حج التمتع على عهد عمر:
روى مالك بن انس في الموطأ عن عبد الله بن عمر قال:
" ان عمر بن الخطاب قال: افصلوا بين حجكم وعمرتكم فان ذلك أتم لحج أحدكم وأتم لعمرته ان يعتمر في غير اشهر الحج ".
وفي صحيح البخاري وصحيح مسلم ومسند احمد وغيرهم عن أبي موسى الاشعري قال: " كنت أفتي الناس بذلك (أي بالحل بعد إتمام أعمال متعة الحج) في إمارة أبي بكر وإمارة عمر فإني لقائم بالموسم إذ جاءني رجل فقال انك لا تدري ما احدث أمير المؤمنين في شان النُّسُك فقلت: أيها الناس من كنا أفتيناه بشىء فليتئد فهذا أمير المؤمنين قادم عليكم فبه ائتموا(1).. ثم ذكر أمره بفصل الحج عن العمرة ".
وفي حلية الأولياء(2): " ان عمر بن الخطاب نهى عن المتعة في اشهر الحج وقال: فعلتها مع رسول الله وأنا أنهى عنها وذلك:
ان أحدكم يأتي من أفق من الآفاق شعثا نصبا معتمرا اشهر الحج وإنما شعثه ونصبه وتلبيته في عمرته ثم يقدم فيطوف بالبيت ويحل ويلبس ويتطيب ويقع على أهله ان كانوا معه حتى إذا كان يوم التروية أهَلَّ بالحج وخرج إلى منى يلبي بحجة لا شعث فيها ولا نصب ولا تلبية إلا يوما، والحج افضل من العمرة، لو خلينا بينهم وبين هذا لعانقوهن تحت الأراك، وان أهل هذا البيت (أي أهل مكة) ليس لهم ضرع ولا زرع، وإنما ربيعهم في من يطرأ عليهم ".
وفي رواية مسلم: " فقال عمر: قد علمت ان النبي فعله وأصحابه ولكن كرهت ان يضلوا معرِّسين بهن في الأراك ثم يروحون في الحج تقطر رؤوسهم "(3).
____________
(1) يؤكد قول الاشعري هذا ان السلطة القرشية بعد النبي (صلى الله عليه وآله) كانت قد عرضت نفسها على انها السلطة التشريعية، بمعنى ان الدين هو ما تقرره، مضافا الى السلطة الاجرائية.
(2) 5: 205.
(3) صحيح مسلم: 896 ح157. مسند الطيالسي 2: 70 ح516. مسند احمد 1: 49 - 50، سنن النسائي 2: 16. من هذه الرواية نفهم ان عمر كان من الذين انكروا على رسول الله (صلى الله عليه وآله) امر متعة الحج وانه قال ضمن من قال (انغدوا حجاجا ورؤوسنا تقطر).
حج التمتع على عهد عثمان:
تابَعَ الخليفة عثمان سَلَفه عمر في ما استن من الفصل بين الحج والعمرة والضرب عليها قال ابن حزم(2): " ان عثمان سمع رجلا يُهِلُّ بعمرة وحج، فقال: عليَّ بالمُهِل، فضربه وحلقه "، الضرب للتأديب والحلق للتشهير، وفي الشطر الثاني من خلافة عثمان حيث نَقِمَ المسلمون عليه كثيرا من أحداثه، سجلت كتب الحديث اكثر من رواية تشرح معارضة علي (عليه السلام) بقوة تحريم متعة الحج.
موقف علي (عليه السلام) من حج التمتع:
روى مالك في الموطأ: " ان المقداد بن الأسود دخل على علي (عليه السلام) بالسُقْيا وهو يُنجِع بَكرات له دقيقا وخبطا، فقال هذا عثمان بن عفان ينهى ان يقرن بين الحج والعمرة، فخرج علي (عليه السلام) وعلى يديه اثر الدقيق والخبط فما أنسى اثر الدقيق والخبط، على ذراعيه، حتى دخل على عثمان فقال: أنت تنهى عن ان يُقْرَنَ بين الحج والعمرة، فقال: عثمان ذلك رأيي، فخرج عليٌّ (عليه السلام) مغضبا وهو يقول: لبيك اللهم لبيك بحجة وعمرة معا(3).
وفي سنن النسائي ومستدرك الصحيحين ومسند احمد واللفظ للاول عن سعيد بن المسيب قال: " حج علي وعثمان فلما كنا ببعض الطريق نهى عثمان عن التمتع فقال علي إذا رأيته ارتحل فارتحلوا فلبى علي وأصحابه بالعمرة... "(4).
____________
(1) 1: 170.
(2) المحلى 7: 107.
(3) موطأ مالك الحديث 40 من باب القِران في الحج: 336، وابن كثير 5: 129، و (السقيا) قرية جامعة بطريق مكة، و (ينجع) يسقي، و (بكرات) جمع بكرة ولد الناقة أو الفتى منها، و (الخَبْط) ضرب من ورق الشجر حتى ينحات عنه ثم يستخلف من غير ان يضر ذلك باصل الشجر واغصانها قال الليث (الخَبَط) خَبَط ورق العِظاء من الطلح ونحوه يخبط يضرب بالعصا فيتناثر ثم يعلف الابل.
(4) سنن النسائي 2: 15 كتاب الحج باب حج التمتع. ومسند احمد 1: 57 الحديث 402 بمسند عثمان.
=>
وفي صحيح البخاري وسنن النسائي وسنن الدارمي وسنن البيهقي ومسند احمد ومسند الطيالسي وغيرها عن علي بن الحسين (عليهما السلام) عن مروان بن الحكم قال: " شهدت عثمان وعليا (عليه السلام) وعثمان ينهى عن المتعة وان يجمع بينهما فلما رأى علي أهل بهما لبيك بعمرة وحجة معا قال ما كنت لأدع سنة النبي (صلى الله عليه وآله) لقول أحد "(2).
وفي لفظ النسائي: " فقال عثمان أتفعلها وأنا أنهى عنها فقال علي لم اكن لأدع سنة رسول الله لأحد من الناس ".
هذا هو موقف علي (عليه السلام) من أمر متعة الحج في عهد عثمان، وهو موقفه ايضا في عهد عمر ولكنه (عليه السلام) لم يتابع إنكاره على عمر، بقوة لشدة عمر المعروفة ولما تولى علي (عليه السلام) الأمر بعد قتل عثمان كان من الطبيعي ان يحث على إقامة سنة النبي (صلى الله عليه وآله) في حج التمتع وغيرها وكذلك كان الأمر في عهد الحسن (عليه السلام).
حج التمتع على عهد معاوية:
لما تولى معاوية أمر الحكم عمل على إحياء سنن الخلفاء الثلاثة وكان منها تحريم متعة الحج ففي سنن النسائي عن ابن عباس قال: هذا معاوية ينهى الناس عن المتعة. وقد تمتع النبي (صلى الله عليه وآله).
وفي موطأ مالك وسنن النسائي وسنن الترمذي عن محمد بن عبد الله بن الحارث: " انه سمع سعد بن أبي وقاص والضحاك بن قيس عام حج معاوية، وهما يذكران التمتع بالعمرة إلى الحج، فقال الضحاك: يا بن قيس لا يفعل ذلك إلا من جهل أمر الله عز وجل، فقال سعد: بئس ما قلت يا بن أخي، فقال الضحاك: فإن عمر بن الخطاب قد
____________
<=
ومستدرك الصحيحين 1: 472. وتاريخ ابن كثير 5: 126 و127.
(1) يتضح من الرواية وتعليق السندي ان عليا (عليه السلام) واصحابه كانوا في الحج على السنة وكان عمر وعثمان ومن اقتدى بهما على خلاف السنة.
(2) صحيح البخاري 1: 190.
أقول: قوله (قد فعلها رسول الله)، تعبير غير صحيح من الراوي لان رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان قد ساق الهدي ولم يحل، وإنما أمر بالحل.
لقد جدَّ معاوية خاصة بعد وفاة الحسن (عليه السلام) في المنع من متعة الحج فلم يكن يجرؤ من يعرف الحقيقة وثبت عليها من المجاهرة بها كما يظهر من الرواية الآتية:
روى مسلم عن مطرِّف قال: " بعث إليَّ عمران بن الحصين في مرضه الذي توفي منه فقال: أني محدثك بأحاديث لعل الله ان ينفعك بها بعدي فان عشت فاكتم عني وان مت فحدِّث بها ان شئت.. واعلم ان نبي الله (صلى الله عليه وآله) قد جمع بين حج وعمرة، ثم لم ينزل فيها كتاب يحرم، ولم ينه عنها رسول الله، قال فيها رجل برأيه ما شاء "(1).
اقول: اراد بالرجل الذي قال فيها برأيه ما شاء هو عمر.
حج التمتع على عهد ابن الزبير:
ولما ولي ابن الزبير مكة اكثر من عشر سنوات واصل هو وبنو أبيه في منع المسلمين من عمرة التمتع فوقعت بينهم وبين أتباع علي (عليه السلام) مناظرات ومساجلات، ففي صحيح مسلم(2): " كان ابن عباس يأمر بالمتعة وكان ابن الزبير ينهى عنها ".
وفي زاد المعاد: " قال عبد الله بن الزبير افرِدوا الحج أي لا تجمعوا بين الحج والعمرة ودعوا قول أعماكم هذا (يريد ابن عباس) فقال عبد الله بن عباس: ان الذي أعمى قلبه لأنت، ألا تسأل أمك عن هذا، فأرسل إليها فقالت: صدق ابن عباس جئنا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) حجاجا فجعلناها عمرة، فحللنا الإحلال كله، حتى سطعت المَجامِر بين الرجال والنساء "(3).
____________
(1) صحيح مسلم ج168: 161، 169. وعمران بن حصين توفي بالبصرة سنة اثنتين وخمسين. يتضح من هذه الرواية ان السلطة القرشية بعد النبي (صلى الله عليه وآله) كانت قد عرَّضت سنة محمد (صلى الله عليه وآله) للتحريف حين ادخلت فيها برأيها ما شاءت كما عرَّضت سنة ابراهيم في الحج بعد وفاة عبد المطلب حين ادخلت فيها برأيها ما شاءت من بدعة الحمس وتحريم العمرة في اشهر الحج.
(2) الحديث 194.
(3) زاد المعاد 1: 248. انظر أيضا زوائد المسانيد الثمانية 1: 330 الحديث 1108 والمصنف لابن أبي شيبة
=>
قال وما ذاك يا عُرَيَّة(1)؟
قال تأمرنا بالعمرة في اشهر الحج وقد نهى عنها أبو بكر وعمر!
فقال ابن عباس: قد فعلها رسول الله (صلى الله عليه وآله)(2). وفي رواية أخرى " فقال ابن عباس: أراهم سيهلكون أقول قال النبي (صلى الله عليه وآله) ويقولون نهى أبو بكر وعمر(3).
وفي صحيح مسلم عن أبي نضرة قال: " كنت عند جابر فأتاه آت فقال: ان ابن عباس وابن الزبير اختلفا في المتعتين فقال جابر فعلناها مع رسول الله ثم نهى عنها عمر فلم نَعُد لهما(4).
ولم يفلح ابن الزبير في إرجاع الناس في أمر متعة الحج إلى ما سنه فيها عمر، وتعلقت قلوبهم بسنة النبي (صلى الله عليه وآله) كما أحياها علي (عليه السلام)، ففي صحيح مسلم:
" قال رجل من بني الهجيم لابن عباس ما هذه الفتيا التي تشغفت أو تشغبت بالناس ان من طاف بالبيت فقد حل فقال سنة نبيكم وان رغمتم، وفي رواية بعدها: ان هذا الأمر قد تفشغ بالناس من طاف بالبيت فقد حل "(5). وقوله تشغفت أي علقت بقلوب الناس وتشغبت أي خلطت عليهم أمرهم وتفشغ أي انتشر وفشا بين الناس.
حج التمتع على عهد بني مروان:
وحاول عبد الملك ومن جاء من بعده من حكام بني أمية أحياء موقف عمر، وكان الناس في زمانهم يتخوفون من الإفتاء بمتعة الحج كما يظهر ذلك من رواية ابن حزم عن منصور بن المعتمر قال: حج الحسن البصري وحججت معه في ذلك العام، فلما قدمنا مكة جاء رجل إلى الحسن، فقال: يا أبا سعيد إني رجل بعيد الشقة من أهل خراسانوإني قدمت مُهِلاًّ بالحج، فقال له الحسن: اجعلها عمرة واحل، فانكر ذلك
____________
<=
4: 103.
(1) تصغير عروة.
(2) مسند احمد 1: 252.
(3) مسند احمد: 337.
(4) صحيح مسلم الحديث 1249 ص 914.
(5) صحيح مسلم 206: 207.
حج التمتع على عهد بني العباس:
زال الـتخوف والـحرج عن الـمسلمين عن الـعمل بمتعة الـحج في عـصر بنـي العـباس، وانتشر القـول بعمرة التمتع علـى عهدهمولـعل لـموقف جـدهم عـبد الله بـن العباس دخـلا في ذلك، وعلـى عهدهم تبنى احمد بن حنبل القول بعمرة التمتع ثم استمر في أتباعه إلى اليوم(2).
العبرة من قصة حج التمتع:
أقول: إذا كان سبعون ألفا إلى مائة ألف أو اكثر كانوا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) في حجة الوداع، وهي آخر سنة من حركة النبوة، قد سمعوا من النبي (صلى الله عليه وآله) أمر حج التمتع ثم عملوا به بعد مشاكسة وممانعة، ومع ذلك استطاع الخليفة عمر ان ينهاهم عنها، ويعاقبهم إذا خالفوا أمره فيها، ولم يجرؤ على الوقوف أمام هذه المخالفة إلا علي (عليه السلام) ونفر من أصحابه معه كمقداد وعمار وغيرهما، فهل يُستغرَب منهم ان يخالفوا نص النبي (صلى الله عليه وآله) في علي (عليه السلام) في حادثة الغدير ودواعي المخالفة هنا أقوى لمكان الرئاسة والتقدم على الغير؟
ثم لو قارن الباحث بين كيفية تبليغ النبي (صلى الله عليه وآله) حكم متعة الحج وتدرجه فيه وكيفية تبليغ النص في ولاية علي (عليه السلام) وتدرجه فيه، ثم ردود الفعل إزاء الحُكمين في زمان النبي وبعده، وكيفية تخطيط علي (عليه السلام) لإحياء نص النبي (صلى الله عليه وآله) فيه وفي أهل بيته يوم الغدير وإحياء سنته (صلى الله عليه وآله) في متعة الحج، لدهش من شدة التشابه، وقد جعل الله تعالى في ذلك عبرة لمن أراد الاعتبار.
____________
(1) المحلى 7: 103. توفي الحسن البصري سنة 110 هجـ وقد قارب التسعين وعطاء توفي سنة114هجـ.
(2) استفدنا اكثر ما ورد من بحث العلامة العسكري في كتابه معالم المدرستين ط4 ج2: 197-251. ويعد بحثه في حج التمتع بحق افضل ماكتب في بابه.
وتميز موقف علي (عليه السلام) بالاستنكار على عمر استنكارا لينا لما يعلم من شدته، ثم استنكارا شديدا على عثمان في اخريات حكومته حيث تضعضعت سلطته، وكثر كلام الناس عليه، ثم العمل على احياء متعة الحج زمان حكمه.
اما تدرج النبي (صلى الله عليه وآله) في تبليغه الولاية لاهل البيت (عليهم السلام) وتسمية علي (عليه السلام) فهو واضح لمن يتأمل كلمات النبي (صلى الله عليه وآله) فيهم منذ واقعة الدار والى ما قبل حجة الوداع، اذ يجدها خاصة غير عامة فحديث الدار كان مع بني هاشم، وحديث الكساء كان امام ام سلمة وامام هذه المجموعة او تلك من اصحابه وهكذا الامر في كل ما اثر عنه (صلى الله عليه وآله) من احاديث في فضل علي (عليه السلام) او احد من اهل بيته، اما في خطبته يوم عرفة وحديثه في الغدير فقد كان ذكر اهل بيته وعلي (عليه السلام) امام كل اصحابه الذين بلغ عددهم مأة الف او يزيدون، وقد كثر لغطهم لما قرن النبي (صلى الله عليه وآله) اهل بيته بالقرآن وجعل التمسك بهما امانا من الضلالة وذكر الاثني عشر منهم(1)، وبسبب اللغط والصخب لم يسم عليا في خطبته في عرفة.
وعند رجوعه (صلى الله عليه وآله) من الحج ووصوله الى غدير خم نزل قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَالله يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لايَهْدِي القَوْمَ الكَافِرِينَ) فقام النبي وخطب اصحابه وذكر اهل بيته (عليهم السلام) وسمى عليا (عليه السلام)، وجعل ولاية علي كولايته وهي كولاية الله تعالى واستجاب الناس لامر الله في علي وسلموا جميعا عليه بامرة المؤمنين، حتى قال عمر بخ بخ لك يا علي
____________
(1) مسند احمد ج5: 99 حديث سمرة بن جندب.
وكان رد الفعل بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله) هو العدول عن علي (عليه السلام) بل النهي عن ذكر احاديث النبي فيه وفي اهل بيته بل نهيهم عن رواية السنة النبوية مطلقا كرد فعلهم ازاء حج التمتع ونهيهم عنها، كما مرت مصادر دلك فى صفحة 159 - 163 من هذا الكتاب.
وتميز موقف علي (عليه السلام) بالاستنكار على اهل السقيفة والامتناع عن البيعة ثم سالمهم حفظا على حياته، ولما صار الامر اليه بعد قتل عثمان احيا ما ذكره النبي (صلى الله عليه وآله) فيه وفي اهل بيته، وفي مسجد الكوفة وهو يجمع الالاف المؤلفة من المصلين روى علي (عليه السلام) حديث الغديرواستنشد من كان حاضرا من الصحابة لتأييده، وبسبب ذلك صارت رواية حديث الغدير متميزة من ناحية كثرة رواتها من الصحابة والتابعين وقد سجل الحافظ ابن عقدة في القرن الرابع الهجري رواية مأة وعشرة من الصحابة الامر الذي لم يسجل مثله لاي حديث آخر من احاديث النبي (صلى الله عليه وآله) سواء في الفضائل او في الاحكام.
الحلقة الثانية
الفصل الثامن
أسئلة الدكتور الشرقاوي حول نظرية النص
أسئلة الدكتور الشرقاوي
نشرت نشرة الشورى في حقل رسائل القراء رسالة موقعة باسم الدكتور الشرقاوي فيما يلي نصها:
" السيد رئيس تحرير (الشورى) السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:
تلبية لدعوتكم إلى مناقشة موضوع الشورى عند جيل الصحابة، ومساهمة في ممارسة الشورى والدخول في نادي (الشورى) أود ان أقول في البداية انني لم اقرأ نقدا موضوعيا هادئا لنظرية الشورى كما قرأته في المقال الموجز للشهيد السيد محمد باقر الصدر (قدس سره) والمقتبس من كراسة له حول (الولاية).. ولست ادري فيما إذا كان ذلك هو رأيه الأخير أم ان له استدراكات أخرى على الموضوع وعلى أي حال فقد شدتني فكرته القائلة بضرورة قيام الرسول بعملية توعية للامة والدعاة على نظام الشورى وحدوده وتفاصيله. لو كان قد اتخذ منه موقفا إيجابيا، ولأعد المجتمع الإسلامي إعدادا فكريا وروحيا لتقبل هذا النظام، ولطرح فكرة الشورى على نطاق واسع وبعمق وبإعداد نفسي عام وملء لكل الثغرات وإبراز لكل التفاصيل التي تجعل الفكرة عملية، خاصة وان الشورى كفكرة ومفهوم غائم لا يمكن وضعه موضع التنفيذ ما لم تشرح تفاصيله ومقاييس التفضيل عند اختلافالشورىوهل تقوم على أساس العدد والكم أم على أساس الكيف والخبرة.. وما إلى ذلك من الأسئلة والنقاط المهمة التي أثارها الشهيد الصدر، وقطع على ضوئها بعدم تبني الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) لنظام الشورى، وعدم إسناد زعامة الأمة إلى القيادة التي تنبثق عن هذا النظام.
ومع ان الشهيد الصدر قد انتهى بعد إسقاط أو سقوط نظرية الشورى إلى طرح نظرية النص والتعيين وإعداد النبي للإمام علي من بعده لكي يتولى زعامة الأمة فكريا
وبكلمة أخرى.. لماذا نفترض ان النظام السياسي الذي أعقب مرحلة النبوة كان يجب ان يتمتع بهالة قدسية دينية أو ان يقوم بأدوار لإكمال الرسالة إلا يمكن ان يكون الرسول قد ترك وراءه نظاما سياسيا مدنياً وترك للمسلمين حرية اختيار النظام وتطويره حسب الزمان والمكان وإذا كان لابد ان يترك الرسول وراءه نظاما سياسيا يشكل امتدادا لخط النبوة وتتمثل فيه المرجعية الفكرية والزعامة السياسية، وانه - كما يقول الصدر - قد اختار الإمام علي بن أبي طالب واعده إعدادا رساليا وقياديا، وعهد إليه زعامة الأمة من بعده فكريا وسياسيا، فان الاشكالات التي أخذها الصدر كلها ترد على هذه النظرية أيضا وبشكل أقوى.
ويمكن ان نعيد تكرار كل تلك الملاحظات والتساؤلات هنا مرة أخرى.. فتقول مثلا:
ان نظرية النص والتعيين فكرة غامضة وغائمة لا يكفي طرحها هكذا لعدم إمكانية وضعها موضع التنفيذ ما لم تشرح تفاصليها وبدقه، وهل تقتصر على شخص الإمام علي وحده ام تمتد إلى ما وراءه؟ وهل يوصي كل إمام لرجل من عامة المسلمين من بعده أم تنحصر في سلالة معينة ولماذا؟ وهل ان النص والتعيين لمرحلة زمنية معينة فقط أم أنها نظرية ممتدة إلى يوم القيامة؟ وإذا كانت الإمامة في سلالة الإمام علي فهل هي في ولد الحسن أو الحسين أو في أولادهما جميعا؟ وكيف تنتقل الإمامة من واحد إلى آخر؟ وكيف نعرف الإمام بعد الإمام وما هي علامات الإمامة؟
وهل أوصى الرسول بأسماء الأئمة من بعده إلى يوم القيامة وأعلن ذلك؟ وإذا كانت أسماء الأئمة قد حددت من قبل فماذا يعني البداء الذي حدث لعدد من الأئمة الذين أوصوا إلى بعض أبنائهم كالإمام الصادق الذي أوصى إلى إسماعيل والإمام الهادي
وإذا كان الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) قد بين كل هذه التفاصيل فلماذا لم تصل إلينا؟ وإذا كانت قد وصلت إلى الشيعة الأوائل فلماذا افترقوا خلال قرن من الزمان إلى اكثر من خمسين فرقة حيث كانوا يحتارون بعد وفاة كل إمام ويتشرذمون إلى عدة خطوط حسب عدد أولاد كل إمام؟
ولماذا كانت نظرية النص مجهولة عند أهل البيت (عليهم السلام)، ولم يذكرها الإمام علي (عليه السلام) في مناظراته مع أصحاب الشورى عند انتخاب الخليفة الثالث عثمان بن عفان؟ ولماذا كانت نظرية النص غائبة عن أذهان الصحابة من المهاجرين والأنصار الذين ذهبوا فور وفاة الرسول إلى السقيفة يتأولون أمر انتخاب خليفة للمسلمين، ولم يخطر ببالهم وجود بيعة في أعناقهم للإمام علي (عليه السلام) في غدير خم؟
نرجوا ان توضحوا الفرق في النظريتين الشورى والإمامة، في العدد القادم من (الشورى) وتجيبوا على تلك الأسئلة المحيرة التي تقف عقبة امام الإيمان بنظرية النص، خاصة وان الشهيد الصدر لم يذكر مسألة استمرار الإمامة بعد الإمام علي (عليه السلام) ولم يخض في أي جانب من التفاصيل. وشكرا والسلام عليكم.
د. عبد السميع الشرقاوي / مانشستر "(1).
____________
(1) الشورى العدد الرابع ص 6وقد اجاب عنها احمد الكاتب اجابة مشوهة تنسجم مع رؤيته الخاطئة لمسألة الامامة وقد غضضنا الطرف عن مناقشة اجابته وآثرنا اجابة اسئلة الشرقاوي مباشرةً.
قضيتان في اسئلة الشرقاوي
اقول: ان أسئلة الدكتور الشرقاوي تدور حول قضيتين رئيسيتين:
الأولى: مبررات القول بفكرة النص ومبررات رفض فكرة الشورى.
الثانية: اشكالات حول فكرة النص من خلال اثارة عدة اسئلة حولها.
القضية الأولى:
اما مبررات القول بفكرة النص فقد وضحها الشهيد الصدر في كتابه (بحث حول الولاية) وهي بشكل مختصر كما يلي:
كان أمام النبي (صلى الله عليه وآله) ثلاثة طرق بالإمكان انتهاجها تجاه مستقبل الدعوة.
أولهما: الطريق السلبي وذلك بان يترك مستقبل الدعوة للظروف والصدف.
ثانيها: الطريق الإيجابي وذلك بان يجعل القيمومة على الدعوة للمهاجرين الأنصار.
ثالثها: ان يختار بأمر الله تعالى من يقوم مقامه.
الطريق الأول (الإهمال):
ثم ناقش الشهيد الصدر (رحمهم الله) الطريق الأول بأن سلط الضوء على الأخطار التي كانت تواجه التجربة الإسلامية الأولى.
سواء تلك التي تنشأ من وجود المنافقين اللذين كانوا يكيدون للنبي (صلى الله عليه وآله) في حياته إضافة إلى مسلمة الفتح والطلقاء الذين اسلموا خضوعا للأمر الواقع انفتاحا على الحقيقة.
أو تلك التي تنشا من عدم النضج الرسالي وتفاوت الفهم والذوبان بالإسلام عند
ان افتراض الطريق الأول معناه ان النبي كان لا يشعر بتلك الأخطار، وهو أمر لا يمكن تصوره في حق قائد مارس العمل العقائدي فضلا عن خاتم الأنبياء، أو انه كان يشعر بذلك ويقدره إلا انه (صلى الله عليه وآله) لم يكن يهمه أمر سلامة المسيرة من بعده وهذا التفسير أيضا لا يمكن ان يصدق عليه (صلى الله عليه وآله) إذ ان سيرته (صلى الله عليه وآله) حافلة بشواهد كثيرة تدل على ضد ذلك، واهم هذه الشواهد ما أجمعت كتب الحديث عند السنة والشيعة على نقله هو قوله (صلى الله عليه وآله) وهو على فراش المرض: " هلم اكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده "(1).
فان هذه المحاولة منه (صلى الله عليه وآله) المتفق على نقلها وصحتها تدل وبوضوح على انه (صلى الله عليه وآله) كان يفكر في أخطار المستقبل وانه كان معنيا بصيانة المسيرة بعده من الضلال والانحراف وبالتالي فان افتراض الطريق الأول غير صادق في حقه (صلى الله عليه وآله).
الطريق الثاني (الشورى):
وقد ناقش السيد الشهيد الطريق الثاني بقوله ان الوضع العام الثابت عن الرسول (صلى الله عليه وآله) وجيل المهاجرين والأنصار ينفي فرضية ان النبي (صلى الله عليه وآله) قد انتهج هذا الطريق.
إذ لو كان النبي (صلى الله عليه وآله) أراد ان يسند الأمر إلى جيل المهاجرين والأنصار دون حصرها بأهل بيته (عليهم السلام) لكان من أبده الأشياء التي يتطلبها هذا الموقف هو ان يقوم
____________
(1) عن ابن عباس قال: " لما حُضِرَ رسول الله (صلى الله عليه وآله) وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب قال، النبي (صلى الله عليه وآله) هلم اكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده فقال عمر ان النبي (صلى الله عليه وآله) قد غلبه الوجع وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله...صحيح البخاري كتاب المرض باب قول المريض قوموا عني ج7: 9 افست دار الفكر على ط. استانبول، ص 7 ص 156 ط. وج 4: 7 دار احياء المكتب وج4: 5 ط الميمنية بمصر وج 6 ص 97 ط بمبي وج 4 ص 6 ط المطبعة الخيرية بمصر. صحيح مسلم في آخر كتاب الوصية ج 5 ص 75 ط محمد علي صبيح وط المكتبة التجارية. وج 2 ص 16 ط عيسى الحلبي وج 11 ص 95 ط مصر بشرح النووي، مسند احمد ج 4 ص 356 ح 2992 بسند صحيح ط دار المارف بمصر (انظر المراجعات بتحقيق حسين الراضي فقد اورد المصادر تفصيلا في الملاحق ص 192 - 195).
ولو كان النبي (صلى الله عليه وآله) قد قام بتلك التوعية لكان من الطبيعي ان تنعكس في الأحاديث المأثورة عن النبي (صلى الله عليه وآله) وفي ذهنية جيل المهاجرين والأنصار مع أننا لا نجد في الأحاديث عن النبي (صلى الله عليه وآله) أي صورة تشريعية محددة لنظام الشورى.
واما ذهنية المهاجرين والأنصار فلا نجد فيها ملامح أو انعكاسات كاشفة عن توعية من هذا القبيل فان هذا الجيل كان يحتوي على اتجاهين.
أحدهما: الاتجاه الذي يتزعمه أهل البيت (عليه السلام) وكان يؤمن بالوصية.
والآخر: الاتجاه الذي تمثله السقيفة والخلافة التي قامت فعلا بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله)، وكل الأرقام والشواهد في سيرة أصحاب هذا الاتجاه تدل بصورة لا تقبل الشك على انه لم يكن يؤمن بالشورى، إذ ان أبا بكر حين اشتد به المرض عهد إلى عمر وولاه على الأمة، وسار عمر على المنهج نفسه حين عين ستة يختارون من بينهم واحدا وكان يقول " لو كان سالم حيا ما جعلتها شورى "(1).
ولو كان النبي (صلى الله عليه وآله) قد قرر ان يجعل من جيل المهاجرين والأنصار قيما على الدعوة من بعده، لتحتم عليه ان يعبئ هذا الجيل تعبئة رسالية وفكرية واسعة تجعله قادرا على مواجهة المشكلات الفكرية التي تواجهها الدعوة في حالة انفتاحها على شعوب متعددة وأراضي جديدة.
ولكننا لا نجد أثرا لذلك الإعداد، والمعروف عن الصحابة انهم كانوا يتحاشون من ابتداء النبي (صلى الله عليه وآله) بالسؤال، بل امسكوا عن تدوين آثار الرسول (صلى الله عليه وآله) وسننه على رغم أنها المصدر الثاني من مصادر الإسلام، وكون التدوين هو الأسلوب الوحيد لحفظه(2).
____________
(1) مرت مصادر ذلك في قصة الشورى المبحوثة في هذا الكتاب.
(2) اقول بل رأينا الخلافة تنهى عن نشر السنة النبوية وتأمر بإحراق مادونه الصحابة.
اما مسألة النهي فتوضحه الأخبار الآتية: روى الذهبي ان ابا بكر جمع الناس بعد وفاة نبيهم فقال: " انكم تحدثون عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) احاديث تختلفون فيها، والناس بعدكم اشد اختلافا، فلا تحدثوا عن رسول الله شيئا، فمن سألكم فقولوا بيننا وبينكم كتاب الله فاستحلوا حلاله وحرموا حرامه " تذكرة الحفاظ بترجمة ابي بكر ج: 3-2. وروى ايضا عن قرظة بن كعب انه قال: لما سيَّرنا عمر الى العراق مشى معنا عمر الى
=>