الصفحة 269

الحلقة الثالثة / الفصل الاول


المورد الثاني
منهج علي (عليه السلام) في قبول البيعة


قوله: عدم وجود الوصية يفسر لنا احجام الامام علي عن اخذ البيعة من العباس او ابي سفيان

اقول: بل الذي يفسر احجام علي (عليه السلام) عن اخذ البيعة من العباس او ابي سفيان هو انهما عرضا البيعة على اساس قبلي مضافا الى ان عليا ينظر الى بيعة من به الكفاية من اهل السابقة والجهاد ممن عرف النص ووعاه ولم يكن ابو سفيان او العباس كذلك





الصفحة 270

الصفحة 271

نص الشبهة


قوله: " وهو -أي عدم وجود وصية من النبي لعلي بالخلافة- ما يفسر احجام الامام علي عن المبادرة الى اخذ البيعة لنفسه بعد وفاة الرسول، بالرغم من الحاح العباس بن عبد المطلب عليه بذلك، حيث قال له: "امدد يدك ابايعك، وآتيك بهذا الشيخ من قريش - يعني ابا سفيان - فيقال: "ان عم رسول الله بايع ابن عمه" فلا يختلف عليك من قريش احد، والناس تبع لقريش". فرفض الامام علي ذلك.

وقد روى الامام الصادق عن ابيه عن جده: انه لما استخلف ابو بكر جاء ابو سفيان الى الامام علي وقال له: أرضيتم يا بني عبد مناف ان يلي عليكم تيم؟ ابسط يدك ابايعك، فوالله لأملأنها على ابي فصيل خيلا ورجالا، فانزوى عنه وقال: ويحك يا ابا سفيان هذه من دواهيك، وقد اجتمع الناس على ابي بكر. ما زلت تبغي للاسلام العوج في الجاهلية والاسلام، ووالله ما ضر الاسلام ذلك شيئا... مازلت صاحب فتنة."(1).

الرد على الشبهة


أقول:

أحجم علي (عليه السلام) عن اخذ البيعة من العباس أو من أبي سفيان لان دافعهما في عرض النصرة والبيعة لعلي (عليه السلام) هو العصبية القبلية وليس النص، مضافا الى ان عليا (عليه السلام) ينظر في تصديه للحكم إلى بيعة ذوي السابقة من المهاجرين والأنصار ممن سمع النص ووعاه وان تكون في المسجد على مشهد من عامة الناس لا خفية.

____________

(1) احمد الكاتب - تطور الفكر السياسي الشيعي: 12.


الصفحة 272
أما الرواية التي نسبها إلى الإمام الصادق (عليه السلام) وهي قوله: (انه لما استخلف ابو بكر جاء ابو سفيان الى الامام علي وقال له: أرضيتم يا بني عبد مناف ان يلي عليكم تيم؟ ابسط يدك ابايعك، فوالله لأملأنها على ابي فصيل خيلا ورجالا، فانزوى عنه وقال: ويحك يا ابا سفيان هذه من دواهيك، وقد اجتمع الناس على ابي بكر. ما زلت تبغي للاسلام العوج في الجاهلية والاسلام، ووالله ما ضر الاسلام ذلك شيئا... ما زلت صاحب فتنة) فهي رواية موضوعة رواها القاضي عبد الجبار المعتزلي في كتابه المغني ص 289 وذلك لان عرض أبي سفيان على علي (عليه السلام) إنما كان في بدء أمر السقيفة وامتناع بني هاشم مع عدد من المهاجرين في المدينة، وآخرين خارج المدينة منهم مالك بن نويرة وقومه وليس بعد اجتماع الناس على ابي بكر.

أما مسلكه (عليه السلام) في البيعة لجهاد أهل السقيفة فهو ان يكون المبايعون له اربعين مجتمعين ذوي عزم أي ذوي ثبات وصبر في إيمانهم ولم يكن أبو سفيان منهم، والعباس نفر واحد لا تتحقق به بيعة كهذه، مضافا الى الأساس القبلي الذي انطلقا منه وعلي لا يقبل به.


الصفحة 273

الحلقة الثالثة / الفصل الاول


المورد الثالث
احقية علي (عليه السلام) بالحكم ليست من باب الأفضلية


قوله: بالرغم من شعور الامام علي بالأحقية والأولوية (الأفضلية) في الخلافة الا انه عاد فبايع

اقول: كلمات علي (عليه السلام) صريحة في ان الحكم حق خاص به وليست المسألة مسألة افضلية





الصفحة 274

الصفحة 275

نص الشبهة


قوله: " ويجمع المؤرخون السنة والشيعة على ان الإمام علي (عليه السلام) امتنع عن بيعة أبي بكر.. وبالرغم من شعور الإمام علي (عليه السلام) بالاحقية والاولوية في الخلافة الا انه عاد فبايع... ولا يشير إلى مسألة النص عليه " ص 13.

الرد على الشبهة


اقول:

يذهب (الاستاذ الكاتب) إلى ان علياً (عليه السلام) أولى بالخلافة أولوية تفضيل لا أولوية اختصاص وهو رأي ابن أبي الحديد ومدرسته في تفضيل علي (عليه السلام) على أبي بكر وتصحيح بيعة أبي بكر وانكار النص.

وهذا الرأي مدفوع بالنص وقد تحدثنا عنه، وبكلمات علي (عليه السلام) التي أوردها (الكاتب) نفسه فان قوله (عليه السلام) " بايع الناس أبا بكر وأنا أولى بهم مني بقميصي هذا.. " معناه أولوية اختصاص لا أولوية تفضيل، اذ لا معنى لمقارنته (عليه السلام) بين اولويته بالامر واولويته بقميصه غير الاختصاص، فانه مما لا شك فيه ان اولويته بقميصه هي أولوية اختصاص لأنه مالكه، وهو (عليه السلام) يقول ان اولويته بالناس اشد وأأكد من اولويته بقميصه، وذلك لان القميص الذي يلبسه قد يحتمل فيه انه مسروق ثم اشتراه من السارق وهو لا يعلم به اما اولويته بالحكم فلا يحتمل فيها شىء من ذلك البتة بل هي نص من النبي (صلى الله عليه وآله) وبأمر من الله تعالى.

وكذلك قوله (عليه السلام): " وطفقت ارتأي بين ان اصول بيد جذاء أو اصبر على طخية عمياء يهرم فيها الكبير ويشيب فيها الصغير ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربه فرأيت ان الصبر على هاتا احجى فصبرت وفي العين قذى وفي الحلق شجى ارى تراثي نهبا "

الصفحة 276
ومعناه اخذت أُخَيِّرُ نفسي بين ان اصول بقوة غير كافية كما في قوله (عليه السلام) " فلم اجد غير أهل بيتي فضننت بهم عن الموت ". فلو توفرت له القوة الكافية لقاتل أهل السقيفة وهو المعروف عنه من قوله (عليه السلام) " لو وجدت اربعين ذوي عزم لناهضت القوم ".

ان هذا الموقف من علي (عليه السلام) لا ينسجم مع فكرة أولوية التفضيل بل ينسجم مع فكرة اولوية الاختصاص.

وكذلك قوله (عليه السلام) " أو اصبر على طخية عمياء.. " فان معناه ان الذي حصل لم يكن مجرد غصب سلطة دنيوية حسب بل كان ذلك بداية انقلاب فكري وضلالة تعم الأمة، وهو ما اكده (عليه السلام) بعد مقتل عثمان حين جاؤوه يطلبون البيعة فقال لهم " دعوني والتمسوا غيري فان المحجة قد اغامت والحجة قد تنكرت " وقوله (عليه السلام): " قد ملتم ميلة لم تكونوا عندي محمودين واخشى ان تكونوا في فترة "(1).

اما الرواية التي أوردها (الكاتب) ونسبها إلى (شافي) المرتضىوهي قوله (عليه السلام) لابي بكر: " والله ما نَفَسْنا عليك ما ساق الله اليك من فضل وخير ولكنا كنا نظن ان لنا في هذا الامر نصيبا استبد به علينا " فقد رواها المرتضى عن البلاذري وهو يرويها عن المدائني عن معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة، إنما أوردها للاحتجاج بان عليا تأخر عن البيعة ولم يوردها من اجل الاعتقاد بصحتها، ودلائل الوضع عليها ثم ان حق علي (عليه السلام) في الامرة ليس هو الظن بل هو اليقين كما اسلفنا آنفا، وقد لعب الزهري وعروة بل عائشة أيضا دوراً مهماً في تحريف كثير من النصوص والحوادث.

____________

(1) اراد (عليه السلام) بـ (الفترة) ما اراده القرآن منها في قوله تعالى (... على حين فترة من الرسل) اي اخشى ان تكون في الجاهلية.


الصفحة 277

الحلقة الثالثة / الفصل الاول


المورد الرابع
دلالة حديث الغدير عند السيد المرتضى (رحمهم الله)


قوله: الشريف المرتضى يعتبر حديث الغدير نصا خفيا غير واضح بالخلافة

اقول: ليس كذلك بل قال الشريف المرتضى: قد دللنا ثبوت النص على امير المؤمنين (عليه السلام) باخبار النص عليه بغير احتمال ولا اشكال كقوله (صلى الله عليه وآله) (من كنت مولاه فعلي مولاه)





الصفحة 278

الصفحة 279

نص الشبهة


قوله: " واذا كان حديث الغدير يعتبر اوضح واقوى نص من النبي بحق امير المؤمنين فان بعض علماء الشيعة الامامية الاقدمين كالشريف المرتضى يعتبره نصا خفيا غير واضح بالخلافة، حيث يقول في (الشافي): "انا لا ندعي علم الضرورة في النص، لا لأنفسنا ولا على مخالفينا، وما نعرف احدا من اصحابنا صرح بادعاء ذلك" " ص 14 وأيضا ص 58.

الرد على الشبهة


اقول:

ان مراد السيد المرتضى بـ (النص الخفي) هو ما يسمى عند الاصوليين بـ (المجمل) وعرََّفوه بـ (انه ما لم تتضح دلالته) ويقابله (المبيََّن) وقد ذكروا للاجمال والخفاء اسبابا كثيرة منها ان يكون اللفظ مشتركاً ولا توجد قرينة على أحد معانيه كلفظة (مولى) فانها موضوعة للاولى، وللعبد المملوك، وابن العم، والحليف.

ويتضح من ذلك ان (النص المجمل) و (الخفي) يحتاج إلى استدلال ونظر وذلك بالبحث عن القرائن من داخل النص أو من خارجه وهو ما يصنعه علماء الشيعة مع (حديث الغدير) ومنهم الشريف المرتضى حيث قال:

" الوجه المعتمد في الاستدلال بخبر الغدير على النص هو ما نرتبه فنقول:

ان النبي (صلى الله عليه وآله) استخرج من امته بذلك المقام الاقرار بفرض طاعته ووجوب التصرف بين أمره ونهيه بقوله (صلى الله عليه وآله) " الست أولى بكم من انفسكم؟ " وهذا القول وان كان مخرجه مخرج الاستفهام فالمراد به التقرير وهو جار مجرى قوله تعالى (الست بربكم) الاعراف 172، فلما اجابوه بالاعتراف والاقرار رفع بيد أمير المؤمنين (عليه السلام) وقال عاطفاً

الصفحة 280
على ما تقدم (فمن كنت مولاه فهذا علي مولاه) وفي روايات أخرى (فعلي مولاه اللهم والِ من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله) فاتى بجملة يحتمل لفظها معنى الجملة الأولى التي قدمها وان كان محتملا لغيره فوجب ان يريد بها المعنى المتقدم الذي قررهم به على مقتضى استعمال أهل اللغة وعرفهم في خطابهم، وإذا ثبت انه صلى الله عليه واله أراد ما ذكرناه من ايجابه كون أمير المؤمنين عليه السلام أولى بالإمامة من انفسهم فقد اوجب له الإمامة، لأنه لا يكون أولى بهم من انفسهم الا فيما يقتضي فرض طاعته عليهم ونفوذ أمره فيهم ولن يكون كذلك الا من كان إماما.

فان قال: (دلوا على ان لفظة (مولى) محتملة لـ (أولى) وانه أحد اقسام ما يحتمله ثم ان المراد بهذه اللفظة في الخبر هو (الأولى) دون سائر الاقسام، ثم ان (الأولى) يفيد معنى الإمامة.

قيل له: انه من كان له ادنى اختلاط باللغة واهلها يعرف انهم يضعون هذه اللفظة أي (مولى) مكان (أولى) كما انهم يستعملونها في (ابن العم) وغيره وما المنكر لاستعمالها في (الأولى) الا كالمنكر لاستعمالها في غيره من اقسامها.

ونتبرع بايراد جملة تدل على ماذهبنا إليه فنقول: قد ذهب أبو عبيدة معمر بن المثنى ومنزلته في اللغة منزلته(1) في كتابه القرآن المعروف بالمجاز لما انتهى إلى قوله: (مَأْوَاكُمُ النََّارُ هِىَ مَوْلاكُمْ وَ بِئْسَ المَصِيرُ) الحديد/15 أولى بكم.

وليس أبو عبيدة ممن يغلط في اللغة.

ولا خلاف بين المفسرين في ان قوله تعالى (وَ لِكُل جَعَلْنَا مَوَالِىَ مِمََّا تَرَك الوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَالََّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنََّ الله كَانَ عَلَى كُلِ شَىْء شَهِيدًا) النساء/33 ان المراد بالموالي (مفرد مولى) من كان املك بالميراث واولى بحيازته واحق به.

____________

(1) ابو عبيدة معمر بن المثنى التيمي بالولاء من العلماء باللغة والشعر والادب وايام العرب واخبارها قال فيه الجاحظ (لم يكن في الارض اعلم بجميع العلوم منه وهو اول من صنف في غريب الحديث توفي سنة 209. (السيد عبد الزهراء الخطيب) رح.


الصفحة 281
وقال الاخطل(1):


فاصبحت مولاها من الناس بعدهواحرى قريش ان تهاب وتحمدا

وروي في الحديث (ايما امرأة تزوجت بغير اذن مولاها فنكاحها باطل)(2).

كل ما استشهدنا به لم يرد بلفظ (مولى) فيه الا معنى (أولى) دون غيره وقد تقدمت حكايتنا عن المبرد قوله (ان اصل تأويل الولي الذي هو أولى أي أحق ومثله المولى) وقال في هذا الموضع بعد ان ذكر تأويل قوله تعالى (ذَلِك بِأَنََّ الله مَوْلَى الََّذِينَ آمَنُوا وَأَنََّ الكَافِرِينَ لاَ مَوْلَى لَهُمْ) محمد/11.

وقال الفراء(3) في كتاب (معاني القرآن) الولي والمولى في كلام العرب واحد وهو قراءة(4) عبد الله بن مسعود (إنما مولاكم الله ورسوله) مكان وليكم.

وقال أبو بكر محمد بن القاسم الانباري(5) في كتابه المعروف بـ (المشكل) (المولى في اللغة ينقسم على ثمانية اقسام، اولهن المولى المنعم المعتق، ثم المنعم عليه المعتق، والمولى الولي، والمولى الأولى بالشىء) وذكر شاهدا عليه الآية التي قدمنا ذكرها (والمولى الجار، والمولى ابن العم، والمولى الصهر، والمولى الحليف).

وقد ذكر أبو عمر وغلام ثعلب في تفسير بيت الحارث بن حلزة(6).


زعموا ان كل من ضر ب العَيْرَموال لنا وأنا الولاءُ(7)

____________

(1) الاخطل: غياث برعوث التغلبي لقب بالاخطل لبذاءة لسانه نشأ بالحيرة ثم اتصل بالامويين فكان شاعرهم المفضل توفي سنة 90 والبيت من قصيدة له في مدح يزيد بن معاوية بعد توليه الخلافة.

(2) سنن الترمذي 1/204 ابواب النكاح وفي نهاية ابن الاثير ج4/229 مادة (ولا) عن الهروي وقال بعد نقل الحديث (وليها) أي ولي امرها.

(3) الفراء ابو زكريا يحيى بن زياد بن عبد الله الديلمي من ائمة اللغة والادب ومن تلامذة الكسائي قال فيه ثعلب (لولا الفراء ماتت اللغة) ولد بالكوفةونشأ بها ثم انتقل إلى بغداد فعهد اليه المأمون تأديب ولديه تـ سنة 207.

(4) اي تفسير عبد الله بن مسعود.

(5) نسبة إلى الانبار كان من اعلم اهل زمانه بالادب واللغة ومعرفة ايام العرب ومن اكثرهم حفظا للاشعار وشواهد القرآن حتى قيل: كان يحفظ مائة وعشرين تفسيراً للقرآن وثلاث مائة الف شاهد من شواهده، توفي ببغداد سنة 328.

(6) الحارث بن حلزة اليشكري شاعر جاهلي من اهل بادية العراق ومن اصحاب المعلقات ارتجل معلقته بين يدي عمرو بن هند ملك الحيرة.

(7) العير: الوتد أو الحمار، وغالبية الناس في زمانه من اهل الوبر يضربون الاوتاد عند اقامتهم.. وقوله (انا

=>


الصفحة 282
فذكر من جملة الاقسام: ان المولى السيد وان لم يكن مالكا، والمولى الولي.

واما الذي يدل على ان المراد بلفظ (مولى) في خبر الغدير (الأولى) فهو: ان عادة أهل اللسان في خطابهم إذا رأوا جملة مصرِحة وعطفوا عليها بكلام محتمل لما تقدم التصريح به ولغيره لم يجز أن يريدوا بالمحتمل الا المعنى الأول، يبين صحة ما ذكرناه ان أحدهم إذا قال مقبلا على جماعة ومفهما لهم وله عدة عبيد: الستم عارفين بعبدي فلان؟ ثم قال عاطفا على كلامه: فاشهدوا ان عبدي حر لوجه الله تعالى، لم يجز ان يريد بقوله: عبدي بعد ان قدم ما قدمه الا العبد الذي سماه في أول كلامه دون غيره من سائر عبيده، ومتى أراد سواه كان عندهم مُلغِزا خارجاً عن طريقة البيان.

فاما الدليل على ان لفظة (أولى) تفيد معنى الإمامة فهو انا نجد أهل اللغة لا يضعون هذا اللفظ الا فيمن كان يملك تدبيره ووصف بأنه أولى بتدبيره وتصريفه ينفذ فيه أمره ونهيه، الا تراهم يقولون السلطان أولى باقامة الحدود من الرعية، وولد الميت أولى بميراثه من كثير من اقاربه، والزوج أولى بامرأته، والمولى أولى بعبده ومرادهم من جميع ذلك ما ذكرناه، ولا خلاف بين المفسرين في ان قوله تعالى (النََّبِىُُّ أَوْلَى بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) الأحزاب/6 المراد به انه أولى بتدبيرهم والقيام بأمورهم من حيث وجبت طاعته عليهم، ونحن نعلم انه لا يكون أولى بتدبير الخلق وامرهم ونهيهم من كل أحد منهم الا من كان إماما لهم مفترض الطاعة عليهم "(1)

ويتضح بذلك أيضا ان حديث الغدير لم يبقَ على خفائه ولا اجماله في دلالته على إمامة أمير المؤمنين (عليه السلام) مع هذا الاستدلال(2).

قال السيد المرتضى:

" قد دللنا على ثبوت النص على أمير المؤمنينن (عليه السلام) باخبار مجمع على صحتها متفق عليها وان كان الاختلاف واقعاً في تأويلها وبينا انها تفيد النص عليه بغير احتمال

____________

<=

الولاء) أي نحن اهل الولاء.

(1) الشافي ج2/260-282 اختصرنا ما اوردناه مع المحافظة على الفاظ المرتضى رح.

(2) قال العلامة المظفر في دلائل الصدق ج2/57 المطلب الثاني في دلالة حديث الغدير على امامة امير المؤمنين (عليه السلام).


الصفحة 283
ولا إشكال كقوله (صلى الله عليه وآله) (انت مني بمنزلة هارون من موسى) و (من كنت مولاه فعلي مولاه) إلى غير ذلك مما دللنا على ان القرآن يشهد به كقوله تعالى (إِنََّمَا وَلِيُُّكُمُ الله وَرَسُولُهُ وَ الََّذِينَ آمَنُوا الََّذِينَ يُقِيمُونَ الصََّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزََّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ) المائدة/55 فلا بد ان نطرح كل خبر ناف ما دلت عليه هذه الادلة القاطعة ان كان غير محتمل للتأويل نحمله بالتأويل على ما يوافقها ويطابقها إذا ساغ ذلك فيه "(1).

اما مراد السيد المرتضى من قوله " أنا لا ندعي علم الضرورة من النص لا لانفسنا ولا على مخالفينا وما نعرف أحد من اصحابنا صرح بادعاء ذلك ". فهو ان نص الغدير لا يدل على تعيين علي (عليه السلام) إماما بالبداهة، والضرورة ومن غير استدلال.

نعم يقول المرتضى ويقول الشيعة القدماء ان النبي (صلى الله عليه وآله) لو لم يرد الإمامة لعلي في حديث الغدير مع ايجاب خطابه لها لكان ملغزا عادلا عن طريق البيان بل عن طريق الحكمة)(2).

وفي ضوء ذلك يتضح خطأ ما ذهب إليه (الاستاذ الكاتب) من سوء استفادة من كلام الشريف المرتضى (رحمهم الله) وتحميل كلامه ما لم يرده ولا يعنيه.

ونرى من المفيد في آخر هذه التعليقة ان نضع بين يدي القارىء الكريم كلام الشريف المرتضى في النص الخفي والنص الجلي فيمايلى:

قال الشريف المرتضى رح: " الذي نذهب إليه ان النبي صلى الله عليه وآله نص على أمير المؤمنين عليه السلام بالإمامة بعده، ودل على وجوب فرض طاعته ولزومها لكل مكلف، وينقسم النص عندنا في الاصل إلى قسمين احدهما يرجع إلى الفعل ويدخل فيه القول، والآخر إلى القول دون الفعل.

فأما النص بالفعل والقول، فهو ما دلت عليه افعاله صلى الله عليه آله واقواله المبينة لأمير المؤمنين عليه السلام من جميع الأمة، الدالة على استحقاقه من التعظيم والاجلال والاختصاص بما لم يكن حاصلاً لغيره كمؤاخاته صلى الله عليه وآله بنفسه وانكاحه سيدة نساء العالمين ابنته عليها السلام، وانه لم يولِ عليه احداً من الصحابة،

____________

(1) الشافي ج3/99.

(2) الشافي ج2/283.


الصفحة 284
ولا ندبه لأمر أو بعثه في جيش الا كان هو الوالي عليه المقدم فيه، وانه لم ينقم عليه من طول الصحبة وتراخي المدة شيئاً، ولا انكر منه فعلا، ولا استبطاه في صغير من الأمور ولا كبير مع كثرة ماتوجه منه صلى الله عليه وآله إلى جماعة من أصحابه من العتب، اما تصريحا أو تلويحاً.

وقوله صلى الله عليه وآله فيه (علي مني وأنا منه)(1) و (علي مع الحق والحق مع علي) و (اللهم ائتني بأحب خلقك إليك يأكل معي من هذا الطائر)(2) إلى غير ما ذكرناه من الافعال والاقوال الظاهرة التي لا يخالف فيها ولي ولا عدو، وذِكْرُ جميعها يطول، وإنما شهِدَتْ هذه الافعال والاقوال باستحقاقه عليه السلام الإمامة ونبََّهتْ على انه أولى بمقام الرسول من قبل انها إذا دلََّت على التعظيم والاختصاص الشديد، فقد كشفت عن قوة الاسباب إلى اشرف الولايات، لان من كان ابهر فضلا، واعلى في الدين مكاناً فهو أولى بالتقديم واقرب وسيلة إلى التعظيم، ولأن العادة فيمن يرشح لشريف الولايات، ويؤهل لعظيمها ان يصنع به وينبه عليه ببعض ما قصصناه.

وقد قال قوم من اصحابنا ان دلالة الفعل ربما كانت آكد من دلالة القول: وابعد من الشبهة، لان القول يدخله المجاز، ويحتمل (ضروباً من التأويلات لا يحتملها الفعل.

فأما النص بالقول دون الفعل فينقسم إلى قسمين:

احدهما: ما عَلِمَ سامعوه من الرسول (صلى الله عليه وآله) مراده منه باضطرار، وان كنا الان نعلم ثبوته والمراد منه استدلالاً وهو النص الذي في ظاهره ولفظه الصريح بالإمامة والخلافة، ويسميه اصحابنا النص الجلي كقوله عليه السلام (سلموا على علي بإمرة المؤمنين)(3) و (هذا خليفتي فيكم من بعدي فاسمعوا له واطيعوا)(4).

____________

(1) اخرجه النسائي في الخصائص ص 16 بلفظ (ان عليا مني وانا منه وهو ولي كل مؤمن بعدى)، والترمذي 2/297، واحمد في المسند ج 4/136، 437.

(2) جامع الترمذي ج2/299، خصائص النسائى/5 المستدرك 3/13، تاريخ بغداد 3/171.

(3) انظر شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد 1/12 وابن عساكر (ترجمة امير المؤمنين (عليه السلام) عن بريدة الاسلمي امرنا رسول الله (صلى الله عليه وآله) ان نسلم على علي بإمره المؤمنين...

(4) هذا الحديث هو حديث يوم الدار اخرجه الطبري في التاريخ 2/321 واحمد في المسند 1/111/159، والحاكم في المستدرك 3/132 والحلبي في السيرة 1/381، والسيوطي في جمع الجوامع 6/397 عن

=>


الصفحة 285
والقسم الآخر: لا نقطع على ان سامعيه من الرسول (صلى الله عليه وآله) علموا النص بالإمامة منه اضطراراً ولا يمتنع عندنا ان يكونواعلموه استدلالامن حيث اعتبار دلالة اللفظة، وما يحسن ان يكون المراد أو لا يحسن.

فأما نحن فلا نعلم ثبوته والمراد به الا استدلالاً كقوله (صلى الله عليه وآله) (انت مني بمنزلة هارون من موسى الا انه لا نبي بعدي) و (من كنت مولاه فعلي مولاه) وهذا الضرب من النص هو الذي يسميه اصحابنا النص الخفي.

ثم النص بالقول ينقسم قسمة أخرى إلى ضربين:

فضرب منه تفرد بنقله الشيعة الامامية خاصة، وان كان بعض من لم يفطن بما عليه فيه من أصحاب الحديث قد روى شيئا منه، وهو النص الموسوم بالجلي.

والضرب الاخر رواه الشيعي والناصبي وتلقاه جميع الأمة بالقبول على اختلافها، ولم يدفعه منهم أحد يحفل بدفعه يعد مثله خلافا وان كانوا قد اختلفوا في تأويله وتباينوا في اعتقاد المراد به وهو النص الموسوم بالخفي الذي ذكرناه ثانيا.

ونحن الان نشرع في الدلالة على النص الجلي لأنه الذي تفرد اصحابنا به، وكلام صاحب الكتاب في هذا الفصل: أنه مقصور عليه.

فأما النصوص الباقية فسيجىء الكلام في تأويلها وابطال ما جرح المخالفون فيها فيما بعد بعون الله تعالى "(1).

____________

<=

ابن اسحاق وابن جرير وابن ابي حاتم وابن مردويه وابي نعيم والبيهقي.

(1) الشافي ج2/ص 65 - 68.


الصفحة 286