[88] فصل:
فيما نذكره من الجزء العشرين من تفسير الجبائي، وهو الثاني من المجلّد العاشر من الكراس الثالث، بعضه من الوجهة الثانية من القائمة الاولى منها وبعضه من الوجهة الاوّلة من القائمة الثانية منها بلفظ نذكره منه، من تفسير قوله تعالى: (وَيُسْقَوْنَ فِيَها كَأسْاً كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجِبَيلاً)(1) فقال الجبائي بلفظه:
فإنّما عنى به: أنّهم يسقون أيضاً من شراب الجنة في كأس وذاك الشراب فيه طعم الزنجبيل مع طيبه ولذاذته.
وأراد من طعم الزنجبيل لذعة اللسان، فلمّا كان في ذلك الشراب ما يلذع اللسان على سبيل الزنجبيل وصفه بأنّه زنجبيل.
يقول عليّ بن موسى بن طاووس:
من أين عرف الجبائي أنّ الله سمّى ذلك الشراب بالزنجبيل من طريق أنّه يلذع اللسان؟ وكيف أقدم على تخصيص المشابهة من هذا الوجه دون سائر أوصاف الزنجبيل؟ وكيف تعثّر الجبائي حتّى جوّز أنّ شراب دار الثواب يلذع اللسان(2)؟ نعوذ بالله من الخذلان.
وهلاّ جوز الجبائي أن يكون اسم الزنجبيل يقع على أجناس من الشراب، فالّذي في الدنيا صفته أنّه يلذع اللسان، والّذي من عين يسمّى سلسبيلاً ما يعلم وصف لذّته إلاّ الله ومَن يسقيه إيّاه، لانّ الله جلّ جلاله قد ذكر هذا الشراب في معرض المنّة على مَن يشربه وعلى تعظيم
____________
(1) الانسان: 76 / 17.
(2) ع: أن شراب دار الثواب يكون فيه فيلذع للتيان!، ض: أن شراب دار الثواب يكون فيلذع للتيان!
أقول:
وأمّا ما نذكره من القائمة الثانية، فهو من تفسير قول الله جلّ جلاله: (وَحُلّوا أسَاوِرَ مِنْ فِضَّة)(1)، فقال الجبائي ما هذا لفظه:
وقد طعن بعض الملحدين في هذا فقال: وأيّ حسن في أن يكون الرجال عليهم أساور الفضة؟ وأيّ قدر للفضة حتّى جعلوا ذلك مما يرغب فيه الناس لان ينالوه في الجنة؟
فقيل له: إنّ هذه الاساور هي للنساء لا للرجال، وليس التزيّن(2) في الجنّة يجب أن يكون بماله قيمة في الدنيا، لانّ المراد بذلك إنّما هو حسنه في الجنّة لا قيمته له، لانّه ليس ثمّ بيع ولا شراء ولا ثمن هناك للاشياء ولا قيمة.
فيقال للجبائي:
ما أجبتَ الملحدين عن سؤال الضلال، لانّ الاية تضمّنت حلية الرجال، فقال جلّ جلاله: (وَحُلُّوا أسَاوِرَ مِنْ فِضَّة)، والايات قبلها وبعدها ما فيها ذكر النساء، ولو كانت الحلية ها هنا للنساء لقال وحلّين بلفظ المؤنث، أفهكذا يكون جواب العلماء؟!
ولو قيل: إنّ عادة ملوك الدنيا إذا زيّنوا ملكاً عظيماً جعلوا له
____________
(1) الانسان: 76 / 21.
(2) حاشية ع: الملبوس.
يقول عليّ بن موسى بن طاووس:
وقد تركتُ ما وجدتُ من الغلط والتغيير فيما ذكره الجبائي من التفسير، لانّه كان يحتاج إلى مجلّدات، وإنّما اتفق وقوع خاطري عند لمح كتابه على ما ذكرته من الايات، فلم استحر ترك الكشف عنها لئلاّ يقلّده أحد فيما غلط فيها، وأحذّر مَن وقف على كتابه أن يقلّده في شيء من أسبابه، ولا ينظر إلى مَن قال بل إلى ما قال، ويعتبر في ذلك بقول غيره من أهل الورع في المقال وذوي العقل والعدل في شرح الاحوال.
وهذا آخر ما أردنا ذكره في هذا الباب بحسب ما رجونا أن يكون خالصاً لربّ الارباب.
وهذا تفسير الجبائي من نسخة عتيقة لعلّها كتبت في حياته أو قرب وفاته، وقفنا منها ما وافق الحقّ من تأويلاته.
[89] فصل:
فيما نذكره من تفسير عبد الجبار بن أحمد(1) الهمداني، الّذي كان يولّ(2) قضاء القضاة، واسم كتابه فوائد(3) القرآن وأدلّته، حصل لنا منه عدّة مجلّدات.
واعلم،
أنّ هذا عبد الجبار ممّا كان مشتهراً بطلب الدنيا والرئاسات والحرص على الادخار لذخائر أهل الغفلات فمهما وجد من تصانيفه في التعصّب على الامامية والعترة النبوية الّذين لم تكن لهم دولة دنيوية(4)، فعذره فيه أنّه كان طالباً للدنيا، فسعى فيما يحصلها به بمهما كان، فلا يقلّد في العقائد والاديان.
وذكر هلال بن عبد(5) المحسِّن بن إبراهيم الصابي، في الجزء الثالث من تاريخه، وهو نسخة عتيقة عليها قراءة قديمة لعلّها بخط ولد المصنّف، في حوادث سنة خمس وثمانين وثلاثمائة:
قبض فخر الدولة على القاضي عبد الجبار بن أحمد المذكور وعزله عن القضاء ومصادرته وأسبابه بثلاثة ألف ألف درهم عدلته فأدوها، وباع عبد الجبار في جملة ما باعه
____________
(1) ع. ض: محمد، وما أثبتناه من حاشية ع، وهو الموافق لِما تقدّم في فهرس الكتاب، وهو الصحيح.
(2) ع. ض: يقول، وما أثبتناه هو الموافق لما تقدّم في فهرس الكتاب.
(3) كذا ورد في جميع الاصول المعتمدة، وقيل: الصحيح فرائد.
(4) ع. ض: نبوية، والمثبت من حاشية ع.
(5) كذا ورد في الاصول المعتمدة، والمشهور عن اسمه: هلال بن المحسّن، فلاحظ.
أقول:
فهل ترى مَن يكون له ألف طيلسان وألف ثوب من صفات العلماء بالله العاملين لله الّذين يوثقون على دين الله ويصدقون على أولياء الله؟! وقد ذكرنا لك بعض أحوال(2) طلبه للدنيا ومنافسته(3) عليها، بحيث إذا وجدتَ في تفسيره أو غيره من تصانيفه تعصّباً للدنيا على الدين فلا تعتمد عليها، وهو متأخّر عن أبي علي الجبائي وكالتابع له والمتعلّق به.
أقول:
فممّا ذكره عبد الجبّار في الجزء الثاني من فوائد القرآن، لانّ الاول منه ما وجدناه، من الوجهة الاوّلة من القائمة التاسعة من الكرّاس الخامس منه بلفظه:
وقوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ ألَدُّ الْخِصَامِ)(4)، يدلَّ على أنّ النفاق والرياء يصحّان في الدين، ويدلّ على أنّ الرسول صلّى الله عليه وسلّم يجب ألاّ يعتبر(5) بظاهر القول
____________
(1) الكتاب مفقود، وطبع مقطع صغير منه، يرتبط بسنة (389 ـ 393 هـ).
(2) ع. ض: أقوال، والمثبت من حاشية ع.
(3) حاشية ع: ومناقشته.
(4) البقرة: 2 / 204.
(5) حاشية ع: يغترّ، وكذا في الموارد الاتية.
يقول عليّ بن موسى بن طاووس:
وجدتُ حديثه في تفسيره أقرب من تفسير الجبائي وأقلّ إقداماً على الجرأة على الله جلّ جلاله.
وأمّا قوله: إنّ النفاق والرياء يصحّان في الدين.
فلعلّه قصد أنّهما يقعان في الدين، فغلط هو أو ناسخه، أو لعلّه قصد بقوله: يصحّان، أي: يصحّ وقوعهما، أي: بأنّه ممكن، وإلاّ فكيف يصح النفاق والرياء في حكم الشريعة النبوية أو يقع منه شيء موافق للمراضي(1) الالهية وقد وقع الوعيد للمنافقين أعظم من الكافرين: إنّ المنافقين في الدرك الاسفل من النار؟!
وأمّا قوله: يدلّ على أنّ الرسول (عليه السلام) يجب ألاّ يعتبر بظاهر القول.
فإذا كان الرسول يجب ألاّ يعتبر بظاهر وإن حكم بالاسلام، فكيف جاز الاغترار(2) بالظاهر إلى الاختيار لمقام النبوة والرسالة؟ وهل يكون اغترار أعظم من اختيار مَن يحكم على صاحب الشريعة
____________
(1) ع. ض: للتراضي، والمثبت من حاشية ع.
(2) ط: الاعتماد.
وإنّما قلت: يزيد فيه عليه، لانّ الله جلّ جلاله قال لمحمّد (صلى الله عليه وآله): (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أنْزَلَ اللهُ)(1)، وما قال: بما رأيت، وهذا الّذي يذكره عبد الجبار في الاختيار يحكم بما يرى، فهو زيادة عما بلغ حال محمّد (صلى الله عليه وآله) إليه.
وأمّا قول عبد الجبار: إنّه يدلّ على أنّه (عليه السلام) لم يكن يعلم البواطن ولا الغيب، بخلاف ما ارتكبه طائفة في الامام والنبي.
أقول:
إنّ هذا ممّا يتّهم به بعض الشيعة الامامية، وهو كذب تلقّاه أهل الخلاف ممن حكاه بغير حجّة دينيّة(2)، وإنّما يقول بعض العلماء من شيعة أهل بيت النبوّة: إنّ الله جلّ جلاله عرّف أنبياءه وخاصّته ما كانوا يحتاجون إلى معرفته من الغائبات، وما لم يكونوا يحتاجون إليه إن شاء أطلعهم عليه وإن شاء ستره عنهم على ما يراه جلّ جلاله من المصالح بالعنايات.
وكيف يقول ذو بصيرة: إنّ بشراً يعلم الباطن والغيب لذاته؟ وهل يحل تصديق مَن يدّعي هذا على أدنى مسلم سليم في عقله وعلومه وتصرّفاته؟ وقد شهد العقل والنقل والقرآن باطلاع كثير من الانبياء
____________
(1) المائدة: 5 / 49.
(2) ط: وبيّنة.
أقول:
وكيف ادّعى عبد الجبار أنّ هذه الاية تدلّ على أنّ الّذي تعجب النبيّ (صلى الله عليه وآله) قوله في الحياة الدنيا لا يفهم منه (صلى الله عليه وآله) خلاف ظاهره؟ وقد قال الله جلّ جلاله له (عليه السلام) عن منافقين: (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ)(2)، وليس كلّ من أعجب الانسان قوله يدلّ على أنّه ما يعرف فساد قوله ومخالفته لباطنه، وقد جرت العادات أنّ كثيراً من أهل العداوة يتوصّل بعلمه أو فصاحته أو حيلته ويستحسن عدوّه لفظه وهو يعلم باطنه وعداوته.
ويقال لعبد الجبار:
إذا كان الحال في الصحابة مع النبيّ (صلى الله عليه وآله) ما ذكرتَ من الحكم بالظاهر، فهلاّ كان كلّ حديث رويته في مدح مَن ظهر منه بعد وفاته خلاف ما كان منه في حياته أنّ تلك المدائح كانت مشروطة بالظاهر الذي كان يعامل أصحابها به؟ وأنّها لم تبق فيها حجّـة يدفع بها ما وقع منهم من ظاهر يخالف ما كانت حالهم عليه، وأنّ كل مَن كان مظهراً منهم للزهد في الدنيا وسعى بعد النبي (صلى الله عليه وآله) بقدميه إلى طلب الدنيا، فقد سقطت مدائح النبيّ (صلى الله عليه وآله) الّتي ذكروا أنّها قالها (عليه السلام) له في حياته.
[90] فصل:
فيما نذكره من الجزء الثالث من تفسير عبد الجبار، من الوجهة الاوّلة من القائمة الثانية من الكرّاس السادس بلفظه:
____________
(1) ط: مغيّباته.
(2) محمد: 47 / 30.
يقول عليّ بن موسى بن طاووس:
أما ترى عبد الجبار قد اعترف بأنّ الله تعالى أظهر لرسوله (صلى الله عليه وآله)علم الغيب؟! وهكذا قول الطائفة الامامية، مع أنّ الّذي ادعاه أنّه علم غيب ومعجز ما هو من الوجه الّذي ذكره، لانّ الله جلّ جلاله عرّفه من حال أهل الكتاب ما في العقول تصديقه من كون العدوّ يستبيح مال عدوّه، وإنّما الغيب والمعجز أنّ فيهم مع عداوتهم (مَنْ إنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَار يُؤَدِّهِ إلَيْكَ)، وكان الغيب والمعجز من هذا الوجه.
وأمّا قول عبد الجبار مطلقاً: أنّهم لا يعدّون ترك الامانة فيه خيانة.
فالقرآن الشريف قسّمهم قسمين، وعبد الجبار ذكرهم قسماً واحداً، وهو غلط ظاهر.
____________
(1) آل عمران: 3 / 75.
[91] فصل:
فيما نذكره من الجزء الرابع من تفسير عبد الجبار المسمّى بالفوائد، من الكرّاس الاخرة من الوجهة الاوّلة والوجهة الثانية من القائمة الثانية منها بلفظه:
وقوله تعالى: (إنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ وَمَاقَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ)(1)، دليل على أنّ القتل والصلب فيه لم يكن.
ومتى قيل: كيف تصحّ إقامه الدليل على خلاف ما تواترت به الاخبار عن القوم؟
فجوابنا: أنّ خبرهم لو كان حقّاً لوجب وقوع العلم بصحته، ونحن نعلم من أنفسنا اعتقاد خلافه، والمعتبر في التواتر أن تكون صفة المخبرين في كلّ زمان وعددهم يتفق ولا يختلف، وذلك غير ممكن في تواترهم، لانّ ماله إلى عدد يسير اعتقدوا وقلّدوا.
يقول عليّ بن موسى بن طاووس:
قد جعل هذا الجواب للنصارى طريقاً على النبي (صلى الله عليه وآله) وعلى المسلمين، بأن يقولوا: ونحن أيضاً ما نعلم تواتركم بالمعجرات وحجج النبوّة، وإنّ عددكم في مبتدأ الاسلام قليلاً.
ومن أين اعتقد هو وأهل الخلاف أنّه يلزم في كلّ خبر متواتر أن يعلمه كلّ واحد؟ ومن أين اعتقدوا أنّ عدد المتواترين معتبر في كلّ زمان؟ وكيف أقدم على أنّ كل خبر كان أصله من عدد يسير لا يثبت
____________
(1) النساء: 4 / 157.
وإنّما قلنا هذا، لانّ العقل قضى أنّ التواتر يحصّل العلم لمخبره لمن سمع الخبر به على الوجه الذي يثمر العلم به، وكلّ مَن يعتقد وجوب تكذيب المخبرين كيف يحصل له العلم بخبرهم؟!
وقد كان يكفي في الجواب أن يقال: إنّ التواتر بالصلب لصورة تشبه عيسى بن مريم صحيح كما نطق القرآن الشريف به من كونه شبّه لهم، فإنّ الله جلّ جلاله قادر على إلقاء شبه عيسى على غيره حتّى لا يفرّق كلّ من رآهما بينهما.
وإنّما قلنا: من أين اعتقد اعتبار العدد، لانّ العلم بمخبر الاخبار المتواترة يحصل بغير اختيار العالم به وبغير شرط العلم بعدد أو معرفة مَن أخبر به، ومَن جحد مثل هذا كان مكابراً(1)، فإنّنا نعلم بلاداً كثيرة ضرورة بالاخبار المتواترة، ولو تكلّفنا معرفة مَن أخبرنا بها تعذّر علينا مَن تقوم به صفات المخبرين به، فاعتبار العدد بعيد من المعقول والمنقول.
وإنّما قلنا: من أين اعتقد أنّه إذا كان الاصل في الخبر المتواتر عدداً يسيراً لا يصحّ به العلم، فلانّ كلّ نبوة وشريعة كان العدد بمعرفتها ونقل أخبارها أوّلاً عدداً يسيراً ثمّ كثر، وهل يجوز جحود مثل هذا العلم؟!
ولعلّ عبد الجبار يحامي عن ثبوت النصّ على مولانا عليّ صلوات الله عليه، وذلك لا ينفعه فيما يقصد إليه، لانّ كلّ دعوى
____________
(1) ع: متكابراً.
[92] فصل:
فيما نذكره من الجزء الخامس من تفسير عبد الجبار المسمّى بالفوائد، من أول قائمة منه من الوجهة الثانية منها بلفظه:
سورة الفرقان وهي مكيّة، قوله تعالى: (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ)(2)، يدلّ على أمور:
منها: أنّ عند ذكر نعمه في الدين والدنيا يستحب تقديم تعظيمه بأسمائه الحسنى، لانّ تبارك مبالغة في البقاء والدوام لم يزل ولن يزال.
ومنها: وصف القرآن بأنّه فرقان من حيث يعرف به الحقّ من الباطل، ولن يكون كذلك إلاّ مع كونه دلالة على جميع ذلك،
____________
(1) ع. ض: فاظلت، والمثبت من حاشية ع.
(2) الفرقان: 25 / 1.
ومنها: أنّ المعارف مكتسبة، إذ لو كانت ضرورية لما عرف به الحقّ من الباطل وكانت لا تكون فرقاناً.
يقول عليّ بن موسى بن طاووس:
قول عبد الجبار: إنّه يدل على تقديم تعظيم أسمائه الحسنى.
من أين دلّ على ذلك وليس في لفظه صورة أمر، وإن كان من حيث أنّ الله جلّ جلاله قدّم لفظ تبارك يفهم منه الارادة لمثل ذلك، فهلاّ قال: إنّه واجب؟ ومن أين عدل عن ظاهر مفهومه عنده إلى أنّه مستحبّ؟ ولايّ حال خصّ عبد الجبار التعظيم لله تعالى بأسمائه الحسنى دون غيرها من وجوه التعظيم له جلّ جلاله وليس في لفظ تبارك ولا معناها معنى أسمائه الحسنى؟ وهلاّ قال: إنّه جلّ جلاله يعظم ذكر أسمائه الحسنى ووصفه بها؟!
أقول:
وأمّا قوله: إنّ تبارك معناها البقاء والدوام.
فهذا ما هو في ظاهر اللفظ، فأين الشاهد عليه من العربية والعرف؟ وهل يفهم ذو بصيرة من لفظ تبارك الدوام؟
أقول:
وأما قول عبد الجبار: إنّ لفظ تسميته فرقاناً يقتضي أنّه يعرف به جميع الحقّ من الباطل.
أقول:
وأمّا قوله: لو كان لا يعرف المراد إلاّ بتفسير أو بقول إمام لخرج من أن يكون مفرّقاً بين الحقّ والباطل.
فهو جهل عظيم منه وغفلة شديدة صدرت عنه، ويحه أتراه يعتقد أنّ الفرقان مستغن عن صاحب النبوة صلوات الله عليه وآله في تفسيره أو تفسير شيء منه غفلته؟! أو غفل(1) عن قول الله جلّ جلاله: (مَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ)(2)، أما هذا تصريح أنّ فيه ما لا يعلم تأويله إلاّ الله، وإذا كان لا يحتاج إلى تفسير فلايّ حال صنّف المسلمون وصنّف هو تفسير القرآن؟ ولايّ حال نقلوا أخبار مَن فسّره من النبيّ صلوات الله عليه وآله والصحابة والتابعين؟ وكان على قوله كلّ مَن وقف على القرآن عرف من ظاهره تفسيره، وهلاّ جوّز أن يكون معنى قوله تعالى: (الْفُرْقَانَ) أنّه فرق بين الحقّ والباطل في كلّ ما فرق بينهما فيه؟
____________
(1) ع. ض: عقل.
(2) آل عمران: 3 / 7.
أقول:
وأمّا قول عبد الجبار: إنّ المعارف مكتسبة، إذ لو كانت ضرورية لما عرف بها الحق من الباطل.
فهو أيضاً طريق عجيب، أما يعلم كلّ عاقل أنّ العلوم منها الضروري ومنها المكتسب؟ أو ما يعرف هو أنّ المعرفة بالعقل ضرورية وهو أصل العلوم كلّها وبه حصلت المعرفة بالفرق بين الحق والباطل؟
[93] فصل:
فيما نذكره من الجزء السابع من تفسير عبد الجبار المسمّى بالفوائد، من الوجهة الثانية من القائمة السابعة من الكراس الثالث منه بلفظه:
وقوله تعالى: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللهُ أنَّى يُؤْفَكُونَ)(1)، تدلّ على أنّ في اليهود مَن كان يقول هذا القول، إذ لا يمكن حمل ذلك على كلّ اليهود لعلمنا بخلافه.
يقول عليّ بن موسى بن طاووس:
أمّا الاية فليس فيها ما ذكره(2) عبد الجبار أنّ فيهم مَن يقول هذا دون جميعهم، وهلاّ قال: إنّ الّذين كانوا زمن العزير وعند القول عن عيسى كانوا قائلين بذلك ثمّ اختلفوا فيما بعد؟ فإنّ الاية تضمّنت عن
____________
(1) التوبة: 9 / 30.
(2) ع. ض: فيما ذكره، والمثبت من ط.
[94] فصل:
فيما نذكره من الجزء التاسع من تفسير عبد الجبار، من الوجهة الثانية من القائمة السابعة من الكراس الثالث بلفظه:
وقوله: (وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً)(2)، هو الاصل في الكتابة وعليه بنى الفقهاء كتاب المكاتب(3)، وشرط تعالى في ذلك الابتغاء من جهة العبد وأن يعلم فيه خيراً، واختلفوا في وجوب ذلك:
فحكى إسماعيل بن إسحاق عن عطاء أنّه رآه واجباً، وحكى أنّ عمر أمر أنس بن مالك أن يكاتب سيرين أبا محمد بن سيرين فأبى فضربه بالدرّة حتّى كاتبه.
وروي عن جماعة كثيرة أنّه ندب، وهو قول الحسن وغيره ومتى قيل: أفيدلّ الظاهر على أحد القولين؟
فجوابنا: أنّ تعليق ذلك بابتغاء العبد كالدلالة على أنّه غير
____________
(1) حاشية ع: قول.
(2) النور: 24 / 33.
(3) حاشية ع: المكاسب.
يقول عليّ بن موسى بن طاووس:
أين حكاية هذا الاختلاف؟ وكلّما حكاه ويحكيه من اختلاف المفسّرين من قوله: إنّ القرآن يدلّ بظاهره على جميع الفرقان بين الحق والباطل، ولو كان الامر كما ذكره فعلام اختلف الاوائل والاواخر في تفسيره، ما أقبح المكابرة وخاصّة ممن يدّعي تحصيل العلم وتحريره
وأقول:
إن في حكايته عن عمر أنّه ضرب أنس بن مالك حتّى كاتب مملوكه تقبيحٌ لذكر الصحابة وطعن على أنس وهو أصل في أحاديثهم العظيمة، وكيف رأى عبد الجبّار أنّ الاية دالة على الندب وظاهر ما حكاه عن عمر يدلّ على أنّه كان يعتقد ذلك واجباً؟! والصحابة أعرف بتأويل القرآن، فإنّهم عرفوه من صاحب النبوة وممن عرفه منه، فهلاّ قلّده لعمر في هذه المسألة اليسيرة كما قلّده في الامور(1) الكلّية الكثيرة(2)؟ ونصوص القرآن الشريف تسقط الاجتهاد الّذي يدّعيه.
[95] فصل:
فيما نذكره من الجزء العاشر من تفسير عبد الجبار
____________
(1) حاشية ع: الاصول.
(2) حاشية ع: الكبيرة.
وبعد، فقد بّينّا أنّ نزول عيسى على وجه يعرف(2) لا يجوز، والتكليف ثابت، وإنّما يجوز عند زواله فيكون من أشراط(3) الساعة، لانّه لا يجوز أن ينقض الله العادات في غير أزمان الانبياء مع ثبات التكليف وإن جاز ذلك مع زواله.
يقول عليّ بن موسى بن طاووس:
كيف ننكر نزول عيسى على وجه يعرف وهو الظاهر من مذهب المسلمين وأنّه يقتل الدجّال ويصلّي خلف المهدي من ذرية سيد المرسلين؟! وقد روى ذلك: الهمداني أبو العلاء الحافظ العظيم الشأن عندهم المعروف بابن العطار واسمه الحسن بن أحمد(4)
____________
(1) سورة محمد: 47 / 4.
(2) ع. ض: لا يعرف، والمثبت من حاشية ع.
(3) حاشية ع: شرائط.
(4) له عدّة مؤلّفات، منها: الاربعون حديثاً في المهدي، والذي نقل عنه المحبّ الطبري في ذخائر العقبى: 146 والديلمي في قواعد عقائد آل محمد.
وكيف يدّعي عبد الجبار أنّ نقض العادات في غير أزمان الانبياء لا يجوز؟! ومن المعلوم من التواريخ والعقل والنقل والوجدان وجود خرق عادات من جهة السماوات ومن جهة الارض والنبات والحيوان وحدوث آيات لم تذكر مثلها فيما مضى من الاوقات، وإنّ عصبيّة أو جهلاً بلغ بقائله أو معتقده إلى هذه الغايات لعظيم يكاد أن يكون صاحبه في جانب أهل الغفلات.
أقول:
وإن تجويز عبد الجبار لنزول(4) عيسى (عليه السلام) عند زوال التكليف، من الاعتقاد الطريف، لانّه إذا جوّز نزول عيسى في وقت من الاوقات أفتراه يعتقد أنّ عيسى يكون في الدنيا وهو خال من تكليف من الواجبات والمندوبات؟ وهل ذهب أحد من المسلمين إلى أنّ أحداً
____________
(1) في الاصول المعتمدة: المشهور.
(2) الاربعون حديثاً في المهدي (عليه السلام)، وعنه في كشف الغمة: 3 / 264.
والجدير بالذكر أن الاربلي أورد الاربعين حديثاً بأكمله مع حذف الاسانيد في كتابه كشف الغمة، وكذا أورده العلامة المجلسي في البحار، والسيد هاشم البحراني في غاية المرام، وجعله السيوطي أصلاً لكتابه العرف الوردي، ونقل عنه السيد ابن طاووس في الاقبال وكشف المحجة والطرائف.
(3) راجع: اللباب في شرح الشهاب: 157.
(4) ع. ض: وإن يجوز عند عبد الجبار الاول.
وما يستبعد من عبد الجبار أن يكون إنّما حمله على إنكار نزول عيسى (عليه السلام) في زمان التكليف أنّ الاخبار وردت أنّه يكون في دولة المهدي (عليه السلام) ويصلّي خلفه، فلعلّه أراد التشكيك في ذلك بإظهار هذا القول الضعيف.
[96] فصل:
فيما نذكره من تفسير عبدالله بن أحمد بن محمود المعروف بأبي القاسم البلخي، الّذي سمّى تفسيره جامع علم القرآن(1).
ذكر الخطيب في تاريخ بغداد:
أنّه قدم بغداد وصنّف بها كتباً كثيره في علم الكلام ثم عاد إلى بلخ فأقام بها إلى أن توفي في أول شعبان سنة تسع عشرة وثلاثمائة(2).
وهذا يقتضي أنه بقي بعد وفاة الجبائي.
فممّا نذكره من الجزء الاول منه، في أنّ النبي (صلى الله عليه وآله) جمع القرآن قبل وفاته، وأنكر البلخي قول مَن قال: إنّ القرآن جمعه أبو بكر وعثمان بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله)، فقال البلخي في إنكار ذلك، من الوجهة الثانية من القائمة السادسة من الكراس الاول منه ما هذا لفظه:
____________
(1) ونقل عنه أيضاً الشيخ الطوسي في التبيان، في موارد متعدّدة.
(2) تاريخ بغداد: 9 / 384 رقم 4968.
وذكر البلخي الايات المتضمّنة لحفظ القرآن، ثمّ قال البلخي من الوجهة الاولة من القائمة السابعة من الكرّاس الاول ما هذا لفظه:
وإنّي لاعجب من أن يقبل المؤمنون قول مَن زعم أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ترك القرآن ـ الّذي هو حجّته على أمّته والّذي تقوم به دعوته والفرائض الّتي جاء بها من عند ربّه وبه يصحّ دينه الذي بعثه الله داعياً إليه مفرقاً في قطع الخرق(1) ـ ولم يجمعه ولم يصنه ولم يحفظه ولم يحكم الامر في قراءته وما يجوز من الاختلاف فيها وما لا يجوز وفي إعرابه ومقداره وتأليف سوره وآيه، هذا لا يتوهّم على رجل من عامّة المسلمين فكيف برسول رب العالمين.
قلت أنا:
والله لقد صدقت وكذا والله يا بلخي مَن توّهم أو قال عنه (عليه السلام): إنّه عرف أنّه يموت في تلك المرضة وعلم اختلاف أمّته بعده ثلاثاً وسبعين فرقة وأنّه يرجع بعده بعضهم يضرب رقاب بعض ولم يعيّن لهم على مَن يقوم مقامه ولا قال لهم اختاروا أنتم حتّى تركهم في ضلال إلى يوم الدين، هذا لا يعتقد فيه إلاّ جاهل بربّ العالمين وجاهل بسيّد المرسلين، فإنّ القائم مقامه يحفظ الكتاب ويقوم بعده بحفظ شرائع المسلمين.
____________
(1) ض: معرفاً في قطع الحرف، ط: مفرقاً في قطع الحروف.
أقول:
ثمّ طعن البلخي ـ في الوجهة الثانية من القائمة السادسة من الكراس الثاني ـ على جماعة من القرّاء، منهم حمزة والكلبي وأبو صالح، وكثير ما روي في التفسير، ثمّ قال البلخي في الوجهة من القائمة الثالثة من الكرّاس الثالث ما هذا لفظه:
واختلف أهل العلم في أوّل آية منها، فقال أهل الكوفة وأهل مكة: إنّها (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)، وأبى ذلك أهل المدينة وأهل البصرة واحتجّوا بأنّها لو كانت آية من نفس السورة لوجب أن يكون قبلها مثلها ليكون أحدهما افتتاحاً للسورة حسب الواجب في سائر السور والاخرين أوّل آية منها، وما قالوه عندنا هو الصواب، والله أعلم.
يقول عليّ بن موسى بن طاووس:
قد تعجّبت ممّن قد استدلّ على أنّ القرآن محفوظ من عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأنّه هو الّذي جمعه، ثمّ قد ذكر ها هنا اختلاف أهل مكة والمدينة وأهل الكوفة والبصرة واختار أن
____________
(1) كذا!.
فيالله وللعجب إذا كان القرآن مصوناً من الزيادة والنقصان كما يقتضيه العقل والشرع، كيف كان يلزم أن يكون قبلها ما ليس فيها؟ وكيف كان يجوز ذلك أصلاً؟ ولو كان هذا جائزاً لكان في سورة براءة لافتتاحها (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمن الرَّحِيمِ) كما كنّا ذكرناه من قبل.
هذا وقد ذكر من اختلاف القراءات(1) والمعاني المتضادّات ما نقض(2) به على نفسه من تحقيق أنّ القرآن محفوظ من عهد(3) صاحب النبوة صلوات الله عليه وآله، وقد كان ينبغي حيث اختار ذلك واعتمد عليه أن يعين على ما أجمع الصحابة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) ليتمّ له ما استدلّ به وبلغ إليه.
[97] فصل:
فيما نذكره من المجلّد الثالث من تفسير البلخي، لانّ الجزء الثاني ما حصل عندنا، فقال في الوجهة الثانية من القائمة الخامسة وبعضه من الوجهة الاوّلة من القائمة السادسة من الكرّاس الرابع ما هذا لفظ النسخة عندنا:
قوله: (وَأنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ تُلْقُوا بِأيْدِيكُمْ إلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إنّ اللهَ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ)(4)، آية واحدة.
____________
(1) ع. ض: القراءة، والمثبت من حاشية ع.
(2) ع. ض: ما يقضي، والمثبت من حاشية ع.
(3) حاشية ع: عند.
(4) البقرة: 2 / 195.