الصفحة 27

فقلت له: هل عرّفت بذلك أحداً؟

قال: نعم، عرّفت بعض من كان عرف بخروجي من عند المعيدية، وتوهّموا أنّي قد ضللت وهلكت لتأخري عنهم واشتغالي بالغشية التي وجدتها، ولانهم كانوا يروني طول ذلك النهار يوم الخميس في أثر الغشية التي لقيتها من خوفي منه (عليه السلام).

فوصّيته أن لا يقول ذلك لاحد أبداً.

وعرضت عليه شيئاً، فقال: أنا مستغن عن الناس وبخير كثير، فقمت أنا وهو، فلمّا قام عنّي نفذت له غطاءاً، وبات عندنا في المجلس على باب الدور التي هي مسكني الان بالحلّة.

فقمت، وكنت أنا وهو في الروشن في خلوة، فنزلت لانام، فسألت الله زيادة كشف في المنام تلك الليلة أراه أنا، فرأيت: كأنّ مولانا الصادق (عليه السلام) قد جاءني بهديّة عظيمة، وهي عندي، وكأنّني ما أعرف قدرها، فاستيقظت وحمدت الله.

وصعدت الروشن لصلاة نافلة الليل في تلك الليلة، وهي ليلة السبت ثامن عشرين جمادى الاخرة، فأصعد فتح(1) الابريق إلى عندي، فمددت يدي ولزمت عروقه لافرغ على كفّي، فأمسك ماسك فم الابريق وأداره عنّي ومنعني من استعمال الماء في طهارة الصلاة.

فقلت: لعل الماء نجس، فأراد الله أن يصونني عنه، فإنّ لله جلّ جلاله عليّ عوائد كثيرة، أحدها مثل هذا، وأعرفها.

فناديت إلى فتح، فقلت: من أين ملات الابريق؟

قال: من المسيّبة.

____________

(1) (فتح) اسم غلام السيد ابن طاووس.


الصفحة 28
فقلت: هذا لعلّه نجس، فاقلبه واشطفه واملا من الشطّ.

فمضى وقلبه وأنا أسمع صوت الابريق، وشطفه وملاه من الشط وجاء به.

فلزمت عروته وشرعت أقلب منه على كفّي، فأمسك ماسك فم الابريق وأداره عنّي ومنعني منه، فعدت صبرت ودعوت بدعوات وعاودت الابريق فجرى مثل ذلك.

فعرفت أنّ هذا منع لي من صلاة الليل في تلك الليلة، قلت في خواطري: لعلّ الله يريد أن يجري عليّ حكماً وابتلاءً غداً ولا يريد أن أدعو الليلة في السلامة من ذلك، وجلست لا يخطر بقلبي غير ذلك.

فنمت وأنا جالس، وإذا برجل يقول لي: هذا ـ يعني عبد المحسن ـ الذي جاء بالرسالة كان ينبغي أن تمشي بين يديه.

فاستيقظت، ووقع في خواطري أن قد قصّرت في احترامه وإكرامه، فتبت إلى الله جلّ جلاله واعتمدت ما يتعمد التائب من مثل ذلك.

وشرعت في الطهارة، فلم يمسك أحد الابريق، وتُركت على عادتي، فتطّهرت وصلّيت ركعتين، فطلع الفجر، فقضيت نافلة الليل، وفهمت أنّني ما قمت بحق هذا الرسالة.

فنزلت إلى الشيخ عبد المحسن وتلقّيته وأكرمته، وأخذت له من خاصّتي ستّ دنانير، ومن غير خاصّتي خمسة عشر ديناراً ممّا كنت أحكم فيه كمالي، وخلوت به في الروشن وعرضت ذلك عليه فاعتذرت إليه.

فامتنع قبول شيء أصلاً وقال: إنّ معي نحو مائة دينار، وما آخذ شيئاً، أعطه لمن هو فقير، وامتنع غاية الامتناع.

فقلت له: إن رسوله (عليه السلام)، يُعطى لاجل الاكرام لمن أرسله (عليه السلام)، لا لاجل فقره وغناه.


الصفحة 29
فامتنع.

فقلت: مبارك، أمّا الخمسة عشر ديناراً فهي من غير خاصّتي فلا أكرهك على قبولها، وأمّا هذه الستة دنانير فهو من خاصّتي ولا بدّ أن تقبلها منّي، وكان أن يؤيسني من قبولها، فألزمته، فأخذها، وعاد تركها، فألزمته، فأخذها، وتغدّيت أنا وهو، ومشيت بين يديه كما أمرت في المنام إلى ظاهر الدار، وأوصيته بالكتمان، والحمد لله وصلى الله على سيد المرسلين محمد وآله الطاهرين(1).

5 ـ ومن عجيب زيادة بيان: أنّني توجّهت في ذلك الاسبوع يوم الاثنين الثلاثين من جمادى الاخرة سنة إحدى وأربعين وستمائة إلى مشهد الحسين (عليه السلام)لزيارة أول رجب، أنا وأخي الصالح محمد بن محمد بن محمد ـ ضاعف الله سعادته ـ، فحضر عندي سحر ليلة الثلاثاء أول رجب المبارك سنة إحدى وأربعين وستمائة المقرئ محمد بن سويد في بغداد، وذكر ابتداءً من نفسه:

أنّه رأى ليلة السبت ثامن عشرين جمادى الاخرة ـ المقدّم ذكرها ـ: وكأنّني في دار وقد جاء رسول إليك وقالوا: هو من عند الصاحب.

قال محمد بن سويد: فظنّ بعض الجماعة أنّه من عند أستاد الدار قد جاء إليك برسالة.

قال محمد بن سويد: وأنا عرفت أنّه من عند صاحب الزمان (عليه السلام).

قال: فغسل محمد بن سويد يديه وطهّرهما وقام إلى رسول مولانا المهدي صلوات الله عليه، فوجده قد أحضر معه كتاباً عن مولانا المهدي صلوات الله عليه إلى عندي، وعلى الكتاب المذكور ثلاثة ختوم.

قال المقرئ محمد بن سويد: فتسلّمتُ الكتاب من رسول مولانا

____________

(1) رسالة عدم مضايقة الفوائت: 349 ـ 353.


الصفحة 30
المهديّ صلوات الله عليه بيديه المشطوفة.

قال: وسلّمته إليك ـ يعني عنّي ـ.

قال: فكان أخي الصالح محمد بن محمد بن محمد الاوي ـ ضاعف الله سعادته ـ حاضراً، فقال: ما هذا؟

فقلت: هو يقول لك.

يقول علي بن موسى بن طاووس: فتعجبت من أنّ هذا محمد بن سويد قد رأى المنام في الليلة التي حضر عندي فيها الرسول المذكور، وما كان عنده الخبر من هذه الامور، والحمد لله كما هو أهله(1).

ابن طاووس والاستخارة:

قال ابن طاووس (قدس سره):

1 ـ ومما وجدت من عجائب الاستخارات:

أنّني قد بلغت من العمر نحو ثلاث وخمسين سنة، ولم أزل أستخير مذ عرفت حقيقة الاستخارات، وما وقع أبداً فيها خلل، ولا ما أكره، ولا ما يخالف السعادات والعنايات...(2).

2 ـ وممّا وجدت في طرائف الاستخارات:

أنّني طلبني بعض أبناء الدنيا وأنا بالجانب الغربي من بغداد، فبقيت اثنين وعشرين يوماً أستخير الله جلّ جلاله كلّ يوم في أن ألقاه في ذلك اليوم، فتأتي الاستخارة (لا تفعل) في أربع رقاع أو في ثلاث متواليات، وما اختلف في المنع مدّة اثنين وعشرين يوماً، وظهر لي حقيقة سعادتي بتلك الاستخارات، فهل هذا

____________

(1) رسالة عدم مضايقة الفوائت: 353.

(2) فتح الابواب: 224.


الصفحة 31
من غير عالم الخفيّات؟(1).

3 ـ وممّا وجدت من عجائب الاستخارات:

أنّني أذكر أنّني وصلت الحلّة في بعض الاوقات التي كنت مقيماً بدار السلام، فأشار بعض الاقوام بلقاء بعض أبناء الدنيا من ولاة البلاد الحِلّية، فأقمت بالحلّة لشغل كان لي شهراً، فكنتُ كلّ يوم أستصلحه للقائه أستخير الله جلّ جلاله أول النهار وآخره في لقائه في ذلك الوقت، فتأتيني الاستخارة (لا تفعل)، فتكمّلت نحو خمسين استخارة في مدّة إقامتي (لا تفعل)، فهل يبقى مع هذا عندي ريب ـ لو كنت لا أعلم حال الاستخارة ـ أنّ هذا صادر عن الله جلّ جلاله العالم بمصلحتي، هذا مع ما ظهر بذلك من سعادتي؟ وهل يقبل العقل أنّ الانسان يستخير خمسين استخارة تطلع كلّها اتفاقاً (لا تفعل)؟(2).

ابن طاووس ومكالمته مع الجنّ وعدم تعرّض الحيّة له بسوء:

قال ابن طاووس (قدس سره):

1 ـ ومن ذلك ما عرفناه نحن، وهو أنّ بعض الجوار والعيال جاءوني ليلة وهم منزعجون ـ وكنتُ إذ ذاك مجاوراً بعيالي لمولانا عليّ (عليه السلام) ـ فقالوا: قد رأينا مسلخ الحمام تطوى الحصر الذي فيه وتنشر، وما نبصر من يفعل ذلك، فحضرتُ عند باب المسلخ وقلت:

سلام عليكم، قد بلغني عنكم ما قد فعلتم، ونحن جيران مولانا عليّ (عليه السلام)وأولاده وضيفانه، وما أسأنا مجاورتكم، فلا تكدروا علينا مجاورته، ومتى فعلتم شيئاً من ذلك شكوناكم إليه.

____________

(1) فتح الابواب: 223.

(2) فـتـح الابـواب: 223 ـ 224.


الصفحة 32
فلم نعرف منهم تعرّضاً لمسلخ الحمام بعد ذلك أبداً(1).

2 ـ ومن ذلك: أنّ ابنتي الحفاظة الكاتبة شرف الاشراف كمل الله تعالى لها تحف الالطاف، عرّفتني أنها تسمع سلاماً عليها ممن لا تراه، فوقفتُ في الموضع فقلت:

سلام عليكم أيّها الروحانيون، فقد عّرفتني ابنتي شرف الاشراف بالتعرّض لها بالسلام، وهذا الانعام مكدر علينا ونحن نخاف منه أن ينفر بعض العيال منه، ونسأل أن لا تتعرضوا لنا بشيء من المكدرات، وتكونوا معنا على جميل العادات.

فلم يتعرض لها أحد بعد ذلك بكلام(2).

3 ـ ومن ذلك أنّني كنتُ أصلي المغرب بداري بالحلّة، فجاءت حيّة فدخلت تحت خرقة كانت عند موضع سجودي، فتمّمت الصلاة ولم تتعرض لي بسوء، وقتلتها بعد فراغي من الصلاة.

وهذا أمر معلوم يعرفه من رآه أو رواه(3).

ابن طاووس واستجابة دعائه في الامن من الامطار والغيوم والرعود

قال ابن طاووس (قدس سره):

1 ـ قلتُ أنا: وكنت مرّة قد توجّهتُ من بغداد إلى الحلّة على طريق المدائن، فلمّا حصلنا في موضع بعيد من القرايا جاءت الغيوم والرعود واستوى

____________

(1) الامان: 128.

(2) الامان: 128.

(3) الامان: 128.


الصفحة 33
الغمام للمطر، وعجزنا عن احتماله، فألهمني الله جلّ جلاله أنّني أقول:

يا من يمسك السماوات والارض أن تزولا، أمسك عنّا مطره وخطره وكدره وضرره بقدرتك القاهرة وقوّتك الباهرة.

وكرّرت ذلك وأمثاله كثيراً، وهو متماسك بالله جلّ جلاله، حتّى وصلنا إلى قرية فيها مسجد، فدخلته، وجاء الغيث شيئاً عظيماً في اللحظة التي دخلت فيها المسجد، وسلمنا منه...(1).

2 ـ أقول: وتوجّهتُ مرّة في الشتاء بعيالي من مشهد الحسين صلوات الله عليه إلى بغداد في السفن، فتغيّمت الدنيا وأرعدت وبدأ المطر، فألهمتُ أنّني قلتُ ما معناه:

اللّهمّ إنّ هذا المطر تنزله لمصلحة العباد وما يحتاجون إليه من عمارة البلاد، فهو كالعبد في خدمتنا ومصلحتنا، ونحن الان قد سافرنا بأمرك راجين لاحسانك وبرّك، فلا تسلّط علينا ما هو كالعبد لنا أن يضرّ بنا، وأجرنا على عوائد العناية الالهيّة والرعاية الربانية، وأجْرِ المطرَ على عوائد العبودية، واصرفه عنّا إلى المواضع النافعة لعبادك وعمارة بلادك، برحمتك يا أرحم الراحمين فسكت في الحال..

أقول: وهذا من تصديق الايات المعظمات في إجابة الدعوات، ولمحمد (صلى الله عليه وآله) من جملة المعجزات، ولذرّيته من جملة العنايات، فإنّه جلّ جلاله استجاب من المحسنين ومن المسيئين(2).

____________

(1) الامان: 129.

(2) الامان: 129.


الصفحة 34

الامام الصادق (عليه السلام) يشير إلى ابن طاووس:

قال ابن طاووس (رضي الله عنه):

1 ـ فصل فيما نذكره ممّا يختصّ بيوم ثالث عشر ربيع الاول، من فضل شملني فيه قبل أن أتوصل (أتوسّل):

ليعلم ذرّيتي وذوو مودّتي: أنّني كنت قد صمت يوم ثاني عشر ربيع الاول ـ كما ذكرناه من فضله وشرف محلّه ـ وعزمت على إفطار يوم ثالث عشر، وذلك في سنة اثنين وستين وستمائة، وقد أمرتُ بتهيئة الغذاء، فوجدت حديثاً في كتاب الملاحم للبطائني عن الصادق (عليه السلام)، يتضمّن وجود الرجل من أهل بيت النبوة بعد زوال ملك بني العباس، يحتمل أن تكون الاشارة إلينا والانعام علينا.

وهذا ما ذكره بلفظه من نسخة عتيقة بخزانة مشهد الكاظم (عليه السلام)، وهذا ما رويناه ورأينا:

عن أبي بصير، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: قال: «الله أجلّ وأكرم وأعظم من أن يترك الارض بلا إمام عادل».

قال: قلت له: جعلت فداك فأخبرني أستريح إليه.

قال: «يا أبا محمد ليس ترى أمّة محمد (صلى الله عليه وآله) فرجاً أبداً ما دام لولد بني فلان مُلك، حتّى ينقرض ملكهم، فإذا انقرض ملكهم أتاح الله لامّة محمد رجلاً منّا أهل البيت يشير بالتقى ويعمل بالهدى ولا يأخذ في حكمه الرّشى، والله إنّي لاعرفه باسمه واسم أبيه.

ثم يأتينا الغليظ القصرة ذو الخال والشامتين القائم بالعدل الحافظ لما استودع يملاها قسطاً وعدلاً كما ملاها الفجّار جوراً وظلماً».

ثمّ ذكر تمام الحديث.

أقول: ومن حيث يفترض ملك بني العباس لم أجد ولم أسمع برجل من

الصفحة 35
أهل البيت يشير بالتقى ويعمل بالهدى ولا يأخذ في حكمه الرشى، كما قد تفضّل الله به علينا باطناً وظاهراً، وغلب ظنّي وعرفت أنّ ذلك إشارة إلينا وإنعام.

فقلت ما معناه: يا الله إن كان هذا الرجل المشار إليه أنا فلا تمنعني من صوم هذا يوم ثالث عشر ربيع الاول، على عادتك ورحمتك في المنع ممّا تريد منعي منه وإطلاقي فيما تريد تمكيني منه، فوجدت إذناً وأمراً بصوم هذا اليوم، وقد تضاحى نهاره فصمته.

وقلت في معناه: يا الله إن كنت أنا المشار إليه فلا تمنعني من صلاة الشكر وأدعيتها، فقمت فلم أمنع، بل وجدت لشيء مأمور، فصلّيتها ودعوت بأدعيتها، وقد رجوت أن يكون الله تعالى برحمته قد شرّفني بذكري في الكتب السالفة على لسان الصادق (عليه السلام).

فإنّنا قبل الولاية على العلويين كنّا في تلك الصفات مجتهدين، وبعد الولاية على العلويين زدنا في الاجتهاد في هذه الصفات والسيرة فيهم بالتقوى والمشورة بها والعمل معهم بالهدى وترك الرّشى قديماً وحديثاً، لا يخفى ذلك على مَن عرفنا.

ولم يتمكن أحد في هذه الدولة القاهرة من العترة الطاهرة كما تمكّنا نحن من صدقاتها المتواترة واستجلاب الادعية الباهرة والفرامين المتضمّنة لعدلها ورحمتها المتظاهرة.

وقد وعدت أنّ كلّ سنة أكون متمكّناً على عادتي من عبادتي، أعمل فيه ما يهديني الله إليه من الشكر وسعادة دنياي وآخرتي، وكذلك ينبغي أن تعمله ذرّيتي، فإنّهم مشاركون فيما تضمّنته كرامتي.

ووجدت بشارتين فيما ذكرته في كتاب «البشارات» في الملاحم، تصديق أن المراد نحن بهذه المراحم والمكارم(1).

____________

(1) الاقبال: 78 ـ 79.


الصفحة 36

ابن طاووس واستجابة دعواته عند ضريح أمير المؤمنين (عليه السلام):

قال ابن طاووس حشره الله مع محمد وآله:

(1) وأمّا أنا فأشهد بالله وفي الله جلّ جلاله: أنّني كنت يوماً ـ قد ذكرت تاريخه في كتاب «البشارات» ـ بين يدي ضريحه [الامام علي (عليه السلام)] المقدّس، وأقسمت عليه في شيء وسألت جوابه باقي النهار، وانفصلت، فما استقررت بمشهده في الدار حتى عرفت في الحال مَن رآه في المنام بجواب ما شافهته به من الكلام.

أقول: وأعرف أنّني كنت يوماً وراء ظهر ضريحه الشريف، وأخي الرضي محمد بن محمد بن محمد الاوي حاضر معي، وأنا أقسم على أمير المؤمنين (عليه السلام)في إذلال بعض مَن كان يتجرّأ على الله وعلى رسوله وعلى مولانا أمير المؤمنين علي (عليه السلام)وعلينا بالاقوال والاعمال، فقلت للقاضي الاوي محمد بن محمد بن محمد: يا أخي قد وقع في خاطري أن قد حصل ما سألته وأن اليوم الثالث من هذا اليوم يصل قاصد من عند القوم المذكورين بالذلّ والسؤال لنا على أضعف سؤال السائلين، فلمّا كان اليوم الثالث من يوم قلت له: وصل قاصد من عندهم على فرس عاجل بمثل ما ذكرناه من الذلّ الهائل.

أقول: وأعرف أنّني دخلت حضرته الشريفة كم مرّة في أمور هائلة لي وتارة لاولادي وتارة لاهل ودادي، فبعضها زالت وأنا بحضرته وبعضها زالت باقي نهار مخاطبته وبعضها زالت بعد أيام في جواب زيارته، ولو ذكرتها احتاجت إلى مجلّد كبير...(1).

____________

(1) الاقبال: 785 ـ 786.


الصفحة 37

وصية ابن طاووس امتثال أمر الله في النكاح:

قال ابن طاووس (قدس سره):

(1) وإياك ثم إياك أن تقرب من زوجتك أو جاريتك بمجرد الطبع الترابي، على عادة الدواب والحمير، فإن ذلك من أقبح التدابير، وإنما تكون قاصداً امتثال أمر الله جلّ جلاله وإمتثال أمر رسوله (صلى الله عليه وآله) فيما أراد منك بذلك النكاح المشار إليه.

فإن خفت غلبة الشهوة عليك، فتمنعك من هذه النيّة المرضية، فاستعن بالاستخارة قبل الشروع في الخلوة بهذه المطالب الصادرة عن المواهب الالهية...(1).

ابن طاووس والعزلة:

قال ابن طاووس (قدس سره):

(1) وإياك ياولدي محمد طهّر الله جلّ جلاله في تطهير سرائرك من دنس الاشتغال بغيره عنه وملاها بما يقرّبك منه، إذا احتجت مخالطة الناس لحاجتك إليهم ولحاجتهم إليك...

وإعلم ياولدي محمد... أن مخالطة الناس داء معضل وشغل شاغل عن الله عزّوجلّ مذهل، وقد بلغ الامر في مخالطتهم إلى نحو ما جرى في الجاهلية من الاشتغال بالاصنام عن الجلالة الالهية.

فاقلل ياولدي من مخالطتك لهم ومخالطتهم لك بغاية الامكان، فقد جرّبتُهُ ورأيتُه يورث مرضاً هائلاً في الاديان...(2).

____________

(1) كشف المحجة: 156 ـ 157.

(2) كشف المحجة: 157 ـ 158.


الصفحة 38
(2) واعلم ياولدي... أنّ أصعب المخالطات مخالطة العصاة، سواء كانوا ولاة أو غير ولاة، إذا لم تكن مخالطتهم للانكار عليه وبأمر الله جلّ جلاله لاهداء النصيحة المجردة إليهم...(1).

(3) واعلم ياولدي محمد... أنّي عزمت على الانقطاع من كلّ شيء يشغلني عن ربّ العالمين عن الخلائق أجمعين، وحضرت مشهد جدّك أمير المؤمنين (عليه السلام)، واستخرت الله جلّ جلاله في ذلك استخارة على اليقين، فاقتضت الاستخارة: أنّني لا أترك مخالطتهم في مسكني بالكلّية، فأنا أخالطهم إذا حضروا بالله عزّوجلّ في أوقات أرجو فيها سلامتي مع الجلالة الربانية، وإذا رأيت روحي مشغولاً بهم أدنى اشتغال تركت محادثتهم في الحال(2).

(4) ولقد انتهى الحال... إلى ما كنت قد استخرت فيه مالك يوم النشور من ترك المخالطة لاهل دار الغرور، ولانّه جلّ جلاله اختار لي النقلة من الحلّة بالعيال إلى مشهد... أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، فكنت فيه كالمعتزل من الناس إلاّ في شاذ الاوقات ومفارقاً للجماعة نحو ثلاث سنين...(3).

ابن طاووس وتجنّبه عن الافتاء:

قال ابن طاووس (رحمه الله):

(1) وأراد بعض شيوخي أنّني أدرّس وأعلّم الناس وأَفْتِهِمْ وأسلك سبيل الرؤساء المتقدّمين، فوجدت الله جلّ جلاله يقول في القرآن الشريف لـ... محمد (صلى الله عليه وآله)صاحب المقام المنيف: (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الاَْقَاوِيلِ لاََخَذْنَا مِنْهُ

____________

(1) كشف المحجة: 161.

(2) كشف المحجة: 163.

(3) كشف المحجة: 174.


الصفحة 39
بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أحَد عَنْهُ حَاجِزِينَ)(1).

أفرأيت أنّ هذا تهديد من ربّ العالمين لاعزّ عليه من الاولين والاخرين أن يقول عليه بعض الاقاويل، فكرهت وخفت من الدخول في الفتوى، حذراً أن يكون فيها تقوّل عليه، وطلب رئاسة لا أريد بها التقرّب إليه، فاعتزلت عن أوائل هذا الحال قبل التلبّس بما فيها من الاهوال، واشتغلت بما دلّني عليه العلم من العمل الصالح...(2).

صدقات ابن طاووس وأنّه ما خلّف ذهباً ولا فضّة:

قال ابن طاووس (رضي الله عنه):

(1) ولا تكره [ياولدي محمد] أنّي ما أخلّف لك ولاخوتك ذهباً ولا فضّة بعد الممات، فهذه سيرة جدّك محمد وأبيك علي صلوات الله عليهما، فإنّني وجدتهم قد امتنعوا أن يخلّفوا لورثتهم ذهباً أو فضّة، وخلّفوا لهم ما يكفيهم ويفضل عليهم من الاملاك والعقار...(3).

(2) واعلم ياولدي أنّني كنت أشتري هذه المليكات بالله عزّوجلّ ولله جلّ جلاله، بنيّة أنّ الاملاك وأنا والاثمان كلّنا ملك لله جلّ جلاله...(4).

(3) ووالله ياولدي محمد الذي حضر قسمي به جلّ جلاله وكتابي هذا وشهدت به ملائكته، لقد كان في يد والدك علي بن موسى هذه المليكات وغيرها من الموجودات، ولا يكون معه في كثير من أوقاته درهم واحد، لانه كان يخرج ما

____________

(1) الحاقة: 69 / 44 ـ 47.

(2) كشف المحجة: 165.

(3) كشف المحجة: 180.

(4) كشف المحجة: 181.


الصفحة 40
ينفق له من دخل ملك وغيره في مؤنة عياله، ثمّ في الصدقات والايثار والصلات، وكان جماعة من الناس يعتقدون أنّه ينفق من ذهب مذخور، هيهات هيهات لقد ضلّوا عن أبيك ووالدك كما ضلّ كثير من الخلق عمّن هو أعظم حالاً وأشرف كمالاً وأتمّ جلالاً... ولو جاءت الدنيا إلى والدك دفعة واحدة خرجت في أسرع الاوقات، ولكنّها كانت تأتينا كما يريده الله تعالى في أزمان متفرقات...(1).

(4)... ولقد كان أبوك علي بن موسى بن جعفر يخرج في أكثر الاوقات التسعة أعشار التي تحصل له ممّا تجب فيه الزكاة، ويبقى له ولعياله نحو العشر...(2).

وصيّة ورّام لابن طاووس:

قال ابن طاووس (رحمه الله):

(1) واعلم [ياولدي محمد] أنّ جدّك ورّاماً قدّس الله روحه كان يقول لي وأنا صبي ما معناه: ياولدي مهما دخلت فيه من الاعمال المتعلّقة بمصلحتك، لا تقنع أن تكون فيه بالدون دون أحد من أهل ذلك الحال، سواء كان علماً أو عملاً، ولا تقنع بالدون(3).

____________

(1) كشف المحجة: 182 ـ 183.

(2) كشف المحجة: 199.

(3) كشف المحجة: 185.


الصفحة 41

مكتبة ابن طاووس(1):

قال ابن طاووس (قدس سره):

(1) وقد هيّأ الله جلّ جلاله لك [ياولدي محمد] على يدي كتباً كثيرة في كلّ فنّ من الفنون الذي رجوت أن تدلّك، بل على ما يقربك من مولاك ومالك دنياك وأخراك:

فهيّأ الله جلّ جلاله كتباً في الاصول، يكفيك أن تنظر فيها وتعرف ما تريد معرفته من جملة الابواب والفصول.

وهيّأ الله جلّ جلاله لك كتباً كثيرة في النبوة والامامة، يكفيك منها نظر ما تريد نظره من المعاني المطلوبة التي قد تعب فيها غيرك، وكانت من الله جلّ جلاله لك كالهدية المفرغة الموهوبة.

وهيّأ الله جلّ جلاله كتباً كثيرة عندي في الزهد، أجعلها عند الجليس الصالح من الجلساء...

وهيّأ الله جلّ جلاله كتباً كثيرة عندي في تواريخ الخلفاء والملوك وغيرهم من الذين طلبوا سراب الدنيا الزائل... وإنما ذخرت لك تواريخهم بالله جلّ جلاله لتنظر أول أمورهم وآخرها...

وهيّأ الله جلّ جلاله ما كنت أشرتُ إليه من الفقه المروي عن جدّك سيّد المرسلين وأبيك أمير المؤمنين وعترتهما المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين، تصنيفاً من شيعتهم...(2).

(2) واعلم [ياولدي محمد] أن الذي حصلته من كتب هذا العلم [الفقه]كثيرة، أضعاف ما كان عندي أيام اشتغالي...

وهيّأ الله جلّ جلاله كتباً جليلة في تفسير القرآن، لمفسّرين مختلفي العقائد

____________

(1) وراجع عن مكتبته أيضاً في بحث مؤلّفاته، عند البحث عن كتابه «الابانة في معرفة أسماء كتب الخزانة»، وعند البحث عن كتاب «سعد السعود».

(2) كشف المحجة: 185 ـ 187.


الصفحة 42
والاديان.

وهيّأ الله جلّ جلاله عندي عدّة مجلّدات في الدعوات، أكثر من ستين مجلّداً، فالله في حفظها والحفظ من أدعيتها، فإنها من الذخائر التي يتنافس عليها العارفون في حياطتها، وما أعرف عند أحد مثل كثرتها وفائدتها.

وهيّأ الله جلّ جلاله عندي كتباً جليلة في علم أنساب آل أبي طالب، ومنها كتاب «ديوان النسب» ثلاث مجلدات، ليس عند أحد له نسخة... وتعلّم من ذلك من يطعن عليه ولا تستولده ولا تزوّجه ولا تزوج أهلك وذرّيتك إليه، فإنّ أنسابكم طاهرة من الادناس بكلّ طريق.

وهيّأ جلّ جلاله من كتب المجاميع والاثار المشتملة على فنون مختلفة قد جرت في الاعصار مروجة لاسرار ومذكّرة بالمكارم والايثار وصفات الاختيار...

وهيّأ الله جلّ جلاله عندي كتباً في الطب عن الائمة الطاهرين وعن العلماء المتبحّرين...

وهيّأ الله جلّ جلاله كتباً في يدي تتضمن ما يحتاج إليه طالب علم اللغة الذي يتقرّب إليه...

وهيّأ الله جلّ جلاله لك كتباً في الاشعار، تكفي ما يريد الناظر في معرفة تلك الاثار...

وهيّأ الله جلّ جلاله لك كتباً جليلة في علم الكيمياء...

وهيّأ الله جلّ جلاله كتباً متعلّقة بالتحيّل الحلال والطلسمات والعوذ والرقي والرمل بالمجرّبات...

وهيّأ الله جلّ جلاله عندي كتباً في النجوم وغيرها من العلوم(1).

____________

(1) كشف المحجة: 188 ـ 193.


الصفحة 43

ابن طاووس مع المغول:

قال ابن طاووس (قدس سره):

(1) فصل: فيما نذكره عن يوم ثامن وعشرين من محرّم.

إعلم أن في مثل هذا يوم ثامن وعشرين محرم، وكان يوم الاثنين سنة ست وخمسين وستمائة، فتح ملك الارض ـ زيدت رحمته ومعدلته ـ ببغداد، وكنت مقيماً بها في داري بالمقيّدية، وظهر في ذلك تصديق الاخبار النبوية ومعجزات باهرة للنبوة المحمّدية، وبتنا في ليلة هائلة من المخاوف الدنيوية، فسلّمنا الله جلّ جلاله من تلك الاهوال، ولم نزل في حمى السلامة الالهية وتصديق ما عرفناه من الوعود النبوية، إلى أن استدعاني ملك الارض إلى دركاته المعظمة ـ جزاه الله بالمجازاة المكرّمة ـ في صفر، وولاني على العلويين والعلماء والزهّاد، وصحبت معي نحو ألف نفس، ومعنا من جانبه مَن حمانا، إلى أن وصلت الحلّة ظافرين بالامال.

وقد قرّرت مع نفسي أنّني أصلّي في كلّ يوم من مثل اليوم المذكور ركعتي الشكر، للسلامة من ذلك المحذور، ولتصديق جدّنا محمد (صلى الله عليه وآله)فيما كان أخبر به من متجدّدات الدهور، وأدعو لملك الارض بالدعاء المبرور.

وفي ذلك اليوم زالت دولة بني العباس، كما وصف مولانا علي (عليه السلام) زوالها في الاخبار التي شاعت بين الناس...(1).

(2) فصل: فيما نذكره في يوم عاشر صفر ممّا يخصّني ويخصّ ذرّيتي وأنّه من أيام سعادتي.

اعلم أنّ يوم عاشر صفر سنة ست وخمسين وستمائة، كان يوم حضوري

____________

(1) الاقبال: 63، وجاء في آخر هذا الفصل: وهذا الفصل زيادة في هذا الجزء بعد تصنيفه في التاريخ الذي ذكرناه.


الصفحة 44
بين يدي ملك الارض زيدت رحمته ومعدلته، وشملتني فيه عنايته، وظفرت فيه بالامان والاحسان، وحقنت فيه دماؤنا، وحفظت فيه حرمنا وأطفالنا ونساؤنا، وسلم على أيدينا خلق كثير من الاصدقاء والاسرة والاخوان، ودخلوا بطريقنا في الامان، كما أشرنا إليه في أواخر محرّم، فهو يوم من أعظم الاعياد، فيلزمني الشكر فيه والدعاء على مقتضى رضا سلطان المعاد مدّة حياتي بين العباد، ويلزم من يأتي بعدي من الذرّية والاولاد، فإنه يوم كان سبب بقائهم وبقاء مَن يأتي من أبنائهم وسعادة دار فنائهم ودار بقائهم، فلا يهملوا فضل هذا اليوم وما يجب فيه...(1).

(3) واعلم يا ولدي ثبّتك الله جلّ جلاله على طريق الاخلاص، وأثبت إسمك في ديوان أهل الاختصاص: أنه كان قد غلب التتار على بلاد خراسان، وطمعوا في هذه البلاد، ووصلت سراياه إلى نحو مقاتلة بغداد في زمن الخليفة المستنصر... فكتبت إلى الامير قشمر ـ وكان إذ ذاك مقدّم العساكر خارج بلد بغداد وهم مبرزون بالخيم والعدد والاستظهار ويخافون أن تأتيهم عساكر التتار وقد نودي في باطن البلد بالخروج إلى الجهاد ـ.

فقلت له بالمكاتبة: استأذن لي الخليفة وأعرض رقعتي عليه في أن يأذن لي في التدبير ويكونون حيث أقول يقولون وحيث أسكت يسكتون حتّى أصلح الحال بالكلام، فقد خيف على بيضة الاسلام، وما يعذر الله جلّ جلاله مَن يترك الصلح بين الانام.

وذكرت في المكاتبة: أنّني ما أسير بدرع ولا عدّة إلاّ بعادتي من ثيابي، ولكنّي أقصد الصلح بكلّ ما في أيديكم لله جلّ جلاله ولا أبخل بشيء لابدّ منه، وما أرجع بدون الصلح، فإنّه مما يريده الله عزّوجلّ ويقرّبني منه.

____________

(1) الاقبال: 65، وفيه: وهذا الفصل استدركناه بعد تصنيف الكتاب في التاريخ الذي قدّمناه.


الصفحة 45
فاعتذروا، وأرادوا غير ما أردناه.

أقول: وقد حضرت عند صديق لنا ـ وكان أستاذ دار ـ وقلت له: تستأذن لي الخليفة في أن أخرج أنا وأخي الرضا والاوي محمد بن محمد بن محمد الاعجمي، ونأخذ معنا من يعرف لغة التتار، ونلقاهم ونحدّثهم بما يفتح الله جلّ جلاله علينا، لعلّ الله جلّ جلاله يدفعهم بقول أو فعل أو حيلة عن هذه الديار.

فقال: نخاف تكسرون حرمة الديوان ويعتقدون أنّكم رسل من عندنا.

فقلت: تغدوا معنا ديوانية ومن تختارون، ومتى ذكرناكم أو قلنا: إننا عنكم، يحملون رؤوسنا إليكم، فقد أنجاكم ذلك وأنتم معذورون.

ونحن إنما نقول: إنّنا أولاد هذه الدعوة النبوية والمملكة المحمّدية، وقد جئنا نحدّثكم عن ملّتنا وديننا، فإن قبلتم وإلاّ فقد أعذرنا إلى الله جلّ جلاله وإلى رسوله(صلى الله عليه وآله).

فقال: اجلس في موضع منفرد أشار إليه، وظاهر الحال أنه أنهى ذلك إلى المستنصر...، ثمّ أطال، وطلبني في الموضع المنفرد وقال ما معناه: إذا دعت الحاجة إلى مثل هذا أذنا لكم، لان القوم الذين قد أغاروا ما لهم متقدّم تقصودنه وتخاطبونه، وهؤلاء سرايا متفرّقة وغارات غير متّفقة.

فقلت لهم: إذا تركتم الاذن لنا في ذلك فقد حصل لنا إخلاص في النيّة، فنخاف أن تطلبونا وقت الاذن وما كان عندنا هذا الاخلاص، فلا نوافقكم على الخروج إليهم.

فلم يأذنوا في ذلك.

وكذا جرى، فإنّني كنت أستأذن الخليفة في زيارة مولانا الرضا عليه التحية والثناء بخراسان، فأذن وتجهّزت، وما بقي إلاّ التوجّه إلى ذلك المكان، فقال مَن كان الحديث في الاذن إليه: قد رسم أنّك تكون رسولاً إلى بعض الملوك، فاعتذرت وقلت: هذه الرسالة إن نجحت ما يتركوني بعدها أتصرّف في

الصفحة 46
نفسي إلاّ لا أزال رسولاً، وإن جنحت صغر أمري عندكم وانكسرت حرمتي واعتقدتم أنّني ما أعرف القيام بمثل هذا، ثم لو توجّهت كان بعدي من الحساد من يقول لكم: إنّه يبايع ملك الترك ويجيء به إلى هذه البلاد، وتصدقونه وتصير همّتكم في إنفاذ مَن يقتلني بالسمّ وغيره.

فقال: وما يكون العذر؟

قلت: إنّني أستخير، وإذا جاءت: لا تفعل، فهو يعلم أنّني لا أخالف الاستخارة أبداً.

فاستخرت، واعتذرت(1).

ابن طاووس مع الملوك والوزراء:

قال ابن طاووس (قدس سره):

(1) ولقد كتب يوماً إليّ بعض الوزراء يطلب منّي الزيارة والورود عليه، فكتبت إليه جوابه:

كيف بقي لي قدرة على مكاتبتك في حواجي وحوائج الفقراء وأهل الضرّاء، وأنا مكلّف من الله جلّ جلاله ورسوله (صلى الله عليه وآله) والائمة (عليهم السلام)، أن أكره بقاءك على ما أنت عليه حتى يصل كتابي إليك، ومكلّف أنا أريد عزلك عن مقامك قبل وصول كتابي وقدومه عليك(2).

(2) ولقد كرّر مراسلتي ومكاتبتي بعض ملوك الدنيا الكبار: في أن أزوره في دار يتنافس في دخولها كثير من أهل الاغترار.

فقلت له مراسلة: أنظر المسكن الذي أنت ساكنه الان، فإن وجدت فيه

____________

(1) كشف المحجة: 203 ـ 205.

(2) كشف المحجة: 161 ـ 162.


الصفحة 47
حائطاً أو طبقة أو أرضاً أو فراشا أو ستراً أو شيئاً من الانية، وضع لله جلّ جلاله وفي رضاه، حتى أحضر وأجلس عليه وأنظر إليه ويهون عليّ أن أراه.

وكتبت إليه غير مرّة: إنّ الذي كان يحملني على لقاء الملوك في بداية الاعمار التعويل بالاستخارة، وقد رأيت الان بما وهبني الله جلّ جلاله من الانوار والاطلاع على الاسرار: أنّ الاستخارة في مثل هذه الاسباب بعيدة عن الصواب وخاطرة مع ربّ الارباب(1).

(3) واعلم ياولدي محمد... أنّ من جملة ما بليت به بالمخالطة للناس معرفة الملوك بي وحبّهم لي، حتى كاد أن يفسد عليّ سعادة الدنيا والاخرة، ويحول بيني وبين مالكي صاحب النعم الباطنة والظاهرة، وما كنتَ تدركني إلاّ وأنّني لابس ثياب العار بطلب ولايات دار الاغترار وقائداً لك إلى الهلاك وعذاب النار، وما خلّصني من خطر إقبال ملوك الدنيا وحبّهم وسلّمني من السموم القاتلة في قربهم إلاّ الله جلّ جلاله على التحقيق(2).

ابن طاووس والخليفة المستنصر:

قال ابن طاووس (قدس سره):

(1) أول شرك نصبه الشيطان ليفرّق بيني وبين الله جلّ جلاله صاحب الرحمة والاحسان: أنّه طلبني الخليفة المستنصر... للفتوى على عادة الخلفاء، فلمّا وصلت عند باب الدخول إلى مَن استدعاني لهذه الحال تضرّعت إلى الله عزّوجلّ مالك الامان وسألته أن يستودع منّي ديني وكلّما وهبنيه ويحفظ عليّ كلّما قرّبني من مراضيه حتّى أخرج من عند المشار إليه.

____________

(1) كشف المحجة: 162.

(2) كشف المحجة: 164.


الصفحة 48
فحضرت، فاجتهد بكلّ جهد بلغ توصله إليه أنّني أدخل في فتواهم، فقواني الله جلّ جلاله على مخالفتهم والتهوين بنفسي وما أملكه في طلب رضاء الله جلّ جلاله بالامتناع منهم والاعراض عنهم.

وجرت عقيب ذلك أهوال من السعايات، فكفاني الله جلّ جلاله بفضله وزادني من العنايات...

فلو أنّني دخلت... ذلك اليوم معهم في هذه الفترة الدنيوية ولعب أهل الدنيا وقواعدهم الردية، كنت قد هلكت أبد الابدين، وكانوا قد أدخلوني فيما يفرّق بيني وبين ربّ العالمين(1).

(2) ثمّ عاد الخليفة ودعاني إلى نقابة جميع الطالبيين على يد الوزير القمي(2) وعلى يد غيره من أكابر دولتهم، وبقي على مطالبتي بذلك عدّة سنين، فاعتذرت بأعذار كثيرة، فقال الوزير القمي: أدخل واعمل فيها رضى الله، فقلت له: فلايّ حال ما تعمل أنت في وزارتك برضاء الله تعالى والدولة أحوج إليك منها إليّ، فلو كان هذا يمكن كان قد عملته أنت.

ثمّ عاد يتهدّدني، وما زال الله جلّ جلاله يقوّيني عليهم حتّى أيّدني وأسعدني(3).

(3) وعاد المستنصر كلّف مخاطبتي بصديق، فتحيّل معي بكلّ طريق، فقال: إمّا أن تقول: إن الرضي والمرتضى كانا ظالمين، أو تعذرهما فتدخل في مثل ما دخلا فيه؟!

____________

(1) كشف المحجة: 167.

(2) كذا!.

(3) كشف المحجة: 168.


الصفحة 49
فقلت: أولئك كان زمانهم زمان بني بويه، والملوك شيعة، وهم مشغولون بالخلفاء والخلفاء بهم مشغولون، فتمّ للرضي والمرتضى ما أرادوا من رضاء الله جلّ جلاله.

واعلم: أن هذا الجواب اقتضاه التقية وحسن الظنّ بهمّتهما الموسوية، وإلاّ فإنّني ما أعرف عذراً صحيحاً لدخول المذكورين في تلك الامور الدنيوية(1).

(4) ثم عاد إغراؤهم بأبيك، حتّى طلبه ولد الوزير القمي، والتمس أن أكون نديماً في البداية، فعلمت أنّ ذلك يفضي إلى هلاكي باشتغالي بالامور الدنيوية، فاجتهدت بكلّ حيلة ذكرتها، وهو يراجعني، حتّى قلت له في آخر كلمات جملتها: إنّني متى نادمتهم وما أكشف لك ولوالدك أسرارهم وأحكي لك أخبارهم، إتهمتموني بأنّني أسمع فيكم منهم ما تكرهون، وتصيرون أعدائي، ويؤدّي الامر بيني وبينكم إلى مقاطعة وإلى ما تعلمون.

وإيّاك ثمّ إيّاك أن تدخل معهم في شيء من هذه الامور، فلا تصحّ والله منادمة أهل دار الغرور إلاّ بمفارقة مالك يوم النشور... ولا تصحّ منادمتهم بالجد والسلامة من يوم القيامة، هيهات هيهات كذب والله مَن يقول لك: إن ذلك طريق من طرق السعادات(2).

(5) ثمّ عاد الشيطان لعنه الله أغراهم بأبيك: أن اختار الخليفة المستنصر... أن أكون رسولاً إلى سلطان التتر.

فقلت لمن خاطبني في هذه الاشياء ما معناه: أنا إن نجحت ندمتُ، وإن جنحتُ ندمتُ.

فقال: كيف؟

____________

(1) كشف المحجة: 168.

(2) كشف المحجة: 169.


الصفحة 50
فقلت: إنّ نجاح سعيي يقتضي أنّكم ما تبغون تعزلوني من الرسالات إلى أن ألحق بالاموات وتشغلوني عن العبادات وغيرها من المهمّات، وإن جنح الامر بين يدي سقطت من عينكم سقوطاً أدّى إلى كسر حرمتي وفتح باب أذيتي واشتغالي عن دنياي وآخرتي...(1).

(6) ثمّ عاد الخليفة المستنصر... كلّفني الدخول في الوزارة، وضمن لي أنه يبلغ بي في ذلك إلى الغاية، وكرّر المراسلة والاشارة... فراجعت واعتذرت، حتى بلغ الامر إلى أن قلت ما معناه:

إن كان المراد بوزارتي على عادة الوزراء، يمشون أمورهم بكل مذهب وكلّ سبب، سواء كان ذلك موافقاً لرضاء الله جلّ جلاله ورضاء سيّد الانبياء والمرسلين، أو مخالفاً لهما في الاراء، فإنك مَن أدخلته في الوزارة بهذه القاعدة قام بما جرت عليه العوائد الفاسدة.

وإن أردتُ العمل في ذلك بكتاب الله جلّ جلاله وسنّة رسوله (صلى الله عليه وآله)، فهذا أمر لا يحتمله مَن في دارك، ولا مماليكك ولا خدمك ولا حشمك ولا ملوك الاطراف، ويقال لك ـ إذا سلكتُ سبيل العدل والانصاف والزهد ـ: إن هذا علي بن طاووس، علويّ حسني ما أراد بهذه الامور إلاّ أن يعرّف أهل الدهور أن الخلافة لو كانت إليهم كانوا على هذه القاعدة من السيرة، وأنّ في ذلك ردّاً على الخلفاء من سلفك وطعناً عليهم، فيكون مراد همّتك أن تقتلني في الحال ببعض أسباب الاعذار والاهوال، فإذا كان الامر يفضي إلى هلاكي بذنب في الظاهر فها أنا ذا بين يديك إصنع بي ما شئت قبل الذنب، فأنت سلطان قادر.

وشرعت في الرحيل والانتقال عن بغداد بالكلّية، وما زلت بالله جلّ جلاله

____________

(1) كشف المحجة: 169.


الصفحة 51
حتى انتقلت إلى الحلّة...(1).

رفض ابن طاووس للدخول في الحكم:

قال ابن طاووس (قدس سره):

(1) ثمّ اجتمع عندي مَن أشار إليّ أن أكون حاكماً بين المختلفين على عادة الفقهاء والعلماء من السلف الماضين ومصلحاً لامور المتحاكمين، فقلت لهم: إنّني قد وجدت عقلي يريد صلاحي بالكلّية، ونفسي وهواي والشيطان يريدون هلاكي بالاشتغال بالامور الدنيوية، وأنا قد دخلت بين عقلي ونفسي والشيطان وهواي، على أن أحكم بينهم بمجرد العدل ويتفقون كلّهم مع العقل، فلم يوافقوا على الدوام على صواب هذه الاحكام...

فاعتزلت... عن رئاسة هذا الباب، ورأيت في الله جلّ جلاله ونفسي شغل شاغل بمقتضى حكم الالباب(2).

(2) واعلم ياولدي محمد... أنّه لو كان قد عرض لي عمري كلّه مرض الجنون أو البرص والجذام، كان أسهل من الابتلاء بولايات، أشوّه بها بياض وجوه الاسلام وأهدم بها شيئاً ممّا بناه الانبياء وجدّك محمد (صلى الله عليه وآله)...(3).

وفاة ابن طاووس نوّر الله مضجعه:

قال ابن طاووس (قدس سره):

(1) وقد كنت أحرمت في نصفين من قطن بيضاوين ووقفت بهما في موقف عرفات وكان يوم جمعة وتهيّأ الوقوف على صفات المناجاة من بعد صلاة الظهرين

____________

(1) كشف المحجة: 170.

(2) كشف المحجة: 165.

(3) كشف المحجة: 173.


الصفحة 52
حين وقت الوقوف إلى بعد غروب الشمس على ما فتحه علينا جود المالك الرؤوف، فلمّا قضيت الحج فيهما نشرتهما وبسطتهما على الكعبة الشريفة وأركانها المعظمة المنيعة وعلى الحجر الاسود المكرّم وجعلت ذلك كالحسب والسبب إلى رحمة المالك الارحم الاكرم، ثمّ لمّا قدمتُ المدينة النبوية بسطتهما بطناً وظهراً على الحجرة الميمونة المحمّدية وجعلت ذلك كالحسب والسبب إلى شفاعة ذلك المولى الجدّ المقدّم على كلّ رسول وإلى أن أبلغ به ومنه نهايات المأمول، ثمّ مضيت إلى الائمّة الاطهار بالبقيع فصنعت مثل ذلك الصنع وجعلت ذلك كالحسب والسبب للسلامة من يوم الهائل الفظيع، ولمّا وصلت إلى مشهد مولانا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) بسطتهما بطناً وظهراً لذلك على ضريح ذلك الوالد الابرّ سيّد الاوصياء إلى أن أبلغ منه نهايات الرجاء، ثمّ حملتهما صحبتي إلى مشهد مولانا الحسين (عليه السلام) فبسطتهما بطناً وظهراً على ضريحه وجعلت ذلك كالحسب والسبب عنده إلى كلّ ما يبلغ الامل إليه، ثم صنعت بهما كذلك في ضريحي مولانا الكاظم ومولانا الجواد، وضريحي ملانا الهادي ومولانا الحسن العسكري ومحلّ غيبة مولانا المهدي صلوات الله جلّ جلاله عليهم أجمعين وجعلت ذلك كالحسب والسبب إلى شفاعتهم ورضا مالك يوم الدين، وفصّلته وهيّأته، وهو عندي ومن قلبي في أعزّ مكان، وأرجو أن يكون اجتماع شملي فيه بمولاي الحليم الرحيم صاحب الاحسان وأدخل به دار الرضوان حتّى يخلع الله جلّ جلاله على مملوكه ما يقتضيه رحمته وجوده من خلع الحب والقرب والقبول ويشرّفه بما يراه ويرضاه له عند القدوم والوصول إن شاء الله تعالى...

وأنا أخرج كفني وأنظره في كلّ وقت استصوب النظر إليه، وكأنني أشاهد عرضي على الله جلّ جلاله وأنا لابسه وقائم بين يديه(1).

(2)... وقد كنت مضيت بنفسي وأشرت إلى مَن حفر لي قبراً كما اخترته في

____________

(1) فلاح السائل: 71.


الصفحة 53
جوار جدّي ومولاي علي بن أبي طالب (عليه السلام)، متضيّفاً ومستجيراً ورافداً وسائلاً وآملاً متوسّلاً بكلّ ما توسّل به أحد من الخلائق إليه، وجعلته تحت قدمي والديّ رضوان الله جلّ جلاله عليهما، لانّي وجدت الله جلّ جلاله يأمرني بخفض الجناح لهما ويوصيني بالاحسان إليهما، فأردت أن يكون رأسي مهما بقيت في القبور تحت قدميهما(1).

(3)... وإذا حضرت [ياولدي محمد] عند قبري فحدّثني ما عمله معك سيّدي وسيّدك ومالك أمرك وأمري، فإنّني رويت عن السلف الصالحين: أنّ الميت يسمع كلام الزائرين وخاصّة من أهل اليقين(2)(3).

____________

(1) فلاح السائل: 73 ـ 74.

(2) كشف المحجة: 143.

(3) وتوفي (قدس سره) في صبح يوم الاثنين الخامس من ذي القعدة سنة 664هـ في بغداد.

وأمّا أين دفن؟

فبعض ذهب إلى أنه دفن في النجف الاشرف، راجع: الحوادث الجامعة: 356، بحار الانوار: 107 / 45 و 206 ـ 207 و208 نقلاً عن الشهيد الاول (قدس سره).

وبعض تردّد في محلّ دفنه وأنّه غير معروف، راجع: لؤلؤة البحرين: 241، روضات الجنات: 4 / 338.

ويوجد قبر معروف في الحلّة منسوب لعلي بن طاووس يزوره الناس، ولكن البعض ذهب إلى أنه قبر ولد ابن طاووس، وذهب المحدّث النوري مع نوع من الترديد في الخاتمة: 472 إلى أنه قبر ابن طاووس.