(يُسَبِّحْنَ): حال، واختير على مسبّحات وإن كان في معناه ليدلّ على حدوث التسبيح من الجبال حالاً بعد حال. وكان داود (عليه السلام) إذا سبّح جاوبته الجبال والطير بالتسبيح واجتمعت له الطير مسبّحة بذلك(1) حشرها كلّ واحد من الجبال والطير له لاجل داود، أي لاجل تسبيحه تسبح، لانّها كانت تسبح بتسبيحه(2).
يقول عليّ بن موسى بن طاووس:
إن قيل:
إنّ (أوّاب)معناه كثير الرجوع، وقد قال في تفسيره: رجّاع عن كلّ ما يكره الله إلى ما يحب، فهل يتطرّق من هذا ما يؤخذ على داود (عليه السلام)؟
والجواب:
أنّ كلّ مَن قيل عنه إنّه رجع عن شيء فما يلزم أنّه دخل فيه، فانّ الرجوع الذي يتضمّنه المدح لداود يقتضي أن يكون معصوماً منزّهاً عن الدخول فيما يكرهه الله أبداً، ولو كان رجّاعاً بمعنى كثير الرجوع عما دخل فيه لكان ذلك مناقضاً لمراد الله جلّ جلاله بمدحه.
وجواب آخر:
لعلّ معناه أنّه ما عرض له غير الله إلاّ تركه ورجع إلى الله، والعوارض لا تحصى للانسان.
وجواب آخر:
لعله ما عرض له مندوبان أحدهما أرجح من
____________
(1) حاشية ع: فسبّحت بذلك، المصدر: فسبّحت فذلك.
(2) جوامع الجامع: 2 / 419 ـ 420.
وجواب آخر:
لعلّه ما عرض له أمران متساويان في الظاهر، أحدهما أشق على نفسه في معاملة الله وأعظم اجتهاداً، إلاّ آثر الله جلّ جلاله بالاشقّ وترك الاسهل(1).
وجواب آخر:
لعلّ المراد أنّ داود (عليه السلام) لمّا رأى أنّ الله جلّ جلاله لمّا انفرد بتدبيره قبل أن يجعل لداود (عليه السلام) اختياراً كان التدبير محكماً وداود (عليه السلام) سليم من وجوه المعاتبات، فلمّا جعل لداود اختياراً مع اختيار الله خاف داود من معارضة اختياره لاختيار الله جلّ جلاله كما جرى لادم (عليه السلام)، فكان يسأل الله عزّوجل الرجوع إلى تسليم اختياره (عليه السلام)إلى الله جلّ جلاله ليكون الاختيار لله جلّ جلاله فتكون تصرّفاته صادرة إلهاماً عن الله(2) جلّ جلاله وتدبيره، كما أنعم الله على سيّدنا رسول الله (صلى الله عليه وآله) في قوله جلّ جلاله: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إنْ هُوَ إلاَّ وَحْيٌ يُوحَى)(3).
أقول:
وأمّا قوله عن الجبال والطير وتسبيحها، فانّي وقفتُ على كلام جماعة من علماء المتكلمين ينكر ذلك ويقولون: إنّ معناه المراد به بلسان الحال، وهذا الشيخ الطوسي كلامه يقتضي أنّها كانت تسبّح
____________
(1) هذا الجواب لم يرد في ع. ض. ط، وأثبتناه من حاشية ع.
(2) حاشية ع: عن إلهام الله.
(3) النجم: 53 / 3 ـ 4.
واعلم
أنّ الله جلّ جلاله قادر أن يجعل للجبال والطير تسبيحاً على التحقيق، إذ هو قادر لذاته، ولا معنى لانكار ذلك عند أهل التوفيق، وظاهر لفظ المدح لداود (عليه السلام) بهذه الايات وإفراده بها عن غيره من الانبياء وذوي المقامات دلالة على أنّها كانت تسبح على الحقيقة، كما يلزم أنّ الحصى سبّح في كفّ سيّدنا رسول الله (صلى الله عليه وآله)(2) على الحقيقة، ولعلّ قد سمعنا من الطيور كالبيغة(3) وغيرها كلاماً واضح البيان، وما يجوز أن ننكر ما قد شهد به صريح القرآن، ولو كان المراد لسان الحال كان كلّ من سبّح من العباد فان لسان حال الجماد(4) يسبّح معه بهذا التفسير، وما كان يبقي لداود زيادة فضيلة في هذا المدح العظيم الكبير(5).
ولو كان أيضاً المراد أنّ مَن رأى الجبال والطير سبّح الله ونزّهه(6)وتكون الاشارة إلى المسبّحين حيث أنّ الجبال والطير سبب للتسبيح من المكلّفين، وهذا تكلّف ممن قاله خارج عن التأويل مع
____________
(1) حاشية ع: حقيقياً.
وراجع التبيان: 8 / 550 مع التأمّل في دلالته على المطلب.
(2) راجع: دلائل النبوة 2 / 556 رقم 339، مناقب آل أبي طالب 1 / 126.
(3) ط: كالبيغاء.
(4) ض. ط: الحمار.
(5) حاشية ع: الكثير.
(6) ع. ض. ط: يسبّح الله وينزّهه، والمثبت من حاشية ع.
[14] فصل:
فيما نذكره من المجلد الاول من تفسير عليّ بن إبراهيم بن هاشم (رحمه الله)، من الوجهة الثانية من القائمة السادسة من الكراس الثالث بلفظه:
وقوله: (وَإذِ اْبتَلَى إبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَات فَأتَمَّهُنَّ قَالَ إنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إمَاماً)(1):
فقال العالم: «هو الذي ابتلاه الله به مما أراه الله في نومه بذبح ابنه، فأتمّها إبراهيم وعزم عليها، فلمّا عزم وسلّم الامر لله قال الله: (إنّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إمَاماً قَالَ) إبراهيم: (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ) الله: (لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)، أي: لا يكون بعهدي إمام ظالم.
ثمّ أنزل عليه الحنيفية(2) وهي الطهارة عشرة أشياء، خمسة منها في الرأس، وخمسة منها في البدن، فأمّا الّتي في الرأس: فقصّ الشارب واعفاء اللحى وطمّ الشعر والسواك والخلال، وأمّا الّتي في البدن فحلق الشعر من البدن والختان وتقليم الاظفار والغسل من الجنابة والطهور بالماء، فهي الحنيفية التي جاء بها إبراهيم (عليه السلام)، فلم تنسخ ولا تنسخ إلى يوم القيامة، وهو قول رسول الله (صلى الله عليه وآله) (وَاتَّبَعَ
____________
(1) البقرة: 2 / 124.
(2) ع. ض: الحنيفة.
يقول عليّ بن موسى بن طاووس:
الاخبار وردت مختلفة في هذه العشرة، فذكر أبو جعفر محمد ابن بابويه في كتاب مَن لا يحضره الفقيه:
أنّ الخمس الّتي في الرأس: المضمضة والاستنشاق والسواك وقصّ الشارب والفرق لمن طوّل شعر رأسه، وأمّا الّتي في الجسد: الاستنجاء والختان وحلق العانة وقصّ الاظفار ونتف الابطين.
ذكر ذلك في باب السواك من أوائل الجزء الاول(3).
وأمّا قوله جلّ جلاله: (لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)، فان قيل: إذا كان العهد الامامة فقد نالها معاوية بن أبي سفيان ويزيد وبنو أميّة وهم ظالمون؟
والجواب:
أنّ عهد الله جلّ جلاله وإمامته ما نالها ظالم أبداً، وليس مَن كان ملكاً(4) بالتغلّب يكون قد نال عهد الله، فإنّ ملوك الاكاسرة والقياصرة وغيرهم من الكفّار قد ملكوا أكثر مما ملك كثير من أئمّة المسلمين، وهم في مقام منازعين لله جلّ جلاله ومحاربين، فكذا
____________
(1) النساء: 4 / 125.
(2) تفسير القمي: 1 / 59، مع اختلاف.
(3) من لا يحضره الفقيه: 1 / 33.
(4) ع. ض. ط: ملجأ، والمثبت من حاشية ع.
وفيه إشارة ظاهرة إلى أن الامامة تكون من اختيار الله جلّ جلاله دون اختيار العباد، لانّ العباد إنّما يختارون على ظاهر الحال، ولعلّ باطن من يختارونه يكون فيه ظلم وكثير من سوء الاعمال، فاذا كان الظلم مطلقاً مانعاً من عهد الله جلّ جلاله وإمامته، فلم يبق طريق إلى معرفة الّذي(1) ينال عهد الله إلاّ بمن يطّلع على سريرته أو يطلعه الله جلّ جلاله على سلامته من الظلم في سرّه وعلانيته.
[15] فصل:
فيما نذكره من الجزء الثاني من تفسير عليّ بن إبراهيم، وهو من جملة المجلّد الاول في ثاني الوجهة من القائمة الاولة من الكراس التاسعة عشر بلفظه:
وأمّا قوله: (وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذّبَهُمْ وَأنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ)(2).
حدّثني عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن حنان، عن أبيه، عن أبي جعفر قال: قال رسول الله صلوات الله عليه وآله: «إنّ مقامي بين أظهركم خير لكم، ومفارقتي إياكم خير لكم». فقام إليه رجل فقال: يا رسول الله، أمّا مقامك بين أظهرنا فهو خير لنا فكيف يكون مفارقتك لنا خيراً لنا؟
فقال: «أمّا مقامي بين أظهركم خير لكم فإنّ الله يقول: (وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ
____________
(1) ع. ض. ط: التي، والمثبت من حاشية ع.
(2) الانفال: 8 / 33.
يقول عليّ بن موسى بن طاووس:
ولعلّ للكلام بعض التمام، فإنّ السيّئات التي يصحّ أن يستغفر عنها صلوات الله عليه وآله لامّته بعد الوفاة لعلّها لو كانت في الحياة كانت كالردّة، لاجل حضوره، ولاجل المواجهة له صلوات الله عليه وآله بنقض تدبيره، فلمّا وقعت في حال انتقاله إلى كرم الله جلّ جلاله وإقباله صارت وقائعها دون المجاهرة لجلالته(4) وأمكن الاستغفار منها، لم يصحّ الاستغفار له من أمّته.
وإنّما قلت(5): لمن يصحّ الاستغفار من فرق المسلمين، لانّ فيهم من يكفّر بعضهم بعضاً ويمنعون الاستغفار له ولا يجيزون العفو عنه على أحكام الكافرين، ولانّ بعض المعتزلة يذهب إلى أنّ مَن مات فاسقاً من هذه الامّة فهو مخلّد في النار أبد الابدين.
____________
(1) الانفال: 8 / 33.
(2) حاشية ع: إيّاكم.
(3) تفسير القمي: 1 / 277، مع اختلاف.
(4) ع. ض. ط: لجلالتها، والمثبت من حاشية ع.
(5) ع. ض: قدمت، والمثبت من حاشية ع. ط.
واعلم(1)
(أنّ الاستغفار على ظاهر هذه الاية الشريفة كالامان المحقّق من عذاب الاستيصال، وهي من عناية الله جلّ جلاله لنبيّه صلوات الله عليه أن جعل لامّته ذريعة بعد فقده إلى مثل هذه الامال والاقبال، وللاستغفار شروط يعرفها مَن عرف عيوب الذنب، الاعمال من أسرها أن تكون عندما(2) يستغفر من الذنوب آمن(3) الخوف على قدر الذنب وعلى قدر جلالة علاّم الغيوب ويكون كالمذهول المرعوب(4).
[16] فصل:
فيما نذكره من الجزء الثالث من تفسير عليّ بن إبراهيم، وهو أول المجلّد الثاني في الوجهة الثانية من القائمة العاشرة من الكرّاس الثامن عشر من أصل المجلد، ونقتصر على المراد منه:
وقوله: (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إنّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ)(5) فإنّها نزلت بمكّة بعد أن نبّئ رسول الله (صلى الله عليه وآله) بثلاث سنين، وذلك أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) نبّئ يوم الاثنين، وأسلم عليّ يوم الثلاثاء، ثمّ أسلمت خديجة
____________
(1) ورد في حاشية ض هذا التوضيح: إعلم أنّ الظاهر من الخبر الذي رواه في تفسير هذه الاية وغيره من الاخيار الصحيحة أنّ الفاعل في (يَسْتَغْفِرُونَ) هو النبي والائمّة المعصومين صلوات الله عليهم، والظاهر منها رفع عذاب الاستيصال من هذه الامّة مطلقاً، فتدّبر (م. ح. ق. ي).
(2) ع: عبداً، بدلاً من: عندما، ط: عنده ما يستغفر.
(3) ط: أو من.
(4) ع. ض: المرغوب.
(5) الحجر: 15 / 94 ـ 95.
وكان(1) المستهزؤون برسول الله (صلى الله عليه وآله) خمسة: الوليد بن المغيرة والعاص بن وائل والاسود بن المطلب وهو أبو ربيعة ومن بني زهرة الاسود بن عبد يغوث والحرث بن الطلاطلة الخزاعي، فأشار جبرئيل وهو عند النبيّ (عليه السلام) إلى الوليد بن المغيرة فانفجر جرح كان في قدمه فنزف بالدم حتّى مات، وأمّا الاسود كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد دعا عليه بعمي بصره فأشار إليه جبرئيل فعمي بصره ومات، وأشار جبرئيل إلى الاسود بن عبد يغوث فاستسقى وانشقّ بطنه ومات، ومرّ العاص بن وائل بجبرئيل (عليه السلام) فأشار إلى قدمه فدخل فيها شيء فورمت ومات، ومرّ ابن الطلاطل(2) بجبرئيل فتفل جبرئيل في وجهه فأصابته السماء فاحترق واسودّ وجهه حتّى رجع إلى أهله فقالوا: لست صاحبنا وطردوه فأصابه العطش حتّى مات.
ثمّ ذكر دعوة النبي (صلى الله عليه وآله) لقريش والعرب ونفورهم منه وحفظ أبي طالب له وحمايته عنه(3).
____________
(1) ض. ط: وقال، بدلاً من: وكان.
(2) ومرّ التعبير عنه: ابن الطلاطلة.
(3) تفسير القمي: 377 ـ 378، مع اختلاف كثير.
يقول عليّ بن موسى بن طاووس:
وقال جدّي الطوسي (رحمه الله)في التبيان:
إنّ المستهزئين خمسة نفر من قريش: الوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل(1)، وأبو ربيعة(2) والاسود بن عبد يغوث، والحرب بن عبطلة(3) في قول سعيد بن جبير وقيل: الاسود ابن المطلب(4).
واعلم
أنّ هذا مما يتعجب منه ذووا الالباب أن يكون قوم من العقلاء عاكفين على عبادة الاحجار والاخشاب مما لا ينفع ولا يدفع، وهم قد صاروا بعبادتها ضحكة لكلّ عاقل وموضع استهزاء لكلّ جاهل ; فيأتي رسول الله صلوات الله عليه وآله فيقول: اعبدوا خالق هذه الاحجار والاخشاب ـ وهم يعلمون أنّها ما خلقت نفوسها، لانّهم يحكمون عليها بما يريدون من عمارة وخراب ـ فيضحكون منه ويستهزئون به وينفرون عنه، ويسمعون أيضاً من لسان حالها أنها تقول لهم: إن كنتُ آلهة لكم فاقبلوا منّي فأنتم تروني محتاجة إلى مَن يحفظني ومحتاجة إلى مَن ينقلني ومحتاجة إلى كلّ شيء يحتاج مثلي إليه، فاعبدوا مَن أنا وأنتم محتاجون إليه ومَن خَلَقنا وهو يتصرّف فينا
____________
(1) ع: وابل.
(2) في المصدر: وأبو زمعة.
(3) في المصدر: عيطلة.
(4) التبيان: 6 / 356.
فاحذر أيّها العاقل هذه العثرة(6) الهائلة التي كان منشؤها(7) حب النساء(8) وتقليد الاباء وطلب الرئاسة حتى عمى العقل منهم
____________
(1) حاشية ع: يقتضي.
(2) حاشية ع: لو، بدلاً من: لمن.
(3) حاشية ع: على العوض عن عبادتها.
(4) وردت هذه العبارة في الاصول المعتمدة في غاية التشويش وعدم الوضوح، حتّى جاء في حاشية نسخة ع: هكذا في مسودة الاصل، فتأمّل.
(5) حاشية ع: بسعادة الدنيا والاخرة.
(6) حاشية ع: العزّة.
(7) حاشية ع: سببها.
(8) ض. حاشية ع. ط: المنشأ.
[17] فصل:
فيما نذكره من الجزء الرابع من تفسير عليّ بن إبراهيم، وهو الجزء الثاني من المجلّدة الثانية، وجميع الكتاب أربعة أجزاء في مجلّدين، والّذي ننقله(1) من الوجهة الثانية من القائمة الثالثة من الكراس السابع والثلاثين من أصل الكتاب بلفظه:
وأمّا قوله: (تِلْكَ الدَّارُ الاْخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الاْرْضِ وَلاَ فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)(2)، فانّه حدّثني جدّي عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن القاسم(3) بن محمد، عن سليمان بن داود المنقري، عن حفص ابن غياث قال: قال لي أبو عبدالله (عليه السلام):
«يا حفص، والله ما أنزلت الدنيا من نفسي إلاّ منزلة الميتة إذا اضطررت إليها أكلت منها، يا حفص إنّ الله تبارك وتعالى علم ما العباد عاملون وإلى ما هم صائرون فحلم عنهم عند أعمالهم(4)، لعلمه السابق فيهم، وإنّما يعجل من لا يعلم، فلا يغررك(5) حسن الطلب ممن لا يخاف الفوت(6)»
____________
(1) ض. حاشية ع: ينقله.
(2) القصص: 28 / 83.
(3) في المصدر: فإنّه حدّثني أبي عن القاسم.
(4) ط. المصدر: أعمالهم السيئة.
(5) حاشية ع: فلا يغرنك.
(6) جاء في حاشية ع بعد هذه العبارة: ولا تغترّ بتأخير عقوبة الله عنك فإنّما يعجل مَن يخاف الفوت.
ثمّ تلى قوله: (تِلْكَ الدَّارُ الاْخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الاْرْضِ وَلاَ فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)، وجعل يبكي ويقول: «ذهبت الاماني عند هذه الاية».
ثم قال: «فاز والله الفائزون الابرار، أتدري مَن هم؟ هم الذين لا يؤذون(1) الذرّ، كفى بخشية الله علماً، وكفى بالاغترار بالله جهلاً، يا حفص إنّ الله يغفر للجاهل سبعين ذنباً قبل أن يغفر للعالم ذنباً واحداً، مَن تعلّم وعمل وعلم دعي(2) في ملكوت السماوات عظيماً، فقيل: تعلّم لله وعمل لله وعلم لله».
قلت: جعلت فداك فما حدّ الزهد في الدنيا؟
فقال: «حدّ الله ذلك في كتابه فقال: (لِكَيْلاَ تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُم)(3)، إنّ أعلم الناس بالله أخوفهم لله، وأخوفهم له أعلمهم به، وأعلمهم به أزهدهم فيها».
فقال له رجل: يابن رسول الله أوصني.
____________
(1) كذا في ط. المصدر، وفي ع. ض: أتدري مَن هم؟ هم الذي لا يؤذون.
(2) ط: من تعلّم وعلم وعمل بما علم دعي.
(3) الحديد: 57 / 23.
يقول عليّ بن موسى بن طاووس:
رأيتُ في تفسير الطبرسي عند ذكر هذه الاية قال:
وروي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّه قال: «إنّ الرجل ليعجبه أن يكون شراك نعله أجود من شراك نعل صاحبه فيدخل تحتها»(2).
واعلم
أنّ في هذا الحديث الذي رواه عليّ بن إبراهيم والاية الشريفة أمور ينبغي للعاقل الاستظهار لمهجته في السلامة منها بغاية طاقته:
منها:
قوله جلّ جلاله: (تِلْكَ الدَّارُ الاْخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الاْرْضِ وَلاَ فَسَاداً)، فقد صار الحرمان للجنان متعلّقاً بإرادة العلوّ والعصيان قبل مباشرته بالجنان والامكان(3)، وهذا حال خطر عظيم الشأن، فليحفظ الانسان بالله جلّ جلاله سرائر قلبه وتطهيره(4) بالله والتوبة والاستغفار من مهالك دينه.
ومنها:
قوله (عليه السلام) أنّه أنزل الدنيا منزلة الميتة يأكلها منه كالمضطر(5)، وهذا حال عظيم يدلّ عليه العقل المستقيم، لانّها
____________
(1) تفسير القمي: 2 / 146 ـ 147، مع اختلاف.
(2) جوامع الجامع: 2 / 255.
(3) ط: أو الاركان.
(4) ع: ويطهره.
(5) حاشية ع: يأكله منها كالمضطر، ط: يأكل منها كلّ مضطرّ.
ومنها:
أنّ قوله (عليه السلام): إنّ الله علم ما هم إليه صائرون فحلم عنهم، وهو معنى شريف، لانّ الله جلّ جلاله أحاط علماً بالذنب وعقوبته، فهو يرى من أفق علم الغيوب أهل الذنوب في المعنى وهم في العذاب والنيران وأنّهم ساعون إلى الهلاك والهوان، والغائب عنه كالحاضر في علمه لذاته، فحلم عن المعاجلة إذ(1) هو محيط بها، والعبد محجوب عن خطر ذنوبه بغفلاته.
ومنها:
قوله (عليه السلام): ذهبت الاماني عند هذه الاية، وكيف لا تذهب الاماني وهذه الاية(2) صريحة بذكر شرط استحقاق المقام بدار النعيم ومن هذا يسلم من ركوب هذا الخطر العظيم؟ أو كيف تسلم القلوب من إرادات مخالفة للمطّلع عليها ومريدة لِما لا يريد هو جلّ جلاله صرف(3) الارادة إليها؟ أعان الله جلّ جلاله على قوّة تطهير القلوب من
____________
(1) ع. ض: إذا.
(2) لفظ: وهذه الاية، من حاشية ع.
(3) ض: ضرب.
ومنها:
أن الابرار الّذين(2) لا يؤذون الذرّ، فكيف يكون حال مَن لا يخلو من أذى نفسه وهي ملك لله وأذى غيره مما فوق الذرّ والتهوين بالله المطّلع على سرّه ونجواه؟ وهو(3) مثل على التحقيق، لانّ أذى الذرّ وغيرها لغير مراد الله المالك الشفيق عبث وفساد وخلاف سبيل التوفيق.
ومنها:
قوله: إنّه يغفر للجاهل سبعين ذنباً قبل الغفران للعالم لذنب واحد، فهو موافق للعقول، لانّ الجاهل ما جاهر الله في حضرة ذكره ولا عرفه جيّداً ولا عرف قدر الذنب جيّداً فهو يعصي من وراء ستارة جهله، والعالم بالله العاقل عن الله المجاهر بمعصية الله كالمستخفّ(4) والمستهزء بالمطّلع عليه الذاكر أنّه بين يديه، وكم بين مَن يعصي سلطاناً خلف بابه وبين من يعصيه مواجهة غير مكترث بغضبه وعقابه ومستخفّ بحضرته وآدابه(5)؟! لا حول ولا قوّة إلاّ بالله.
ومنها:
قوله (عليه السلام): إنّ حدّ الزهد أن لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما أتاكم، وهذا شرط هائل وخطر ذاهل، وما أرى هذا يصحّ إلاّ لمن لا يكون له إرادة مع مولاه، بل يكون متصرفاً في الدنيا كالخازن
____________
(1) كذا في ط، وفي ع: يجوز، وفي ض: تحوز.
(2) الذين، من حاشية ع.
(3) هو، من حاشية ع.
(4) حاشية ع: كالمكاشف.
(5) ض. ط: واذائه.
ومنها:
قوله (عليه السلام): اتّق الله حيث كنت فإنّك لا تستوحش،)والامر(2) على هذه الوصية، لانّ المتّقي للعظمة الالهية قويّ بها عزيز بها مستغن بها مستأنس بها جليس لها محميّ بها، فمن ذايقدر أو يقوى عليها حتّى يوحش من انضم بقلبه وقالبه إليها؟! وكيف يستوحش مَن ظفر بإقبال الله جلّ جلاله عليها وهو يريد المخلوق من التراب بدلاً(3) أو جليساً أو مونساً آخر مع وجود كلّما يريد من ربّ الارباب واسعوه مَن هو به(4) جلّ جلاله من ذوي الالباب.
[18] فصل:
فيما نذكره من المجلّد(5) الاول من تأويل ما نزل من القرآن الكريم في النبي (صلى الله عليه وآله) وعليهم، تأليف أبي عبدالله محمد بن العباس بن علي بن مروان المعروف بالحجام(6)، وهو مجلّد قالب النصف فيه خمسة أجزاء، فمّما ننقله من الوجهة الاوّلة من القائمة التاسعة من الكراس الرابع من الجزء الاول بلفظه:
____________
(1) ض: ومنفذاً أوامره.
(2) ض. ط: وللامر.
(3) حاشية ع: أو نديماً.
(4) حاشية ع: مَن هون به.
(5) في الفهرس المتقدّم: الجزء.
(6) كذا في النسخ المعتمدة، والصحيح: ابن الجُحام، كما في النجاشي رقم 1030 وغيره.
أُهديت إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) قطيفة منسوجة بالذهب أهداها له ملك الحبشة، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «لاعطينّها رجلاً يحبّ الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله».
فمدّ أصحاب محمد رسول الله (صلى الله عليه وآله) أعناقهم إليها.
فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «أين عليّ؟».
قال عمار بن ياسر: فلّما سمعت ذلك وثبت حتّى أتيت عليّاً (عليه السلام) فأخبرته، فجاء، فدفع رسول الله (صلى الله عليه وآله) القطيفة إليه فقال: «أنت لها».
فخرج بها إلى سوق النيل(2) فنقضها سلكاً سلكا فقسمها في المهاجرين والانصار، ثمّ رجع إلى منزله وما معه منها دينار.
فلمّا(3) كان من غد استقبله رسول الله (صلى الله عليه وآله)فقال: «يا أبا
____________
(1) ع: بن سَلَم النجادي، حاشية ع: الحارثي.
(2) ط: سوق المدينة.
(3) حاشية ع: فلمّا أنّ.
فقال علي (عليه السلام): «نعم يا رسول الله».
فلمّا كان الغد أقبل رسول الله (صلى الله عليه وآله) في المهاجرين والانصار حتّى قرعوا الباب، فخرج إليهم وقد عرق من الحياء لانّه ليس في منزله قليل ولا كثير، فدخل رسول الله (صلى الله عليه وآله) ودخل المهاجرون والانصار حتّى جلسوا، ودخل عليّ على فاطمة فاذا هم بجفنة مملوءة ثريداً عليها عراق يفور منها ريح المسك الاذفر، فضرب عليّ بيده عليها فلم يقدر على حملها، فعاونته فاطمة على حملها حتّى أخرجها فوضعها بين يدي رسول الله (صلى الله عليه وآله).
فدخل على فاطمة فقال: «أي بنيّة أنّى لك هذا؟».
قالت: «يا أبت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب».
فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «الحمد لله الّذي لم يخرجني من الدنيا حتّى رأيتُ في ابنتي ما رأى زكريا في مريم بنت(1) عمران».
فقالت فاطمة: «يا أبت أنا خير أم مريم؟».
فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «أنتِ في قومك ومريم في قومها».
يقول عليّ بن موسى بن طاووس:
وروى في هذا الجزء عقيب هذا الحديث حديث نزول الجفنة
____________
(1) حاشية ع: ابنت.
وذكرها أيضاً الزمخشري في تفسيره المسمّى بالكشاف(1)، ورويناه في كتاب الطرائف(2) عن غيرهما.
واعلم
أنّ الّذي وهب الله لهم من المعرفة لهم به والعمل له والمباهلة بهم والتطهير لهم أعظم من هذه الجفنة عند أهل الانصاف.
[19] فصل:
فيما نذكره من المجلّد الاول من الجزء الثاني منه، في آية المباهلة بمولانا عليّ وفاطمة والحسن والحسين صلوات الله عليهم لنصارى نجران، رواه من أحد وخمسين طريقاً عمّن سماه من الصحابة وغيرهم:
رواه عن(3) أبي الطفيل عامر بن واثلة(4)، وعن جرير بن عبدالله السجستاني، وعن أبي قيس المدني، وعن أبي أويس(5) المدني، وعن الحسن بن مولانا عليّ (عليه السلام)، وعن عثمان بن عفان، وعن سعد بن أبي وقاص، وعن بكر بن مسمار(6)، وعن طلحة بن عبدالله، وعن الزبير بن العوام،
____________
(1) الكشاف: 1 / 275.
(2) الطرائف: 109.
(3) ع. ض: عند، بدلاً من: عن.
(4) ط: وائلة.
(5) ط: إدريس.
(6) ب: سمال.