الحلقة الثانية
الفصل السادس
علي (عليه السلام) بايع الخلفاء مكرهاً
قال: ان عليا (عليه السلام) بايع الخلفاء برضاه والشيعة يؤولون ذلك بالتقية.
اقول: قال السيد المرتضى (رحمه الله) وكيف يشكل على منصف ان بيعة أمير المؤمنين (عليه السلام) لم تكن عن رضا والأخبار متظاهرة بين كل من روى السير بما يقتضي ذلك، حتى ان من تأمل ما روي في هذا الباب لم يبق لديه شك في انه (عليه السلام) ألجئ على البيعة وصار إليها /بعد المدافعة والمحاججة/ لأمور اقتضت ذلك ليس من جملتها الرضا.
نص الشبهة
قال صاحب النشرة: " وذهب فريق آخر من الباطنية إلى قراءة التاريخ الإسلامي قراءة أخرى وإنكار بعض الأحداث الماضية أو يفسرها تفسيرا معاكسا وتبرير أعمال مثل بيعة الإمام أمير المؤمنين للخلفاء الثلاثة بأنها كانت للتقية "(1).
وقال أيضا: " واضطر المتكلمون (الشيعة)... إلى إعادة كتابة التاريخ وتأويل بيعة الإمام أمير المؤمنين للخلفاء الثلاثة ودخوله معهم في الشورى عند انتخاب عثمان واحتجاجه على معاوية بانتخابه عبر الشورى... تأويل كل ذلك بالتقية والإكراه وما إلى ذلك من تأويلات تعسفية ظالمة ".
وقال ايضا: " ويعترف المؤرخون الشيعة ببيعة الإمام علي (عليه السلام) لأبي بكر... ويفسرون ذلك بالتقية. وتقول بعض الروايات الشيعية ان بيعة أبي بكر تمت بالقوة والإكراه.
وقد رد القاضي عبد الجبار في المغني على ذلك بقوله: انه لم يجر إكراه وإنما تعلق بذلك بعض الإمامية بروايات ليست صحيحة... وانه لا يجوز من مثل علي التقية... وهلا ظهرت منه التقية يوم الجمل وصفين "(2).
الرد على الشبهة
أقول: جعل صاحب النشرة الشيعة الإمامية الاثني عشرية أحد أفراد (الباطنية) وستأتي مناقشته على ذلك في موضع آخر.
قوله (ويعترف المؤرخون الشيعة ببيعة الإمام علي لأبي بكر ويفسرون ذلك
____________
(1) الشورى العدد 3 ص 9.
(2) نظرية الامامة الالهية احمد الكاتب الفصل الرابع المبحث الرابع.
ونحن نورد جواب السيد المرتضى باختصار وهو: ان عليا (عليه السلام) صحيح ترك النكير والخلاف بعد ما ظهر منه وبايع بعد وفاة فاطمة (عليها السلام) ولكنه ظهر منه في خلافته ما يكشف ان تركه الخلاف والمنازعة وإظهاره البيعة كان تقية، فهنا قضيتان:
الأولى: ان عليا (عليه السلام) بعد ما بويع واستقر الأمر له بعد عثمان اظهر النكير على الخلفاء الثلاثة الذين سبقوه وكشف بذلك انه كان قد سالمهم وبايعهم لاعتبارات عدة ليس منها الرضا بهم وقد روي عنه (عليه السلام) انه كان يقول: " بايع الناس والله أبا بكر وأنا أولى بهم مني بقميصي هذا فكظمت غيظي وانتظرت أمري وألزقت كلكلي(1) بالأرض ثم ان أبا بكر هلك واستخلف عمر وقد والله علم اني أولى بالناس مني بقميصي هذا فكظمت غيظي وانتظرت أمري ثم ان عمر هلك وجعلها شورى وجعلني فيها سادس ستة كسهم الجدة فقال اقتلوا الأقل فكظمت غيظي وانتظرت أمري وألزقت كلكلي بالأرض (ثم ان عثمان قتل فجاؤني فبايعوني طائعين غير مكرهين) حتى ما وجدت إلا القتال أو الكفر بالله "(2) وقوله (عليه السلام) (حتى ما وجدت إلا القتال أو الكفر بالله) منبها على ان سبب قتاله لطلحة والزبير ومعاوية وكفه عمن تقدم انه لما وجد الأعوان والأنصار لزمه الأمر وتعين عليه فرض القتال وفي الحال الأولى كان معذورا لفقد الأعوان والأنصار.
وروى الواقدي في كتاب الجمل بإسناده ان أمير المؤمنين (عليه السلام) حين بويع خطب فحمد الله أثنى عليه ثم قال: " حق وباطل ولكل أهل ولئن أمر الباطل لقديما فعل ولئن قل الحق لربما ولعل وقلما أدبر شىء فاقبل وإني لأخشى ان تكونوا في فترة وما علينا إلا الإجتهاد وقد كانت لكم أمور ملتم فيها عليَّ ميلة لم تكونوا عندي فيها بمحمودين أما أني لو أشاء لقلت عفا الله عما سلف سبق الرجلان وقام الثالث كالغراب
____________
(1) الكلكل: الصدر.
(2) انظر ابن عساكرفي تاريخ دمشق 3: 101،174-175 بترجمة اميرالمؤمنين.
وقوله (عليه السلام) " لقد تقمصها ابن أبي قحافة وانه ليعلم ان محلي منها محل القطب من الرحى... " الخ الخطبة.
وقوله (عليه السلام) " ما زلت مظلوما منذ قبض الله نبيه صلى الله عليه واله وإلى يوم الناس هذا ".
الثانية: ان ترك الإنكار بعد ظهوره منه (عليه السلام) لا يدل على رضاه، لان المسالمة وترك الإنكار قد تكون معبرة عن الرضا وقد تكون معبرة عن التقية والخوف على النفس.
قال السيد المرتضى (رحمهم الله):
" فان قال (أي صاحب المغني) ليس يجب علينا ان نقول فيما يدل على رضاه اكثر من بيعته وترك نكيره لان الظاهر من ذلك يقتضي ما ذكرناه وعلى من ادعى انه كان مبطنا بخلاف الرضا ان يدل على ذلك فانه خلاف الظاهر.
قيل له: ليس الأمر على ما قدرته لان سخط أمير المؤمنين (عليه السلام) هو الاصل لأنه لا خلاف بين الأمة في انه عليه السلام سخط الأمر وأباه ونازع فيه وتأخر عن البيعة (فهنا أمران الأول سخطه (عليه السلام) الثاني: امتناعه عن البيعة) ثم انه لا خلاف في انه بايع بعد ذلك وترك النكير، فيبقى الأمر الأول وهو سخطه على حاله لم ينقله عنه شىء ويجب على من ادعى تغير الحال ان يثبت ذلك وليس له ان يجعل البيعة وترك الإنكار والخلاف دلالة الرضا لانا قد بينا ان البيعة وترك الإنكار قد يكونان عن رضا وقد يكونان عن غيره ".
ثم قال (رحمهم الله) أيضا:
" وكيف يشكل على منصف ان بيعة أمير المؤمنين (عليه السلام) لم تكن عن رضا والأخبار متظاهرة بين كل من روى السير بما يقتضي ذلك، حتى ان من تأمل ما روي في هذا الباب لم يبق لديه شك في انه (عليه السلام) أُلجئ على البيعة وصار إليها بعد المدافعة والمحاججة لأمور اقتضت ذلك ليس من جملتها الرضا.
____________
(1) ابن ابي الحديد ج1: 275.
(2) ابن ابي الحديد ج1: 275.
وقد روى البلاذري عن المدائني عن مسلمة بن محارب عن سليمان التيمي عن أبي عون " ان أبا بكر أرسل إلى علي (عليه السلام) يريده على البيعة فلم يبايع، فجاء عمر ومعه قبس فلقيته فاطمة (عليها السلام) على الباب فقالت: يا ابن الخطاب أتراك محرِّقا عليَّ بابي قال: نعم وذلك أقوِّي فيما جاء به أبوك وجاء علي (عليه السلام) فبايع "(2)، وهذا الخبر قد روته الشيعة من طرق كثيرة، وإنما الطريف ان نرويه لشيوخ محدثي العامة وكلهم كانوا يروون ما سمعوا بالسلامة، وربما تنبهوا على ما في بعض ما يروونه عليهم فكفوا عنه، وأي اختيار لمن يحرَّق عليه بابه حتى يبايع.
وقد روى إبراهيم بن سعيد الثقفي، قال حدثنا احمد بن عمرو البجلي، قال حدثنا احمد بن حبيب العامري عن حمران بن أعين عن أبي عبد الله جعفر بن محمد (عليه السلام) قال: " والله ما بايع علي (عليه السلام) حتى رأى الدخان قد دخل بيته ".
وروى المدائني عن عبد الله بن جعفر عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " لما ارتدت العرب مشى عثمان إلى علي (عليه السلام) فقال: يا ابن عم انه لا يخرج أحد إلى قتال هؤلاء وأنت لم
____________
(1) انساب الاشراف ج1: 587.
(2) انساب الاشراف ج1: 586 وفي ذيل الخبر (وقال علي (عليه السلام) كنت عزمت ان لا اخرج من منزلي حتى اجمع القرآن). اقول هذه الزيادة موضوعة على علي (عليه السلام) لتبرير تأخره عن البيعة وقد وردت في خبر آخر رواه البلاذري عن ابن سيرين قال: قال ابو بكر لعلي (عليه السلام) اكرهت امارة (امارتي) قال لا ولكني حلفت ان لا ارتدي بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله) برداء حتى اجمع القرآن كما انزل) (ج1: 587) ولا شك ان القرآن كان مجموعا في زمن النبي (صلى الله عليه وآله) لان آخر آية نزلت هي آية اكمال الدين في 18 ذي الحجة وبقي النبي (صلى الله عليه وآله) بعدها سبعين يوما تقريبا وهي كافية لجمع القرآن ان لم يكن جمع قبل ذلك. كما هو الاليق بتصرف النبي (صلى الله عليه وآله) وعلي (عليه السلام) مع القرآن.
وروى البلاذري عن المدائني عن أبي جري عن معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت: " لم يبايع علي أبا بكر حتى ماتت فاطمة بعد ستة اشهر فلما ماتت ضَرَع إلى صلح أبي بكر، فأرسل إليه ان يأتيه، فقال عمر لان تأته وحدك قال: وماذا يصنعون بي فأتاه أبو بكر فقال له (عليه السلام): ... والله لقرابة رسول الله (صلى الله عليه وآله) احب إلي من قرابتي فلم يزل علي (عليه السلام) يذكر حقه وقرابته حتى بكى أبو بكر فقال ميعادك العشية، فلما صلى أبو بكر خطب وذكر عليا (عليه السلام) وبيعته ثم بايع أبا بكر فقال المسلمون: أصبت وأحسنت "(2).
ومن تأمل هذا الخبر وما جرى مجراه عليهم كيف وقعت الحال في البيعة، وما الداعي إليها، ولو كانت الحال سليمة والنيات صافية، والتهمة مرتفعة، لما منع عمر أبا بكر ان يصير إلى أمير المؤمنين (عليه السلام).
وروى إبراهيم الثقفي عن محمد بن أبي عمير عن أبي عن صالح بن أبي الأسود عن عقبة بن سنان عن الزهري قال: " ما بايع علي (عليه السلام) إلا بعد ستة اشهر، وما اجتُرِئَ عليه إلا بعد موت فاطمة (عليها السلام) ".
وروى إبراهيم عن يحيى بن الحسن، عن عاصم بن عامر، عن نوح بن دراج، عن داود بن يزيد الاودي، عن أبيه عن عدي بن حاتم قال: " ما رحمت أحدا رحمتي عليا حين أتى به مُلَبَّبا فقيل له: بايع، قال: فان لم افعل؟ قالوا: إذا نقتلك، قال: إذا تقتلون عبد الله وأخا رسوله، ثم بايع كذا وضم يده اليمنى ".
وروى إبراهيم عن عثمان بن أبي شيبة عن خالد بن مخلد البجلي عن داود بن يزيد الاودي عن أبيه عن عدي بن حاتم قال " إني لجالس عند أبي بكر إذ جىء بعلي (عليه السلام) فقال له أبو بكر: بايع، فقال له علي (عليه السلام): فأن لم افعل؟ فقال: اضرب الذي
____________
(1) انساب الاشراف ج1 587.
(2) روى الخبر مفصلا البخاري في كتاب المغازي باب غزرة خيبر ج3: ص 46ورواه مسلم في صحيحه كتاب الجهاد ج5: 154.
وقد روي هذا المعنى من طرق مختلفة، وبألفاظ متقاربة المعنى وان اختلفت ألفاظها، وانه (عليه السلام) كان يقول في ذلك اليوم لما أُكرِه على البيعة وحُذِّرَ من التقاعد عنها: " يا ابن أم ان القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني فلا تشمت بي الأعداء ولا تجعلني مع القوم الظالمين " ويردد ذلك ويكرره، وذِكْرُ اكثر ما روي في هذا المعنى يطول فضلا عن ذكر جميعه، وفيما أشرنا إليه كفاية ودلالة على ان البيعة لم تكن عن رضىواختيار ".
ثم قال (رحمهم الله) أيضا:
" ومن أدل دليل على ان كفه (عليه السلام) عن النكير وإظهار الرضا لم يكن اختيارا وإيثارا، بل كان لبعض ما ذكرناه انه لا وجه لمبايعته بعد الإِباء إلا ما ذكرناه بعينه فان إباءه المتقدم لا يخلو من وجوه:
إما ان يكون ما ادعاه صاحب الكتاب من انشغاله بالنبي (صلى الله عليه وآله) وابنته، واستيحاشه من ترك مشاورته، وقد أبطلنا ذلك بما لا زيادة عليه(2) ".
أو لأنه كان ناظرا في الأمر ومريبا في صحة العقد أما بأن يكون ناظرا في صلاح المعقود له الإمامة، أو في تكامل شروط عقد إمامته، ووقوعه على وجه الصحة، وكل ذلك لا يجوز ان يكون خافيا على أمير المؤمنين (عليه السلام) ولا ملتبسا، بل كان به اعلم واليه اسبق، ولو جاز ان يخفى على مثله وقتا ووقتين لما جاز ان يستمر الأوقات، وتتراخى المدد في خفائه وكيف يشكل عليه صلاح أبي بكر للإمامة وعندهم ان ذلك كان معلوما ضرورة لكل أحد، وكذلك عندهم صفات العاقدين وعددهم، وشروط العقد الصحيح مما نص النبي (صلى الله عليه وآله) واعلم الجماعة به على سبيل التفصيل. فلم يبق شىء يرتئي فيه أمير المؤمنين (عليه السلام) وينظر في أصابته النظر الطويل يحمل عليه إباؤه وامتناعه
____________
(1) لو لم يبايع علي (عليه السلام) لقتل جهرةً كما قتل مالك بن نويرة وقيل عنه قتل مرتدا انظر قصة قتل مالك في شرح النهج 18: 203 نقلا عن المغني للقاضي عبد الجبار. او يقتل غيلة كما قتل سعد بن عبادة في خلافة عمر حيث بعث اليه عمر رجلا وقال له ادعه الى البيعة وان ابى فأستعن بالله عليه فجاءه فرفض البيعة فرماه بسهم فقتله واشيع عنه ان الجن قتله (البلاذريج1: 589). وفي شرح النهج ج18: 223 ان قتل سعد كان في خلافة أبي بكر.
(2) انظر الشافي ج3: 249-250 حيث تعرض لذلك.
وقوله (إلا لضرب من التدبير) أي للتقية والخوف على النفس.
رد على القاضي عبد الجبار:
اما قول صاحب المغني: " انه لايجوز من مثل علي (عليه السلام) التقية... وهلا ظهرت منه التقية يوم الجمل وصفين ".
فيَرُدُّه قول علي (عليه السلام) " لولا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر و... لا لقيت حبلها على غاربها " وقوله (عليه السلام) " لوجدت أربعين ذوى عزم لقاتلتهم " وقوله (عليه السلام) لجندب بن عبد الله الازدي حين اقترح عليه ايام الشورى ان يقوم فى الناس فيدعوهم الى نفسه ويسألهم النصر فان اجابه عشرة من مأة شدَّ بهم على الباقين اجابه (عليه السلام) " اترجو ان يبايعنى من كل عشرة واحد؟ قلت ارجو ذلك قال: لكني لا أرجو ذلك لا والله ولا من المأة واحد سأخبرك ان الناس انما ينظرون الى قريش فيقولون هم قوم محمد وقبيله... لا والله لايدفع الناس (أي قريش) هذا الامر طائعين ابدا ".
وكذلك يرده قوله علي (عليه السلام) فى خطبته الشقشقية " فنظرت فاذا ليس لي رائد الا ذاب ولامساعد الا اهل بيتي فضننت بهم عن المنية "(2).
____________
(1) انظر كتاب الشافي ج3: 217-251.
(2) مرت مصادر هذه الكلمات فى الفصل الاول والفصل الخامس.
الحلقة الثانية
الفصل السابع
قصة متعة الحج والعبرة منها
قال البغدادي: لو كان ثمة نص على علي (عليه السلام) فأن الصحابة اكبر من ان يخالفوا أمر النبي (صلى الله عليه وآله).
أقول: لم يكن الصحابة معصومين وقد تورطوا في اكثر من مرة بمخالفة النص الصريح وقصة متعة الحج من اكبر الشواهد.
نص الشبهة
قال البغدادي:
" ان من الغرابة بمكان ان يكون الطريق الوحيد هو ان يختار النبي بأمر الله شخصا/ هو علي / يعده قياديا ورساليا ومع ذلك لم يجد أغلبية تؤيده من الجيل الطليعي للامة ".
الرد على الشبهة
اقول: تزول هذه الغرابة إذا عرفنا ان أغلبية الصحابة كانوا قد خالفوا في تشريعات عبادية فضلا عن غيرها ولعل افضل حادثة تصور لنا هذه الحقيقة بكل وضوح هي مسألة حج التمتع وقد وردت أخبارها في كل كتب الحديث والى القارئ الكريم خلاصة عنها:
العمرة والحج في الإسلام:
هناك ثلاثة أنواع من الحج في الإسلام:
الأول حج التمتع: وهو فرض من لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام، ويتألف من عمرة التمتع وحج التمتع، وصورة عمرة التمتع هي، ان يحرم من الميقات في اشهر الحج ثم يأتي مكة ويطوف بها سبعا، ثم يصلي ركعتي الطواف، ثم يسعى بين الصفا والمروة سبعا، ثم يقصر، فيحل من جميع ما حرم عليه بالإحرام، ويقيم بمكة محلا إلى يوم التروية أي اليوم الثامن من ذي الحجة فينشئ إحراما لحج التمتع من الحرم، ثم يخرج إلى عرفات، ثم يفيض عنها بعد غروب التاسع إلى المشعر، ومنه إلى منى لرمي جمرة العقبة الكبرى، ثم الذبح ثم الحلق ان كان حجه صرورة وبه يتحلل إلا من النساء
الثانى حج الإفراد: ويتألف من حج أولا ثم عمرة يأتي بها بعد الانتهاء من المناسك في منى، وتسمى هذه العمرة بالمفردة، كما يسمى الحج بحج الإفراد، لان الحاج يأتي بكل منهما مفردا وليس في هذا الحج هدي.
الثالث حج القران: هو كحج الإفراد مع ملاحظة ان الحاج يسوق الهدي معه عند إحرامه، وقد سمي بذلك لان الحاج يقرن بين التلبية وسوق الهدي.
والنوعان الأخيران من الحج فرض حاضري المسجد الحرام.
العمرة والحج في الجاهلية:
كان الحج والعمرة من اهم الشعائر في الجاهلية وهما إضافة إلى أمور أخرى مما بقي من دين إبراهيم (عليه السلام)، وقد تحملت قريش بوصفها سكان البيت وذرية ابراهيم (عليه السلام) مسئولية إقامة الحج وتعليم الناس الوافدين إلى مكة أحكام الحج وكانت مكة قد عَظُمَ شأنها بعد حادثة الفيل، وانعكس ذلك على قريش، وابتدعت قريش بعد وفاة عبد المطلب بدعا خاصة في الحج وتابعتها العرب على ذلك، وكان من تلك البدع هو بدعة تحريم العمرة في اشهر الحج وجعلها من افجر الفجور.
قال ابن القيم: (اعتمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعد الهجرة أربع عمر كلهن في ذي القعدة.. والمقصود مخالفة هدي المشركين فانهم كانوا يكرهون العمرة في اشهر الحج) زاد المعاد 1 / 209.
حجة الوداع:
كانت حجة الوداع هي الحجة الأولى والأخيرة التي بيَّن النبي (صلى الله عليه وآله) فيها أحكام حج
روى أبو داود في سننه(2) ان النبي (صلى الله عليه وآله) لما وصل إلى عسفان (وهي بين الجحفة ومكة والجحفة تبعد عن مكة أربعة مراحل) قال له سراقة بن مالك المذحجي يا رسول الله اقض لنا قضاء قوم كأنما ولدوا اليوم فقال (صلى الله عليه وآله):
" ان الله تعالى قد ادخل عليكم في حجكم هذا عمرة فإذا قدمتم فمن تطوف بالبيت وبين الصفا والمروة فقد حل إلاّ من كان معه هدي ".
وتكرر منه (صلى الله عليه وآله) نظير ذلك في (سَرَف) التي تبعد ستة أميال من مكة(3).
ولننظر الآن كيف تلقى الصحابة تشريع حج التمتع.
موقف قريش من حج التمتع:
روى مسلم في صحيحه(4) عن جابر قال:
" أهللنا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالحج فلما قدمنا مكة امرنا ان نحل ونجعلها عمرة فَكَبُرَ ذلك علينا وضاقت به صدورنا فبلغ ذلك النبي (صلى الله عليه وآله).. فقال: أيها الناس أحلوا، فلولا الهدي الذي معي فعلت مثل الذي أمرتكم به. قال فأحللنا حتى وطئنا النساء، وفعلنا ما يفعل الحلال حتى إذا كان يوم التروية وجعلنا مكة بظهر أهللنا بالحج ".
وفي رواية البخاري في صحيحه عن جابر أيضا: " فبلغه (أي النبي (صلى الله عليه وآله)) انا نقول:
____________
(1) الامتاع 1: 511. وفي السيرة الحلبية 3: 308 ان الذين خرجوا معه كانوا اربعين الفا وقيل كانوا سبعين الفا وقيل كانوا تسعين الفا وقيل كانوا مائة الف واربعة عشر الفا وقيل عشرين الفا وقيل كانوا اكثر من ذلك.
(2) 1: 159.
(3) صحيح البخاري 1: 189. وصحيح مسلم: 875. وأيضا في بطحاء مكة سنن البيهقي 5: 4.
(4) صحيح مسلم: 882 ح138.
ومثله رواية مسلم وابن ماجة وأبي داود ومسند احمد.
وفي رواية أخرى للبخاري(1) أيضا: " ففشت في ذلك القالَةُ فبلغ ذلك النبي (صلى الله عليه وآله) فقام خطيبا فقال: بلغني ان أقواما يقولون كذا وكذا والله لانا أبَرُّ واتقى لله منهم ".
وفي رواية سنن ابن ماجة ومسند احمد ومجمع الزوائد: " قال الناس يا رسول الله قد احرمنا بالحج فيكف نجعلها عمرة؟ قال: انظروا ما آمركم به فافعلوا، فردوا عليه القول، فغضب، فانطلق ثم دخل على عائشة وهو غضبان فرأت الغضب في وجهه فقالت: من أغضبك أغضبه الله! قال: ما لي لا اغضب وأنا آمر أمرا فلا أُتَّبَع "(2).
وفي رواية مسلم(3): " قالت عائشة: قدم رسول الله (صلى الله عليه وآله) لأربع مضين من ذي الحجة أو خمس فدخل عليَّ وهو غضبان، فقلت من أغضبك يا رسول الله ادخله الله النار؟ قال: وما شعرت أني أمرت الناس بأمر فإذا هم يترددون ".
قال العلامة العسكري: " يبدو ان الممتنعين من التمتع بالعمرة إلى الحج الذين تعاظم عليهم ذلك كانوا من مهاجرة قريش من أصحاب النبي ويدل على ذلك أولا: ما رواه ابن عباس في حديثه (ان هذا الحي من قريش ومن دان دينهم كانوا يحرمون العمرة حتى ينسلخ ذو الحجة ومحرم). وثانيا: ان الذين منعوها بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) هم ولاة المسلمين من قريش ".
حج التمتع على عهد ابي بكر:
روى البيهقي عن عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه قال:
" حججتُ مع أبي بكر فجرَّد، ومع عمر فجرد ومع عثمان فجرد "(4). ومعنى جَرَّد أي افرد الحج.
____________
(1) 2: 52.
(2) مسند احمد 4: 286، مجمع الزوائد 3: 233، سنن ابن ماجة: 993.
(3) صحيح مسلم: 879.
(4) سنن البيهقي 5: 5.