لها من رحمة الله يستهدي بها الانسان ويقدر بها على تمحيص فكره وتعديل أمياله. تلك النزعة الراقية بنشأتها الكريمة من خلق الله برحمته للنفس عقلية تقدر أن تسير بها وتشرف على الحقائق والموازنة في الفكر فتتباعد عن السوء وتختار الخير.

فقد قال النبي يوسف (إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي).


الصفحة 459

من المغالطات في المعاد

عمانوئيل: يا رمزي قد بقيت في مصادر كلامك كلمات تنادي ببواعثها ولا تتستر بمراميها قد تجازوت عن حد البحث إلى فلتات الاستهزاء بالإلهية والأديان (الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون) (1) تلك الكلمات التي يتحاشى الغرب عن التجاهر بها فنقلها التجول وألقى مسؤوليتها على عاتق الشرق. فلماذا لم تذكر شيئا منها. رمزي: إن الشرف وحرمة الأديان وأهلها يأبيان لي أن أذكرها بما فيها فكيف أذكرها وأنا متدين. عمانوئيل. من الممكن أن تجردها من خلاف الأدب وتوردها أسئلة بسيطة افتراضية لكي يعرف ما فيها.

____________

1 ـ سورة البقرة / الآية: 15. (*)


الصفحة 460
رمزي: قد افترضوا أن النفس تقول يا إلهي إني لا دخل لي فما عمله هذا الجسد الخاطئ.

اليعازر: ما كل نفس تقول ذلك إلا نفس أثيمة اختارت رذيلة. الكذب. هل الجسد بلا نفس إلا، كسائر الجمادات لا حس له ولا شعور ولا وجدان ولا إدراك ولا ميل ولا إرادة ولا حركة ولا عمل انظر إلى حال الجسد الذي فارقته النفس فهل ترى فيه من ذلك شيئا. يا أيتها النفس الخاطئة إن الله أنعم عليك بأن هيأك للكرامة الكبرى بالاستحقاق وللتنعم بالملاذ الحسية والعقلية. ولأجل ذلك جعلك متحدة بالجسد ووحدكما بالأنانية وسخر الجسد بذلك لإرادتك. منك الميل ومنك الاختيار ومنك الإرادة ومنك تحريك الجسد ومنك الأعمال. جعل الله لك إدراكا تميزين به الصالح من الفاسد وأيدك بالقوة العقلية والتعاليم الصالحة وتتابع العبر والمواعظ وجعل لك عن كل عمل فاسد سلوة وشاغلا بالأعمال المباحة. لا يغيب عن شعورك ما يحصل لك عاجلا في المجتمع الانساني بسبب الأعمال الصالحة من لذة الرفعة والمحبوبية والقدرة. يكون لك هذا المقام المحمود حتى عند الفسدة والأعداء كما لا يغيب عن شعورك ما يلزمك في العاجل أيضا بسبب الأعمال الفاسدة من رذيلة النقص والانتقاص والضعة والنفرة حتى عند أهلك وقومك. ألا ترين مجد الأبرار الصالحين ومهانة الأشرار عند الناس. ومع هذا كله تختارين الشر وتسخرين الجسد في أعماله بإرادتك. ومن قبائحك أنك تتبرأين من أعمالك وتنسبينها إلى الجسد المسخر لإرادتك إفكا وزورا.

رمزي: وافترضوا أن النفس تقول يا إلهي ألست أنا نسمتك التي نفختها في هذا الهيكل الدنس.

اليعازر: يا للعجب من هذا الافتراض السخيف. النفس مخلوق من مخلوقات الله والجسد مخلوق من مخلوقات الله فهما من حيث الذات والمخلوقية سواء. ولكن النفس خلقت مستعدة لنيل الكمال والرفعة بالاختيار لتنال بذلك النعيم وأكبر الملاذ. ولكن منها ما يختار الانحطاط إلى حضيض التدنس والرذالة. ومن ذلك استعلائها الكاذب بدعوى الطهارة وبهتانها على الجسد بنسبة الدنس له.

من المغالطات الكاذبة

رمزي: وافترضوا أن النفس. تقول إلهي ألم تجعلني على صورتك ومثالك فما ذنبي حتى آخذ بجريرة هذا الجسد الفاسد.

اليعازر: قبحا لضلال هذه النفس الأثيمة التي تقول هذا. ما أشنع كبريائها وجرأتها من أين لها أن جعلها على صورته ومثاله؟ من أين جاءت بهذا الزور؟ كيف تكون لله صورة؟ تعالى الله عما يصفون. هذا العهد القديم ينزه الله جل شأنه عن المثل والمثال والصورة. ففي الفصل الرابع من التثنية في مقام النهي عن التماثيل الأوثانية تبين التوراة في العدد الخامس عشر أنه لا صورة لله ولم يروا صورة لكي يفتروا بالتمثيل الأوثاني. وفي العدد الثامن عشر من الفصل الأربعين من أشعيا في مقام الانكار (فيمن تشبهون وأي شبه تعادلون به) وفي العدد الخامس والعشرين (فيمن تشبهوني فأساويه يقول القدوس) وفي العدد الخامس من الفصل السادس والأربعين (لمن تشبهوني وتساووا وتمثلونني ونتشابه) والقرآن يقول في الآية الحادية عشرة من سورة الشورى (ليس كمثله شئ.

عمانوئيل: يا والدي يوجد في العهدين شئ يتشبث بعض الناس بموهومه فقد جاء في الفصل الأول من سفر التكوين 27 فخلق الله الانسان على صورته على صورة الله خلقه وفي أول الفصل الخامس يوم خلق الله الانسان على شبه الله عمله وفي الفصل التاسع 6 لأن الله على صورته عمل الانسان. وفي الفصل الحادي عشر من كورنتوش الأولى 7 فإن الرجل لا ينبغي أن يغطي رأسه لكونه صورة الله ومجده. وفي الفصل الثالث من كولوسي 9 خلعتم الانسان العتيق مع أعماله ولبستم الجديد الذي يتجدد للمعرفة حسب صورة خالقه. وفي الفصل الثالث من رسالة يعقوب 9 به نبارك الله الأب وبه نلعن الناس الذين تكونوا على شبه الله!!

اليعازر: اسمعا يا رمزي ويا عمانوئيل إن تقدس الله عن المثال والصورة هو الحقيقة الساطعة في أول صف المعارف الإلهية. وهذه الحقيقة هي الميزان لاستقامة العهدين وغيرهما فكيف نقبل من العهدين الرائجين أو غيرهما أوهام القول بأن الله صورة ومثالا؟؟ ألم يمض في درسنا في الجزء الأول ما يعرفنا حال العهدين. وهذا أيضا مما يزيد في معرفتنا لحالهما. وأيضا إن كانت هذه النفس الأثيمة تشبثت بشهادة العهدين فإن العهدين لا يشهدان لها بل يؤخذ من كلامهما المتقدم أن الذي هو على صورة الله هو الهيكل الانساني والرجل لا النفس.


الصفحة 461
فهل تريد هذه النفس أن تستهزئ بالأديان بواسطة العهدين؟ وما أقبح ظلم النفس الأثيمة هي التي تريد الفساد وتسخر الجسد لإرادتها في أعمالها الفاسدة ومع ذلك تتزكى وتصف الجسد بالفساد ظلما وزورا. رمزي: وافترضوا أن الانسان يقول إلهي إني لست سوى خليقة مخلوقة وإذا كانت طبيعتي فاسدة فذلك لم يكن باختياري ولا عمل يدي خلقت ميالا للذنوب فأذنبت وإلى ارتكاب الشرور فارتكبت و و و. نعم جعلت في عقلا لأميز به النافع والضار والخير والشر ينير لي ظلمات الحياة ويهديني إلى الصراط المستقيم لكن ما حيلتي إذا خلقت وإرادتي ضعيفة لا طاقة لها على مقاومة التجاريب.

اليعازر: هل يخفى أن الانسان الأثيم والانسان الصالح لا يختلفان من حيث الطبيعة البشرية، ويوضح ذلك ما ذكره عمانوئيل والشيخ من الصحيفة 541 إلى هنا فكيف يقال: (إن طبيعة الانسان فاسدة ولم يكن ذلك باختياره ولا عمل يده) ألسنا نعرف كثيرا كل من نوع الانسان من يختار فضيلة الصلاح ويترقى باختياره إلى الدرجات الرفيعة. ألسنا نعرف كثيرا من الناس نشأوا على الصلاح وقضوا أيامهم عليه، ألسنا نشاهد الأثيم من الناس إذا أحسن تفكيره أقلع عن أمياله واختار ما هو الصالح المعقول؟ نرى كثيرا من نوع الانسان في زمان واحد يخلط في أعماله بين الفاسد والصالح حسبما يختار من تحسين الفكر والتساهل فيه. ونرى الكثير منهم من إذا اختار أن يحل بين الصالحين للقدوة بهم رغب في الأعمال الصالحة ونشط لها وأقلع عن الأعمال السيئة واشمأز منها. وإذا حل بين الفساق هوى في اختيار الفسوق وابتعد عن اختيار الصلاح. كم من إنسان فاسد الأعمال يلفته إلى الصلاح يسير من الموعظة والتنبيه. وكم من إنسان قضى كثيرا من عمره على الفسوق والفساد ثم اهتدى إلى خير حال الصلاح والأعمال الصالحة.

ضعف الإرادة وقوتها

من الأغلاط الكبيرة أن يقال إن الانسان خلق وإرادته ضعيفة؟؟ لم تخلق إرادة الانسان حين خلقه. وإنما تتكون الارادات على طول حياة الانسان متدرجة بحسب الدواعي المتجددة ونتائج التفكير. خلق الانسان قادرا على التفكير مختارا في توجيهه وتعديله ولو بالوسائل العملية الاختيارية. وبحسب وجوه التفكير قد تكون له إرادة قوية لا تتزعزع سواء كانت في الخير أوالشر وقد تكون له إرادة ضعيفة قد ينصرف عنها حتى بعد أعمال شطر من مقدمات الشئ الذي يريده سواء كانت أيضا في الخير أو الشر وقد تكون له إرادات متوسطة مختلفة في مراتب القوة والضعف تحتاج في الانصراف عنها إلى ما يرجح على دواعيها في التفكير. ترى الانسان الواحد في نوع العمل الواحد يكون في زمان قوي الإرادة فيه ويكون في الزمان الآخر ضعيف الإرادة أو متوسطها كل ذلك بحسب أحوال التفكير واختيار التساهل فيه أو عدم التساهل والاقبال بالتصور أو الاعراض.

مقاومة التجاريب والاغواء

ومن الأغلاط الكبيرة أن يقال (إن الانسان خلق لا طاقة له على مقاومة التجاريب أي الإغواءات)! كم ترى من الناس من يقاوم التجاريب والاغواء ويطردها خاسئة. كم ترى من الفساق من تحدق به التجاريب وأسباب الغواية القوية في كثير من الأحوال فيقاومها بأمور يقبل عليها بتصوره ووجهة تفكيره وهي طفيفة بالنسبة إلى غيرها. يسمع فلان. أخجل من فلان. أراعي جانب فلان. معشوقتي تغار من ذلك. تعرض عني. امرأتي تتكدر. تغضب علي. أحتشم فلان. التاجر الفلاني لا يأتمنني. الحاكم لا يستخدمني. هذا العمل يخل بمقصدي الفلاني. ونحو ذلك. وكم ترى هذا الانسان ينقاد للضعيف من التجاريب ولا يقاومها بأقوى الروادع. ولا تجد السبب في ذلك إلا أنه يوجه تصوره تارة إلى الروادع فيرغم التجاريب مهما كانت من القوة أو يوجه تصوره إلى تسويلات التجاريب ويعرض عن الروادع ويغالط فيها فيسقطها عن التأثير. كثيرا ما ترى الانسان الواحد يقاوم التجاريب في الغواية بنوع من الروادع وينقاد لتلك التجاريب وما دونها في مقام آخر على رغم ذلك النوع من الروادع وعلى رغم ما هو أقوى منه لا تجد ميزانا في ذلك إلا حالة تفكير الانسان وإقباله بتصوره أو إعراضه وتغاضيه بحسب اختياره. الشيخ: نعم ربما ينبعث الانسان من المداومة على العمل القبيح ومتابعة نفسانيته الأهوائية والإعراض من هدى عقله وإرشاد المرشدين ويحصل له من ذلك نوع ألفة وانهماك بالأعمال الردية وانغزال؟ عادة الصلاح فيتوهم حينئذ أنه يعسر عليه أن يتوب من أعماله الردية ويتزين بالصلاح. ولكنه توهم فاسد فإنه متى قابل ما ذكر من الألفة والانهماك وعارضه بحسن النظر والتفكير في قبح تلك الأعمال وقبح عاقبتها وأحسن الاقبال بفكره على ذلك فإن تلك الألفة وذلك الانهماك يضمحلان ويبطل أثرهما.


الصفحة 462
بل تزداد قوته على المعارضة إذا داوم على تفكيره في قبح الأعمال وعلى إرادة ترك القبيح فإنه يسهل عليه الأمر جدا كما هو واضح للمشاهدات والوجدان وأن المداومة تؤثر حتى في الطبيعيات وتحدث في أعضاء الجسم قوة. ترى الانسان إذا تعلقت إرادته بالركض الشديد فاشتد ركضه فإنه لا يقدر حينئذ بحسب طبيعية الجسم على الوقوف بأول فكرة فيه وأول إرادة له وذلك لما يحصل له من قوة الحركة (وهي الحالة التي تسمى عطلة الحركة) ولكنه إذا أقبل على تفكيره في الوقوف وإرادته له فإنه يأخذ بتخفيف الركض إلى أن تزول تلك العطلة فيقف. على أن ألفة العمل القبيح ليست طبيعية مثل عطلة الحركة التي تسلب الأعضاء والعضلات قدرتها على ضد الحركة ما دامت العطلة. ألا ترى أن أشد الناس انهماكا بالأعمال الفاسدة وألفة لها يجعل إلفته وانهماكه بها تحت قدمه دفعة واحدة إذا حصل له بعض الدواعي التي يمعن فيها بالتفكير وذلك مثل حكم معشوقته أو حضور من يحتشمه أو يخاف منه أو يرجوه أو غير ذلك كما ذكر قريبا. ولكن يا للأسف إن فكرة الصلاح والكمال يتساهل فيها.

مخادعات الأهواء

عمانوئيل: ما أدري ما هذه التشكيكات في أمر المعاد والحساب. وما هي إلا من مغالطات الأهواء للفكر. وكثيرا ما يغالط المتمرد المتهور بهواه في الأخطار فيدعي أنه آمن وليس وراءه خطر بل ربما يغالط عقله بذلك ومن نحو ذلك ما ينقل عن (أبيقورس) من قوله (إن راحة البال التي تقوم بها سعادة الانسان هي في اضطراب دائم من جري الريب الواقع من نسبة الانسان إلى الخليقة وإلى الله) يا للعجب ما هي سعادة الانسان التي تقوم براحة البال المضطربة من الله.

هل هي سعادة الأخلاق الفاضلة والعلم والأعمال الصالحة، والمعارف المستقيمة. والعدل والاستقامة وترك الفساد، والتنزه عن الأعمال الشريرة. يا للعجب كيف تضطرب راحة البال في هذه السعادة من الله. بل إن صاحبها وباله وأمله في ابتهاج عظيم ببشرى سعادة أكبر منها عند الله وبشري قبول وكرامة وفضل عند الناس. أم يزعم ويراد من سعادة الانسان تقلبه في رجاسات الدعارة والفساد والشهوانية والخلاعة ورذالة الأخلاق هذه الرذائل التي ينبغي لصاحبها أن يكون دائم الاضطراب من الله ومن الناس إن كان له عقل وحياء. فهب أن هذا الزاعم يأمل أن تقام له حفلة التبريك بهذه السعادة التي يستهزئ بها الشعور ولكن كيف يرتفع الاضطراب بمغالطة الجحود لله لأجل تأمين هذه التي يسميها سعادة. وليأسف هذا المغالط فإن راحة باله التي تقوم بها سعادة أهوائه لا تزال مهددة بالسياسة وتأديبها حتى السياسة الاشتراكية فإنها تهدد راحة باله في سعادته بدعارته وأهوائه التي يسلب بها حرية غيره.

اليعازر: هؤلاء الذين يغالطون وتغالطهم أهواؤهم بجحود الله ويوم القيامة مثلهم كمثل مديون ضايقه الدائن بالمطالبة فجلس في بيته مفكرا مهموما لا يكلم امرأته ولا أولاده ثم رفع رأسه مبتهجا فقالت له ماذا صنعت في أمر الدين والدائن فقال قد وجدت لي من ذلك مخرجا حسنا. أجحد على الدائن ثلث الدين وأدعي عليه أني وفيته مقدار ثلث وحينئذ لا بد أن يستحي ويسامحني من الباقي إذا طلبت منه المسامحة.

هذا الرجل يريد أن يرجع إلى إسرافه وتمرده على الدائن وعلى شرف الذمة فصارت أهواؤه تسخر به وتبعثه على أن يتصامم عن توبيخ عقله ويغالط بهذه المغالطة التي يستهزئ فيها إلا بنفسه.. ومن العجب أن بعض من ينتسب إلى بعض الأديان لا يرضى أن يقال إنه مادي ومع ذلك يحتج لأهوائه ومضادة الأديان بهذه الشبهات الواهية.

وكأنه لا يدري أن هذه الأحوال تنادي بأنه مادي ومنافق ومخدوع مخادع.


الصفحة 463

العقاب في المعاد

الشيخ: قد تقدم مكررا أن الحكمة والنعمة اقتضتا أن يخلق الانسان مختارا في أفعاله وإرادته لكي يبتهج بذلك وبكماله الاختياري وينال سعادة الجزاء بابتهاج الاستحقاق والكرامة ومجد الأهلية والفضيلة فجعل الله له برحمته ولطفه قدرة واختيارا لأجل صلاحه الاختياري وبعثه على الكمال والسعي إلى كرامة الفضيلة ومجد الجزاء بالاستحقاق. ووهبه عقلا يهديه ببديهاته إلى ما يصلحه في شؤون شخصه ونوعه. وأيد ذلك بنعمة إرسال الرسل وإرشاد الأنبياء والأئمة والصالحين وأكمل ذلك وأتم النعمة بزواجر الوعيد بالعقاب الأخروي المجعول لغاية إصلاح الانسان بالتهديد به وتحذير الانسان من وبال الإثم الذي يرذله ويجعله من الساقطين المستحقين لذلك العقاب. ولأجل تحقيق التهديد والتحذير وغايتهما الحميدة في إصلاح الشخص وتكميله وصلاح النوع والاجتماع جعل الله العقاب حتميا في الجملة وأنذر بذلك وأكد الانذار لكيلا تغالطنا أهواؤنا فتسقط غاية التحذير والتهديد. وإن شئت الاعتبار لذلك لكي تذعن بحكمته وتعمه أسلاحه فانظر إلى الحكومات المعتنية بإصلاح المملكة وتكميل أفراد الرعية كيف تجعل قوانين العقاب وتجعل لكل جرم عقابا وتنذر بذلك. وبحسب استطاعتها لا تجعل لأهواء الرعية مجالا للمغالطة بتأمين المجرم من عقابه الذي يستحقه لئلا يستفحل التمرد. وإن الحكومات يلزمها تعجيل العقاب حذرا من أن يفوتها إجراؤه فتمحى صورة العقاب من المملكة ويبطل التهديد وفائدته في مهمة الاصلاح وتكميل الرعية. لكن الله الإله القادر الذي لا يفوته شئ قد أجل العقاب نوعا إلى الآخرة إمهالا لعباده لأجل استصلاحهم بالتوبة التي دعا إليها ورغب فيها ووعد التائب بالغفران والرحمة والجزاء ولأجل أن يعطيهم مجالا للتوبة والرجوع إلى الصلاح والاستقامة في سيرهم في نهج الكمال.. ألا وإن الاعتبار الصحيح والنظر الحر والفهم المستقيم المنزه تعرف الانسان أن العقاب والتهديد به وتأجيله نوعا والإمهال لأجل إصلاح التوبة قد أحاطت بها الحكمة والنعمة في إصلاح الانسان وتكميله باختياره من جميع الجهات.

ولأجل أن نظام المدنية وصلاح الاجتماع وقطع انتشار الغواية والفساد تحتاج إلى نوع من التأديب المعجل شرع الله في شريعته المدنية الاصلاحية نوعا من العقاب التأديبي وقرنه بجهات من الحكمة من حيث التوبة والعفو. لكن الانسان الأثيم تغالطه أهواؤه للتمرد في فساده بالشبهات التي لا يخفى فسادها كما ضرب اليعازر لذلك المثل المطابق.

في المعاد

عمانوئيل: ربما يسأل السائل ويقول: إن الانسان يذنب وهو صغير الجسم أو نحيفه ثم يكبر ويسمن ويموت فهل ينال العقاب هذا الزائد؟ بل إن بدن الانسان لا يزال في نمو وتحليل حتى إنه يمكن أن يقال. إن بدنه بواسطة التحليل والنمو الدائمين قد يتبدل في حياته مرارا فأي هذه يعود وأي هذه يعذب وينعم. الشيخ: يولد لك الولد طفلا صغيرا ثم يكبر وتتبادل هيئاته وصفاته ومقاديره ويتغير بتلك التغيرات التي يعسر إحصائها من حال طفوليته إلى زمان شيخوخته. وأنت تقول أيضا إن بدنه بواسطة النمو والتحليل يتبدل مرارا كثيرة. فهل تقول يا عمانوئيل: إن الذي هو ولدك حينما ولد قد تغير وتبدل مرارا فمن هو ولدك إذن من هذه الموجودات المتبادلة.

عمانوئيل: للانسان أنانية جسمانية مستقرة لا تتبادل وذلك لأنها تقوم بأجزاء أصلية لا تتبدل بل هي ثابتة من أول نشأته إلى آخر عمره. فكل زيادة بالنمو إنما هي إضافة محسنة وخادمة لها والذي يذهب بالتحليل إنما هي الأجزاء التي تنضاف إليه بالنمو فهذه الأجزاء التي تنضاف بالنمو وتذهب بالتحليل لا مداخلة لها في الحقيقة بالأنانية الانسانية الجسمية بل هي كأليف يتحد بالانسان زمانا ويفارقه. إن الانسان إذا سمن جدا ثم هزل جدا لا يقول نقصت ذاتي وأنانيتي الجسمانية. ومما يستأنس به لهذا البيان أن بعض الأجزاء إذا قطعت من الانسان لا تعود بالنمو وهذه هي التي يسميها الأطباء بالأجزاء المنوية فيستدل من ذلك أن النمو والتحليل لا مداخلة لها في ذات الأجزاء الأصلية التي تقوم بها أنانية الانسان الجسمانية. الشيخ: إذن فالذي يقوم به المعاد الجسماني هي تلك الأجزاء التي تقوم بها أنانية الانسان والثابتة من أول نشأته إلى آخر عمره لا تزول بالتحليل ولم يكن نشأها من النمو بواسطة الغذاء وهي محفوظة لأنانية صاحبها حيثما ذهبت. هذه يجمعها الله في المعاد من أين ما كانت (يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم) فيعود الانسان بما قامت به أنانيته الجسمانية في الحياة الدنيا. تلك الأجزاء التي أن أكل الانسان شيئا لا تزيد بذاتها وأن أكله غيره لا تكون جزءا أصليا تقوم به أنانية الأكل.


الصفحة 464

في المعراج وصعود البشر إلى السماء

رمزي: بقي شئ أريد أفهمه فإن جملة من أهل الأديان يقولون بصعود البشر إلى السماء وجملة من الأديان تصرح بذلك. فها هو العهد القديم يصرح بصعود (إيليا) إلى السماء كما في العدد الحادي عشر من الفصل الثاني من سفر الملوك الثاني. وها هي الأناجيل تصرح بصعود المسيح إلى السماء كما في العدد التاسع عشر من الفصل السادس عشر من إنجيل مرقس. والعدد الحادي والخمسين من الفصل الرابع والعشرين من إنجيل لوقا. ومثلها العدد التاسع والحادي عشر من الفصل الأول من أعمال الرسل. وها هو القرآن يشير إلى ما يقوله المسلمون في معراج رسول الله

إلى السماء كما في سورة النجم (1) كما تواترت به أحاديثهم واعتقدوه. أفلا يعترض الشك في ذلك. هذا الجسم البشري الأرضي كيف يصعد إلى السماء. أليس ذلك الصعود من الممتنع. الشيخ: إنك لترى الماديين لا يقولون بامتناع ذلك في الطبيعة ويرجون أن يكشف العلم في المستقبل عما يسهل صعوباته ويرفع من طريقه الأخطار. إذن فكيف يمتنع ذلك على قدرة الإله خالق الانسان والأرض والسماوات وأسرارها الغامضة وطبيعياتها المحجوبة والتي لا يزال العلم يكشف منها ما كان للناس ضجة فارغة بدعوى امتناعه. إذن فكيف يمتنع على الله القادر إصعاد البشر إلى السماء. قد صعد الانسان في المنطاد ثمانية وثلاثين ألفا من الأقدام الانكليزية بحيث صار أعلى من جميع جبال الدنيا بألوف من الأقدام. أفلا يقدر الله أن يرفع عنه الصعوبات فيما فوق ذلك ويهئ له ما يناسب طبيعيات جسمه. رمزي: إن بعض المسلمين وهم الشيخية أتباع الشيخ أحمد الاحسائي ينكرون المعراج بالنحو الذي يقول به غيرهم من المسلمين. لأن الشيخ أحمد المذكور يقول في شرح الرسالة القطيفية إن رسول الله (ص) لما عرج إلى السماء تحلل جسمه الشريف قبل الوصول إلى فلك القمر وألقى كل عنصر من عناصره الأربعة في كرته. عنصر التراب في كرة الأرض وعنصر الماء في كرة الماء وعنصر الهواء في كرة الهواء وعنصر النار في كرة النار. ولما رجع من العروج أخذ مما تحت فلك القمر عناصر جسمه أخذ كل عنصر من كرته فعاد له جسمه الشريف.

____________

1 ـ من الآية السابعة إلى الثامنة عشرة. (*)


الصفحة 465
فهذا الشيخ الاحسائي يذكر معراجا غير ما يذكره المسلمون ويشير إلى امتناع ما يذكره المسلمون.

عمانوئيل: لا يخفى أن هذا الحلم والخيالات في الدين لا منشأ لها إلا بخارات التخمة والامتلاء من تقليد الفلسفة القديمة في فلكياتها بلا تأمل في أطراف تلك الفلسفة. حلم وخيالات لم تعدمها يقظة الدين ويقظة الاعتبار ويقظة العلم. لماذا لا يلتفت المقلدون لذلك؟ إن أصحاب تلك الفلسفة يقولون: إن الانسان والحيوان على الأرض وفي أعماق البحار فيه جزء من النار وجزء من الهواء وأن كثيرا من النار ما يصير في بطن الأرض ويتخلل في طبقاتها فكيف غادرت النار كرتها العالية وعبرت الهواء وكرة الماء وصارت تتجول في كرة التراب. يا أيها المتفلسف إن الإله القادر الذي ركب المخلوق من العناصر وألجأ العنصر في هذه الأمثلة إلى مفارقة كرته وحفظ تركيب المركب في الأرض وفي كرة الهواء لماذا لا يمكن أن يحفظ تركيب المركب بقدرته فيما فوق كرة النار وفوق السماء؟! ويقول لك المادي الطبيعي هب أنك تغافلت عن قدرة الإله الذي تعترف به أو فعالية العقل الفعال كما تزعمون ولكن لماذا لا تدلك أعمال الطبيعة في الأمثلة المذكورة على أن فعالية الطبيعة وتأثيراتها يمكن لها أن تتجاوز بالمركبات إلى أي محل يكون. رمزي: من أقوال الفلسفة القديمة إن العالم منضد من أكر أفلاك كطبقات البصل يمس محدب السافل مقعر العالي وهكذا حتى تنتهي الحدود والجهات في ملكوت الله بمحدب ما سموه (فلك الأفلاك) والمدير والأطلس ومحدد الجهات. ومن أقوالها إنه يمتنع الخرق والالتئام في الأفلاك بحسب طبعها ولأن الخرق يستلزم اتساع المنخرق في الجهة وذلك يستلزم اتساع ما فوقه وهكذا إلى أن يستلزم اتساع محدد الجهات لكن محدد الجهات يمتنع اتساعه في الجهة لأنه لا جهة فيما فوقه.

إذن فيمتنع الخرق لأنه يستلزم أمرا ممتنعا مستحيلا وكل ما يستلزم الممتنع المستحيل. هو ممتنع مستحيل. إذن فيمنع صعود البشر بجسمه البشري إلى السماء. وقد ذكر التشبث بامتناع الحرق والالتئام في شرح الرسالة القطيفية.

عمانوئيل: يا عجبا!! لو تساهلنا مع الهيئة القديمة والمغرورين بها في وضع الأفلاك وتحديد الجهات لقلنا لهم لماذا لا يكون جرم الفلك مما يقبل الانضغاط والتمدد والمرونة فينضغط عند الانخراق ويرجع بالمرونة والتمدد عند الالتئام. وقد دلت التجارب على أن أكثر الأجسام ومنها الماء والهواء وجملة من المعادن تقبل الانضغاط والتمدد. من ذا الذي أعلمهم أن الفلك ليس كذلك؟! فقالوا يمتنع ويستحيل.

دع ذلك لكن من أين علموا أن الجهات تنتهي بمحدب الفلك الأطلس. من ذا الذي استعلم الجهات والفضاء الذي يكون ظرفا للكائنات وأخذ المساحة شبرا شبرا فوجد الجهات تنتهي بما يفترضونه ويسمونه الفلك الأطلس ومحدد الجهات. أليس الله الذي خلق العالم قادرا على أن يتصرف بأفلاك الهيئة القديمة ما يشاء؟!! إن المدققين من أصحاب الهيئة يعترفون بأن أفلاكهم ووضعها المذكور إنما هي افتراضية. لأنه لما رأى أهل الفن لبعض الكواكب سيرا منظوما حركات متناسقة في أدوارها أرادوا أن يفترضوا لها وضعا مناسبا لها ينظمون به مسائل الفن فصاروا يفترضون أوضاعا بمناسبة الحركات حسبما يصل إليه استعدادهم بالافتراض. ويعترفون بأنه يجوز أن يكون الوضع الحقيقي هو غير ما يفترضونه..


الصفحة 466
ولكن هلم العجب من الإلهي المتدين إذ يراغم دينه بالتقليد لموهومات الهيئة القديمة المنتقضة في افتراضاتها من أطرافها. وأعجب من ذلك أنه يبني معارف دينه وأصوله على افتراضاتها الموهومة الموهونة. فيقول بافتراض العقول العشر بمناسبة الأفلاك التسع الذي افترضها وحصر العالم وقدرة الله بها ويتصرف في جملة من أصول دينه بناء على افتراضات الهيئة القديمة الموهومة بلا هدى ولا كتاب منير (ألم تعلم بأن الله على كل شئ قدير) (1)

الاسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى

الشيخ: والقرآن الكريم ذكر هذه الحقيقة وذكر حجتها التي ترغم مغالطات الجاحدين فقال في أول سورة الاسراء (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله) فنسب الاسراء بالنبي إلى الله قطعا لمن يغالط ببعد المسافة بين المسجدين فأشار إلى أن قدرة الله لا يمتنع عليها مثل ذلك. هذا احتجاج على من يتشبث بالطبيعيات الموهومة قبل أن تعرف الطيارات التي يسير بها الانسان هذه المسافة في سويعات فما ظنك إذا شاء ذلك خالق العالم والطبيعيات والعاديات. وهذا الاحتجاج المشار إليه يشير أيضا إلى الاحتجاج على إمكان المعراج بقدرة الله فمن الغلط أن تؤل هذه الأمور على مقتضى الأوهام. أو يجحد وقوعها لأجل امتناعها على قدرة البشر عادة أو لأجل الشك في صدق الأخبار بها. فماذا عسى أن تفعل إذا ثبتت نبوة المخبر بها على وجه لا يمتنع على قدرة الله الذي يجريها تكريما لأنبيائه على خلاف العادة المألوفة.

____________

1 ـ سورة البقرة / الآية: 106. (*)


الصفحة 467

في الحج في دين الاسلام

رمزي: قد يعترض المعترض على الحج في دين الاسلام لما يرى فيه من المشقات وصرف الأموال الكثيرة. ولما يرى فيه من الأحوال الغريبة وتقييد الانسان بقيود الاحرام ومنعه عن كثير من الملاذ وتكليفه بأعمال تخل بشرفه ككشف رأسه والطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة. والهرولة في السعي. فما هو الوجه في هذه الأعمال. بل يقال في أول السؤال ما وجه تخصيص (مكة) وما يتبعها والكعبة بالحج وفرضه وهذه الأعمال.

مكة وتاريخها وحجة القرآن له

الشيخ: أما السؤال عن تخصيص مكة والكعبة بالحج فلأن الكعبة أول بيت وضع بعد الطوفان لعبادة الله والاخلاص بتوحيده حينما كانت الأرض قد استولت عليها العبادة الأوثانية والشرك فكانت الكعبة باكورة مشاعر التوحيد وعبادة الله الخالصة وقد بناه أول ناهض في دعوة التوحيد ومعارضة الشرك والوثنية وهو إبراهيم خليل الله ومعه ولده إسماعيل مبارك الله. فكانت الكعبة هي المكان الجدير بأن يبقى تذكاره في عبادة الله وتعظيم شعائره مدى الأيام. والقرآن الكريم يشير إلى هذا الوجه في قوله تعالى في الآيتين السادسة والتسعين والتسعين من سورة آل عمران (إن أول بيت وضع للناس) ليكون لهم مشعرا عاما لعبادة الله والاخلاص في توحيده (للذي ببكة) إسم مكة وقد أكد الله الأخبار بأوليته علما منه بما يقع من حسد الحاسدين وجحود الجاحدين (مباركا هدى للعالمين) إذ يتوجهون إلى عبادة الله واتباع رسله دعاة الهدى والتوحيد لا يختص بقوم دون قوم ولا بعصر دون عصر بل هو للعالمين (فيه آيات بينات) تهدي إلى كرامته بكرامة بانيه وغاية بنائه وحفظ تاريخه وشرف انتسابه ومباديه فقد كثرت بتعددها القرون بنحو خمسة وعشرين قرنا واختلفت بتداولها الأيدي وتقلبت بشؤونها الأحوال وتشعبت بنحلها الأديان وتوفرت دواعي الحسد لإسماعيل ومجده واستفحل ضلال الوثنية وغواية الأصنام في محو آثار الرسالة ودين رسل الله والتوحيد ومع هذا كله بقي تذكار إبراهيم رسول الله ومجد إسماعيل ومشعر التوحيد وتاريخ بناء البيت تذكارا خالدا في كل زمان وقرن بين ملايين من البشر متسلسل التاريخ المجيد بين الأمم يدا بيد ونسلا بعد نسل لم يخف أنوار تاريخه المجيد المسلسل غبار الجحود من الإسرائيليين ولا قومية القحطانيين ولا أهواء الوثنيين ولا جبروت الأمم ولا سطوة الحبشة بل كان في القرون والأجيال في جزيرة العرب على رغم مرور الدهور واختلاف البواعث والنزعات وتداول الأيدي ودام في خصوصيات مجده نارا على علم محفوفا بمجد النسبة إلى إبراهيم وإسماعيل وشعار الجلال والاحترام وشرف المنسكية والمشعرية والمسجدية العامة. وتلك آيات بينات من عناية الله بهذا البيت وحفظه لمجد تاريخه وشرفه بأحسن ما يحفظ به التاريخ.


الصفحة 468
ويمثل تلك الآيات (مقام إبراهيم) وهو صخرة كان يقف عليها إبراهيم لبناء البيت (1) وعليها أثر قدميه غائصا في تلك الصخرة الصماء إلى الكعبين وفي ذلك يقول أبو طالب في لاميته المشهورة:


وموطئ إبراهيم في الصخر رطبةعلى قدميه حافيا غير ناعل

فإن غوص قدميه في الصخرة آية وبقاء الصخرة والأثر على مرور الأحقاب على رغم المشركين والملحدين آية. وكذا بأنه حفظ فيه اسم إبراهيم وقيامه بنفسه الكريمة في بناء البيت

____________

1 ـ كان المقام عند حائط الكعبة إلى ما بعد حياة النبي (ص) بسنين على أصح الروايات ثم نقل إلى محله المعروف في هذه الأيام وجعلت عليه قبة وستر فلا يراه عامة الناس ويقال: إن المقام مدفون في القبة. (*)